علي هاني يوسف
New member
- إنضم
- 09/01/2008
- المشاركات
- 81
- مستوى التفاعل
- 2
- النقاط
- 8
مقصود (محور)سورة المائدة
وفيه خمسة مباحث:
المبحث الأول: وقت نزولها والجو الذي نزلت فيه.
المبحث الثاني: مقصود سورة المائدة
المطلب الأول: مقصود سورة المائدة باختصار.
المطلب الثاني: شرح مقصود السورة وتلخيص مواضيعها.
المبحث الثالث: دلالة بداية السورة، وخاتمتها، واسمها على مقصودها.
المبحث الرابع: أقوال العلماء في مقصود السورة، وهي خمسة أقسام.
المبحث الخامس: مناقشة الأقوال والترجيح بينها.
[h=1]1)المبحث الأول: وقت نزولها والجو الذي نزلت فيه:[/h]الأصح أن سورة المائدة لم تنزل مرةً واحدةً بل نزلت منجمة في أوقات مختلفة على النحو الآتي:
ولأجل جميع ما ذكر كان المؤمنون بحاجة إلى أمور:
ويمكن اختصاره أكثر بأن يقال:" بيانُ العقودِ والمواثيقِ التي يراد من خلالها تأسيسُ المجتمعِ الإسلاميِّ الفاضلِ المستَمِدِّ تشريعَه من اللهِ تعالى وحدَه، وأعظمها التوحيد، والترغيبُ البليغُ للمؤمنين على الوفاء بها، والترهيبُ البليغ من نقضها".
[h=2]ب-المطلب الثاني: شرح مقصود السورة وتلخيص مواضيعها:[/h]
هذه العقود التي فيها رسم الأسس الفكرية والعقدية والتشريعية للإسلام والإيمان والاستقامةِ لكلِّ الحياةِ فكرًا وعقيدةً وتشريعًا[12]، والتي يراد من خلالها:
فأبطلتْ السورة عقائدَهم وكشفتْ عداوتهم وكيدهم، وبينت جريان سنة الله فيهم، وهي سنته فيمن اعتدى بالخروج عن العهود والمواثيق المأخوذة عليه في الدين، فعاقبهم وعذبهم وسلب منهم كرامة حمل الرسالة[18] ، فكما أن الله سبحانه غفور رحيم لمن تاب فهو شديد العقاب لمن كفر وأصر.
[h=1]3)المبحث الثالث: دلالة بداية السورة، وخاتمتها، واسمها على مقصودها:[/h][h=2]أ-المطلب الأول: دلالة بداية السورة (براعة الاستهلال) على مقصودها[19]:[/h]{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} [الآية:1].
سألخص ما ذكر العلماء في تفسير هذه الآية، ومن خلالها يلاحظ دلالة هذه الآية على مقصود السورة التي ذكر:
[h=1]{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}: قد خاطب الله المخاطبين في أمرهم بالإيفاء بالعقود بوصف الإيمان:[/h][h=1]1.ليشير ويشعر المؤمنين إلى أن إيفاءهم بالعقود مما يقتضيه الإيمان، وأن نكث العهود والإخلال بما تقتضيه لا يتفق والإيمانَ، وفي هذا حث على امتثال الأمر، فالمؤمن حقًا يوفي بالتزاماته لربه ولنفسه ولغيره؛ إذ لا بُدَّ له من تحمّل مسؤولية التزاماته التعاقدية والتعاهدية ،لا يجوز له نقضها ولا الانحراف عنها .[/h]
[h=1]{أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}:[/h]و(الإيفاء): إعطاء الشيء وافياً لا نقص فيه، وحفظ ما يقتضيه العقد والقيام بموجَبه ومقتضاه، يقال: وفَى، وأوفى بمعنىً، لكنْ في المزيد (أوفى)مبالغةٌ ليستْ في المجردِ.
و(العقود): جمع عَقْد: وأصل العقد: ربط الحبل ووصله والجمع بين أطرافه مع استيثاق وشد وإحكام بحيث يعسر انفصاله، ولازمه التزامُ أحدِهما الآخرَ، وعدمُ انفكاكِه عنه، والموضع المشدود من الحبل يسمّى عُقدة.
ثم تجوز به عن العهد الموَثَّق تشبيهًا له بعقد الحبل في الربطِ والإحكامِ وعدمِ النقضِ، فهي أوكد العهود، أي: أوفوا بالعهود الموثقة المحكمة التي ربطها الله بعباده وربطتموها وأحكمتموها كما يُرْبَط أجزاء الحبل ويحكم فلا تنقضوها.
ويلاحظ في العقد: الشد والإحكام والاستيثاق بحيث لا يقبل النقض، ويلاحظ في العهد التعهد والمحافظة والرعاية وعدم الإخلال، ولكلٍ سياقُه المناسبُ له، وهنا المناسب وجوبُ الالتزامِ وعدمُ التركِ والإخلالِ فعبر بالعقود.
المراد بالعقود:
قال سيد قطب:" "افتتاح هذه السورة بالأمر بالوفاء بالعقود ، ثم المضي بعد هذا الافتتاح في بيان الحلال والحرام من الذبائح والمطاعم والمشارب والمناكح، وفي بيان الكثير من الأحكام الشرعية والتعبدية، وفي بيان حقيقة العقيدة الصحيحة، وفي بيان حقيقة العبودية وحقيقة الألوهية، وفي بيان علاقات الأمة المؤمنة بشتى الأمم والملل والنحل، وفي بيان تكاليف الأمة المؤمنة في القيام لله والشهادة بالقسط والوصاية على البشرية بكتابها المهيمن على كل الكتب قبلها ، والحكم فيها بما أنزل الله كله ؛ والحذر من الفتنة عن بعض ما أنزل الله ؛ والحذر من عدم العدل تأثراً بالمشاعر الشخصية والمودة والشنآن ،افتتاح السورة على هذا النحو ، والمضي فيها على هذا النهج يعطي كلمة " العقود " معنىً أوسعَ من المعنى الذي يتبادر إلى الذهن لأول وهلة ، ويكشف عن أن المقصود بالعقود هو كل ضوابط الحياة التي قررها الله ،وفي أولها عقد الإيمان بالله ؛ ومعرفة حقيقة ألوهيته سبحانه ، ومقتضى العبودية لألوهيته ، هذا العقد الذي تنبثق منه ، وتقوم عليه سائر العقود ؛ وسائر الضوابط في الحياة"[22] .
وتصدير السورة بالأمر بالإيفاء بالعقود:
ومن هذا نفهم الحكمة في أن الله سبحانه قال: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ}.
وقدم {لكم} على نائب الفاعل {بهيمة}: لما فيه من تعجيل المسرَّة والتشويق إلى المؤخَّر، فإن ما حقُّه التقديمُ إذا أُخِّر تبقى النفسُ مترقِّبةً إلى وروده، فيتمكّن عندها فضلَ تمكّن.
[h=1]{إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ}:[/h]أي إلا ما يتلى عليكم تحريمه كقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} [المائدة:3].
فهذه الآية تبين أن أمر التحليل والتحريم بيد الله سبحانه وحده، وتشير إلى تكذيب مشركي العرب الذين كانت من سننهم في «الأنعام» تحريم السائبة والبحيرة والحام وغير ذلك.
وقوله تعالى: {يُتْلَى عَلَيْكُمْ} يستلزم الإيمان بالقرآن والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فالمتلو هو القرآن والمبلغ هو النبي ـ صلى الله عليه وسلم .
وما ذكر من هذا الجزء من الآية الكريم فيه إشارة لجزء من مقصود السورة وهو" تحليل ما أحلَّ، وتحريم ما حرَّم، لا سيما أمر الذبائح والمآكل والمشارب والمناكح، فالله سبحانه هو الإله الواحد الخالق المالك الحاكم له السلطان وحده على خلقه وملكه، وبموالاتِه وعدمِ موالاةِ أعدائه، والإيمانِ بالرسولِ الصادقِ الذي جاءهم، وبكتابه المصدق المهيمن على الكتب السابقة.
[h=1]{غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ}:[/h]جملة {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} تعليل لقوله: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} ختم الآية معللاً: بقوله تعالى { إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ}أي إن الله تعالى ملك الملوك يحكم ما يريد من تحليل وتحريم على سبيل الإطلاق ، و يقضي في خلقه ما يشاء ، من تحليل ما أراد تحليله وتحريم ما أراد تحريمه، وفرض ما يشاء أن يفرضه عليهم من أحكامه وفرائضه مما فيه مصلحة لعباده.
فهو سبحانه و تعالى أباح الأنعام في جميع الأحوال، وأباح الصيد في بعض الأحوال دون بعض، فلو قال قائل: ما السبب في هذا التفصيل والتخصيص كان جوابه أن يقال: إنه تعالى مالك الأشياء وخالقها، يحكم ما يريد فلم يكن على حكمه اعتراض بوجه من الوجوه، يحكم ما يريد، لا الحكم الذي تهواه النفوسُ، وإرادتُه إنما تكون على حسب علمِه المحيطِ وحكمتِه البالغةِ ورحمته الواسعة ، فلا عبث في أحكامه ولا جزاف ولا خلل ولا ظلم .
وفيه تقوية لهذه الأحكام الشرعية المخالفة لمعهود أحكام العرب وضلالاتهم، فكأنه سبحانه يقول لنا ولهم: فلا يصرفكم عن الإيفاء بالعقود أن يكون فيما شرعه الله لكم شيء من ثقل عليكم ، لأنّكم عاقدتم على عدم العصيان ، وعلى السمع والطاعة لله ، والله يحكم ما يريد لا ما تريدون أنتم ،وهو أعلم بصالحكم منكم ،وهذا يوجب عليكم أن تتقبلوا أحكام الله بالإذعان والتسليم ؛لأن مصدرها إرادة الحكم العدل اللطيف الخبير .
وفي لفظ الحكمِ معنى الإتقانِ والضبطِ ومنع ِالفساد والظلمِ والاعتداءِ كما يدل عليه الاشتقاق.
وفيما ذكر تلخيص لجزء من مقصود السورة وهو:(أن هذه العقود التي فيها رسم الأسس الفكرية والعقدية والتشريعية للإسلام والإيمان والاستقامةِ لكلِّ الحياةِ فكرًا وعقيدةً وتشريعًا، والتي يراد من خلالها: تأسيسُ المجتمعِ الإسلاميِّ الفاضلِ المستَمِدِّ تشريعَه من الله تعالى وحدَه بدون تحريف وليعصمهم من الانحرافاتِ السلوكية والعقدية التي وقع فيها من سبقهم فتصان فيه العقائد، والدماء والعقول، والأموال، والنظام).
وبتأمل ما سبق ندرك أن الآية لخصت تلخيصًا عجيبًا مقصود السورة وهو: " بيانُ العقودِ والمواثيق التي يراد من خلالها تأسيسُ المجتمعِ الإسلاميِّ الفاضلِ المستخلَفِ المستَمِدِّ تشريعَه من اللهِ تعالى وحدَه المالكِ للسماواتِ والأرضِ وأعظمها التوحيد ، والترغيبُ البليغُ بخيَريِ الدنيا والآخرةِ للمؤمنين على الوفاءِ بهذه العقودِ ؛شكرًا لله على نِعَمه وإكمالِ دينه واستدفاعاً لنقمه ، والترهيبُ البليغُ من نقضِها وعدمِ الاعتناءِ بها بعقاب الدنيا والآخرة ؛ليعصمَهم من نقضِ العهودِ و الانحرافاتِ السلوكية والعقدية التي وقع فيها من سبقهم من اليهود والنصارى والمشركين، وكشفتها السورة وأبطلتها".
، ففي الآية براعة الاستهلال، والتفصيل بعد الإجمال والتعميم.
فبراعة الاستهلال ؛لأن الآية الأولى لخصت موضوعها، وأشارت إلى أن السورة ستركز على العقود ،ومنها الحلال والحرام لا سيما في الأطعمة والأشربة والذبائح، وفي ندائها للمؤمنين وإرشادهم للإيفاء بالعقود وذكر إحلال بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم: أشارت إلى أن هذه السورة ستذكر العقود التي فيها تأسيسُ المجتمعِ الإسلاميِّ الإيماني الفاضلِ المستخلَفِ المستَمِدِّ تشريعَه من اللهِ تعالى وحدَه المالكِ للسماواتِ والأرضِ، وستنقض عقائدَ المشركين، وأهلَ الكتاب الذين حُرِّمتْ عليهم طيبات كثيرة، ومنها أجزاء من الأنعام بظلمهم ونقضهم للعهود ؛ لتحذر المؤمنين مع الترغيب والامتنان بإحلال بهيمة الأنعام وتقول لهم: احذروا أن تنقضوا كما نقضوا ، فيحرم عليكم ما حرم عليهم ، ويعد لكم من العقاب ما أعد لهم ، ولا تعترضوا على نبيكم ، ولا تتعنتوا كما اعترضوا وتعنتوا ، فإن ربكم لا يسأل عما يفعل، وفيها بيان أن أمر التحليل والتحريم بيد الله سبحانه وحده، فالله سبحانه هو الإله الواحد الخالق المالك الحاكم له السلطان وحده على خلقه وملكه، وتشير إلى تكذيب مشركي العرب الذين كانت من سننهم في «الأنعام» تحريم السائبة والبحيرة والحام وغير ذلك.وأما التفصيل بعد الإجمال والتعميم فقد تقدم.
قال ابن عطية:"وهذه الآية مما تلوح فصاحتها وكثرة معانيها على قلة ألفاظها لكل ذي بصر بالكلام ولمن عنده أدنى إبصار فإنها تضمنت خمسة أحكام: الأمر بالوفاء بالعقود ، وتحليل بهيمة الأنعام ، واستثناء ما تلي بعد ، واستثناء حال الإحرام فيما يصاد ، وما يقتضيه معنى الآية من إباحة الصيد لمن ليس بمحرم"[23]،ويضاف لما ذكر ابن عطية : أن هذه الآية لخصت مقصود السورة في غاية الإيجاز ببلاغة عجيبة،فلله در شأن التنزيل ما أعظمه[24].
[h=1]ب-المطلب الثاني: خاتمة السورة تدل على مقصودها:[/h]{ وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119) لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [الآيات:116 ـ 120].
[h=1]{قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ}:[/h]
والمراد بالصادقين كما ينبئ عنه الاسم، المستمرّون في الدارين على الصدق في الأمور الدينية التي معظمُها التوحيدُ الذي نحن بصدده، والشرائعُ والأحكام المتعلقة به من الرسل الناطقين بالحق والصدق الداعين إلى ذلك، وبه تحصُل الشهادةُ بصِدْق عيسى عليه السلام، ومن الأمم المصدِّقين لهم الصادقين في الاقتداء بهم عقداً وعملاً، وبه يتحقق المقصودُ بالحكاية من ترغيب السامعين في الإيمان برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم.
فالصدق هنا يشمل الصدقَ في القول من الرسل الصادقين وأتباعهم، ويدخل سيدنا عيسى في هذا السياق دخولًا أوليًا، ويشمل الصدقَ في الأمور الدينية التي أهمها التوحيد والشرائع والأحكام المتعلقة به، وفي الاتباع لما جاء من عند الله ورسله.
{صدقهم}: صدقهم فيما ذُكر من أمور الدين، الذين كان لهم الصدق وصفاً ثابتاً، فحداهم على الوفاء بما عاهدوا عليه، فصدقوا في إيمانهم وشهاداتهم، وفي سائر أقوالهم وأحوالهم .
ومادة (ص، د، ق) تدل على الصحة، والكمال، والتمامية، والقوة في الشيء، وهنا تدل على أنهم أدَّوا ما عليهم على الصحة والكمال والتمامية من جميع الجهات وبقوة أداءً مطابقًا لما ينبغي أن يكون عليه الأمر. فإن قلتَ: كيف قال ذلك، مع أنّ الصّدق نافع في الدنيا أيضًا؟
فجوابه: أن نفع الصدق في الدنيا بالنسبة إلى نفع يوم القيامة الذي هو الفوز بالجنّة، والنّجاة من النار، والنيل لرضوان الله تعالى ـ كالعَدَم، ولأن الصدق في الدنيا قد يُبْتَلى صاحبُه ويمتحنُ بالشدائد بعده.
[h=1]{لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا}:[/h]استئناف مَسوقٌ لبيان النفع المذكور كأنه قيل: ما لهم من النفع؟ فقال: {لهم جنات} أي هي من ريّ الأرض الذي يستلزم زكاء الشجر وطيب الثمر بحيث {تجري} ولما كان تخلل الماء في الجنات وقربه أبهج ، قال : { من تحتها الأنهار }، ولما كان مثل هذا لا يريح إلا إذا دام قال : { خالدين فيها }أي باقين في الجنات التي أعطاهموها أبدًا دائمًا، لهم فيها نعيم لا ينتقل عنهم ولا يزول، وأكد معنى ذلك بقوله :
{أبداً}، ثوابًا لهم من الله عزّ وجلّ، على ما كان من صدقهم الذي صدقوا الله فيما وعدوه، فوفوا به لله في عقودهم، فوفى الله عزّ وجلّ لهم ما وعدهم من ثوابه.
{ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ}:استئنافٌ آخرُ لبيان أنه عز وجل أفاض عليهم غيرَ ما ذُكر من الجنات، ، وهو رضوانُه الذي لا غايةَ وراءَه ؛إذ لا شيء أعزُّ منه حتى يمتدَّ إليه أعناقُ الهمم بحيث لا قدْرَ للجنة بالنسبة له ، والنعيم لا يتم إلا به قال : { رضي الله } أي الذي له صفات الكمال { عنهم } عن هؤلاء الصادقين الذين صدقوا في الوفاء له بما عقدوا عليه من العمل بطاعته واجتناب معاصيه ، وهو كناية عن أنه أثابهم بجميع ما يرجونه ، ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « يَقُولُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، فَيَقُولُونَ: لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ، فَيَقُولُ: هَلْ رَضِيتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: وَمَا لَنَا لَا نَرْضَى وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، فَيَقُولُ: أَنَا أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، قَالُوا: يَا رَبَّنَا، فَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ؟ قَالَ: أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي، فَلَا أَسْخَطُ عليكم بعده أَبَدًا» [26]{ ورضوا عنه } ورضوا هم عن الله تعالى في وفائه لهم بما وعدهم على طاعتهم إياه وفيما أمرهم ونهاهم من جزيل ثوابه ، يعني أنه لم يدع لهم شهوة إلا أنالهم إياها .
[h=1] ولما كان سبحانه قد أمرهم أول السورة بالوفاء شكراً على ما أحل لهم في دنياهم، ثم أخبر أنه زاد الشاكرين منهم ورقاهم إلى أن أباحهم أجلّ النفائس في أخراهم ـ وصف سبحانه هذا الذي أباحه لهم إلى أن بلغ في وصفه ما لا مزيد عليه فقال: {ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}:[/h]{ذلك} أي الأمر العالي لا غيره، الذي أعطاهم الله من الجنات التي تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها، ومن الرضا، فهو إشارة إلى كل من النعيمين الجسماني والروحاني اللذين يحصلان بعد النجاة من أهوال يوم القيامة، فإنَّ ذكرَ المغفرة فيها يتضمن معنى النجاة من عذاب النار، {الفوز العظيم} الذي لا يحيط به نطاق الوصف ولا يوقف على مطلب يدانيه أصلاً ، الذي كانوا يطلبونه في الدنيا ، وله كانوا يعملون ، فنالوا ما طلبوا وأدركوا ما أملوا .
والفوز لغةً يشمل الظفر بالخير مع حصول السلامة فهو ظفر ونجاة.
{العظيم}: لِمَا أنَّ عِظَمَ شأنِ الفوزِ تابعٌ لعِظَمِ شأن المطلوب الذي تعلّق به الفوز، وبهذا يلتقي موقف الصدق بالموقف الحقّ، ويتمثَّل الصادقون في حركة العقيدة في الحياة، كأنموذجٍ للنَّاس الَّذين يعيشون المعاناة في الدنيا، من خلال ما تفرضه مواقف الصدق من مآسي وآلام وخسائر ماديّة ، وينطلقون في مواقف الفوز في الآخرة ، انطلاقاً من محبة الله لهم،فمفتتح السورة كان أمرًا بالوفاء بالعقود ، وآخر السورة بيانٌ لجزاء من وفى بهذه العقود من الصادقين.
ولما ادّعت النصارى في عيسى وأمه الألوهية؛ اقتضت الدعوى أن يكونا مالكين قادرين، فردّ الله عليهم بأنْ عظّم نفسه عمّا قالت النصارى من بهتان، وحقق الحق ونبه على كذِب النصارى وفسادِ ما زعَموا في حق المسيحِ وأمِّه، فقال:
{لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ}:
{ لله } أي: له تعالى خاصةً مُلك السماوات والأرض وما فيهما :من العقلاء وغيرِهم، الذي لا تكتنه عظمته ، يتصرَّفُ فيها كيف يشاء: إيجاداً وإعداماً ، إحياءً وإماتة ، أمراً ونهياً ، من غير أن يكون لشيء من الأشياء مدخلٌ في ذلك، هو المالك لها ، المتصرف فيها القادر عليها ، فالجميع ملْكه وتحت قهره وقدرته وفي مشيئته ، فلا إله غيره ولا رب سواه، ولا نظير له ولا وزير ، ولا عديل ، ولا والد ولا ولد ولا صاحبة ، له سلطان السماوات والأرض وَما فِيهِنّ دون عيسى الذين تزعمون أنه إلهكم ودون أمه ، ودون جميع من في السماوات ومن في الأرض فإن السماوات والأرض خلق من خلقه وما فيهنّ .
