د. محي الدين غازي
New member
إن القرآن الكريم قد وصم أعمالا وسلوكيات مختلفة بالفساد فى الأرض، والتأمل فى تكرارالكلمة فى مواضع كثيرة يحدو بنا أن نقول: إن كلمة الفساد فى الأرض كاد أن يكون مصطلحا قرآنيا له دلالالته وأبعاده وإيحاءاته.
وكلمة الفساد فى الأرض له دلالات قوية، فإن الأرض وضعت للأنام، وهي المأوى الوحيد لجميع الأنام إلى يوم القيامة، فإذا كان سلوك فرد أو جماعة يسيء إلى هذا المأوى أو يؤدي إلى خرابه فلا غرابة عقلا فى أن يقوم بحكم الفطرة جميع البشر ضده وللضرب على يديه، فالقرآن الكريم حينما يقرر لسلوك أنه الفساد فى الأرض فإنما يجعل المشكلة تخص كل البشر، ويجعل الموقف نفسه ينادي البشر أجمعهم إلى المبادرة لإيجاد حل مكافح لها، ولا يوجد من البشر من يعارض هذا النداء إلا من كان له مصلحة شخصية فى المشكلة نفسها.
ولما كانت الأرض مخزنا للموارد الطبيعية ومستودعا للثروات التي بها قيام الحياة ناسب أن يكون إساءة استخدام تلك الموارد والثروات من أبرز مظاهر الفساد فى الأرض، ولذلك يرى المتتبع لكلمات القرآن الكريم أن كلمة الفساد وإن كانت تشمل المساوئ كلها إلا أن الاستخدام القرآني للكلمة يدل على أن للكلمة صلة قوية بالانحراف الاقتصادي والجرائم المالية، لاسيما إن كانت كلمة الفساد مقرونة بالأرض.
ثم فى جانب آخر نجد تصريحات من علماء اللغة بأن كلمة الفساد تطلق أكثر ما تطلق على المدلول المالي. يقول الفيروزآبادي: والفساد أخذ المال ظلما، والمفسدة ضد المصلحة، وتفاسدوا قطعوا الأرحام[1]. بينما نجد توضيحا أكثر فى تاج العروس حيث جاء: والفساد أخذ المال ظلما بغير حق، هكذا فسر مسلم البطين قوله تعالى: للذين لايريدون علوا فى الأرض ولافسادا[2].
خصوصية الفساد فى الأرض بجرائم مدين
إن صلة الكلمة بالجانب المالي تتضح جليا حين التأمل فى قصة مدين الواردة فى التنزيل الحكيم فى مواضع أربعة، في سورة الأعراف من آية 85 إلى آية 93 وفى سورة هود من آية 84 إلى آية 95 وفى سورة الشعراء من آية 176 إلى آية 190 وفى سورة العنكبوت فى الآيتين 36 و37. حيث إن كلمة الفساد فى الأرض وردت فى كل موضع من المواضع الأربعة، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على الصلة الوثيقة بين دلالة الفساد فى الأرض وبين جرائم القوم والتي كانت جرائم مالية، ولانرى مثل هذا الاطراد فى استخدام الكلمة فى أي أمة أخرى من الأمم التي ورد ذكرهم فى القرآن الكريم. وقد سمى انحرافهم المالي المتمثل فى عدم إيفائهم الكيل والميزان فى مواضع ثلاثة مقرونة بذكر الفساد في الأرض بينما فى سورة العنكبوت لم يسم الانحراف المالي بل اكتفى بذكر قوله "ولاتعثوا فى الأرض مفسدين". أي إن عنوان الانحراف الذي تورطوا فيه هو الفساد فى الأرض، كما أن عنوان الانحراف الذي وقعت فيه قوم لوط هو الفاحشة والإجرام.
إن الخطأ الأكبر الذي وقعت فيه قوم شعيب هو نقص المكيال والميزان، والنية من وراء النقص هو الحصول على مال الغير من غير رضى منه ولا مقابل يدفعه، ومن ثم الإخلال بثقة الناس فى الميزان الذي وضعها الرحمن رحمة بالعباد حتى تستقيم لهم الحياة، وقد اتفق العقلاء على أن الحياة قيامها المال، وأن العمران أساسه الميزان، فإذا كان الاعتداء على المال اختلت الحياة وإذا كان الإضرار بالميزان تضرر العمران.