[h=1]والختم بهذه الآية الكريمة لأمور: [/h]
وبالتأمل لما ذكرته من مقصود السورة وما ذكرته في تفسير الآيتين الأخيرتين يظهر جليًا تلخيصهما لمقصود السورة:
و تسميتها بالعقود مبين لموضوعها:
لأن كل ما تتحدث عنه السورة هو العقود وثواب من وفى بها، وجزاء من خالفها، وشرح العقود، والأوامر الداعية لالتزامها؛ ولذلك افتتحت بالوصايا بالوفاء بالعقود بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ} [آية:1] الآية:
[1] قال القرطبي:" رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَرَأَ سُورَةَ" الْمَائِدَةِ" فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَقَالَ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ سُورَةَ الْمَائِدَةِ مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ فَأَحِلُّوا حَلَالَهَا وَحَرِّمُوا حَرَامَهَا)، وَنَحْوَهُ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مَوْقُوفًا، قَالَ جُبَيْرُ بْنُ نُفَيْرٍ: دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَقَالَتْ: هَلْ تَقْرَأُ سُورَةَ" الْمَائِدَةِ"؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ، فَقَالَتْ: فَإِنَّهَا مِنْ آخِرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ، فَمَا وَجَدْتُمْ فِيهَا مِنْ حَلَالٍ فَأَحِلُّوهُ وَمَا وَجَدْتُمْ فِيهَا مِنْ حَرَامٍ فَحَرِّمُوهُ". (الجامع لأحكام القرآن/ أبو عبد الله القرطبي (6/ 31).
يقول علي هاني:الحديث المرفوع لم يصح حتى قال العراقي: حديث:" المائدة آخر ما نزل" لم أَجده مرفوعًا ، وفى الفتح السماوي نقلا عن الحافظ ابن حجر:" لم نقف عليه مرفوعًا"(2/ 552).وأما حديث جبير بن نفير فقد رواه أحمد (6/188)، الحاكم (2/340)، النسائي في "الكبرى" (6/333) وعلق عليه الشيخ شعيب الأرناؤوط بقوله:" إسناده صحيح، رجاله ثقات رجال الصحيح: معاوية: هو ابن صالح الحضرمي، وأبو الزَّاهرية: هو حُدَير بن كريب، وأخرجه إسحاق بن راهويه (1666)، والنسائي في "السنن الكبرى" (11138) ، وهو عنده في "التفسير" (158) ، وأبو الشيخ في "أخلاق النبي" ص20 من طريق عبد الرحمن بن مَهْدي، بهذا الإسناد. ورواية أبي الشيخ مختصرة.
وأخرجه أبو عبيد في "فضائل القرآن" ص 128، والطبري في "تفسيره" 19/29، والنحاس في "الناسخ والمنسوخ" (398)، والطبراني في "مسند الشاميين" (1963)، والحاكم 2/311، وأبو نُعيم في "دلائل النبوة" (118)، والبيهقي في "السنن" 7/172 من طريقين عن معاوية بن صالح، به. وقال الحاكم: حديث صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي ". وروى الترمذي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: «آخِرُ سُورَةٍ أُنْزِلَتِ الْمَائِدَةُ وَالْفَتْحُ». قال الترمذي: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَرُوِي عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ: «آخِرُ سُورَةٍ أُنْزِلَتْ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ»، وضعفه الألباني.
[2] والفقرة الأولى: { الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ} تقرر أن المشركين كانوا يعملون دائمًا على قهر المسلمين وإذلالهم وتشتيتهم وتفريق كلمتهم وفتنتهم عن دينهم فصاروا من كل ذلك في عجز وضعف، واستولى عليهم اليأس في الوصول إلى شيء من أغراضهم، عليه فيجب على المسلمين ـ وقد عصمهم الله من أعدائهم وبدل بضعفهم قوة وبخوفهم أمنًا وبفقرهم غنى ـ أن يشكروا رب هذه النعمة وألا يكترثوا في تنفيذ أوامره وإقامة دينه وتنفيذ أحكامه بأحد سواه، ولا ريب أن هذا القهر الذي حاق بالمشركين كان أثرًا قويًا للقوة التي صارت إليه في ذلك الوقت .
وتقرر الفقرة الثانية: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}بشارة عظيمة هي في الواقع بمنزلة البيان أو التعليل لما استفيد من الفقرة الأولى من وقوع المشركين في اليأس وحصول المسلمين على النصر والقوة، وذلك أن إكمال الدين على الإطلاق يتناول إكماله بالبيان والتشريع وإكماله بالقوة والتركيز، وإن أكبر النعم التي يمتن بها العظيم ويضيفها إلى نفسه تفخيمًا لها لهي النعمة التي بها يستتب النظام وتوضع القوانين، وتبين الحقوق والواجبات، وتقضى على نوازع الشر ومنابع السوء، وتقهر العدو، وتدك صرح باطله، وتجعله في يأس من عودة القوة إليه ،نعم إنها لأكبر النعم، فيجب عليهم أن يفوا بجميع عقودهم مع الله ، أن يحذروا المخالفة والعصيان لكي لا تسلب منهم هذه الكرامة كما حصل مع اليهود والنصارى. انظر (تفسير القرآن الكريم/الأستاذ محمود شلتوت (217ـ 219).
[3][3] ممن اختار هذا دروزة، والدكتور عبد الله شحاته، والدكتور إبراهيم زيد الكيلاني وعبارة الدكتور زيد:" ويبدو أن السورة نزلت منجمة وأن الفترة الزمنية لنزولها كانت ممتدة بعد صلح الحديبية الذي حصل في السنة السادسة والنصف للهجرة النبوية إلى عام حجة الوداع". خصائص الأمة الإسلامية الحضارية كما تبينها سورة المائدة/ قال د. إبراهيم زيد الكيلاني (7،6).
[4] للعلماء في وقت نزول السورة أقوال:
1) القول الأول: قالوا:" إنها آخر سورة نزلت"، وبعضهم زاد: "نزلت كلها في حجة الوداع"، وأوردوا روايات عن السيدة عائشة ـ رضي الله عنها ـ موقوفة في ذلك أخرجها الإمام أحمد، والنسائي، والحاكم وصححه، والبيهقي، وممن أوردوا هذه الأحاديث: ابن كثير، والبغوي، ومكي، والثعلبي، ومحمد رشيد رضا، والشوكاني، والمراغي، والسامرائي، وأبو زهرة، وجماعة غيرهم.
2) القول الثاني: نزلت مفرقة وهو الأصح، فمنها ما هو من أواخر ما نزل عندما فتحت مكة، وقوِي المسلمون، وقلمت أظفار المشركين، وانزوى الشرك في مخابئه المظلمة، وصار المسلمون في قوة ومنعة، ومنها ما نزل قبل ذلك قبل القضاء على اليهود وإخراجهم من جزيرة العرب تمامًا.
اختار هذا: ابن عاشور، وسيد قطب، ودروزة، والآلوسي، وجماعة مع فروق خفيفة بينهم، قال ابن عاشور:" ولذلك اختلفوا في أن هذه السورة نزلت متتابعة أو متفرقة، ولا ينبغي التردد في أنها نزلت منجمة". (التحرير والتنوير/ابن عاشور (6/70). وهذا هو الأصح وقد لخصت خلاصة ما أرتضيه من أقوالهم في أصل البحث، وإليك بعض عباراتهم:
وهذه القوة وهذا النفوذ كانا قد تضاءلا بعد وقعة بني قريظة، عقب غزوة الخندق، وقد تطهرت الأرض من القبائل الثلاث اليهودية القوية: بني قينقاع، وبني النضير وبني قريظة، فلم يكن لهم بعد الحديبية ما يدعو إلى العناية بشأنهم إلى هذا الحد، ثم لقد كانت فترة المهادنة معهم والخطة السلمية قد انتهت ولم يعد لها موضع بعد الذي بدا منهم، فقول اللّه تعالى لنبيه الكريم : {وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ ..}[آية:13] لا بد سابق على هذه الفترة، وكذلك أمره بالحكم بينهم أو الإعراض عنهم ..ومن هذه الملاحظات يترجح لدينا أن مطالع السورة وبعض مقاطعها هي التي نزلت بعد سورة الفتح بينما نزلت مقاطع منها قبل ذلك ، كما أن الآية التي فيها قول اللّه تعالى : {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}[آية:3] لا بد أن تكون قد نزلت بعد ذلك، فقد كانت آخر ما نزل من القرآن على أرجح الأقوال، وأن السورة لم تنزل كلها مرة واحدة كما جاء في إحدى الروايات. (في ظلال القرآن / سيد قطب (2/ 832).
[5] قال عبد المتعال الصعيدي:" وقد نزلت هذه السورة بعد أن نقض أهل الكتاب من يهود المدينة وغيرهم العهود التي كانت بين النبي صلى الله عليه وسلم وبينهم ، فبعضهم حاربه كبني قريظة وبني قينقاع وبعضهم تآمر على قتله كبني النضير ، وبعضهم لم يرض بحكمه في حد الزنا وغيره وحاول أن يغشه، وكان لهم في حروبهم وتآمرهم مساعدون من المنافقين يتولونهم ويقولون نخشى أن تصيبنا دائرة، فجاءت هذه السورة الكريمة وفي أولها أمر المؤمنين بالوفاء بالعهود على اختلاف أشكالها سواء أكانت بين الله تعالى والعباد أم بين العباد بعضهم مع بعض، ثم بينت أن نقض العهود معروف في أهل الكتاب مع كل الأنبياء الذين بعثوا إليهم ، ثم جاء فيها هي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن الحزن لنقضهم العهد الذي كان بينهم وبينه وانحياز فريق من المنافقين إليهم آثروا على الكفر الإيمان ...، وأن يبلغ ما أنزل إليه في ذلك ولا يخاف من قتالهم فالله تعالى يعصمه منهم فهذا هو المقصود بالذات من هذه السورة ، وقد ذكر في أولها بعد أمر المؤمنين بالوفاء بالعقود أن الله تعالى أحل لهم بهيمة الأنعام على سبيل الامتنان ليكون هذا باعثًا لهم على الوفاء بها ".( الأقوال الحسان في حسن نظم القرآن /عبد المتعال الصعيدي /المطبعة العمومية بطنطا (78،77،76).
[6] انظر (التحرير والتنوير/ ابن عاشور (6/73،72،71). (في ظلال القرآن / سيد قطب (2/ 832)، ( تفسير القرآن الكريم/الأستاذ محمود شلتوت (217ـ 219)، (أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته،(ص63،64)).( الأقوال الحسان في حسن نظم القرآن /عبد المتعال الصعيدي /المطبعة العمومية بطنطا (78،77،76). (التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم/جماعة من العلماء (2/287).
[7] قد ورد في هذه السورة كلمة العقود والميثاق والحث على الوفاء بها والتحذير من نقضها ست مرات:
[8] قال سيد قطب:" وافتتاح هذه السورة بالأمر بالوفاء بالعقود، ثم المضي بعد هذا الافتتاح في بيان الحلال والحرام من الذبائح والمطاعم والمشارب والمناكح، وفي بيان الكثير من الأحكام الشرعية والتعبدية، وفي بيان حقيقة العقيدة الصحيحة، وفي بيان حقيقة العبودية وحقيقة الألوهية، وفي بيان علاقات الأمة المؤمنة بشتى الأمم والملل والنحل، وفي بيان تكاليف الأمة المؤمنة في القيام للّه والشهادة بالقسط والوصاية على البشرية بكتابها المهيمن على كل الكتب قبلها ، والحكم فيها بما أنزل اللّه كله، والحذر من الفتنة عن بعض ما أنزل اللّه والحذر من عدم العدل تأثرا بالمشاعر الشخصية والمودة والشنآن ..افتتاح السورة على هذا النحو ، والمضي فيها على هذا النهج يعطي كلمة «العقود» معنىً أوسعَ من المعنى الذي يتبادر إلى الذهن لأول وهلة، ويكشف عن أن المقصود بالعقود هو كل ضوابط الحياة التي قررها اللّه .. وفي أولها عقد الإيمان باللّه ومعرفة حقيقة ألوهيته سبحانه، ومقتضى العبودية لألوهيته.. هذا العقد الذي تنبثق منه، وتقوم عليه سائر العقود وسائر الضوابط في الحياة. (في ظلال القرآن/ سيد قطب إبراهيم (2/ 835).
[9] قال ابن عاشور:" وقد احتوت هذه السورةُ على تشريعاتٍ كثيرةٍ تُنْبِئُ بأنها أُنزلت لاستكمال شرائع الإسلام، ولذلك افْتُتِحَتْ بالوصايةِ بالوفاءِ بالعقودِ ـ ـ فكانت طالعتُها براعةَ استهلالٍ". (التحرير والتنوير/ ابن عاشور)(6/ 72)،و قال ناصر مكارم الشيرازي:" لقد تم التأكيد في هذه السورة ـ لما تمتاز به من موقع خاص ـ على مجموعة من المفاهيم الإسلامية ، وعلى آخر البرامج والمشاريع الدينية ، وقضية قيادة الأمة وخلافة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقد يكون هذا هو السبب في استهلال المائدة بقضية الإلزام بالوفاء بالعهد والميثاق، حيث تقول في أول جملة كريمة لها :{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}[آية:1]؛ وذلك لكي تلزم المؤمنين بالوفاء بعهودهم التي عقدوها في الماضي مع الله تعالى أو أشارت إليها هذه السورة، ويأتي هذا التأكيد على غرار ما يفعله المسافر في اللحظات الأخيرة ، من الوداع مع أهله وأقاربه وأنصاره حيث يؤكد عليه ألا ينسوا وصاياه ونصائحه ، وأن يوفوا بالعهود والمواثيق التي عقدوها معه".(الأمثل في تفسير الكتاب المنزل/ناصر مَكارم الشيرازي/ مؤسسة الأعلمي للمطبوعات (3/336). وقد سبقه إلى هذا الإمام السيوطي حيث قال فيما ذكره من مناسبات بين سورة المائدة والنساء" وأما اعتلاقها بسورة النساء فقد ظهر لي في وجه بديع جدًا ،وذلك أن سورة النساء اشتملت على عدة عقود صريحًا وضمنًا، فالصريح: عقود الأنكحة، وعقد الصداق، وعقد الحلف في قوله تعالى: { وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ}[النساء: 33]، وعقد الأيمان في هذه الآية، وبعد ذلك عقد المعاهدة والأمان في قوله تعالى: { إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ}[النساء:90]، وقوله تعالى:{ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ }[النساء:92].
والضمني: عقد الوصية، والوديعة، والوكالة، والعارية، والإجارة، وغير ذلك من الداخل في عموم قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [الآية:58]، فناسب أن يعقب بسورة مفتتحة بالأمر بالوفاء بالعقود، فكأنه قيل في المائدة: ياأيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود التي فرغ من ذكرها في السورة التي تمت، فكان ذلك غاية في التلاحم والتناسب والارتباط".( أسرار ترتيب القرآن/ السيوطي (95)).
[10] وقد شددت السورة على من لم يحكم شرع الله سبحانه فجاء فيها: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [آية:44]، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ }[آية:45]، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ }[آية:47]،{ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ }[آية:50].
[11] جاء في رسالة " الانفرادات اللفظية، دلالاتها وعلاقتها بالوحدة الموضوعية للسورة القرآنية": من الكلمات التي انفردت بها السورة ولم تذكر في غيرها (المنخنقة، الموقوذة ، النطيحة، ذكيتم){ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ }[آية:3]،والعلاقة بين المفردات الأربع واسم السورة وموضوعها: أن اسم السورة يتعلق بقصة طلب الحواريين أن ينزل الله تعالى عليهم مائدة من السماء ؛ليصلوا إلى درجة اليقين ، فأخذ الله تعالى عليهم عهدًا أن من يكفر بعد إنزالها استحق العذاب الشديد، فهي تحمل في طياتها أخذ العهد عليهم بالإيمان وعدم الكفر، وتبين ما يترتب على الكفر من عذاب، وهذه الكلمات (المنخنقة ، والموقوذة ، والنطيحة): جاءت لبيان أصناف حُرِّم أكلها ....، واسم السورة يحمل معنى المائدة التي تحتوي على الطعام من السماء للحواريين ، فتلك أنزلت بما أحله الله تعالى ، وهذه الكلمات الثلاث تشير إلى مطعومات حرمها الله ، وكل ذلك ميثاق من الله تعالى لبني آدم، وكلمة (ذكيتم) فيها بيان طريق الحل في المطعومات، فالذكاة الشرعية تجعل الطعام حلالًا، وهذا هو الحكم الإلهي الذي على الأمة اتباعه، وإلا نقضت عهد الله تعالى .
وأما عن ارتباطها بمحور السورة وموضوعها فقد وردت المفردات الثلاث الأولى وهي : (المنخنقة ـ الموقوذة ـ النطيحة) في سياق بيان أحكام تشريعية فيما يتعلق بما يحل ويحرم من المطعومات، ولم يكن يتورع العرب عن أكل هذه الأصناف، ولذا جاء التحريم لهذه الأصناف ليتم محو ما تبقى من رواسب الجاهلية في المجتمع المسلم ؛ ولذا جاءت تحت التحريم الجازم الذي لا يقبل أي تساهل، وجاءت تفسر قوله تعالى: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}[آية:1]، فكأن هذه الكلمات التي انفردت بها السورة جاءت ترسم أول خط من الوفاء بالعقود التي جعلها الله تعالى بينه وبين عباده ثم جاءت المفرد ة التي تلي هذه الثلاثة {ذكيتم} مكملة لهذا الشرع الذي شرعه الله تعالى من تحريم هذه الأصناف من المواشي، فما ذكي قبل موته جاز أكله، فهذه المفردات الأربع مرتبطة ارتباطًا وثيقًا مع مقاصد هذه السورة وموضوعاتها؛ التي جاءت تؤكد وجوب الوفاء بما هدى إليه الكتاب العزيز من أحكام تشريعية ومنها أحكام الأكل" ... "ومن منهج بناء السورة القرآنية وجود ألفاظ فريدة لها ، تختص بها سورة معينة ، تشكل ملامح السورة العامة ، وتنسجم مع مقاصد السورة ، وتساعد على تجلية موضوع السورة القرآنية". "الانفرادات اللفظية، دلالاتها وعلاقتها بالوحدة الموضوعية للسورة القرآنية(من أول سورة الفاتحة إلى آخر سورة المائدة) / رسالة قدمتها عبيدة أسعد لنيل درجة الدكتوراة/ المشرف: الدكتور سليمان الدقور/ الجامعة الأردنية (201، 225).
وكذلك كلمة {سائبة}{ مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ}[آية:103] كلمة "سائبة" تشير إلى صنف من الأنعام حرمه المشركون على أنفسهم مخالفين أمر الله تعالى ، وهذا يشير إلى مقصود السورة وهو بيان العقود وحثّ المؤمنين على الوفاء بها ، ومن جملة تلك العقود تحليلُ ما أحلَّ، وتحريمُ ما حرَّم، لا سيما أمرُ الذبائحِ والمآكلِ والمشاربِ والمناكحِ ، فالله سبحانه هو الإلهُ الواحدُ الخالقُ المالكُ الحاكمُ له السلطانُ وحده على خلقه وملكه، وهو الذي يحكم ما يريد ، يحلل ويحرم لا أهواؤهم، فهذه الكلمة تشير إلى أن المشركين نقضوا عهد الله وخرجوا عن حكمه واتبعوا أهواءهم.
[12] مما انفردت به السورة كلمة {منهاجًا}{لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا}[آية:48] ، و" المنهاج: هو الطريق الواضح البين المستنير"، وهذه الكلمة تشير لما ذكر في مقصود السورة " أن هذه العقود فيها رسم الأسس الفكرية والعقدية والتشريعية للإسلام والإيمان والاستقامةِ لكلِّ الحياةِ فكرًا وعقيدةً وتشريعًا، والتي يراد من خلالها: تأسيسُ المجتمعِ الإسلاميِّ الفاضلِ المستَمِدِّ تشريعَه من الله تعالى وحدَه بدون تحريف، وليعصمَهم من الانحرافاتِ السلوكيةِ والعقديةِ".
[13] من المناسبات بين خاتمة النساء وبداية المائدة ، أنه في آخر سورة النساء: { يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }[النساء:176]،وفي هذه السورة بين أنه بعد أن أكمل الدين، وبين لكم الطريق المستقيم وبين لكم أسباب الهداية والضلالة ، عليكم أن تأخذوا بما أنزل عليكم وأن تشكروا نعمته سبحانه بالوفاء بالمواثيق بينكم وبين الله تعالى ، وبينكم وبين الناس، وأن تحذروا مما فعلوا النصارى واليهود من الضلال ونقض العهود فسلبت كرامة الله عنهم ، فبين في هذه السورة العهود والمواثيق ، وبين عاقبة من وفى بها ومن نقضها دنيا وأخرى. قال البقاعي في الربط بين سورة النساء والمائدة، وهو يفيدنا في فهم مقصود السورة:" لما أخبر تعالى في آخر سورة النساء أن اليهود لما نقضوا المواثيق التي أخذها عليهم حرم عليهم طيبات أحلت لهم من كثير من بهيمة الأنعام المشار إليها بقوله :{ وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ } [الأنعام: 146] ، واستمر تعالى في هتك أستارهم وبيان عوارهم إلى أن ختم بآية في الإرث الذي افتتح آياته بالإيصاء ،وختمها بأنه شامل العلم ـ ناسب افتتاح هذه بأمر المؤمنين الذي اشتد تحذيره لهم منهم بالوفاء الذي جلُّ مبناه القلب ".(نظم الدرر/ البقاعي (2/384).و قال أبو حيان: "ومناسبة افتتاحها لما قبلها هو أنه تعالى لما ذكر استفتاءهم في الكلالة وأفتاهم فيها ، ذكر أنه يبين لهم كراهة الضلال ، فبين في هذه السورة أحكاماً كثيرة هي تفصيل لذلك المجمل ".
[14] حوت هذه السورة مقاصد الشريعة الإسلامية الخمسة: 1) حفظ الدين. 2) حفظ النفس .3) حفظ العقل. 4) حفظ العرض. 5) حفظ المال.
[15] قال البقاعي في مصاعد النظر "وللبخاري عن سفيان قال: " مَا فِي القُرْآنِ آيَةٌ أَشَدُّ عَلَيَّ مِنْ: {لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ، وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} [المائدة: 68] " صحيح البخاري، بَابُ الرَّجَاءِ مَعَ الخَوْفِ، "6468 ،قال البقاعي: أي: فكذلك نحن لسنا على شيء حتى نقيم الكتاب والسنة.( مَصَاعِدُ النَّظَرِ للإشْرَافِ عَلَى مَقَاصِدِ السِّوَرِ ويُسَمَّى: "المَقْصِدُ الأَسْمَى في مُطَابَقَةِ اسْمِ كُلِّ سُورَةٍ لِلمُسَمَّى"/ إبراهيم بن عمر بن حسن الرباط بن علي بن أبي بكر البقاعي/ دار النشر: مكتبة المعارف – الرياض/ الطبعة: الأولى(2/ 113).
[16] جاء في الانفرادات اللفظية ، دلالاتها وعلاقتها بالوحدة الموضوعية للسورة: "مما انفردت به السورة كلمة {يتيهون}، وجاءت هذه الكلمة في سياق قصة متعلقة بمشهد عصيان من بني إسرائيل لأمر الله تعالى وأمر رسوله عليه السلام ، وهذا المشهد يعطي مثالًا حيًا لمن ينكل عن طاعة الله تعالى، يقول البقاعي:" وفي هذه القصة أوضح دليل على نقضهم للعهود التي بنيت السورة على طلب الوفاء بها وافتتحت بها ، وصرح بأخذها عليهم في قوله : { وَلَقَدْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ بَنِي إسرائيل } إلى أن قال : { وَآمَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ } [المائدة : 12] وفي ذلك تسلية للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيما يفعلونه معه ،وتذكير له بالنعمة على قومه بالتوفيق ، وترغيب لمن أطاع منهم وترهيب لمن عصى" (نظم الدرر (ج2/428)، ويقول سيد قطب:" وفي نهاية الدرس يصل السياق إلى الموقف الأخير لبني إسرائيل مع رسولهم ومنقذهم - موسى عليه السلام - على أبواب الأرض المقدسة التي وعدهم اللّه ،وموقفهم كذلك من ميثاق ربهم معهم وكيف نقضوه، وكيف كان جزاؤهم على نقض الميثاق الوثيق".(في ظلال القرآن/ سيد قطب (2/868،867)، فمشهد نقض المواثيق مشهد يتكرر عبر كل زمان بصور مختلفة وبأشخاص [مختلفين]، والقاعدة التي جاءت تقولها هذه السورة وهذه القصة أن كل من ينقض عهد الله تعالى ستحل عليه العقوبة ، والتي جاء التعبير عنها بكلمة {يتيهون}، فكلمة {يتيهون}كانت لبيان عقوبة من يحيد عن أمر الله تعالى وأمر رسوله.
وكذلك مفردة {يبحث}{ فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ}[آية:31] لم ترد إلا في هذه السورة الكريمة، وهي تصور مشهدًا آخر من مشاهد القصص القرآني، مشهد الإنسان الذي ضل الطريق وانتهك حرمات الله تعالى، وقتل نفسًا بغير حق، فأصبح هائمًا على وجهه لا يعلم العمل، ضائعًا لا حيلة بيده ، يبحث عن حل لما فعل ، فأرسل الله تعالى ذلك الغراب يبحث في الأرض، هذا الغراب اهتدى إلى الحق مع أنه حيوان لا يعقل، وأما الإنسان العاقل فلم يهتد إلى الحق ، فهذه الكلمة بهذا السياق يظهر ارتباطها الوثيق بمحور السورة ومقاصدها، فالغراب اهتدى إلى الحق وأما الإنسان الذي انتهك حرمات الله تعالى ، ونقض عهد الله تعالى، فقد ضل ولم يهتد إلى الحق ، فما كان له إلا الخسران والندم.
وكذلك كلمة {ينفوا} {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} [آية:33]، هي مما انفردت به السورة، وقد جاءت في سياق بيان إحدى العقوبات لمن يحارب الله تعالى، ويحارب رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ويسعى في الأرض بالإفساد، وهي عقوبة من يخيف السبيل دون أن يقتل أو يأخذ مالًا .. ويظهر بذلك اتصالها باسم السورة، فقد جاءت هذه الكلمة لبيان عقوبة من نقض عهد الله تعالى من خلال السعي بالإفساد في الأرض، وكذلك اسم السورة [وموضوعها] يشير إلى أن من ينقض العهد الذي أخذه الله تعالى عليه حق عليه العذاب الشديد". (الانفرادات اللفظية، دلالاتها وعلاقتها بالوحدة الموضوعية للسورة القرآنية/الطالبة: عبيدة أسعد (208،205، 212).
[17] قال فاضل السامرائي:" · قصة بني اسرائيل: جاء ذكرها هنا ؛لأن بني اسرائيل قد نقضوا الذي ما كان كثير من العهود، وهم نموذج لمن ينقض العهود والمواثيق:{ وَلَقَدْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ بَنِي إسرائيل وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاَةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَّأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ* فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}[الآيتان: 12 – 13]، قصة سيدنا موسى - عليه السلام - ودخول الأرض المقدسة: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاء وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّن الْعَالَمِينَ ..قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} الآيات من[ 20 – 26]، وفي ورودها تأكيد آخر على نموذج نقض العهود من بني اسرائيل .(لمسات بيانية /فاضل السامرائي (10) محاضرات مفرغة).
قصة ابني آدم: ورودها في هذه السورة بعد قصة بني اسرائيل؛ لأن بني اسرائيل نقضوا العهود من جبنهم وقابيل قتل أخاه هابيل بتسرعه ونقضه للعهد. {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [الآيات: 27 – 31].
[18] قال الشيخ محمود شلتوت: " قد أرشدت المؤمنين بذلك إلى أن النقص الديني والفساد الخلقي، والانحلال الجماعي ، والارتطام في الشهوات والأهواء ، والخروج عن حدود الله تعالى وشرائعه، إنما أصاب أهل الكتاب بسبب نقضهم لهذه المواثيق، وعدم وفائهم بعقود الله معهم وتكاليفه لهم ، والإخلال بما وثقوه بينهم من التزامات الخير والصلاح :{ فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13) وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (14)}[الآيتان:13،14]، { لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ}[آية:70].
[19] قال العليمي المصري في بحث " مثاني فواتح السور، معجزة جديدة للقرآن" الذي تقدم الحديث عنه في سورة البقرة وما بعدها:
[20] اشتملت سورة المائدة على ستة عشر نداء وجهت للمؤمنين خاصة، من مجموع ثمانية وثمانين نداء للمؤمنين في القرآن، يعتبر كل نداء منها قانونًا ينظم ناحية من الحياة عند المؤمنين، فيما يختص بأنفسهم وفيما يختص بعلاقتهم بأهل الكتاب، ويربي المؤمنين على المنهج الذي اختاره الله لهم، وهي أكثر سورة جاء فيها النداء بـ{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}، شاملًا الأوامر والنواهي الإلهية للمؤمنين.
1- {ياأيها الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} [آية:41].
2- {يَاأَيُّهَاالرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [آية:67].
وهناك خمسة نداءات لأهل الكتاب بعضها مباشر:
وقد عدها الشارع عقودًا حقيقة بالوفاء". نحو تفسير موضوعي/ محمد الغزالي (67).
وهذا يؤكد المحور والمقصد المذكور للسورة ومن جملة ذلك أيضًا:
ب) نكول بني إٍسرائيل عن قتال أهل القرية التي أمروا بدخولها لم يذكر إلا هنا [آية 33، 34]. [دلالة أسماء اسور القرآنية على محاورها وموضوعاتها / د. عمر عرفات (ص74).
[21] قال الراغب:" العقود باعتبار العقود ثلاثة أضرب:
فأما اللازم بالالتزام، فأربعة أضرب:
[22] ثم قال " وعقد الإيمان باللّه والاعتراف بألوهيته وربوبيته وقوامته ومقتضيات هذا الاعتراف من العبودية الكاملة، والالتزام الشامل والطاعة المطلقة والاستسلام العميق، هذا العقد أخذه اللّه ابتداء على آدم - عليه السلام - وهو يسلمه مقاليد الخلافة في الأرض، بشرطٍ وعقدٍ هذا نصه القرآنيُّ: {قُلْنَا : اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً ، فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ}[البقرة:38]، فهي خلافة مشروطة باتباع هدى اللّه الذي ينزله في كتبه على رسله وإلا فهي المخالفة لعقد الخلافة والتمليك، المخالفة التي تجعل كل عمل مخالف لما أنزل اللّه باطلًا بطلانًا أصليًا ، غير قابل للتصحيح المستأنف!، وتحتم على كل مؤمن باللّه يريد الوفاء بعقد اللّه أن يردَّ هذا الباطل ، ولا يعترف به ولا يقبل التعامل على أساسه، وإلا فما أوفى بعقد اللّه، ولقد تكرر هذا العقد - أو هذا العهد - مع ذرية آدم وهم بعد في ظهور آبائهم، كما ورد في السورة الأخرى : {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ، وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ : أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قالُوا: بَلى شَهِدْنا! أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ. أَوْ تَقُولُوا: إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ. أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} [الأعراف:173،174]، فهذا عقد آخر مع كل فرد عقد يقرر اللّه - سبحانه - أنه أخذه على بني آدم كلهم وهم في ظهور آبائهم، وليس لنا أن نسأل: كيف؟ لأن اللّه أعلم بخلقه وأعلم كيف يخاطبهم في كل طور من أطوار حياتهم. بما يلزمهم الحجة، وهو يقول: إنه أخذ عليهم هذا العهد، على ربوبيته لهم، فلا بد أن ذلك كان، كما قال اللّه سبحانه، فإذا لم يفوا بتعاقدهم هذا مع ربهم لم يكونوا أوفياء!، ولقد أخذ اللّه ميثاق بني إسرائيل يوم نتق الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم.. وسنعلم كيف لم يفوا بالميثاق وكيف نالهم من اللّه ما ينال كل من ينقض الميثاق.
والذين آمنوا بمحمد - صلى اللّه عليه وسلم - قد تعاقدوا مع اللّه - على يديه - تعاقدًا عامًا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا، وأثرة علينا، وألا ننازع الأمر أهله».
وبعضهم وقعت له بعد ذلك عقود خاصة قائمة على ذلك التعاقد العام ، ففي بيعة العقبة الثانية التي ترتبت عليها هجرة الرسول - صلى اللّه عليه وسلم - من مكة إلى المدينة ، كان هناك عقد مع نقباء الأنصار ، وفي الحديبية كان هناك عقد الشجرة وهو «بيعة الرضوان»، وعلى عقد الإيمان باللّه ، والعبودية للّه ، تقوم سائر العقود ، سواء ما يختص منها بكل أمر وكل نهي في شريعة اللّه ، وما يتعلق بكل المعاملات مع الناس والأحياء والأشياء في هذا الكون في حدود ما شرع اللّه - فكلها عقود ينادي اللّه الذين آمنوا ، بصفتهم هذه ، أن يوفوا بها؛ إذ إن صفة الإيمان ملزمة لهم بهذا الوفاء ، مستحثة لهم كذلك على الوفاء ومن ثم كان هذا النداء : «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» ..
ثم يأخذ في تفصيل بعض هذه العقود: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ.. أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ} الآية، إن هذا التحريم والتحليل في الذبائح، وفي الأنواع، وفي الأماكن، وفي الأوقات، إن هذا كله من «العقود»، وهي عقود قائمة على عقد الإيمان ابتداء، فالذين آمنوا يقتضيهم عقد الإيمان أن يتلقوا التحريم والتحليل من اللّه وحده ولا يتلقوا في هذا شيئًا من غيره ، ومن ثم نودوا هذا النداء ، في مطلع هذا البيان ،وأخذ بعده في بيان الحلال والحرام.( في ظلال القرآن/ سيد قطب (2/ 835، 836)).
[23] المحرر الوجيز/ابن عطية (2/ 145).
[24] هذا التفسير للآية الكريمة الأولى من السورة ملخص من :(جامع البيان / ابن جرير الطبري (4/61)،(الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل/ الزمخشري(1/600)،( إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/أبو السعود العمادي(3/2)،( أنوار التنزيل وأسرار التأوي/ البيضاوي(2/113)، روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني/ الآلوسي (3/222)،( في ظلال القرآن/سيد قطب(2/885)، (تفسير المنار/محمد رشيد رضا (6/98)،( نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/البقاعي(6/369 )،( تفسير البحر المحيط/أبو حيان (4/157)،( المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز/ابن عطية (2/143)،( تفسير القرآن العظيم/ابن كثير (2/6) ، (التفسير الكبير/أبو عبد الله الرازي(11/276)، (زهرة التفاسير/ أبو زهرة (4/2008)،( التحرير والتنوير/ابن عاشور(5/5)، التفسير الوسيط للقرآن الكريم/محمد سيد طنطاوي(4/7)،( تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان/ السعدي(218).
[25] في ظلال القرآن/سيد قطب (2/1002).
[26] أخرجه البخاري بَابُ صِفَةِ الجَنَّةِ وَالنَّارِ 6549، وأخرجه مسلم في الجنة وصفة نعيمها باب إحلال الرضوان على أهل الجنة رقم 2829.
[27] تفسير آخر آيتين ملخص من هذه التفاسير:(جامع البيان في تأويل القرآن /محمد بن جري الطبري (5/180 ـ 182 )،(الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل/ الزمخشري(1/697)،( إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/أبو السعود العمادي(3/102)،( أنوار التنزيل وأسرار التأوي/ البيضاوي(2/151)، روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني/ الآلوسي (4/68)،( في ظلال القرآن/سيد قطب(2/1002)، (تفسير المنار/محمد رشيد رضا (7/228)،( نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/البقاعي (2/902 )،( تفسير البحر المحيط/أبو حيان (4/421)،( المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز/ابن عطية (2/263)،( تفسير القرآن العظيم/ابن كثير ( 3/235) ، (التفسير الكبير/أبو عبد الله الرازي (12/468)، (زهرة التفاسير/ أبو زهرة (5/2413)،( التحرير والتنوير/ابن عاشور(5/274).
[28] قال محمود شلتوت: " أما وجه تسميتها بسورة المائدة فهو أنها السورة الوحيدة أيضًا التي تحدثت عن مائدة طلب الحواريون من عيسى ـ عليه السلام ـ أن يسألها ربه. (تفسير القرآن الكريم/ الأستاذ محمود شلتوت (ص207).
[29] في قوله تعالى {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (111) إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112)}:
أ) يقول علي هاني: وأرجح الأقوال عندي في تعلق {إذ}في: { إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ } أنه متعلق بـ(أوحيت) كما رجحه الطبري، والراغب، وقدمه الإمام الرازي، والطوسي ، فأصل النظم أوحيت إلى الحواريين حين قالوا { هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ } أوحيت إليهم {أنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي } {قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} لكن القرآن الكريم قدمهما؛ لأن فيه المنة على عيسى عليه السلام ، ولأن القصة تتطول فلو أخر { وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ } لما بين مسارعتهم لامتثال الأمر، ولحصل الشك في أمرهم، فمدحهم بالإيمان قبل ذكر قصتهم ، وإليك بعض أقوال العلماء التي توضح هذا القول :
ب) هناك قولان في كون الحواريين كانوا شاكيين أم طلبوا الاطمئنان:
والظاهر : أن هذا كان في بداية حالهم وفي أول مراحل إسلامهم، آمنوا بسيدنا عيسى ـ عليه السلام ـ فأرادوا أن يزدادوا يقينًا ،وأن تطمئن قلوبهم كما قال إبراهيم { رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى}[البقرة:260] ، ويشهدوا لغيرهم على نزولها فطلبوها ، فطلبها سيدنا عيسى عليه السلام من الله تعالى ، فأوحى الله عز وجل للحواريين أن يؤمنوا ، فقالوا { آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ}" ، كما في قول الصحابة ـ رضي الله عنهم: { وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285)}[البقرة:285]، لكن لم يراعوا في خطابهم الأدب اللائق في خطاب الأنبياء ، وهو الذي رجحه الشهاب، وحمل كلام البيضاوي عليه حيث قال البيضاوي في تفسير قوله تعالى :{ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ }[المائدة:112] لم يكن بعدُ عن تحقيقٍ واستحكامٍ معرفةٍ"، فقال الشهاب:" لك أن تقول إنّ المصنف ـ رحمه الله ـ لم يذهب إلى ما ذهب إليه الكشاف، وأنّ مراده أنَّ إخلاصهم الذي ادّعو، لم يكن محكمًا محققاً تحقيقاً لا تعتوره الأوهام، والوساوس الذي لا تضرّ المؤمن، ولا توقعه في مزلة الكفر فطلبوا إزالة ذلك طلب من يتثبت لإنكارهم له، واستعظامه عندهم لا لشك منهم، ولكن خافوا أن يوقعهم الشيطان به في حبائله، وهذا تصرّف منه أخف من نسب الشك إليهم، ومخالفة ظاهر النظم كما يدل عليه ما سيأتي، وهذا هو النظر السديد عندي".(حاشية الشهاب الخفاجي على البيضاوي(3/ 299)).
[30] خصائص الأمة الإسلامية الحضارية كما تبينها سورة المائدة /د. إبراهيم زيد الكيلاني (ص8).
[31] وإليك الآيات التي تحدثت عن ذلك:
[32] دلالة أسماء السور القرآنية على محاورها وموضوعاتها/ د عمر عرفات 72، 73 بتصرف.
[33] نظم الدرر في تناسب الآي والسور (2/ 325).
[34] دلالالة أسماء السور القرآنية على محاورها وموضوعاتها/ د. عمر عرفات (ص73).
[35] من دلالات أسماء السور في القرآن الكريم/ عيسى وادي، ومحمود مهنا (ص68).
[36] انظر التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم (2/278).
[37] تفسير المهايمي (1/177).
[38] لأن قصة المائدة جاءت معترضة أثناء كلام الله سبحانه مع سيدنا عيسى يوم القيامة، والسر في اعتراضها بينه دروزة بقوله: "من الحكمة في ذكره بالأسلوب الذي جاء به هو ما قلناه قبلُ: التنديدُ بعقيدة النصارى في عيسى وأمه، وتبرئة عيسى من مسؤولية ذلك ،وتقرير حقيقة ما قاله للناس ، وتقرير كون كل ما خالف ذلك فيما أيدي النصارى من أناجيل وأسفار وما هم عليه من عقائد هو مخالف لما أمر الله عيسى عليه السلام أن يقوله أو لما قاله". التفسير الحديث / دروزة محمد عزت (9/ 263).
[39] المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز/ عبد الحق بن عطية الأندلس/ دار ابن حزم ص596.
[40] نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/ البقاعي (2/ 594).
[41] نظم الدرر/البقاعي (2/ 892) بتصرف.
[42] في ظلال القرآن/ سيد قطب (2/ 998).
[43]لأَنها افتتحت بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ}[آية:1]،ولأن مقصود السورة هو :" بيانُ العقودِ والمواثيقِ التي يراد من خلالها تأسيسُ المجتمعِ الإسلاميِّ الفاضلِ وأعظمها التوحيد، والترغيبُ البليغُ للمؤمنين على الوفاء بها، والترهيبُ البليغ من نقضها"، ولأَنها ذُكِرَ فيها كثيرٌ من العقود المواثيق ، وممن نص على تسميتها بالعقود أيضًا: السيوطي في الإتقان(1/152)،الزركشي في البرهان (1/269)، الآلوسي (3/221) ، والبقاعي(2/594)، وابن عاشور (6/69)، والسخاوي في جمال القراء وكمال الإقراء (90) ، والمراغي(6/41)،و محمد سيد طنطاوي (4/7)، وإبراهيم القطان في تيسير التفسير (1/372)، والتفسير الوسيط للقرآن الكريم/مجموعة من العلماء بإشراف مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر(2/1001)، والزحيلي (6/60).
[44] دلالة أسماء السور القرآنية على محاورها وموضوعاتها /د. عمر عرفات (ص76، 77).
[45] خصائص الأمة الإسلامية الحضارية كما تبينها سورة المائدة / د.إبراهيم زيد الكيلاني (8).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اليوتيوب، فيس: علي هاني العقرباوي
وفيه خمسة مباحث:
المبحث الأول: وقت نزولها والجو الذي نزلت فيه.
المبحث الثاني: مقصود سورة المائدة
المطلب الأول: مقصود سورة المائدة باختصار.
المطلب الثاني: شرح مقصود السورة وتلخيص مواضيعها.
المبحث الثالث: دلالة بداية السورة، وخاتمتها، واسمها على مقصودها.
المبحث الرابع: أقوال العلماء في مقصود السورة، وهي خمسة أقسام.
المبحث الخامس: مناقشة الأقوال والترجيح بينها.
[h=1]1)المبحث الأول: وقت نزولها والجو الذي نزلت فيه:[/h]الأصح أن سورة المائدة لم تنزل مرةً واحدةً بل نزلت منجمة في أوقات مختلفة على النحو الآتي:
- جزء من السورة ومنه أولها من أواخر ما نزل من القرآن[1] نزل في حَجَّة الوداع وما يقرب منها، في وقتٍ قوِي المسلمونَ ، وقُلِّمت أظفارُ المشركين، وانزوى الشرك في مخابئه المظلمة ونكست أعلامُه، وانطوت صفحةُ الإلحادِ والضلالِ، وصار المسلمون في قوة ومنعة كانوا بها أصحاب السلطان والصولة في مكة وفي بيت الله الحرام، يحجون آمنين مطمئنين، وقد أتم الله نعمته على المسلمين بفتح مكة ودخول الناس في دين الله أفواجًا ، ومن جملة ذلك قوله تعالى :{ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي }[المائدة: 3] التي اتفق أهل الأثر على أنها نزلت يوم عرفة، عام حجة الوداع فعاش بعدهما النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم ـ َ ثمانين يوماً ، كما في خبر ابن عمر بن الخطاب[2].