ونبي الله شعيب عليه السلام هو الاسم الأول الذي ورد إلينا من خلال تاريخ موثق لإصلاح النظام المالي والاقتصادي، وذكر القرآن الكريم قصته مرارا وبتفصيل يدل على أن القصة تحمل فى طيها مساحة كبيرة للتأمل لمن يتطلع إلى الفوز بحكمة القرآن. وحقيق بمن يريد أن يتقدم بمشروع إصلاح النظام الاقتصادي أن يجعل مثال شعيب الحجر الأساس لكل محاولاته.
الحرية المطلقة تفتح أبوب الفساد
ومن تأمل فى الأزمات المالية المتتالية فى زماننا وجد أنها تعود إلى إعطاء رواد السوق حرية مطلقة من القيم الأخلاقية، وللعلامة أحمد رشيد رضا وقفة جميلة عند قصة مدين فى هذا الخصوص حيث قال:
"في قصَّة شعيب مع قومه مسأَلةٌ من أَهمِّ مسائل الاجتماع في العالم المدنيِّ، وهي التَّنازع بين رجال المال ورجال الإِصلاح في حرِّيَّة الكسب المطلقة، وتقييد الكسب بالحلال ومراعاة الفضيلة فيه، فقوم شعيبٍ كانوا يستبيحون تنمِية الثَّروة بجمِيع الطُّرقِ الممكنة حتَّى التَّطفيف في المكيال والميزان، فإِذا كالوا أَو وزنوا للنَّاس نقصوا وأَخسروا، وإِذا اكتالوا عليهم لأَنفسهم استوفوا وأكثروا، وكانوا يبخسون النَّاس أشياءهم في كلِّ أَنواعها، وكان شعيبٌ - عليه السَّلام - ينهاهم عن ذلك ويوصِيهم بالقسط فيه، واجتناب أكل أموال النَّاس بالباطل والقناعة بالحلال، وكانت حجَتهم حرِّيَّة الكسب مقرونةً بحرِّيَّة الِاعتقاد، كما حكاه اللهُ عنهم بقوله: - قالوا يا شعيب أَصلاتك تأْمرك أَن نترك ما يعبد آباؤُنا أَو أَن نفعل في أَموالنا ما نشاء - 87، ... وما زال التَّنازع الْماليُّ أَعقد مشاكل الاجتماع، وزعم بعض علماء الاقتصاد أَنَّ الإِصلاح الماليَّ أَعظم أُسس الإِسلام، ولأَجله عادى كبراء قريْشٍ بعثة محمَّدٍ - عليه الصَّلاة والسَّلام –[3]
إذا اختلت الموازين فانتظر الويلات
إن التأمل فى قصة مدين يرشدنا إلى نقطة مهمّة، وهي أنهم استحقوا العذاب المستأصل لأنهم أصبحوا الخطر الأعظم على عمران الأرض، وتحديا خطيرا لمسيرة المدنية، لما ساد الفساد المالي عليهم أجمعين، وغدا هو العرف والقانون، فإن تلبس بعض أفراد المجتمع فى نقص المكيال والميزان أمر هين مادام ذلك جريمة فى نظر المجتمع، وسيئة فى قانون العرف، حيث إن المجتمع والقائمين عليه سوف يقومون بالضرب على أيدي هؤلاء المجرمين، كما نرى اليوم فى كل دول العالم، بغض النظر عن الدين والنظام، حيث توجد فى كل دولة القوانين الصريحة والإجراءات الحاسمة لمكافحة الغش التجاري.
أما إذا اختلت الموازين العامة وأصبح الغش هو العرف، والأمانة هي السذاجة والغباء، وأصبح موضوع السخرية والملام من أنكر ذلك، فهناك غضب الله والعقاب الشديد.
فينبغي أن تحذر البشرية من الويلات والأزمات فى كل ترخيص قانوني لأي تعامل مالي يؤدي بالبشرية إلى الضرر ويصدق عليه الفساد فى الأرض وما أكثر ذلك فى زماننا من البيوع القصيرة والمستقبليات والاتجار بالمخاطر وتجارة الديون إلى تعاملات لانهاية لها نالت ترخيصا قانونيا، ففتحت أبواب الفساد فى الأرض.
جرائم قوم ثمود المالية
لقد ذكر الفساد فى الأرض في قصة ثمود، ومع أن القرآن الكريم لم ينص على أنهم كانوا منغمسين فى الفساد المالي، إلا أن ابتلاءهم بالناقة يدل على شدة حرصهم على الدنيا، وإفراطهم فى حب المال، وقد ذهب المفسرون فى تفسيرقوله تعالى: وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (48) [النمل] إلى أن هؤلاء الرهط كانوا قد قطعوا شوطا كبيرا فى مخادعة الناس فى أموالهم، فقد جاء فى تفسير ابن كثير:
قال عبد الرزاق: أنبأنا يحيى بن ربيعة الصنعاني، سمعت عطاء -هو ابن أبي رباح -يقول: {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ } قال: كانوا يقرضون الدراهم، يعني: أنهم كانوا يأخذون منها، وكأنهم كانوا يتعاملون بها عددًا، كما كان العرب يتعاملون.
وقال الإمام مالك، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب أنه قال: قَطْع الذهب والورق من الفساد في الأرض[4]. ولاشك أن الذين يتجرأون على قرض الدراهم ويستسيغون خداع الناس لايقفون عند قرض الدراهم، إنما يتخذون كل وسيلة لتلبية رغباتهم، وكان ابن كثير موفقا عندما قال:والغرض أن هؤلاء الكفرة الفسقة، كان من صفاتهم الإفساد في الأرض بكل طريق يقدرون عليها، فمنها ما ذكره هؤلاء الأئمة منها ما لم يذكروه.
أكل السحت من الفساد فى الأرض
وقد تحدث القرآن الكريم عن جرائم بني إسرائيل وقال: "وترى كثيرا منهم يسارعون فى الإثم والعدوان وأكلهم السحت...(المائدة62) "إلى أن قال:" ويسعون فى الأرض فسادا والله لايحب المفسدين"(المائدة 64) فإن الإعطاء عن طيب القلب بر وإنفاق، بينما الأخذ من غير رضا سحت وعدوان، وبالأول تعمر الأرض وتتزين وبالأخير يظهر الفساد فى الأرض. ومن أدمن السحت والعدوان فلا وازع يردعه ولا حد يمنعه من المسارعة فيهما. وكان اليهود وأقرانهم مسارعين فى العدوان وأكل السحت، إلا أن وسائل التقنية الحديثة السريعة زادت من مسارعتهم هذه، وبالتالي كبرت فى حجم انتشارالفساد فى الأرض.
لاتمنعوا خلق الله من الأكل فى أرض الله
وفى موضع من قصة ثمود يذكر القرآن الكريم ناقة الله ويقول: وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74) [الأعراف]
ونظام الآيات يشير إلى أن الإساءة إلى الناقة ومنعها من الأكل فى أرض الله اعتبرها الله من الفساد فى الأرض.
وهنا وقفة للتأمل فإن الناقة كانت آية الله، وكذلك الإنسان آية من آيات الله، وقد منع الإساءة إليه إلا بحق، كما أن من حق الإنسان الأساسي أن يكون لديه مايسد به جوعه وتقوم عليه حياته، فإذا بلغ من قسوة بعض الفئات لطمعهم فى الازدياد من الثروات أن يدفعوا الآخرين بمخططاتهم إلى الفقر والفاقة والحرمان من أساسيات الحياة، فإن ذلك من الفساد فى الأرض، والواجب على كل من لايرضى تحول الأرض الجميلة إلى عالم البؤس والشقاء أن يكافح تلك المخططات والسياسات بكل جرأة وصمود.
السرقة والنهابة من الفساد فى الأرض
صلة الفساد فى الأرض بالجريمة المالية تظهر أيضا فى قصة يوسف عليه السلام، حيث إنه عندما وجهت تهمة السرقة إلى إخوته، قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ (73) [يوسف]
فإذا كانت السرقة من الفساد فى الأرض فما بالك بقطع الطريق ونهب أموال الناس، ويتجلى ذلك فى الآية التي نزلت فى عقوبة المحاربين ومنهم النهبة وقطاع الطريق، حيث قال تعالى:
إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [المائدة : 33]
وفى قصة ذي القرنين وصف القوم ياجوج وماجوج بالمفسدين فى الأرض حيث جاء: قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) [الكهف] فأعمال النهب التي كانوا يقومون بها بين حين وحين سميت فسادا فى الأرض.