- و جزء من السورة نزل بعد صلح الحديبية في السنة السادسة للهجرة ، وامتد نزولها في السنوات الأربع الأخيرة من الهجرة إلى نزول آية[3] :{ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي }[المائدة: 3] ، وهذه الفترة الزمنية الممتدة من السنة السادسة إلى العاشرة للهجرة قبيل التحاق الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالرفيق الأعلى كانت من الأهمية بمكان لاستكمال شرائع الإسلام المتصلة بوجود الأمة الإسلامية وهُويتها، والمحافظة عليها ،وترسيخ القيم الإيمانية والتربوية في بناء الشخصية الإيمانية والمجتمع الإيماني ، فكانت أحكامُها نهائيةً أحكامَ ختمٍ وتمامٍ، ولذلك افتتحت بالوصاية بالوفاء بالعقود والمواثيق، من التزام ما يؤمرون به ،وقد ذكر القرطبي أن فيها تسعَ عشْرةَ فريضةً ليستْ في غيرها.
- ومنها ما نزل قبل غزوة الخندق وقريظة قبل أن تطهر أرض المدينة من القبائل اليهودية الثلاث القوية: بني قينقاع، وبني النضير، وبني قريظة، نزلت في ظرف كان اليهود كتلةً كبيرةً وقويةً في المدينة [4]، ولهم قوةٌ ونفوذٌ وعملٌ في الصف المسلم في المدينة ، وقد أخذوا بنقض عهودهم مما اقتضى هذه الحملة لكشف موقفهم وإبطال كيدهم، وكان للنصارى دولة قوية، هي دولة الرومِ وحلفائِها، كان ملكهم في الشام وما بعدها، وكان المنافقون يوالونهما وينقضون عهودهم مع الله تعالى ومع رسوله و المؤمنين[5] ،و من جملة ما نزل في هذه الفترة :
- قوله تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة:13].
- وقوله تعالى: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [آية:42].
- وكقوله تعالى عن المنافقين: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ} [آية: 52].
ولأجل جميع ما ذكر كان المؤمنون بحاجة إلى أمور:
- بحاجة إلى التشريع المنظم لهم والسياسة التي تديرهم، بحيث يذكر لهم الأحكام التي يحتاجونها في التعامل مع اليهود والنصارى والمنافقين في الفترة الأولى قبل غزوة الخندق وقريظة؛ لكشف موقفهم وإبطال كيدهم.
- وبحاجة لتعريفهم ببقية أحكام دينهم التي تكمل لهم دينهم وتتم نعمة الله عليهم، وترسخ القيم الإيمانية والتربوية في بناء الشخصية الإيمانية والمجتمع الإيماني.
- وبحاجة لتعريفهم بالمحافظة على الدين الذي أتمه الله تعالى لهم، والخير الكثير الذي أورثهم إياه بحيث لا ينقضون عهودهم مع الله سبحانه ومع رسوله ومع عباده بعد أن أخذها عليهم بما شرع، فتنزع منهم الكرامة كما حصل للأمم السابقة كاليهود والنصارى[6] .
ويمكن اختصاره أكثر بأن يقال:" بيانُ العقودِ والمواثيقِ التي يراد من خلالها تأسيسُ المجتمعِ الإسلاميِّ الفاضلِ المستَمِدِّ تشريعَه من اللهِ تعالى وحدَه، وأعظمها التوحيد، والترغيبُ البليغُ للمؤمنين على الوفاء بها، والترهيبُ البليغ من نقضها".
[h=2]ب-المطلب الثاني: شرح مقصود السورة وتلخيص مواضيعها:[/h]
- مقصودها بيانُ العقودِ والمواثيقِ والعهودِ [7] : العقودِ التي بينهم وبين الله تعالى، والتي بينهم وبين رسله ـ عليهم الصلاة والسلام ـ والعقودِ التي للأفراد مع أنفسِهم ومع المجتمعِ ومع الأعداء[8]، وحثّ المؤمنين على الوفاء بها[9] ؛شكرًا لله تعالى على نِعَمِه ورحمته، وتمام تشريعِه وإكمالِ دينِه، ونعمةِ المآكلِ والمشاربِ، والتزامًا لحدوده، واستدفاعاً لنقمه: من عقودٍ عقديةٍ أو تشريعيةٍ:
هذه العقود التي فيها رسم الأسس الفكرية والعقدية والتشريعية للإسلام والإيمان والاستقامةِ لكلِّ الحياةِ فكرًا وعقيدةً وتشريعًا[12]، والتي يراد من خلالها:
- تأسيسُ المجتمعِ الإسلاميِّ الفاضلِ المستَمِدِّ تشريعَه من الله تعالى وحدَه بدون تحريف.
- وليعصمَهم من الانحرافاتِ السلوكيةِ والعقديةِ التي وقع فيها من سبقهم [13]؛ فتصان فيه العقائد، والدماء، والعقول، والأموال، والنظام[14].
- ولتكون الأمة خليقة أن تستخلف وتحمل رسالة الله تعالى إلى كل البشرية، بعد أن تخلى عنها أهل الكتاب بنقضهم العقود والمواثيق فسلبوها[15].
- والحث البليغ للمؤمنين على الإيفاء بهذه العقود والصدق، ووعدهم بالبركة في الدنيا، وتكفير السيئات، ودخول الجنات خالدين، ونفع صدقهم على الوفاء بها.
فأبطلتْ السورة عقائدَهم وكشفتْ عداوتهم وكيدهم، وبينت جريان سنة الله فيهم، وهي سنته فيمن اعتدى بالخروج عن العهود والمواثيق المأخوذة عليه في الدين، فعاقبهم وعذبهم وسلب منهم كرامة حمل الرسالة[18] ، فكما أن الله سبحانه غفور رحيم لمن تاب فهو شديد العقاب لمن كفر وأصر.
[h=1]3)المبحث الثالث: دلالة بداية السورة، وخاتمتها، واسمها على مقصودها:[/h][h=2]أ-المطلب الأول: دلالة بداية السورة (براعة الاستهلال) على مقصودها[19]:[/h]{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} [الآية:1].
سألخص ما ذكر العلماء في تفسير هذه الآية، ومن خلالها يلاحظ دلالة هذه الآية على مقصود السورة التي ذكر:
[h=1]{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}: قد خاطب الله المخاطبين في أمرهم بالإيفاء بالعقود بوصف الإيمان:[/h][h=1]1.ليشير ويشعر المؤمنين إلى أن إيفاءهم بالعقود مما يقتضيه الإيمان، وأن نكث العهود والإخلال بما تقتضيه لا يتفق والإيمانَ، وفي هذا حث على امتثال الأمر، فالمؤمن حقًا يوفي بالتزاماته لربه ولنفسه ولغيره؛ إذ لا بُدَّ له من تحمّل مسؤولية التزاماته التعاقدية والتعاهدية ،لا يجوز له نقضها ولا الانحراف عنها .[/h]
- لأنَّ السورة تشتمل على الكثير من التشريعات التي تتوقف على صفة الإيمان التي تستلزم موقفاً يتجاوز دائرة الالتزام الفكري المجرد، إلى دائرة العمل والممارسة والحركة.
[h=1]{أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}:[/h]و(الإيفاء): إعطاء الشيء وافياً لا نقص فيه، وحفظ ما يقتضيه العقد والقيام بموجَبه ومقتضاه، يقال: وفَى، وأوفى بمعنىً، لكنْ في المزيد (أوفى)مبالغةٌ ليستْ في المجردِ.
و(العقود): جمع عَقْد: وأصل العقد: ربط الحبل ووصله والجمع بين أطرافه مع استيثاق وشد وإحكام بحيث يعسر انفصاله، ولازمه التزامُ أحدِهما الآخرَ، وعدمُ انفكاكِه عنه، والموضع المشدود من الحبل يسمّى عُقدة.
ثم تجوز به عن العهد الموَثَّق تشبيهًا له بعقد الحبل في الربطِ والإحكامِ وعدمِ النقضِ، فهي أوكد العهود، أي: أوفوا بالعهود الموثقة المحكمة التي ربطها الله بعباده وربطتموها وأحكمتموها كما يُرْبَط أجزاء الحبل ويحكم فلا تنقضوها.
ويلاحظ في العقد: الشد والإحكام والاستيثاق بحيث لا يقبل النقض، ويلاحظ في العهد التعهد والمحافظة والرعاية وعدم الإخلال، ولكلٍ سياقُه المناسبُ له، وهنا المناسب وجوبُ الالتزامِ وعدمُ التركِ والإخلالِ فعبر بالعقود.
المراد بالعقود:
- المراد بها ما يعم جميع العقود التي عقدها الله سبحانه وتعالى على عباده وألزمهم إياها وعاقد المسلمون عليها ربَّهم، وما يلزم الوفاء به بحكم الإيمان؛ فإن الإيمان ميثاق يلتزم فيه العبد بالطاعة والأخذ بكل ما يأمر به وبترك كل ما ينهى عنه؛ إذ قد التزمها الداخل في الإسلام ضمناً: من عقائدَ وشرائعَ، وأول ذلك أن يعبدوه وحده ولا يشركوا به ، وأن يؤمنوا برسله وكتبه ، وأن يقوموا بالأعمال التعبدية، و أن يحلوا حلاله ويحرموا حرامه ، وأن يجتنبوا المحرمات والمكروهات .
- وتعم العقود سائر ما بيْنَ الناسِ مما يعقدونه فيما بينهم: من عقود الأمانات، والمعاملات، ونحوهما مما هو جارٍ على رسم الشريعة مما يجب الوفاء به ، أو يحسن ديناً حتى ما كان في الجاهلية من عقد يدعو إلى برٍّ ، فيندرج في هذا العموم كل عقد مع إنسان: كأمانٍ ، ودية ، ونكاح ، وبيع ، وشركة ، وهبة ، ورهن ، وتمليك ، ومصالحة ، ومزارعة ، وطلاق ، وشراء ، وإجارة ،فعقد البيع مثلًا هو ربط المبيع بالمشتري ملكا بحيث كان له أن يتصرف فيه ما شاء ، وليس للبائع بعد العقد ملك ولا تصرف ، وعقد النكاح يربط المرأة بالرجل بحيث له أن يتمتع منها تمتع النكاح ، وليس للمرأة أن تمتع غيره من نفسها ، وهكذا بقية العقود، فإذا عصى فقد نقض ذلك الميثاق ،وذلك كما كان يفعل اليهود من نقض للمواثيق المؤكدة.
- وتعم ما عقده مع نفسه لله تعالى من طاعة: من اعتكافٍ، وقيام، ونذرٍ، وشبهِ ذلك.
قال سيد قطب:" "افتتاح هذه السورة بالأمر بالوفاء بالعقود ، ثم المضي بعد هذا الافتتاح في بيان الحلال والحرام من الذبائح والمطاعم والمشارب والمناكح، وفي بيان الكثير من الأحكام الشرعية والتعبدية، وفي بيان حقيقة العقيدة الصحيحة، وفي بيان حقيقة العبودية وحقيقة الألوهية، وفي بيان علاقات الأمة المؤمنة بشتى الأمم والملل والنحل، وفي بيان تكاليف الأمة المؤمنة في القيام لله والشهادة بالقسط والوصاية على البشرية بكتابها المهيمن على كل الكتب قبلها ، والحكم فيها بما أنزل الله كله ؛ والحذر من الفتنة عن بعض ما أنزل الله ؛ والحذر من عدم العدل تأثراً بالمشاعر الشخصية والمودة والشنآن ،افتتاح السورة على هذا النحو ، والمضي فيها على هذا النهج يعطي كلمة " العقود " معنىً أوسعَ من المعنى الذي يتبادر إلى الذهن لأول وهلة ، ويكشف عن أن المقصود بالعقود هو كل ضوابط الحياة التي قررها الله ،وفي أولها عقد الإيمان بالله ؛ ومعرفة حقيقة ألوهيته سبحانه ، ومقتضى العبودية لألوهيته ، هذا العقد الذي تنبثق منه ، وتقوم عليه سائر العقود ؛ وسائر الضوابط في الحياة"[22] .
وتصدير السورة بالأمر بالإيفاء بالعقود:
- للإيذان بأنه سَتَرد بعده أحكام وعقود كانت عقدت من الله تعالى على المؤمنين إجمالاً وتفصيلاً، ذكَّرهم بها لأنّ عليهم الإيفاء بما عاقدوا الله عليه أو سيعقدها عليهم في السورة، والسورة كلها دائرة على الإيفاء بالعقود، وهذه الآية ملخصة لها، وفي ذلك براعة استهلال.
- لأنَّ كثيرًا من هذه السورة كان من آخر ما نزل فناسبه أن يؤكد على المحافظة على ما أمروا به بالحث على الإيفاء بالعقود.
- لأنَّ مدارَ هذه السورةِ على الزجر والإحجام عن أشياء اشتد إلفهم لها والتفاتهم إليها وعهدوها وتعودوا عليها، وعظمت فيها رغباتهم، من الأزلام والذبح على النصب و الميتات وما معها، وأخذِ الإنسان بجريمة الغير، والفسادِ في الأرض، والسرقةِ والخمرِ والسوائبِ والبحائر إلى غير ذلك ؛فذكّرهم في أولها بالعهود التي عقدوها على أنفسهم بإكمالها وإتمامها ، وعدم نقضها، وأكد الإيفاء بها.
- لما قرر سبحانه على جميع المكلفين أنه يلزمهم الانقياد لجميع تكاليف الله تعالى، وذلك كالأصل الكلي والقاعدة الجملية، شرع بعد ذلك في ذكر التكاليف المفصلة، فبدأ بذكر ما يحل وما يحرم من المطعومات، فهو كلام قدم مجملاً ثم عقب بالتفصيل، وفيه مع ذلك الامتنان بأنه أحلّ لكم بشامل علمه وكامل قدرته لطفاً بكم ورحمةً لكم الأنعامَ من الإبل والبقر والغنم، بإحلال أكلها والانتفاع بجلودها وأصوافها وأوبارها وأشعارها.
- وبدأ بأولها وأحقها بالإيفاء وهي عقودهم مع ربهم بمقتضى إيمانهم ببيان ما أباح لهم أكله والانتفاع به من الحيوان، وما حرمه:
- لأن هذا الأكل والانتفاع أكثر ما يعرض للإنسان، وأكثر ما يحتاج إلى معرفة حكمه، وفيه إشعار المؤمنين بكمال النعمة عليهم إذ أباح لهم الأنعام كلها والانتفاع بها بكل وجوه الانتفاع.
- ولأن أهل الجاهلية كانوا قد جاروا وظلموا في حكمهم في الأنعام ، وبنوا تحريمهم لما حرموه منها وتحليلهم ما أحلوه منها على نزعات وثنية وأوهام لا يصح أن يبنى عليها تحريم ولا تحليل: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ}[الأنعام:136]،{و قَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ [الأنعام:138]،{ وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ }[الأنعام:139]، وجعلوا من الأنعام بحيرة وسائبة ووصيلة وحاميًا ، وهكذا ساروا في تحريم الأنعام وإحلالها على ما تقتضيه وثنيتهم لا على ما تقتضيه مصلحتهم .
ومن هذا نفهم الحكمة في أن الله سبحانه قال: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ}.
وقدم {لكم} على نائب الفاعل {بهيمة}: لما فيه من تعجيل المسرَّة والتشويق إلى المؤخَّر، فإن ما حقُّه التقديمُ إذا أُخِّر تبقى النفسُ مترقِّبةً إلى وروده، فيتمكّن عندها فضلَ تمكّن.
[h=1]{إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ}:[/h]أي إلا ما يتلى عليكم تحريمه كقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} [المائدة:3].
فهذه الآية تبين أن أمر التحليل والتحريم بيد الله سبحانه وحده، وتشير إلى تكذيب مشركي العرب الذين كانت من سننهم في «الأنعام» تحريم السائبة والبحيرة والحام وغير ذلك.
وقوله تعالى: {يُتْلَى عَلَيْكُمْ} يستلزم الإيمان بالقرآن والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فالمتلو هو القرآن والمبلغ هو النبي ـ صلى الله عليه وسلم .
وما ذكر من هذا الجزء من الآية الكريم فيه إشارة لجزء من مقصود السورة وهو" تحليل ما أحلَّ، وتحريم ما حرَّم، لا سيما أمر الذبائح والمآكل والمشارب والمناكح، فالله سبحانه هو الإله الواحد الخالق المالك الحاكم له السلطان وحده على خلقه وملكه، وبموالاتِه وعدمِ موالاةِ أعدائه، والإيمانِ بالرسولِ الصادقِ الذي جاءهم، وبكتابه المصدق المهيمن على الكتب السابقة.
[h=1]{غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ}:[/h]جملة {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} تعليل لقوله: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} ختم الآية معللاً: بقوله تعالى { إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ}أي إن الله تعالى ملك الملوك يحكم ما يريد من تحليل وتحريم على سبيل الإطلاق ، و يقضي في خلقه ما يشاء ، من تحليل ما أراد تحليله وتحريم ما أراد تحريمه، وفرض ما يشاء أن يفرضه عليهم من أحكامه وفرائضه مما فيه مصلحة لعباده.
فهو سبحانه و تعالى أباح الأنعام في جميع الأحوال، وأباح الصيد في بعض الأحوال دون بعض، فلو قال قائل: ما السبب في هذا التفصيل والتخصيص كان جوابه أن يقال: إنه تعالى مالك الأشياء وخالقها، يحكم ما يريد فلم يكن على حكمه اعتراض بوجه من الوجوه، يحكم ما يريد، لا الحكم الذي تهواه النفوسُ، وإرادتُه إنما تكون على حسب علمِه المحيطِ وحكمتِه البالغةِ ورحمته الواسعة ، فلا عبث في أحكامه ولا جزاف ولا خلل ولا ظلم .
وفيه تقوية لهذه الأحكام الشرعية المخالفة لمعهود أحكام العرب وضلالاتهم، فكأنه سبحانه يقول لنا ولهم: فلا يصرفكم عن الإيفاء بالعقود أن يكون فيما شرعه الله لكم شيء من ثقل عليكم ، لأنّكم عاقدتم على عدم العصيان ، وعلى السمع والطاعة لله ، والله يحكم ما يريد لا ما تريدون أنتم ،وهو أعلم بصالحكم منكم ،وهذا يوجب عليكم أن تتقبلوا أحكام الله بالإذعان والتسليم ؛لأن مصدرها إرادة الحكم العدل اللطيف الخبير .
وفي لفظ الحكمِ معنى الإتقانِ والضبطِ ومنع ِالفساد والظلمِ والاعتداءِ كما يدل عليه الاشتقاق.
وفيما ذكر تلخيص لجزء من مقصود السورة وهو:(أن هذه العقود التي فيها رسم الأسس الفكرية والعقدية والتشريعية للإسلام والإيمان والاستقامةِ لكلِّ الحياةِ فكرًا وعقيدةً وتشريعًا، والتي يراد من خلالها: تأسيسُ المجتمعِ الإسلاميِّ الفاضلِ المستَمِدِّ تشريعَه من الله تعالى وحدَه بدون تحريف وليعصمهم من الانحرافاتِ السلوكية والعقدية التي وقع فيها من سبقهم فتصان فيه العقائد، والدماء والعقول، والأموال، والنظام).
وبتأمل ما سبق ندرك أن الآية لخصت تلخيصًا عجيبًا مقصود السورة وهو: " بيانُ العقودِ والمواثيق التي يراد من خلالها تأسيسُ المجتمعِ الإسلاميِّ الفاضلِ المستخلَفِ المستَمِدِّ تشريعَه من اللهِ تعالى وحدَه المالكِ للسماواتِ والأرضِ وأعظمها التوحيد ، والترغيبُ البليغُ بخيَريِ الدنيا والآخرةِ للمؤمنين على الوفاءِ بهذه العقودِ ؛شكرًا لله على نِعَمه وإكمالِ دينه واستدفاعاً لنقمه ، والترهيبُ البليغُ من نقضِها وعدمِ الاعتناءِ بها بعقاب الدنيا والآخرة ؛ليعصمَهم من نقضِ العهودِ و الانحرافاتِ السلوكية والعقدية التي وقع فيها من سبقهم من اليهود والنصارى والمشركين، وكشفتها السورة وأبطلتها".
، ففي الآية براعة الاستهلال، والتفصيل بعد الإجمال والتعميم.
فبراعة الاستهلال ؛لأن الآية الأولى لخصت موضوعها، وأشارت إلى أن السورة ستركز على العقود ،ومنها الحلال والحرام لا سيما في الأطعمة والأشربة والذبائح، وفي ندائها للمؤمنين وإرشادهم للإيفاء بالعقود وذكر إحلال بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم: أشارت إلى أن هذه السورة ستذكر العقود التي فيها تأسيسُ المجتمعِ الإسلاميِّ الإيماني الفاضلِ المستخلَفِ المستَمِدِّ تشريعَه من اللهِ تعالى وحدَه المالكِ للسماواتِ والأرضِ، وستنقض عقائدَ المشركين، وأهلَ الكتاب الذين حُرِّمتْ عليهم طيبات كثيرة، ومنها أجزاء من الأنعام بظلمهم ونقضهم للعهود ؛ لتحذر المؤمنين مع الترغيب والامتنان بإحلال بهيمة الأنعام وتقول لهم: احذروا أن تنقضوا كما نقضوا ، فيحرم عليكم ما حرم عليهم ، ويعد لكم من العقاب ما أعد لهم ، ولا تعترضوا على نبيكم ، ولا تتعنتوا كما اعترضوا وتعنتوا ، فإن ربكم لا يسأل عما يفعل، وفيها بيان أن أمر التحليل والتحريم بيد الله سبحانه وحده، فالله سبحانه هو الإله الواحد الخالق المالك الحاكم له السلطان وحده على خلقه وملكه، وتشير إلى تكذيب مشركي العرب الذين كانت من سننهم في «الأنعام» تحريم السائبة والبحيرة والحام وغير ذلك.وأما التفصيل بعد الإجمال والتعميم فقد تقدم.
قال ابن عطية:"وهذه الآية مما تلوح فصاحتها وكثرة معانيها على قلة ألفاظها لكل ذي بصر بالكلام ولمن عنده أدنى إبصار فإنها تضمنت خمسة أحكام: الأمر بالوفاء بالعقود ، وتحليل بهيمة الأنعام ، واستثناء ما تلي بعد ، واستثناء حال الإحرام فيما يصاد ، وما يقتضيه معنى الآية من إباحة الصيد لمن ليس بمحرم"[23]،ويضاف لما ذكر ابن عطية : أن هذه الآية لخصت مقصود السورة في غاية الإيجاز ببلاغة عجيبة،فلله در شأن التنزيل ما أعظمه[24].
[h=1]ب-المطلب الثاني: خاتمة السورة تدل على مقصودها:[/h]{ وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119) لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [الآيات:116 ـ 120].
[h=1]{قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ}:[/h]
- "إنه التعقيب المناسب على كذب الكاذبين؛ الذين أطلقوا تلك الفرية الضخمة على ذلك النبي الكريم [عيسى عليه السلام] في أعظم القضايا كافة، قضية الألوهية والعبودية، التي يقوم على أساس الحق فيها هذا الوجود كله وما فيه ومن فيه، إنها كلمة رب العالمين، في ختام الاستجواب الهائل على مشهد من العالمين، في الكلمة الأخيرة في المشهد ، وهي الكلمة الحاسمة في القضية" [25].
- وهو جواب عن قول عيسى ـ عليه الصلاة والسلام ، فلذلك فصلت الجملة على طريقة الحوار ،فهو كلامٌ مستأنَفٌ خَتَم به حكايةَ ما حُكيَ ، مما يقعُ يوم يجمع الله الرسلَ عليهم الصلاة والسلام ، وأُشير إلى نتيجته ومآله، فلما انقضى جواب عيسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ على هذا الوجه الجليل ، تشوف السامع إلى جواب الله له ، فقال تعالى مشيراً إلى صدقه في الكلام الذي حكاه الله عنه ،وكون مضمونه حقًا ، مجيبًا له فيما أنهاه إليه من التبري من النصارى الملحدين ، الكاذبين على الله وعلى رسوله، ومن رد المشيئة فيهم إلى ربه عز وجل منبهاً على مدحه.
- وفيه حث على ما بنيت عليه السورة من الوفاء بالعقود ؛ لأنه لما طلب تعالى من المؤمنين الوفاء بما نقضه غيرهم ، وذكّرهم ببعض ما وقع فيه النقض، وأعلمهم بثمرة التزام التسليم والامتثال، أراهم سبحانه وتعالى ثمرة الوفاء وعاقبته فقال:{ وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ}[ المائدة : 116 ] إلى قوله { هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} الآية، فيحصل من جملتها الأمرُ بالوفاء ، وحالُ من حاد ونقض كالنصارى ، وعاقبةُ من وفى كعيسى عليه السلام ، وأنهم الصادقون ، وقد أمرنا أن نكون معهم:{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}[التوبة:119] .
والمراد بالصادقين كما ينبئ عنه الاسم، المستمرّون في الدارين على الصدق في الأمور الدينية التي معظمُها التوحيدُ الذي نحن بصدده، والشرائعُ والأحكام المتعلقة به من الرسل الناطقين بالحق والصدق الداعين إلى ذلك، وبه تحصُل الشهادةُ بصِدْق عيسى عليه السلام، ومن الأمم المصدِّقين لهم الصادقين في الاقتداء بهم عقداً وعملاً، وبه يتحقق المقصودُ بالحكاية من ترغيب السامعين في الإيمان برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم.
فالصدق هنا يشمل الصدقَ في القول من الرسل الصادقين وأتباعهم، ويدخل سيدنا عيسى في هذا السياق دخولًا أوليًا، ويشمل الصدقَ في الأمور الدينية التي أهمها التوحيد والشرائع والأحكام المتعلقة به، وفي الاتباع لما جاء من عند الله ورسله.
{صدقهم}: صدقهم فيما ذُكر من أمور الدين، الذين كان لهم الصدق وصفاً ثابتاً، فحداهم على الوفاء بما عاهدوا عليه، فصدقوا في إيمانهم وشهاداتهم، وفي سائر أقوالهم وأحوالهم .
ومادة (ص، د، ق) تدل على الصحة، والكمال، والتمامية، والقوة في الشيء، وهنا تدل على أنهم أدَّوا ما عليهم على الصحة والكمال والتمامية من جميع الجهات وبقوة أداءً مطابقًا لما ينبغي أن يكون عليه الأمر. فإن قلتَ: كيف قال ذلك، مع أنّ الصّدق نافع في الدنيا أيضًا؟
فجوابه: أن نفع الصدق في الدنيا بالنسبة إلى نفع يوم القيامة الذي هو الفوز بالجنّة، والنّجاة من النار، والنيل لرضوان الله تعالى ـ كالعَدَم، ولأن الصدق في الدنيا قد يُبْتَلى صاحبُه ويمتحنُ بالشدائد بعده.
[h=1]{لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا}:[/h]استئناف مَسوقٌ لبيان النفع المذكور كأنه قيل: ما لهم من النفع؟ فقال: {لهم جنات} أي هي من ريّ الأرض الذي يستلزم زكاء الشجر وطيب الثمر بحيث {تجري} ولما كان تخلل الماء في الجنات وقربه أبهج ، قال : { من تحتها الأنهار }، ولما كان مثل هذا لا يريح إلا إذا دام قال : { خالدين فيها }أي باقين في الجنات التي أعطاهموها أبدًا دائمًا، لهم فيها نعيم لا ينتقل عنهم ولا يزول، وأكد معنى ذلك بقوله :
{أبداً}، ثوابًا لهم من الله عزّ وجلّ، على ما كان من صدقهم الذي صدقوا الله فيما وعدوه، فوفوا به لله في عقودهم، فوفى الله عزّ وجلّ لهم ما وعدهم من ثوابه.
{ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ}:استئنافٌ آخرُ لبيان أنه عز وجل أفاض عليهم غيرَ ما ذُكر من الجنات، ، وهو رضوانُه الذي لا غايةَ وراءَه ؛إذ لا شيء أعزُّ منه حتى يمتدَّ إليه أعناقُ الهمم بحيث لا قدْرَ للجنة بالنسبة له ، والنعيم لا يتم إلا به قال : { رضي الله } أي الذي له صفات الكمال { عنهم } عن هؤلاء الصادقين الذين صدقوا في الوفاء له بما عقدوا عليه من العمل بطاعته واجتناب معاصيه ، وهو كناية عن أنه أثابهم بجميع ما يرجونه ، ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « يَقُولُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، فَيَقُولُونَ: لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ، فَيَقُولُ: هَلْ رَضِيتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: وَمَا لَنَا لَا نَرْضَى وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، فَيَقُولُ: أَنَا أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، قَالُوا: يَا رَبَّنَا، فَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ؟ قَالَ: أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي، فَلَا أَسْخَطُ عليكم بعده أَبَدًا» [26]{ ورضوا عنه } ورضوا هم عن الله تعالى في وفائه لهم بما وعدهم على طاعتهم إياه وفيما أمرهم ونهاهم من جزيل ثوابه ، يعني أنه لم يدع لهم شهوة إلا أنالهم إياها .
[h=1] ولما كان سبحانه قد أمرهم أول السورة بالوفاء شكراً على ما أحل لهم في دنياهم، ثم أخبر أنه زاد الشاكرين منهم ورقاهم إلى أن أباحهم أجلّ النفائس في أخراهم ـ وصف سبحانه هذا الذي أباحه لهم إلى أن بلغ في وصفه ما لا مزيد عليه فقال: {ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}:[/h]{ذلك} أي الأمر العالي لا غيره، الذي أعطاهم الله من الجنات التي تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها، ومن الرضا، فهو إشارة إلى كل من النعيمين الجسماني والروحاني اللذين يحصلان بعد النجاة من أهوال يوم القيامة، فإنَّ ذكرَ المغفرة فيها يتضمن معنى النجاة من عذاب النار، {الفوز العظيم} الذي لا يحيط به نطاق الوصف ولا يوقف على مطلب يدانيه أصلاً ، الذي كانوا يطلبونه في الدنيا ، وله كانوا يعملون ، فنالوا ما طلبوا وأدركوا ما أملوا .
والفوز لغةً يشمل الظفر بالخير مع حصول السلامة فهو ظفر ونجاة.
{العظيم}: لِمَا أنَّ عِظَمَ شأنِ الفوزِ تابعٌ لعِظَمِ شأن المطلوب الذي تعلّق به الفوز، وبهذا يلتقي موقف الصدق بالموقف الحقّ، ويتمثَّل الصادقون في حركة العقيدة في الحياة، كأنموذجٍ للنَّاس الَّذين يعيشون المعاناة في الدنيا، من خلال ما تفرضه مواقف الصدق من مآسي وآلام وخسائر ماديّة ، وينطلقون في مواقف الفوز في الآخرة ، انطلاقاً من محبة الله لهم،فمفتتح السورة كان أمرًا بالوفاء بالعقود ، وآخر السورة بيانٌ لجزاء من وفى بهذه العقود من الصادقين.
ولما ادّعت النصارى في عيسى وأمه الألوهية؛ اقتضت الدعوى أن يكونا مالكين قادرين، فردّ الله عليهم بأنْ عظّم نفسه عمّا قالت النصارى من بهتان، وحقق الحق ونبه على كذِب النصارى وفسادِ ما زعَموا في حق المسيحِ وأمِّه، فقال:
{لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ}:
{ لله } أي: له تعالى خاصةً مُلك السماوات والأرض وما فيهما :من العقلاء وغيرِهم، الذي لا تكتنه عظمته ، يتصرَّفُ فيها كيف يشاء: إيجاداً وإعداماً ، إحياءً وإماتة ، أمراً ونهياً ، من غير أن يكون لشيء من الأشياء مدخلٌ في ذلك، هو المالك لها ، المتصرف فيها القادر عليها ، فالجميع ملْكه وتحت قهره وقدرته وفي مشيئته ، فلا إله غيره ولا رب سواه، ولا نظير له ولا وزير ، ولا عديل ، ولا والد ولا ولد ولا صاحبة ، له سلطان السماوات والأرض وَما فِيهِنّ دون عيسى الذين تزعمون أنه إلهكم ودون أمه ، ودون جميع من في السماوات ومن في الأرض فإن السماوات والأرض خلق من خلقه وما فيهنّ .
[h=1]والختم بهذه الآية الكريمة لأمور: [/h]
- فيها إثبات أن الله وحده هو الجدير بالألوهية والمستحق للعبادة ؛لأنه ذو السلطان الكامل المالك لكل شيء، فجمعت عبوديةَ كلِّ الموجوداتِ لله تعالى وأنها مخلوقةٌ له سبحانه مملوكةٌ له، وليس فوقه أحد ، فلا يقال : إن أحدًا له سلطان بجوار سلطانه، فناسب ذلك ما تقدّم من الردِّ على النصارى وبيانِ عبوديةِ عيسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ مشيراً إلى أن كل ما ادعي فيه من الإلهية مما تقدم في هذه السورة وغيرها بعيد عن ذلك ؛ لأنه في ملك الله وتحت قهره ، وفيها تحريض على تعليق الآمال بالله وحده ، وهذا أهم عهد وعقد ركزت عليه السورة وأمرت بالوفاء به .
- لمَّا بين ما لأهل الصدق عنده من الجزاء الحق في مقعد الصدق، بين عقبه سعة ملكه وعموم قدرته الدالين على كون ذلك الجزاء لا يقدر عليه غيره، فناسب ما تقدّم من جزاء الصادقين.
- لمَّا كان مالكا للكل، كان له أن يتصرف في الكل بالأمر والنهي والتشريع لما يريد، فناسب موضوع السورة التي أكملت الأحكام وأمرت بالوفاء بالعهود ، ورغبت ترغيبًا بليغًا بخيري الدنيا والآخرة للمؤمنين على الوفاء بهذه العقود ؛شكرًا لله على نِعَمه.
- اختتمت السورة بهذه الآية الدالة على الملك المطلق ، وهذا مناسب لموضوع السورة، وهو بيانُ العقودِ والمواثيق التي يراد من خلالها تأسيسُ المجتمعِ الإسلاميِّ الفاضلِ المستخلَفِ المستَمِدِّ تشريعَه من الله تعالى وحدَه المالك للسماوات والأرض ،والترغيبُ البليغُ بخيري الدنيا والآخرة للمؤمنين على الوفاء بهذه العقود ؛شكرًا لله على نِعَمه ،فبينت الآية أن الملك على الإطلاق له لا لغيره ،فلا يبقى لهم إلا أنهم عباد مملوكون على الإطلاق ليس لهم فيما يأمرهم به وينهاهم عنه إلا السمع والطاعة ، ولا فيما يأخذ منهم من العهود والمواثيق إلا الوفاء بها من غير نقض .
- ولم يقل ومن فيهن فغلب غير العقلاء على العقلاء، والسبب فيه التنبيه على أن كل المخلوقات مسخرون في قبضة قهره وقدرته وقضائه وقدره، لأن مدلولها أعم وأشمل، واتباعا لهم لغير أولي العقل إعلامًا بأنهم في غاية القصور عن معنى الربوبية والنزول عن رتبة العبودية ، وتنبيها على المجانسة المنافية للألوهية ، ولأن ما يطلق متناولًا للأجناس كلها فهو أولى بإرادة العموم ، فعلم الكل بالنسبة إلى علمه كلا علم ، وقدرة الكل بالنسبة إلى قدرته كلا قدرة .
وبالتأمل لما ذكرته من مقصود السورة وما ذكرته في تفسير الآيتين الأخيرتين يظهر جليًا تلخيصهما لمقصود السورة:
- فلما كان مقصودها بيانَ العقودِ والمواثيق التي يراد من خلالها تأسيسُ المجتمعِ الإسلاميِّ الفاضلِ المستخلَفِ، والترغيبَ البليغَ بخيَريِ الدنيا والآخرةِ للمؤمنين على الوفاءِ بهذه العقودِ ؛شكرًا لله على نِعَمه وإكمالِ دينه واستدفاعاً لنقمه ، والترهيبَ البليغَ من نقضِها وعدمِ الاعتناءِ بها بعقاب الدنيا والآخرة ؛ليعصمَهم من نقضِ العهودِ و الانحرافاتِ السلوكية والعقدية التي وقع فيها من سبقهم من اليهود والنصارى والمشركين، وكشفتها السورة وأبطلتها: ذكرت في آخرها جزاء الصاقين الذين وفوا بهذه العقود، وماذا لهم من النفع والأجر من الجنات والرضوان، وشمل لفظُ" الصادقين" المستمرّين في الدارين على الصدق في الأمور الدينية التي معظمُها التوحيدُ والشرائعُ والأحكامُ ، وشملت الرسلَ الناطقين بالحق والصدق الداعين إلى ذلك، والأتباعَ الصادقين من الأمم المصدِّقين لهم الصادقين في الاقتداء بهم عقداً وعملاً، فكما كانت العقود شاملة لكل أنواعها في أول السورة كان لفظ الصادقين شامل لما يقابلها من الصدق في الوفاء بالعقود، وذكرت حال من صدق كعيسى والحوارين ، وحال من انحرف بنقض العقود كالنصارى المشركين.
- ولما كان أعظم العقود التوحيد، ختمت بقصة سؤال الله تعالى عيسى في يوم القيامة، مشيراً إلى صدقه في الكلام الذي حكاه الله عنه ،وكون مضمونه حقًا ، وجزاء من صدق كعيسى عليه السلام والحواريين ، وجزاء من كذب كالنصارى المشركين الذين يعذبهم الله بنقضهم عهد التوحيد وعهد رسولهم.
- ولما كان من مقصودها" تأسيسُ المجتمعِ الإسلاميِّ الفاضلِ المستخلَفِ المستَمِدِّ تشريعَه من اللهِ تعالى وحدَه المالكِ للسماواتِ والأرضِ" ختمت بقوله تعالى:{ لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}لإثبات أن الله وحده هو الجدير بالألوهية والمستحق للعبادة، له أن يتصرف في الكل بالأمر والنهي والتشريع لما يريد ، له الملك المطلق لا لغيره ،فلا يبقى لهم إلا أنهم عباد مملوكون على الإطلاق ليس لهم أن يشرعوا الحلال والحرام من قبل أنفسهم ، بل يتلقون أحكامهم من الله سبحانه الذي يحكم ما يريد.
- المطلب الثالث: دلالة اسم السورة على مقصودها:
- الاسم الأول: المائدة[28]:
- قصة المائدة فيها تذكير رباني موجه إلى عيسى ـ عليه السلام ـ بما كان من رعاية الله له، ومن تأييد الله تعالى سيدنا عيسى بالأنصار بأن ألهم الحواريين[29] الإيمان و ثبتهم الله تعالى على الإيمان، وأظهر المعجزات على يديه، ومنها إنزال المائدة السماوية بناء على طلبهم منه والتماسه ذلك من الله عز وجل، وهذا تذكير لهذه الأمة أن يتذكروا أن الله أكمل لهم دينهم وأتم نعمته عليهم ونصرهم على أعدائهم، فليشكروه على هذه النعمة وليحافظوا عليها ، "كما أنها معجزة تنفح القلوب بالتثبيت"[30].
- اسم المائدة أنسب اسم للسورة التي أطالت في ذكر النعم والامتنان بخلق الأنعام ، و الحلال والحرام والصيد والذبائح ، وهي أكثر سورة في القرآن الكريم تتحدث عن الطعام، وما يتعلق به من أحكام: كأحكام الصيدِ حلالِه وحرامِه ، وما يحل من الطعام وما يحرم ، وما افتراه المشركون على الله من المحرمات التي هي حلال[31] ، وحكم طعام أهل الكتاب، والإطعام في الكفارات، وغير ذلك ،وهي في الوقت ذاته عقود يجب الوفاء بها ، فلا يأكل المؤمن إلا ما أحله الله تعالى له ، ويجتنب كل ما حرمه الله تعالى من مأكل ومشرب، و في افتتاح هذه السورة المسماة بالمائدة بذكر الأطعمة أتم مناسبة{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ }[المائدة:1].
- في قصة المائدة أنهم أخذ عليهم الميثاق أن يؤمنوا إيمانًا ثابتًا إذا نزلت ، وأن من كفر بها فسيعذبه الله تعالى عذابًا شديدًا { قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ }[الآيتان:115، 116]فوفى الحواريون بذلك ، بخلاف غيرهم ممن كفر بعيسى عليه السلام أو جعله إلهًا .
- واسم المائدة مرتبط كذلك بالنصارى الذين أطالت السورة إبطال عقائدهم[35]و ناقشتها وأبطلت التثليث الذي يقولون به، وبينت فساده وانحرافها[36].
- قال المهايمي: "سميت بها؛ لأن قصتها أعجب ما ذكر فيها؛ لاشتمالها على آيات كثيرة ولطف عظيم على من آمن، وعنف شديد على من كفر، فهو أعظم دواعي قبول التكاليف المفيدة عقدة المحبة من الاتصال الإيماني بين الله وبين عبيده".[37]
- وقال ابن عطية في قصة الحواريين:" اعتراضٌ[38] أثناء وَصْفِ حالِ قولِ اللَّه تعالى لعيسى يوم القيامة، مضمَّن الاعتراضِ إخبارُ نبيِّنا محمَّد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأمتِه بنازلةِ الحواريِّين في المائدة، إذ هي مثالٌ نافعٌ لكلِّ أُمَّة مع نبيِّها، تقتدِي بمحاسِنِهِ، وتزدجرُ عمَّا يُنقد منه مِنْ طلب الآياتِ ونحوه "[39].
- وقال البقاعي: "مقصودها الوفاء بما هدى إليه الكتاب، ودل عليه ميثاق العقل من توحيد الخالق ورحمة الخلائق شكراً لنعمه، واستدفاعاً لنقمه، وقصة المائدة أدل ما فيها على ذلك ، فإن مضمونها أن من زاغ عن الطمأنينة بعد الكشف الشافي والإنعام الوافي نوقش الحساب فأخذه العذاب ، وتسميتها بالعقود أوضح دليل على ما ذكرت من مقصودها وكذا الأحبار"[40].
- وقي القصة تبكيت لبني إسرائيل بكثرة تقلبهم وعدم تماسكهم إبعاداً لهم عن درجة المحبة فضلاً عن البنوة، ففيها توبيخ اليهود المدعين أنهم أبناء وأحباء.
- فيها تأديب هذه الأمة وتذكير لها ووعظ لها بتعظيم نبيها ـ عليه السلام ـ لتجلّه عن أن تبدأه بسؤال أو تقترح عليه شيئاً في حال من الأحوال، لا سيما وقد جاء التهديد فيها { فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ }[آية:115]؛ اكتفاء بما يرحمنا به ربنا الذي رحمنا بابتدائنا بإرساله إلينا لإيصالنا إليه سبحانه ، بل على الأمة أن تسلم، فذكر شأن الحواريين في اقتراحهم بعدما تقدم من امتداحهم بِعَدِّهم في عداد أولي الوحي ومبادرتهم إلى الإيمان امتثالاً للأمر تخويفاً من أن نكون مثل من مضى من المقترحين الذين كان اقتراحهم سببَ هلاكهم [41].