إقامة السدود لحماية الثروات
وهناك نكتة لطيفة وهي أن القوم قد طلبوا من ذي القرنين إقامة السد بينهم وبين ياجوج وماجوج للتوقي من توغلهم ونهبهم أموالهم، ولاشك أن إقامة سد مثل هذا يتطلب جهودا جبارة وتكاليف مالية باهظة، ولكنهم احتملوا كل ذلك، لأن الخطوة مع صعوبتها كان لابد منها لأجل مستقبل آمن وحماية أكيدة للأنفس والممتلكات.
وقياسا على ذلك، إذا كانت الشعوب القوية تفرض على الشعوب الضعيفة سياسات اقتصادية تزيد فى فقرهم وتبعيتهم للغير ويتم استغلال مواردهم الاقتصادية عن طريق اتفاقيات مالية مختلفة، فإن العلاج الناجع هو ما كان قد وصف فى أمر ياجوج وماجوج، أي سد كل الثغرات التي يخشى من خلالها تسلل تلك السياسات الاستعمارية إلى البلاد، وإنها خطوة صعبة ولا ريب، وتتطلب تضحيات من الشعوب والتي بعدها يكتب لهم الاكتفاء الذاتي ويكتب لمواردهم وممتلكاتهم الحماية من أيد عابثة.
إهلاك الحرث والنسل من الفساد فى الأرض
ومن الفساد فى الأرض الإضرار بالموارد الطبيعية فى الأرض، ويشهد لذلك قوله تعالى: وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ [البقرة : 205]
فجميع السياسات الاقتصادية والنشاطات الصناعية التي تسبب الضرر إلى الطبيعة ومواردها يجب أن يعاد فيها النظر على الفور، ويدخل فى ذلك ظاهرة الاستعجال فى استغلال الموارد الطبيعية بغض النظر عما سيبقى للأجيال القادمة.
إن النظرية الاقتصادية الصحيحة هي التي تزيد فى عمران الأرض وليس فى فسادها، وإن العيب الأكبر فى النظريات الاقتصادية الحديثة أنها تخضع لرغبة استقطاب ثروات العالم إلى دولة أو مجموعة دول، وليس فى تعمير الأرض كلها، فإذا أيدت الاقتصاد الحر والتجارة الحرة فإنما لدعم اقتصادها وإذا رفعت صوتها فى صالح التدخل الحكومي فى النشاط الاقتصادي وفرض قيود على السوق فإنما لدعم اقتصادها فحسب، أما عن عمران العالم كله ورفع المستوى الاقتصادي للبشر أجمعهم، فلم يبد له أي اهتمام. أما القرآن الكريم فإنه يهتم بالأرض كلها لأن الأرض لله والإنسان خليفة من الله فى الأرض كلها.
الفساد فى الأرض يتربى على أيدي المترفين
وآفات الثراء والترف من الفساد فى الأرض، ويتجلى ذلك فى قوله تعالى: فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116) [هود] ونظام الآية يدل على الصلة الوثيقة بين الظلم والإجرام وبين الترف، فالظلم والإجرام ينشآن فى بيئة الثراء والترف، ومن ثم يؤول الأمر إلى الفساد فى الأرض. وقد شاع بين الناس فى عصر المادية الحديث، أن الثري ليس لديه خيار إلا أن يبقى ثريا، بينما الذي ليس بثري لديه خيار في أن يبقى على حاله أو يختار أن يصبح ثريا. يعني إذا بقي الفقير فقيرا فاللوم عليه أنه لماذا لم يأخذ بالخيار الآخر. بدون تعليق على صحة هذا القول وبدون تعليق على أن الاستعمار الاقتصادي الجديد هل فعلا أعطى الفقراء خيار النقلة النوعية ليصبحوا أثرياء، إلا أنه من المؤكد أن فرص التلبس بالفساد فى الأرض متاحة للأثرياء أكثر بكثير من الفقراء وهم يستغلون تلك الفرص إلا من خشي الله.