- وفي السورة بيان أن الله سلب بني إسرائيل كرامة رسالته وأصابتهم الفتن عندما عموا صموا وانتقلت الرسالة لهذه الأمة، "يكشف لنا هذا الحوار عن طبيعة قوم عيسى، المستخلصين منهم وهم الحواريون ، فإذا بينهم وبين أصحاب رسولناـ صلى الله عليه وسلم ـ فرق بعيد ،
إنهم الحواريون الذين ألهمهم الله الإيمان به وبرسوله عيسى ، فآمنوا وأشهدوا عيسى على إسلامهم ، ومع هذا فهم بعدما رأوا من معجزات عيسى ما رأوا ، يطلبون خارقة جديدة . تطمئن بها نفوسهم ، ويعلمون منها أنه صدقهم ، ويشهدون بها له لمن وراءهم ، فأما أصحاب سيدنا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ فلم يطلبوا منه خارقة واحدة بعد إسلامهم ، لقد آمنت قلوبهم واطمأنت منذ أن خالطتها بشاشة الإيمان، ولقد صدقوا رسولهم فلم يعودوا يطلبون على صدقه بعد ذلك البرهان ، ولقد شهدوا له بلا معجزة إلا هذا القرآن ، هذا هو الفارق الكبير بين حواريي سيدنا عيسى عليه السلام - وحواريي سيدنا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذلك مستوى ، وهذا مستوى ، وهؤلاء مسلمون وأولئك مسلمون ، وهؤلاء مقبولون عند الله وهؤلاء مقبولون ،ولكن تبقي المستويات متباعدة كما أرادها الله"[42] .
و تسميتها بالعقود مبين لموضوعها:
لأن كل ما تتحدث عنه السورة هو العقود وثواب من وفى بها، وجزاء من خالفها، وشرح العقود، والأوامر الداعية لالتزامها؛ ولذلك افتتحت بالوصايا بالوفاء بالعقود بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ} [آية:1] الآية:
- فقد ذكر أن فيها ثمانَي عشْرةَ فريضةً ليست في غيرها، وزاد بعض العلماء أكثر من ذلك،
- وذكر القصص عن الوفاء بالعقود ترغيبًا وترهيبًا:
- فقد ذكر فيها قصص الأمم التي نقضت عهودها فسلب الله منها كرامته كاليهود والنصارى :{ فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13) وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (14) [المائدة :13،14].
- وذُكِر فيها من قصصهم قصة نكولهم عن عقودهم في دخول الأرض المقدسة ، وعقاب الله تعالى لنكولهم: { قَالُوا يَامُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24) قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25) قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ }[آية: 25،26]،
- وقصة ابني آدم التي فيها الحسد ومخالفة أمر الله تعالى ونقض عقد تحريم القتل بغير حق، "فقصة بني إسرائيل إحجام في موضع الإقدام ، وقصة ابْنَي آدم إقدام في موضع الإحجام ، وكلاهما مخالف للعقد مع الله تعالى"[44].
- وذكر فيها مخالفة المنافقين لعقد الإيمان، فهم يسارعون في الكفر.
- وختمت بقصة سيدنا عيسى ـ عليه السلام ـ في الآخرة، وبيان أنه بريء ممن جعلوه إلهًا ، وهم الذين نقضوا وخانوا أهم عقد بين الله تعالى وبين البشر وهو عقد التوحيد.
[1] قال القرطبي:" رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَرَأَ سُورَةَ" الْمَائِدَةِ" فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَقَالَ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ سُورَةَ الْمَائِدَةِ مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ فَأَحِلُّوا حَلَالَهَا وَحَرِّمُوا حَرَامَهَا)، وَنَحْوَهُ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مَوْقُوفًا، قَالَ جُبَيْرُ بْنُ نُفَيْرٍ: دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَقَالَتْ: هَلْ تَقْرَأُ سُورَةَ" الْمَائِدَةِ"؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ، فَقَالَتْ: فَإِنَّهَا مِنْ آخِرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ، فَمَا وَجَدْتُمْ فِيهَا مِنْ حَلَالٍ فَأَحِلُّوهُ وَمَا وَجَدْتُمْ فِيهَا مِنْ حَرَامٍ فَحَرِّمُوهُ". (الجامع لأحكام القرآن/ أبو عبد الله القرطبي (6/ 31).
يقول علي هاني:الحديث المرفوع لم يصح حتى قال العراقي: حديث:" المائدة آخر ما نزل" لم أَجده مرفوعًا ، وفى الفتح السماوي نقلا عن الحافظ ابن حجر:" لم نقف عليه مرفوعًا"(2/ 552).وأما حديث جبير بن نفير فقد رواه أحمد (6/188)، الحاكم (2/340)، النسائي في "الكبرى" (6/333) وعلق عليه الشيخ شعيب الأرناؤوط بقوله:" إسناده صحيح، رجاله ثقات رجال الصحيح: معاوية: هو ابن صالح الحضرمي، وأبو الزَّاهرية: هو حُدَير بن كريب، وأخرجه إسحاق بن راهويه (1666)، والنسائي في "السنن الكبرى" (11138) ، وهو عنده في "التفسير" (158) ، وأبو الشيخ في "أخلاق النبي" ص20 من طريق عبد الرحمن بن مَهْدي، بهذا الإسناد. ورواية أبي الشيخ مختصرة.
وأخرجه أبو عبيد في "فضائل القرآن" ص 128، والطبري في "تفسيره" 19/29، والنحاس في "الناسخ والمنسوخ" (398)، والطبراني في "مسند الشاميين" (1963)، والحاكم 2/311، وأبو نُعيم في "دلائل النبوة" (118)، والبيهقي في "السنن" 7/172 من طريقين عن معاوية بن صالح، به. وقال الحاكم: حديث صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي ". وروى الترمذي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: «آخِرُ سُورَةٍ أُنْزِلَتِ الْمَائِدَةُ وَالْفَتْحُ». قال الترمذي: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَرُوِي عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ: «آخِرُ سُورَةٍ أُنْزِلَتْ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ»، وضعفه الألباني.
[2] والفقرة الأولى: { الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ} تقرر أن المشركين كانوا يعملون دائمًا على قهر المسلمين وإذلالهم وتشتيتهم وتفريق كلمتهم وفتنتهم عن دينهم فصاروا من كل ذلك في عجز وضعف، واستولى عليهم اليأس في الوصول إلى شيء من أغراضهم، عليه فيجب على المسلمين ـ وقد عصمهم الله من أعدائهم وبدل بضعفهم قوة وبخوفهم أمنًا وبفقرهم غنى ـ أن يشكروا رب هذه النعمة وألا يكترثوا في تنفيذ أوامره وإقامة دينه وتنفيذ أحكامه بأحد سواه، ولا ريب أن هذا القهر الذي حاق بالمشركين كان أثرًا قويًا للقوة التي صارت إليه في ذلك الوقت .
وتقرر الفقرة الثانية: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}بشارة عظيمة هي في الواقع بمنزلة البيان أو التعليل لما استفيد من الفقرة الأولى من وقوع المشركين في اليأس وحصول المسلمين على النصر والقوة، وذلك أن إكمال الدين على الإطلاق يتناول إكماله بالبيان والتشريع وإكماله بالقوة والتركيز، وإن أكبر النعم التي يمتن بها العظيم ويضيفها إلى نفسه تفخيمًا لها لهي النعمة التي بها يستتب النظام وتوضع القوانين، وتبين الحقوق والواجبات، وتقضى على نوازع الشر ومنابع السوء، وتقهر العدو، وتدك صرح باطله، وتجعله في يأس من عودة القوة إليه ،نعم إنها لأكبر النعم، فيجب عليهم أن يفوا بجميع عقودهم مع الله ، أن يحذروا المخالفة والعصيان لكي لا تسلب منهم هذه الكرامة كما حصل مع اليهود والنصارى. انظر (تفسير القرآن الكريم/الأستاذ محمود شلتوت (217ـ 219).
[3][3] ممن اختار هذا دروزة، والدكتور عبد الله شحاته، والدكتور إبراهيم زيد الكيلاني وعبارة الدكتور زيد:" ويبدو أن السورة نزلت منجمة وأن الفترة الزمنية لنزولها كانت ممتدة بعد صلح الحديبية الذي حصل في السنة السادسة والنصف للهجرة النبوية إلى عام حجة الوداع". خصائص الأمة الإسلامية الحضارية كما تبينها سورة المائدة/ قال د. إبراهيم زيد الكيلاني (7،6).
[4] للعلماء في وقت نزول السورة أقوال:
1) القول الأول: قالوا:" إنها آخر سورة نزلت"، وبعضهم زاد: "نزلت كلها في حجة الوداع"، وأوردوا روايات عن السيدة عائشة ـ رضي الله عنها ـ موقوفة في ذلك أخرجها الإمام أحمد، والنسائي، والحاكم وصححه، والبيهقي، وممن أوردوا هذه الأحاديث: ابن كثير، والبغوي، ومكي، والثعلبي، ومحمد رشيد رضا، والشوكاني، والمراغي، والسامرائي، وأبو زهرة، وجماعة غيرهم.
2) القول الثاني: نزلت مفرقة وهو الأصح، فمنها ما هو من أواخر ما نزل عندما فتحت مكة، وقوِي المسلمون، وقلمت أظفار المشركين، وانزوى الشرك في مخابئه المظلمة، وصار المسلمون في قوة ومنعة، ومنها ما نزل قبل ذلك قبل القضاء على اليهود وإخراجهم من جزيرة العرب تمامًا.
اختار هذا: ابن عاشور، وسيد قطب، ودروزة، والآلوسي، وجماعة مع فروق خفيفة بينهم، قال ابن عاشور:" ولذلك اختلفوا في أن هذه السورة نزلت متتابعة أو متفرقة، ولا ينبغي التردد في أنها نزلت منجمة". (التحرير والتنوير/ابن عاشور (6/70). وهذا هو الأصح وقد لخصت خلاصة ما أرتضيه من أقوالهم في أصل البحث، وإليك بعض عباراتهم:
- قال الآلوسي:" وأخرج غير واحد عن عائشة ـ رضي الله تعالى ـ عنها قالت: المائدة آخر سورة نزلت، وأخرج أحمد والترمذي عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ أن آخر سورة نزلت المائدة والفتح، وقد تقدم آنفًا عن البراء أنَّ آخرَ سورةٍ نزلت براءة، ولعل كلًا ذَكَر ما عنده، وليس في ذلك شيء مرفوع إلى النبي ـ صلّى الله عليه وسلّم، نعم أخرج أبو عبيد عن ضمرة بن حبيب وعطية بن قيس قالا: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: المائدة من آخر القرآن تنزيلًا فأحِلُّوا حلالها وحرموا حرامها»، وهو غير وافٍ بالمقصود لمكان «من» (روح المعاني/ الآلوسي (3/221).يقول علي هاني: قول الآلوسي :" وقد تقدم آنفًا عن البراء": يشير بذلك لما روى البخاريّ ومسلم عن البراء بن عازب ـ رضي الله عنهما قال: آخر سورة نزلت براءة. وآخر آية نزلت: يستفتونك." أخرجه البخاريّ في: التفسير، سورة النساء، باب يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ، حديث 1941".
- قال ابن عاشور:" ويظهر عندي أن هذه السورة نزل بعضها بعد بعض سورة النساء، وفي ذلك ما يدل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استقام له أمر العرب وأمر المنافقين، ولم يبق في عناد الإسلام إلا اليهود والنصارى، أما اليهود فلأنهم مختلطون بالمسلمين في المدينة وما حولها، وأما النصارى فلأن فتوح الإسلام قد بلغت تخوم ملكهم في حدود الشام، وفي حديث عمر في «صحيح البخاري»: وكان من حول رسول الله قد استقام له ولم يبق إلا ملك غسان بالشام كنا نخاف أن يأتينا، وقد امتازت هذه السورة باتساع نطاق المجادلة مع النصارى، واختصار المجادلة مع اليهود، عما في سورة النساء، مما يدل على أن أمر اليهود أخذ في تراجع ووهن، وأن الاختلاط مع النصارى أصبح أشد منه من ذي قبل.... فلا جرم أن بعض سورة المائدة نزلت في عام حجة الوداع، وحسبك دليلًا اشتمالها على آية {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] التي اتفق أهل الأثر على أنها نزلت يوم عرفة، عام حجة الوداع، كما في خبر عن عمر بن الخطاب. وفي سورة المائدة قوله تعالى: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ} [المائدة:3]، وفي خطبة حجة الوداع يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الشيطان قد يئس أن يعبد في بلدكم هذا ولكنه قد رضي بما دون ذلك مما تحقرون من أعمالكم».. وقد احتوت هذه السورة على تشريعات كثيرة تنبئ بأنها أنزلت لاستكمال شرائع الإسلام، ولذلك افتتحت بالوصاية بالوفاء بالعقود، أي: بما عاقدوا الله عليه حين دخولهم في الإسلام من التزام ما يؤمرون به، ". (التحرير والتنوير/ ابن عاشور (6/73،72،71).
- وقال دروزة في التفسير الحديث :" السورة تحتوي فصولًا متعددة ومتنوعة، وفحواها يلهم بقوة أنها نزلت في فترات مختلفة متفاوتة، وفحوى بعضها يلهم بقوة كذلك أن منها ما نزل قبل فصول أخرى في سور متقدمة عليها في الترتيب مثل فصول اليهود التي يمكن القول بقوة إنها نزلت في ظرف كان اليهود كتلة كبيرة وقوية في المدينة وعلى الأقل إنها نزلت قبل فصول وقعتي الأحزاب وبني قريظة في سورة الأحزاب، أي: قبل التنكيل ببني قريظة آخر من بقي من جماعات اليهود في المدينة، ومثل الفصل الذي يندد بالمنافقين لموالاتهم اليهود وقولهم إننا نخاف دائرة تدور علينا، وفحوى بعضها يلهم بقوة أيضا أنه نزل عقب صلح الحديبية وقبل فتح مكة على كل حال، وقبل نزول سورة التوبة التي تأمر بقتال المشركين أنّى وجدوا ، وتأمر بمنعهم من الاقتراب من المسجد الحرام ؛لأنهم نجس حيث أَمَرَ فصْلٌ من فصولها بالوفاء بالعهود والعقود، ونهى عن صدّ حجاج بيت الله عن الذهاب إلى مكة للحج انتقامًا من أهلها الذين صدوا المسلمين عن المسجد الحرام بل إنَّ دلالاتِ هذه الفصول على ذلك تكاد تكون قطعية، وكل هذا يجعلنا نتوقف في الأحاديث التي تقول: إنها نزلت دفعة واحدة أو إنها آخر ما نزل من القرآن، ونقول: إن فصولها ألّفت تأليفًا بعد تكامل نزول ما اقتضت حكمة التنزيل أن تحتويه من فصول، وكل ما يحتمل أن يكون أن بعض فصولها قد تأخر في النزول إلى أواخر عهد النبي ـ صلى الله عليه وسلمـ وأن تأليفها تأخر بناء على ذلك إلى أواخر هذا العهد، ومن الجدير بالذكر أنه ليس شيء من هذه الأحاديث واردًا في الكتب الخمسة." (التفسير الحديث/ دروزة (9/ 9).
- قال سيد قطب في ظلال القرآن: "في روايات كثيرة أن هذه السورة نزلت بعد سورة الفتح.. وسورة الفتح معروف أنها نزلت في الحديبية في العام السادس من الهجرة.. وفي بعض هذه الروايات أنها نزلت مرة واحدة فيما عدا الآية الثالثة، التي فيها:
وهذه القوة وهذا النفوذ كانا قد تضاءلا بعد وقعة بني قريظة، عقب غزوة الخندق، وقد تطهرت الأرض من القبائل الثلاث اليهودية القوية: بني قينقاع، وبني النضير وبني قريظة، فلم يكن لهم بعد الحديبية ما يدعو إلى العناية بشأنهم إلى هذا الحد، ثم لقد كانت فترة المهادنة معهم والخطة السلمية قد انتهت ولم يعد لها موضع بعد الذي بدا منهم، فقول اللّه تعالى لنبيه الكريم : {وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ ..}[آية:13] لا بد سابق على هذه الفترة، وكذلك أمره بالحكم بينهم أو الإعراض عنهم ..ومن هذه الملاحظات يترجح لدينا أن مطالع السورة وبعض مقاطعها هي التي نزلت بعد سورة الفتح بينما نزلت مقاطع منها قبل ذلك ، كما أن الآية التي فيها قول اللّه تعالى : {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}[آية:3] لا بد أن تكون قد نزلت بعد ذلك، فقد كانت آخر ما نزل من القرآن على أرجح الأقوال، وأن السورة لم تنزل كلها مرة واحدة كما جاء في إحدى الروايات. (في ظلال القرآن / سيد قطب (2/ 832).
[5] قال عبد المتعال الصعيدي:" وقد نزلت هذه السورة بعد أن نقض أهل الكتاب من يهود المدينة وغيرهم العهود التي كانت بين النبي صلى الله عليه وسلم وبينهم ، فبعضهم حاربه كبني قريظة وبني قينقاع وبعضهم تآمر على قتله كبني النضير ، وبعضهم لم يرض بحكمه في حد الزنا وغيره وحاول أن يغشه، وكان لهم في حروبهم وتآمرهم مساعدون من المنافقين يتولونهم ويقولون نخشى أن تصيبنا دائرة، فجاءت هذه السورة الكريمة وفي أولها أمر المؤمنين بالوفاء بالعهود على اختلاف أشكالها سواء أكانت بين الله تعالى والعباد أم بين العباد بعضهم مع بعض، ثم بينت أن نقض العهود معروف في أهل الكتاب مع كل الأنبياء الذين بعثوا إليهم ، ثم جاء فيها هي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن الحزن لنقضهم العهد الذي كان بينهم وبينه وانحياز فريق من المنافقين إليهم آثروا على الكفر الإيمان ...، وأن يبلغ ما أنزل إليه في ذلك ولا يخاف من قتالهم فالله تعالى يعصمه منهم فهذا هو المقصود بالذات من هذه السورة ، وقد ذكر في أولها بعد أمر المؤمنين بالوفاء بالعقود أن الله تعالى أحل لهم بهيمة الأنعام على سبيل الامتنان ليكون هذا باعثًا لهم على الوفاء بها ".( الأقوال الحسان في حسن نظم القرآن /عبد المتعال الصعيدي /المطبعة العمومية بطنطا (78،77،76).
[6] انظر (التحرير والتنوير/ ابن عاشور (6/73،72،71). (في ظلال القرآن / سيد قطب (2/ 832)، ( تفسير القرآن الكريم/الأستاذ محمود شلتوت (217ـ 219)، (أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته،(ص63،64)).( الأقوال الحسان في حسن نظم القرآن /عبد المتعال الصعيدي /المطبعة العمومية بطنطا (78،77،76). (التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم/جماعة من العلماء (2/287).
[7] قد ورد في هذه السورة كلمة العقود والميثاق والحث على الوفاء بها والتحذير من نقضها ست مرات:
- {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} [آية:1].
- {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [آية:7].
- {وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ} [آية:12].
- {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آية:13].
- {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [آية:14].
- {لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ} [آية:70]. الموضعان الأولان: في أمر هذه الأمة بالوفاء بالعقود، والثالث: في بيان أن الله تعالى أخذ الميثاق على بني إسرائيل، والرابع: في نقض اليهود للميثاق، والخامس: في نقض النصارى للميثاق، والسادس: أنه أخذ على بني إسرائيل الميثاق فلم يفوا به لاتباعهم أهواءهم.
[8] قال سيد قطب:" وافتتاح هذه السورة بالأمر بالوفاء بالعقود، ثم المضي بعد هذا الافتتاح في بيان الحلال والحرام من الذبائح والمطاعم والمشارب والمناكح، وفي بيان الكثير من الأحكام الشرعية والتعبدية، وفي بيان حقيقة العقيدة الصحيحة، وفي بيان حقيقة العبودية وحقيقة الألوهية، وفي بيان علاقات الأمة المؤمنة بشتى الأمم والملل والنحل، وفي بيان تكاليف الأمة المؤمنة في القيام للّه والشهادة بالقسط والوصاية على البشرية بكتابها المهيمن على كل الكتب قبلها ، والحكم فيها بما أنزل اللّه كله، والحذر من الفتنة عن بعض ما أنزل اللّه والحذر من عدم العدل تأثرا بالمشاعر الشخصية والمودة والشنآن ..افتتاح السورة على هذا النحو ، والمضي فيها على هذا النهج يعطي كلمة «العقود» معنىً أوسعَ من المعنى الذي يتبادر إلى الذهن لأول وهلة، ويكشف عن أن المقصود بالعقود هو كل ضوابط الحياة التي قررها اللّه .. وفي أولها عقد الإيمان باللّه ومعرفة حقيقة ألوهيته سبحانه، ومقتضى العبودية لألوهيته.. هذا العقد الذي تنبثق منه، وتقوم عليه سائر العقود وسائر الضوابط في الحياة. (في ظلال القرآن/ سيد قطب إبراهيم (2/ 835).
[9] قال ابن عاشور:" وقد احتوت هذه السورةُ على تشريعاتٍ كثيرةٍ تُنْبِئُ بأنها أُنزلت لاستكمال شرائع الإسلام، ولذلك افْتُتِحَتْ بالوصايةِ بالوفاءِ بالعقودِ ـ ـ فكانت طالعتُها براعةَ استهلالٍ". (التحرير والتنوير/ ابن عاشور)(6/ 72)،و قال ناصر مكارم الشيرازي:" لقد تم التأكيد في هذه السورة ـ لما تمتاز به من موقع خاص ـ على مجموعة من المفاهيم الإسلامية ، وعلى آخر البرامج والمشاريع الدينية ، وقضية قيادة الأمة وخلافة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقد يكون هذا هو السبب في استهلال المائدة بقضية الإلزام بالوفاء بالعهد والميثاق، حيث تقول في أول جملة كريمة لها :{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}[آية:1]؛ وذلك لكي تلزم المؤمنين بالوفاء بعهودهم التي عقدوها في الماضي مع الله تعالى أو أشارت إليها هذه السورة، ويأتي هذا التأكيد على غرار ما يفعله المسافر في اللحظات الأخيرة ، من الوداع مع أهله وأقاربه وأنصاره حيث يؤكد عليه ألا ينسوا وصاياه ونصائحه ، وأن يوفوا بالعهود والمواثيق التي عقدوها معه".(الأمثل في تفسير الكتاب المنزل/ناصر مَكارم الشيرازي/ مؤسسة الأعلمي للمطبوعات (3/336). وقد سبقه إلى هذا الإمام السيوطي حيث قال فيما ذكره من مناسبات بين سورة المائدة والنساء" وأما اعتلاقها بسورة النساء فقد ظهر لي في وجه بديع جدًا ،وذلك أن سورة النساء اشتملت على عدة عقود صريحًا وضمنًا، فالصريح: عقود الأنكحة، وعقد الصداق، وعقد الحلف في قوله تعالى: { وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ}[النساء: 33]، وعقد الأيمان في هذه الآية، وبعد ذلك عقد المعاهدة والأمان في قوله تعالى: { إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ}[النساء:90]، وقوله تعالى:{ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ }[النساء:92].
والضمني: عقد الوصية، والوديعة، والوكالة، والعارية، والإجارة، وغير ذلك من الداخل في عموم قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [الآية:58]، فناسب أن يعقب بسورة مفتتحة بالأمر بالوفاء بالعقود، فكأنه قيل في المائدة: ياأيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود التي فرغ من ذكرها في السورة التي تمت، فكان ذلك غاية في التلاحم والتناسب والارتباط".( أسرار ترتيب القرآن/ السيوطي (95)).
[10] وقد شددت السورة على من لم يحكم شرع الله سبحانه فجاء فيها: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [آية:44]، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ }[آية:45]، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ }[آية:47]،{ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ }[آية:50].
[11] جاء في رسالة " الانفرادات اللفظية، دلالاتها وعلاقتها بالوحدة الموضوعية للسورة القرآنية": من الكلمات التي انفردت بها السورة ولم تذكر في غيرها (المنخنقة، الموقوذة ، النطيحة، ذكيتم){ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ }[آية:3]،والعلاقة بين المفردات الأربع واسم السورة وموضوعها: أن اسم السورة يتعلق بقصة طلب الحواريين أن ينزل الله تعالى عليهم مائدة من السماء ؛ليصلوا إلى درجة اليقين ، فأخذ الله تعالى عليهم عهدًا أن من يكفر بعد إنزالها استحق العذاب الشديد، فهي تحمل في طياتها أخذ العهد عليهم بالإيمان وعدم الكفر، وتبين ما يترتب على الكفر من عذاب، وهذه الكلمات (المنخنقة ، والموقوذة ، والنطيحة): جاءت لبيان أصناف حُرِّم أكلها ....، واسم السورة يحمل معنى المائدة التي تحتوي على الطعام من السماء للحواريين ، فتلك أنزلت بما أحله الله تعالى ، وهذه الكلمات الثلاث تشير إلى مطعومات حرمها الله ، وكل ذلك ميثاق من الله تعالى لبني آدم، وكلمة (ذكيتم) فيها بيان طريق الحل في المطعومات، فالذكاة الشرعية تجعل الطعام حلالًا، وهذا هو الحكم الإلهي الذي على الأمة اتباعه، وإلا نقضت عهد الله تعالى .
وأما عن ارتباطها بمحور السورة وموضوعها فقد وردت المفردات الثلاث الأولى وهي : (المنخنقة ـ الموقوذة ـ النطيحة) في سياق بيان أحكام تشريعية فيما يتعلق بما يحل ويحرم من المطعومات، ولم يكن يتورع العرب عن أكل هذه الأصناف، ولذا جاء التحريم لهذه الأصناف ليتم محو ما تبقى من رواسب الجاهلية في المجتمع المسلم ؛ ولذا جاءت تحت التحريم الجازم الذي لا يقبل أي تساهل، وجاءت تفسر قوله تعالى: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}[آية:1]، فكأن هذه الكلمات التي انفردت بها السورة جاءت ترسم أول خط من الوفاء بالعقود التي جعلها الله تعالى بينه وبين عباده ثم جاءت المفرد ة التي تلي هذه الثلاثة {ذكيتم} مكملة لهذا الشرع الذي شرعه الله تعالى من تحريم هذه الأصناف من المواشي، فما ذكي قبل موته جاز أكله، فهذه المفردات الأربع مرتبطة ارتباطًا وثيقًا مع مقاصد هذه السورة وموضوعاتها؛ التي جاءت تؤكد وجوب الوفاء بما هدى إليه الكتاب العزيز من أحكام تشريعية ومنها أحكام الأكل" ... "ومن منهج بناء السورة القرآنية وجود ألفاظ فريدة لها ، تختص بها سورة معينة ، تشكل ملامح السورة العامة ، وتنسجم مع مقاصد السورة ، وتساعد على تجلية موضوع السورة القرآنية". "الانفرادات اللفظية، دلالاتها وعلاقتها بالوحدة الموضوعية للسورة القرآنية(من أول سورة الفاتحة إلى آخر سورة المائدة) / رسالة قدمتها عبيدة أسعد لنيل درجة الدكتوراة/ المشرف: الدكتور سليمان الدقور/ الجامعة الأردنية (201، 225).
وكذلك كلمة {سائبة}{ مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ}[آية:103] كلمة "سائبة" تشير إلى صنف من الأنعام حرمه المشركون على أنفسهم مخالفين أمر الله تعالى ، وهذا يشير إلى مقصود السورة وهو بيان العقود وحثّ المؤمنين على الوفاء بها ، ومن جملة تلك العقود تحليلُ ما أحلَّ، وتحريمُ ما حرَّم، لا سيما أمرُ الذبائحِ والمآكلِ والمشاربِ والمناكحِ ، فالله سبحانه هو الإلهُ الواحدُ الخالقُ المالكُ الحاكمُ له السلطانُ وحده على خلقه وملكه، وهو الذي يحكم ما يريد ، يحلل ويحرم لا أهواؤهم، فهذه الكلمة تشير إلى أن المشركين نقضوا عهد الله وخرجوا عن حكمه واتبعوا أهواءهم.
[12] مما انفردت به السورة كلمة {منهاجًا}{لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا}[آية:48] ، و" المنهاج: هو الطريق الواضح البين المستنير"، وهذه الكلمة تشير لما ذكر في مقصود السورة " أن هذه العقود فيها رسم الأسس الفكرية والعقدية والتشريعية للإسلام والإيمان والاستقامةِ لكلِّ الحياةِ فكرًا وعقيدةً وتشريعًا، والتي يراد من خلالها: تأسيسُ المجتمعِ الإسلاميِّ الفاضلِ المستَمِدِّ تشريعَه من الله تعالى وحدَه بدون تحريف، وليعصمَهم من الانحرافاتِ السلوكيةِ والعقديةِ".
[13] من المناسبات بين خاتمة النساء وبداية المائدة ، أنه في آخر سورة النساء: { يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }[النساء:176]،وفي هذه السورة بين أنه بعد أن أكمل الدين، وبين لكم الطريق المستقيم وبين لكم أسباب الهداية والضلالة ، عليكم أن تأخذوا بما أنزل عليكم وأن تشكروا نعمته سبحانه بالوفاء بالمواثيق بينكم وبين الله تعالى ، وبينكم وبين الناس، وأن تحذروا مما فعلوا النصارى واليهود من الضلال ونقض العهود فسلبت كرامة الله عنهم ، فبين في هذه السورة العهود والمواثيق ، وبين عاقبة من وفى بها ومن نقضها دنيا وأخرى. قال البقاعي في الربط بين سورة النساء والمائدة، وهو يفيدنا في فهم مقصود السورة:" لما أخبر تعالى في آخر سورة النساء أن اليهود لما نقضوا المواثيق التي أخذها عليهم حرم عليهم طيبات أحلت لهم من كثير من بهيمة الأنعام المشار إليها بقوله :{ وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ } [الأنعام: 146] ، واستمر تعالى في هتك أستارهم وبيان عوارهم إلى أن ختم بآية في الإرث الذي افتتح آياته بالإيصاء ،وختمها بأنه شامل العلم ـ ناسب افتتاح هذه بأمر المؤمنين الذي اشتد تحذيره لهم منهم بالوفاء الذي جلُّ مبناه القلب ".(نظم الدرر/ البقاعي (2/384).و قال أبو حيان: "ومناسبة افتتاحها لما قبلها هو أنه تعالى لما ذكر استفتاءهم في الكلالة وأفتاهم فيها ، ذكر أنه يبين لهم كراهة الضلال ، فبين في هذه السورة أحكاماً كثيرة هي تفصيل لذلك المجمل ".
[14] حوت هذه السورة مقاصد الشريعة الإسلامية الخمسة: 1) حفظ الدين. 2) حفظ النفس .3) حفظ العقل. 4) حفظ العرض. 5) حفظ المال.
- حفظ الدين: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ} الآية [آية:54].
- حفظ النفس: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} [آية: 32].
- حفظ العقل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آية:90].
- حفظ العرض: {مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ} [آية:5].
- حفظ المال: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [آية:38]
[15] قال البقاعي في مصاعد النظر "وللبخاري عن سفيان قال: " مَا فِي القُرْآنِ آيَةٌ أَشَدُّ عَلَيَّ مِنْ: {لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ، وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} [المائدة: 68] " صحيح البخاري، بَابُ الرَّجَاءِ مَعَ الخَوْفِ، "6468 ،قال البقاعي: أي: فكذلك نحن لسنا على شيء حتى نقيم الكتاب والسنة.( مَصَاعِدُ النَّظَرِ للإشْرَافِ عَلَى مَقَاصِدِ السِّوَرِ ويُسَمَّى: "المَقْصِدُ الأَسْمَى في مُطَابَقَةِ اسْمِ كُلِّ سُورَةٍ لِلمُسَمَّى"/ إبراهيم بن عمر بن حسن الرباط بن علي بن أبي بكر البقاعي/ دار النشر: مكتبة المعارف – الرياض/ الطبعة: الأولى(2/ 113).
[16] جاء في الانفرادات اللفظية ، دلالاتها وعلاقتها بالوحدة الموضوعية للسورة: "مما انفردت به السورة كلمة {يتيهون}، وجاءت هذه الكلمة في سياق قصة متعلقة بمشهد عصيان من بني إسرائيل لأمر الله تعالى وأمر رسوله عليه السلام ، وهذا المشهد يعطي مثالًا حيًا لمن ينكل عن طاعة الله تعالى، يقول البقاعي:" وفي هذه القصة أوضح دليل على نقضهم للعهود التي بنيت السورة على طلب الوفاء بها وافتتحت بها ، وصرح بأخذها عليهم في قوله : { وَلَقَدْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ بَنِي إسرائيل } إلى أن قال : { وَآمَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ } [المائدة : 12] وفي ذلك تسلية للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيما يفعلونه معه ،وتذكير له بالنعمة على قومه بالتوفيق ، وترغيب لمن أطاع منهم وترهيب لمن عصى" (نظم الدرر (ج2/428)، ويقول سيد قطب:" وفي نهاية الدرس يصل السياق إلى الموقف الأخير لبني إسرائيل مع رسولهم ومنقذهم - موسى عليه السلام - على أبواب الأرض المقدسة التي وعدهم اللّه ،وموقفهم كذلك من ميثاق ربهم معهم وكيف نقضوه، وكيف كان جزاؤهم على نقض الميثاق الوثيق".(في ظلال القرآن/ سيد قطب (2/868،867)، فمشهد نقض المواثيق مشهد يتكرر عبر كل زمان بصور مختلفة وبأشخاص [مختلفين]، والقاعدة التي جاءت تقولها هذه السورة وهذه القصة أن كل من ينقض عهد الله تعالى ستحل عليه العقوبة ، والتي جاء التعبير عنها بكلمة {يتيهون}، فكلمة {يتيهون}كانت لبيان عقوبة من يحيد عن أمر الله تعالى وأمر رسوله.
وكذلك مفردة {يبحث}{ فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ}[آية:31] لم ترد إلا في هذه السورة الكريمة، وهي تصور مشهدًا آخر من مشاهد القصص القرآني، مشهد الإنسان الذي ضل الطريق وانتهك حرمات الله تعالى، وقتل نفسًا بغير حق، فأصبح هائمًا على وجهه لا يعلم العمل، ضائعًا لا حيلة بيده ، يبحث عن حل لما فعل ، فأرسل الله تعالى ذلك الغراب يبحث في الأرض، هذا الغراب اهتدى إلى الحق مع أنه حيوان لا يعقل، وأما الإنسان العاقل فلم يهتد إلى الحق ، فهذه الكلمة بهذا السياق يظهر ارتباطها الوثيق بمحور السورة ومقاصدها، فالغراب اهتدى إلى الحق وأما الإنسان الذي انتهك حرمات الله تعالى ، ونقض عهد الله تعالى، فقد ضل ولم يهتد إلى الحق ، فما كان له إلا الخسران والندم.
وكذلك كلمة {ينفوا} {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} [آية:33]، هي مما انفردت به السورة، وقد جاءت في سياق بيان إحدى العقوبات لمن يحارب الله تعالى، ويحارب رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ويسعى في الأرض بالإفساد، وهي عقوبة من يخيف السبيل دون أن يقتل أو يأخذ مالًا .. ويظهر بذلك اتصالها باسم السورة، فقد جاءت هذه الكلمة لبيان عقوبة من نقض عهد الله تعالى من خلال السعي بالإفساد في الأرض، وكذلك اسم السورة [وموضوعها] يشير إلى أن من ينقض العهد الذي أخذه الله تعالى عليه حق عليه العذاب الشديد". (الانفرادات اللفظية، دلالاتها وعلاقتها بالوحدة الموضوعية للسورة القرآنية/الطالبة: عبيدة أسعد (208،205، 212).
[17] قال فاضل السامرائي:" · قصة بني اسرائيل: جاء ذكرها هنا ؛لأن بني اسرائيل قد نقضوا الذي ما كان كثير من العهود، وهم نموذج لمن ينقض العهود والمواثيق:{ وَلَقَدْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ بَنِي إسرائيل وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاَةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَّأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ* فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}[الآيتان: 12 – 13]، قصة سيدنا موسى - عليه السلام - ودخول الأرض المقدسة: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاء وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّن الْعَالَمِينَ ..قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} الآيات من[ 20 – 26]، وفي ورودها تأكيد آخر على نموذج نقض العهود من بني اسرائيل .(لمسات بيانية /فاضل السامرائي (10) محاضرات مفرغة).
قصة ابني آدم: ورودها في هذه السورة بعد قصة بني اسرائيل؛ لأن بني اسرائيل نقضوا العهود من جبنهم وقابيل قتل أخاه هابيل بتسرعه ونقضه للعهد. {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [الآيات: 27 – 31].
[18] قال الشيخ محمود شلتوت: " قد أرشدت المؤمنين بذلك إلى أن النقص الديني والفساد الخلقي، والانحلال الجماعي ، والارتطام في الشهوات والأهواء ، والخروج عن حدود الله تعالى وشرائعه، إنما أصاب أهل الكتاب بسبب نقضهم لهذه المواثيق، وعدم وفائهم بعقود الله معهم وتكاليفه لهم ، والإخلال بما وثقوه بينهم من التزامات الخير والصلاح :{ فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13) وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (14)}[الآيتان:13،14]، { لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ}[آية:70].
[19] قال العليمي المصري في بحث " مثاني فواتح السور، معجزة جديدة للقرآن" الذي تقدم الحديث عنه في سورة البقرة وما بعدها:
- وردت (يا): في سورة المائدة ثلاثًا وثلاثين مرة (33)، وهذا أكثر عدد ورد في سورة في القرآن ، تليها سورة هود ورد فيها (يا) تسعًا وعشرين مرة (29).
- أكثر سورة ورد فيها {يا أيها الذين آمنوا } وردت ست عشرة مرة (16).
- يقول علي هاني: (العقود)، و(أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) لم ترد إلا في هذه السورة مرة واحدة، و(حُرُمٌ) جمع حَرام وهو المُحرم لم ترد إلا في هذه السورة وردت ثلاث مرات.
- يحكم: أكثر سورة ورد فها الحكم ومشتقاته كما سيأتي تفصيله.
- يرد: جاء هذا الفعل منسوبًا إلى الله تعالى في هذه السورة سبع مرات منها مرتين بلفظ المضارع "يريد"، ومرة بلفظ الماضي"أراد".( " مثاني فواتح السور، معجزة جديدة للقرآن/ العليمي المصري/ بحث منشور في ملتقى أهل التفسير) وحاصل ما توصل إليه الباحث أن الكلمة التي ترد في أول السورة ونعني بالأول الآية الأولى والثانية والثالثة تتكرر في السورة ، ويكون تكرارها أكثر من أي سورة أخرى ، ونحن نزيد على ما قال : إن مطلع السورة فيه براعة استهلال وهو يشير لموضوعها ، فمن المنطقي أن تكرر فيها الكلمات التي وردت فيها في السورة ، وأن تكون أكثر من أي سورة أخرى ، لكن بقي أنه قد يعترض أن بهيمة الأنعام وردت في سورة الحج مرتين وفي هذه السورة مرة واحدة إلا أن يقال : { أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ}بهيمة الأنعام مع إحلالها لم يرد إلا في هذه السورة ، أما ذكر الله تعالى على ما رزقهم من بهيمة الأنعام في ورد مرتين في سورة الحج { وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ}[الحج: 28، 34).
[20] اشتملت سورة المائدة على ستة عشر نداء وجهت للمؤمنين خاصة، من مجموع ثمانية وثمانين نداء للمؤمنين في القرآن، يعتبر كل نداء منها قانونًا ينظم ناحية من الحياة عند المؤمنين، فيما يختص بأنفسهم وفيما يختص بعلاقتهم بأهل الكتاب، ويربي المؤمنين على المنهج الذي اختاره الله لهم، وهي أكثر سورة جاء فيها النداء بـ{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}، شاملًا الأوامر والنواهي الإلهية للمؤمنين.
- فالنداء الأول: يطلب الوفاء بالعقود: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُود} [المائدة: 1].
- والنداء الثاني: يطلب المحافظة على شعائر الله وعدم إحلالها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَائِرَ اللّهِ} [المائدة: 2].
- والنداء الثالث: يطلب الطهارة حين إرادة الصلاة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ، وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ} [المائدة: 6].
- والنداء الرابع: يطلب القوامية لله والشهادة بالعدل ويحذر من الظلم: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [آية:8].
- والنداء الخامس: يطلب تذكر نعمة الله على المؤمنين بكف أيدي الأعداء عنهم: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آية:11].
- والنداء السادس: يدعو إلى تقوى الله وابتغاء الوسيلة إليه والجهاد في سبيله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آية:35].
- والنداء السابع: يحذر من اتخاذ الأعداء أولياء من دون المؤمنين: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [آية:51].
- والنداء الثامن: يلفت نظر المؤمنين إلى أن المسارعة في موالاة الأعداء ردة عن الدين: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [آية:54].
- النداء التاسع: يدعو إلى شدة الحذر من موالاة الأعداء: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آية:57].
- النداء العاشر: يذكر تحريم الطيبات التي أحلها الله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [آية:87].
- النداء الحادي عشر: تحريم الخمر والميسر: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آية:90].
12. 13. النداء الثاني عشر، والثالث عشر : يتعلقان بتحريم قتل الصيد في حالة الإحرام :{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ }[آية:94]،{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ }[آية:95].
14. النداء الرابع عشر: يتعلق بالنهي عن سؤال ما ترك الله بيان حكمه توسعة على عباده: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101)} [آية:101].
15. النداء الخامس عشر: يتعلق بتحديد المسئولية التي يحملها المؤمنون في الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [آية:105].
16. النداء السادس عشر: يتعلق بكيفية الشهادة على الوصية في حالة السفر،{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ }[آية:106].
وجملة هذه النداءات تربية عملية للمؤمنين وبيان الطريق السوي التي يجب اتباعها في الشعائر والعبادات والمعاملات والمعاهدات. والنداء للمؤمنين بصفة الإيمان؛ تذكيرًا لهم بأن عليهم أن يعملوا بمقتضى هذا الإيمان وقوامة التصديق الباطني بوجود الله والتزام أوامره واجتياب نواهيه." "تفسر القرآن الكريم"/ عبد الله شحاته، وهو قد أخذه من محمود شلتوت (تفسير القرآن الكريم/ محمود شلتوت (ص219،220). وقال الدكتور فاضل السامرائي:" والسورة شددت في معظم آياتها على العهود والمواثيق باختلافها وكل نداء بـ{يا أيها الذين آمنوا} ينص على عهد مختلف". لمسات بيانية لسور القرآن الكريم/ د. فاضل السامرائي (محاضرات مفرغة حاور الدكتور فيها الدكتور حسام النعيمي).
1- {ياأيها الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} [آية:41].
2- {يَاأَيُّهَاالرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [آية:67].
وهناك خمسة نداءات لأهل الكتاب بعضها مباشر:
- {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [آية: 15].
- {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ} [آية: 19].
- {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59)} [آية:59].
- {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} [آية: 68].
- {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77)} [آية:77].
وقد عدها الشارع عقودًا حقيقة بالوفاء". نحو تفسير موضوعي/ محمد الغزالي (67).
وهذا يؤكد المحور والمقصد المذكور للسورة ومن جملة ذلك أيضًا:
- أنها " أكثر سورة تكرر فيها مشتقات الجذر" حكم" على صيغة الفعل: ففعل الأمر "احكم" العائد إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذكر فيها أربع مرات، والفعل المضارع " يحكم" العائد إلى الأمر بتطبيق حكم الله تعالى ذكر سبع مرات منها: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}، {الظَّالِمُونَ}، {الْفَاسِقُونَ}.
- ومنها أمور متعلقة ببيان نكول اليهود والنصارى عن العقود التي بينهم وبين الله تعالى منها:
ب) نكول بني إٍسرائيل عن قتال أهل القرية التي أمروا بدخولها لم يذكر إلا هنا [آية 33، 34]. [دلالة أسماء اسور القرآنية على محاورها وموضوعاتها / د. عمر عرفات (ص74).
- وكذلك تكرر فيها ذكر مادة (ف،س،ق)، بل هي أكثر سورة وردت فيها هذه المادة، فقد وردت ثمان مرات، ثم تليها التوبة سبع مرات، وقد أشار لقريب من هذا الشيخ سعيد حوى في الأساس (3/ 1297) ـ وهذا يتلاءم مع موضوع السورة وإليك هذه المواضع:
- {وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ} [آية:3].
- {فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [آية:25].
- {فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [آية:26].
- {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [آية:47].
- {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ} [آية:49].
- {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ} [آية:59].
- {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [آية:81].
- {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [آية:108].
[21] قال الراغب:" العقود باعتبار العقود ثلاثة أضرب:
- عقد بين الله وبين العبد.
- وعقد بين العبد ونفسه.
- وعقد بينه وبين غيره من البشر.
- ضرب أوجبه العقل وهو ما ركزه الله تعالى بمعرفته في الإنسان فيتوصل إليه، إما ببديهة العقل، وإما بأدق نظر، وعليه دل قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ} [الأعراف:172] الآية،
- وضرب أوجبه الشرع: وهو ما دلنا عليه كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -. فذلك ستة أضرب.
فأما اللازم بالالتزام، فأربعة أضرب:
- فالأول: واجب الوفاء به كالنذور المتعلقة بالقُربِ، نحو أن يقول: عليَّ أن أصوم إن عافاني الله.
- والثاني: مستحب الوفاء به ويجوز تركه: كمن حلف على ترك فعل مباح فإن له أن يكفر عن يمينه ويفعل ذلك.
- والثالث: مستحب ترك الوفاء به وهو ما قال عليه الصلاة والسلام: (إذا حلف أحدكم على شيء فرأى غيره خيراً منه فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه).
- والرابع: واجب ترك الوفاء به، نحو: أن يقول عليَّ أن أقتل فلاناً المسلم، وذلك ستة في أربعة وعشرين ضرباً من العقود. (تفسير الراغب الأصفهاني/ أبو القاسم الحسين المعروف بالراغب الأصفهاني (4/ 248)، وظاهر الآية يقتضي كل عقد سوى ما كان تركه قربة أو واجباً.
[22] ثم قال " وعقد الإيمان باللّه والاعتراف بألوهيته وربوبيته وقوامته ومقتضيات هذا الاعتراف من العبودية الكاملة، والالتزام الشامل والطاعة المطلقة والاستسلام العميق، هذا العقد أخذه اللّه ابتداء على آدم - عليه السلام - وهو يسلمه مقاليد الخلافة في الأرض، بشرطٍ وعقدٍ هذا نصه القرآنيُّ: {قُلْنَا : اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً ، فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ}[البقرة:38]، فهي خلافة مشروطة باتباع هدى اللّه الذي ينزله في كتبه على رسله وإلا فهي المخالفة لعقد الخلافة والتمليك، المخالفة التي تجعل كل عمل مخالف لما أنزل اللّه باطلًا بطلانًا أصليًا ، غير قابل للتصحيح المستأنف!، وتحتم على كل مؤمن باللّه يريد الوفاء بعقد اللّه أن يردَّ هذا الباطل ، ولا يعترف به ولا يقبل التعامل على أساسه، وإلا فما أوفى بعقد اللّه، ولقد تكرر هذا العقد - أو هذا العهد - مع ذرية آدم وهم بعد في ظهور آبائهم، كما ورد في السورة الأخرى : {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ، وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ : أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قالُوا: بَلى شَهِدْنا! أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ. أَوْ تَقُولُوا: إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ. أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} [الأعراف:173،174]، فهذا عقد آخر مع كل فرد عقد يقرر اللّه - سبحانه - أنه أخذه على بني آدم كلهم وهم في ظهور آبائهم، وليس لنا أن نسأل: كيف؟ لأن اللّه أعلم بخلقه وأعلم كيف يخاطبهم في كل طور من أطوار حياتهم. بما يلزمهم الحجة، وهو يقول: إنه أخذ عليهم هذا العهد، على ربوبيته لهم، فلا بد أن ذلك كان، كما قال اللّه سبحانه، فإذا لم يفوا بتعاقدهم هذا مع ربهم لم يكونوا أوفياء!، ولقد أخذ اللّه ميثاق بني إسرائيل يوم نتق الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم.. وسنعلم كيف لم يفوا بالميثاق وكيف نالهم من اللّه ما ينال كل من ينقض الميثاق.
والذين آمنوا بمحمد - صلى اللّه عليه وسلم - قد تعاقدوا مع اللّه - على يديه - تعاقدًا عامًا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا، وأثرة علينا، وألا ننازع الأمر أهله».
وبعضهم وقعت له بعد ذلك عقود خاصة قائمة على ذلك التعاقد العام ، ففي بيعة العقبة الثانية التي ترتبت عليها هجرة الرسول - صلى اللّه عليه وسلم - من مكة إلى المدينة ، كان هناك عقد مع نقباء الأنصار ، وفي الحديبية كان هناك عقد الشجرة وهو «بيعة الرضوان»، وعلى عقد الإيمان باللّه ، والعبودية للّه ، تقوم سائر العقود ، سواء ما يختص منها بكل أمر وكل نهي في شريعة اللّه ، وما يتعلق بكل المعاملات مع الناس والأحياء والأشياء في هذا الكون في حدود ما شرع اللّه - فكلها عقود ينادي اللّه الذين آمنوا ، بصفتهم هذه ، أن يوفوا بها؛ إذ إن صفة الإيمان ملزمة لهم بهذا الوفاء ، مستحثة لهم كذلك على الوفاء ومن ثم كان هذا النداء : «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» ..
ثم يأخذ في تفصيل بعض هذه العقود: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ.. أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ} الآية، إن هذا التحريم والتحليل في الذبائح، وفي الأنواع، وفي الأماكن، وفي الأوقات، إن هذا كله من «العقود»، وهي عقود قائمة على عقد الإيمان ابتداء، فالذين آمنوا يقتضيهم عقد الإيمان أن يتلقوا التحريم والتحليل من اللّه وحده ولا يتلقوا في هذا شيئًا من غيره ، ومن ثم نودوا هذا النداء ، في مطلع هذا البيان ،وأخذ بعده في بيان الحلال والحرام.( في ظلال القرآن/ سيد قطب (2/ 835، 836)).
[23] المحرر الوجيز/ابن عطية (2/ 145).
[24] هذا التفسير للآية الكريمة الأولى من السورة ملخص من :(جامع البيان / ابن جرير الطبري (4/61)،(الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل/ الزمخشري(1/600)،( إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/أبو السعود العمادي(3/2)،( أنوار التنزيل وأسرار التأوي/ البيضاوي(2/113)، روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني/ الآلوسي (3/222)،( في ظلال القرآن/سيد قطب(2/885)، (تفسير المنار/محمد رشيد رضا (6/98)،( نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/البقاعي(6/369 )،( تفسير البحر المحيط/أبو حيان (4/157)،( المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز/ابن عطية (2/143)،( تفسير القرآن العظيم/ابن كثير (2/6) ، (التفسير الكبير/أبو عبد الله الرازي(11/276)، (زهرة التفاسير/ أبو زهرة (4/2008)،( التحرير والتنوير/ابن عاشور(5/5)، التفسير الوسيط للقرآن الكريم/محمد سيد طنطاوي(4/7)،( تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان/ السعدي(218).
[25] في ظلال القرآن/سيد قطب (2/1002).
[26] أخرجه البخاري بَابُ صِفَةِ الجَنَّةِ وَالنَّارِ 6549، وأخرجه مسلم في الجنة وصفة نعيمها باب إحلال الرضوان على أهل الجنة رقم 2829.
[27] تفسير آخر آيتين ملخص من هذه التفاسير:(جامع البيان في تأويل القرآن /محمد بن جري الطبري (5/180 ـ 182 )،(الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل/ الزمخشري(1/697)،( إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/أبو السعود العمادي(3/102)،( أنوار التنزيل وأسرار التأوي/ البيضاوي(2/151)، روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني/ الآلوسي (4/68)،( في ظلال القرآن/سيد قطب(2/1002)، (تفسير المنار/محمد رشيد رضا (7/228)،( نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/البقاعي (2/902 )،( تفسير البحر المحيط/أبو حيان (4/421)،( المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز/ابن عطية (2/263)،( تفسير القرآن العظيم/ابن كثير ( 3/235) ، (التفسير الكبير/أبو عبد الله الرازي (12/468)، (زهرة التفاسير/ أبو زهرة (5/2413)،( التحرير والتنوير/ابن عاشور(5/274).
[28] قال محمود شلتوت: " أما وجه تسميتها بسورة المائدة فهو أنها السورة الوحيدة أيضًا التي تحدثت عن مائدة طلب الحواريون من عيسى ـ عليه السلام ـ أن يسألها ربه. (تفسير القرآن الكريم/ الأستاذ محمود شلتوت (ص207).
[29] في قوله تعالى {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (111) إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112)}:
أ) يقول علي هاني: وأرجح الأقوال عندي في تعلق {إذ}في: { إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ } أنه متعلق بـ(أوحيت) كما رجحه الطبري، والراغب، وقدمه الإمام الرازي، والطوسي ، فأصل النظم أوحيت إلى الحواريين حين قالوا { هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ } أوحيت إليهم {أنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي } {قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} لكن القرآن الكريم قدمهما؛ لأن فيه المنة على عيسى عليه السلام ، ولأن القصة تتطول فلو أخر { وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ } لما بين مسارعتهم لامتثال الأمر، ولحصل الشك في أمرهم، فمدحهم بالإيمان قبل ذكر قصتهم ، وإليك بعض أقوال العلماء التي توضح هذا القول :
- قال الطبري " إذْ قالَ الحَوَارِيّونَ " من صلة «إذ أوحيت»، وأن معنى الكلام: وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي إذْ قالَ الحَوَارِيّونَ يا عيِسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبّكَ ". (جامع البيان في تأويل القرآن/ الطبري (11/ 220).
- وقال الراغب في تفسيره:" إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً} (إِذ) هاهنا لم يجعله معطوفاً، بل جعله داخلاً في فعله، قوله: (وَإِذْ أَوْحَيْتُ) إليهم في وقت ما قالوا كذا، (5/ 495).
- وقال البقاعي:" وهذه القصة [وهي{ إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً }قبل قصة الإيحاء إليهم فتكون" إذ " هذه ظرفاً لتلك [ أي { وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ }] ، فيكون الإيحاء إليهم بالأمر بالإيمان في وقت سؤالهم هذه بعد ابتدائه ، وتكون فائدته حفظهم من أن يسألوا آية أخرى كما سألوا هذه بعد ما رأوا منه صلى الله عليه وسلم من الآيات " .(نظم الدرر في تناسب الآي والسور / برهان الدين البقاعي (2/ 892).
ب) هناك قولان في كون الحواريين كانوا شاكيين أم طلبوا الاطمئنان:
- القول الأول: قالوا خالط قلوبهم مرض وشكّ في دينهم وتصديق رسولهم، وأنهم ادعوا الإخلاص، اختاره الطبري والزمخشري وجماعة وهو مردود بما سيأتي.
- القول الثاني: وهو الأظهر ـ كما رجحه الشهاب وحمل كلام البيضاوي عليه، واختاره ابن جزي، ومكي، والواحدي، والبغوي، والخازن، وابن عطية، وابن عاشور، وابن الأنباري، وغيرهم ـ أنهم لم يكونوا شاكين في قدرة الله تعالى ، ولكنّهم سألوا آية لزيادة اطمئنان قلوبهم بالإيمان بأن ينتقلوا من الدليل العقلي إلى الدليل المحسوس ، فإنّ النفوس بالمحسوس آنس ، كما لم يكن سؤال إبراهيم بقوله { رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى } [ البقرة : 260 ] شكّاً في الحال ،ويدل على ذلك أمور:
- بأن وصفهم بالحواريين ينافي أن يكونوا على الباطل، والحواريون جمع حواري، وهم أنصار عيسى وأصفياؤه، وخاصة أصحابه الذين آمنوا به وصدقوه، وأخلصوا له ولازموه وكانوا عونًا له في الدعوة إلى الحق،يقال فلان حواريُّ فلانٍ، أي: صفوته، وخالصته، وخاصة أصحابه، ومنه قول النبي ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ في الزبير بن العوام: «إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوَارِيًّا، وَإِنَّ حَوَارِيَّ الزُّبَيْرُ»[ أخرجه البخاري، بَابُ مَنَاقِبِ الزُّبَيْرِ بْنِ العَوَّامِ، 3719]، وأصل مادة «حور» خلوص الشيء وكل شيء خلص لونه فهو حواري جاء في تاج العروس: "ورَوَى شَمِرٌ أَنَّه قَالَ: الحَوَارِيُّ: النَّاصِحُ، وأَصلُه الشْيءُ الخالِصُ، وكُلُّ شَيْءٍ خَلَصَ لَوْنُه فَهُوَ حَوَارِيُّ".(تاج العروس/ بمرتضى، الزَّبيدي (11/ 104)، و قال محمد سيد طنطاوي:" وأصل مادة «حور» الدلالة على شدة الصفاء ونصوع البياض".( التفسير الوسيط /محمد سيد طنطاوي (4/ 336).ولذلك يقال :عن الدقيق الحُوَّارَي (بضَمِّ الحَاءِ وشَدِّ الْوَاو وفَتْح الرَّاءِ): سُمي بِهِ لأَنَّه يُنَقَّى من لُباب البُر وَهُوَ لُبَابُ الدَّقِيق وأَجْودُه وأَخْلَصُه ، وهو الدَّقِيقُ الأَبْيَضُ، والأعراب تسمى نساء الأمصار حواريات لنقائهن وبياضهن وتباعدهن عن قشف الأعراب بنظافتهن ،وقالوا في النساء البيض: الحواريات والحوريات؛ لخلوص ألوانهن ونقائهن وبياضهن،وقد سمى- تعالى- خاصة أصحابه وأصفياء عيسى وأنصاره بالحواريين لأنهم أخلصوا له في طاعته ومحبته وتأييده، ونقت وطهرت سرائرهم وقلوبهم من الكفر والنفاق والغش، فصاروا في نقائهم وصفائهم كالشيء النقي الأبيض الخالص البياض.
- وبأن الله تعالى أمر المؤمنين بالتشبه بهم والاقتداء بسنتهم في قوله عز من قائل: {كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ} [الصف: 14]
- أنهم قالوا: {وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا} [المائدة:113].
- وبأن رسول الله صلى الله عليه وسلم مدح الزبير «إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوَارِيًّا، وَإِنَّ حَوَارِيَّ الزُّبَيْرُ» [أخرجه البخاري، بَابُ مَنَاقِبِ الزُّبَيْرِ بْنِ العَوَّامِ، 3719].
- وأنه في الآية السابقة قال: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} [المائدة:111]، فهي توحي أنهم سارعوا مباشرة.
- وقولهم ابن مريم: دليل على أنهم كانوا يعتقدون فيه الاعتقاد الصحيح من نسبته إلى أم دون والد.
والظاهر : أن هذا كان في بداية حالهم وفي أول مراحل إسلامهم، آمنوا بسيدنا عيسى ـ عليه السلام ـ فأرادوا أن يزدادوا يقينًا ،وأن تطمئن قلوبهم كما قال إبراهيم { رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى}[البقرة:260] ، ويشهدوا لغيرهم على نزولها فطلبوها ، فطلبها سيدنا عيسى عليه السلام من الله تعالى ، فأوحى الله عز وجل للحواريين أن يؤمنوا ، فقالوا { آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ}" ، كما في قول الصحابة ـ رضي الله عنهم: { وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285)}[البقرة:285]، لكن لم يراعوا في خطابهم الأدب اللائق في خطاب الأنبياء ، وهو الذي رجحه الشهاب، وحمل كلام البيضاوي عليه حيث قال البيضاوي في تفسير قوله تعالى :{ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ }[المائدة:112] لم يكن بعدُ عن تحقيقٍ واستحكامٍ معرفةٍ"، فقال الشهاب:" لك أن تقول إنّ المصنف ـ رحمه الله ـ لم يذهب إلى ما ذهب إليه الكشاف، وأنّ مراده أنَّ إخلاصهم الذي ادّعو، لم يكن محكمًا محققاً تحقيقاً لا تعتوره الأوهام، والوساوس الذي لا تضرّ المؤمن، ولا توقعه في مزلة الكفر فطلبوا إزالة ذلك طلب من يتثبت لإنكارهم له، واستعظامه عندهم لا لشك منهم، ولكن خافوا أن يوقعهم الشيطان به في حبائله، وهذا تصرّف منه أخف من نسب الشك إليهم، ومخالفة ظاهر النظم كما يدل عليه ما سيأتي، وهذا هو النظر السديد عندي".(حاشية الشهاب الخفاجي على البيضاوي(3/ 299)).
- الأرجح في معنى {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ }[آية:112]: أنه كما يقول الإنسان لمن يعظمه : هل تقدر أن تذهب معي إلى كذا ؟ وهو يعلم أنه قادر ، ولكنه يكنى بذلك عن أن السائل يحب ذلك ولا يريد المشقة على المسؤول، فجرى قوله تعالى : { هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ } على طريقة عربية في العرض والدعاء ، يقولون للمستطيع لأمر : هل تستطيع كذا ، على معنى تطلّب العذر له إن لم يجبك إلى مطلوبك وأنّ السائل لا يحبّ أن يكلّف المسؤول ما يشقّ عليه ، وذلك كناية فلم يبق منظوراً فيه إلى صريح المعنى المقتضي أنّه يشكّ في استطاعة المسؤول ، وإنّما يقول ذلك الأدنى للأعلى منه ، وفي شيء يعلم أنه مستطاع للمسؤول ، فقرينة الكناية تحقّقُ المسؤول أنّ السائل يعلم استطاعته ، ومنه ما جاء في حديث يحيى المازني « أنّ رجلاً قال لعبد الله بن زيد : أَتَسْتَطِيعُ أَنْ تُرِيَنِي، كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَوَضَّأُ؟ »[صحيح البخاري: 185، بَابُ مَسْحِ الرَّأْسِ كُلِّهِ] ، فإنّ السائل يعلم أنّ عبد الله بن زيد لا يشقّ عليه ذلك، فليس قول الحواريّين المحكي بهذا اللفظ في القرآن إلاّ لفظاً من لغتهم يدلّ على التلطّف والتأدّب في السؤال ، كما هو مناسب أهل الإيمان الخالص .
[30] خصائص الأمة الإسلامية الحضارية كما تبينها سورة المائدة /د. إبراهيم زيد الكيلاني (ص8).
[31] وإليك الآيات التي تحدثت عن ذلك:
- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ }[آية:2].
- {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3) يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (4) الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5)}[آية: 3ـ5].
- {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [آية:42].
- {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66)}[الآيتان:66،65].
- {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ}[آية:75].
- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88) لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (92) لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (94) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (95) أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96) جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98)مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (99) قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100) مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ } [الآيات:87ـ103].
- {إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112) قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ (113) قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114)}[الآيات: 112ـ 114].
- {إذ قالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119)}[آية:119].
[32] دلالة أسماء السور القرآنية على محاورها وموضوعاتها/ د عمر عرفات 72، 73 بتصرف.
[33] نظم الدرر في تناسب الآي والسور (2/ 325).
[34] دلالالة أسماء السور القرآنية على محاورها وموضوعاتها/ د. عمر عرفات (ص73).
[35] من دلالات أسماء السور في القرآن الكريم/ عيسى وادي، ومحمود مهنا (ص68).
[36] انظر التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم (2/278).
[37] تفسير المهايمي (1/177).
[38] لأن قصة المائدة جاءت معترضة أثناء كلام الله سبحانه مع سيدنا عيسى يوم القيامة، والسر في اعتراضها بينه دروزة بقوله: "من الحكمة في ذكره بالأسلوب الذي جاء به هو ما قلناه قبلُ: التنديدُ بعقيدة النصارى في عيسى وأمه، وتبرئة عيسى من مسؤولية ذلك ،وتقرير حقيقة ما قاله للناس ، وتقرير كون كل ما خالف ذلك فيما أيدي النصارى من أناجيل وأسفار وما هم عليه من عقائد هو مخالف لما أمر الله عيسى عليه السلام أن يقوله أو لما قاله". التفسير الحديث / دروزة محمد عزت (9/ 263).
[39] المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز/ عبد الحق بن عطية الأندلس/ دار ابن حزم ص596.
[40] نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/ البقاعي (2/ 594).
[41] نظم الدرر/البقاعي (2/ 892) بتصرف.
[42] في ظلال القرآن/ سيد قطب (2/ 998).
[43]لأَنها افتتحت بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ}[آية:1]،ولأن مقصود السورة هو :" بيانُ العقودِ والمواثيقِ التي يراد من خلالها تأسيسُ المجتمعِ الإسلاميِّ الفاضلِ وأعظمها التوحيد، والترغيبُ البليغُ للمؤمنين على الوفاء بها، والترهيبُ البليغ من نقضها"، ولأَنها ذُكِرَ فيها كثيرٌ من العقود المواثيق ، وممن نص على تسميتها بالعقود أيضًا: السيوطي في الإتقان(1/152)،الزركشي في البرهان (1/269)، الآلوسي (3/221) ، والبقاعي(2/594)، وابن عاشور (6/69)، والسخاوي في جمال القراء وكمال الإقراء (90) ، والمراغي(6/41)،و محمد سيد طنطاوي (4/7)، وإبراهيم القطان في تيسير التفسير (1/372)، والتفسير الوسيط للقرآن الكريم/مجموعة من العلماء بإشراف مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر(2/1001)، والزحيلي (6/60).
[44] دلالة أسماء السور القرآنية على محاورها وموضوعاتها /د. عمر عرفات (ص76، 77).
[45] خصائص الأمة الإسلامية الحضارية كما تبينها سورة المائدة / د.إبراهيم زيد الكيلاني (8).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اليوتيوب، فيس: علي هاني العقرباوي