والقرآن الكريم قد ذكر للاعتبار قصة قارون الذي بغى على قومه لما أوتي من أموال وكنوز فعدّ ذلك من الفساد. إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) [القصص]
ولسيد قطب وقفة جميلة عند هذه الآيات حيث يقول:
"لقد كان قارون من قوم موسى ، فآتاه اللّه مالا كثيرا ، يصور كثرته بأنه كنوز - والكنز هو المخبوء المدخر منالمال الفائض عن الاستعمال والتداول - وبأن مفاتح هذه الكنوز تعبي المجموعة من أقوياء الرجال .. من أجل هذا بغى قارون على قومه. ولا يذكر فيم كان البغي ، ليدعه مجهلا يشمل شتى الصور. فربما بغى عليهم بظلمهم وغصبهم أرضهم وأشياءهم - كما يصنع طغاة المال في كثير من الأحيان - وربما بغى عليهم بحرمانهم حقهم في ذلك المال. حق الفقراء في أموال الأغنياء ، كي لا يكون دولة بين الأغنياء وحدهم ومن حولهم محاويج إلى شيء منه ، فتفسد القلوب ، وتفسد الحياة. وربما بغى عليهم بهذه وبغيرها من الأسباب....
«وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ» .. الفساد بالبغي والظلم. والفساد بالمتاع المطلق من مراقبة اللّه ومراعاة الآخرة.
والفساد بملء صدور الناس بالحرج والحسد والبغضاء. والفساد بإنفاق المال في غير وجهه أو إمساكه عن وجهه على كل حال. «إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ» .. كما أنه لا يحب الفرحين.[5]
الشح والربا وقلة المواساة من الفساد فى الأرض
ومن الآيات التي توضح المفهوم الاقتصادي للفساد فى الأرض، قوله تعالى:
فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38) وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40) ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) [الروم]
وقد ذهب الكثير إلى ربط الفساد فى الآية المذكورة بالشرك لقرب ذكره، إلا أن التأمل فى نظام مجموعة الآيات يوحي بأن الفساد الذي ظهر فى البر والبحر له صلة قوية أيضا ببخس حقوق الناس وفشو التعامل بالربا.
فإن أبواب الفساد فى الأرض تفتح على مصراعيها حينما تكون الغاية الوحيدة لدى الإنسان هو الزيادة فى المال، فيفر عن مسؤولياته الاجتماعية خشية أن يحدث الإنفاق فيها نقصا فى أمواله، ويجعل الأولوية للإقراض الربوي لأن ذلك يضمن الزيادة فى أمواله زيادة مضاعفة من غير مخاطر، ومثل هذا الإنسان لايعرف قلبه الرحمة بالبشر، ولا يعني شيئا بهموم من حوله ولو كان من ذوي قرابته، إنما يصف لكل محتاج وصفة واحدة تتلخص فى الاقتراض الربوي.
وفى هذه الآيات كلمة جامعة للإمام الفراهي يقول فيها: "يشير إلى أن بناء الفساد هو الشرك. ومن الشرك ينشأ حب الدنيا، والشح، وقلة المواساة والتقوى، فيجمع أسباب الفساد"[6].
فى الشركة عمران وفى البغي على الشركاء فساد
فذكر فى ثنايا القصة: وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ. وقال فى ختام القصة:أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ. فقوله: وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ. ناظر إلى قوله: كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ. أي إن بغي الخلطاء بعضهم على بعض هو من الفساد فى الأرض.والمراد بالخلطاء الذين تجمعهم شركة فى المال والمصالح من أي نوع كانت.والمعنى أن عمران الأرض قائم على أساس الشركة فى المال والمصالح وتظافر الجهود، فإذا دخل البغي وأفسد العلاقات، فإن ذلك يؤدي إلى الفساد فى الأرض، ويبطل مقصد العمران. ويؤيد ذلك ما جاء عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ مرفوعا قَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ أَنَا ثَالِثُ الشَّرِيكَيْنِ مَا لَمْ يَخُنْ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ فَإِذَا خَانَهُ خَرَجْتُ مِنْ بَيْنِهِمَا[7].
مبدأ "قد علم كل أناس مشربهم"
لقد ذكرالله تعالى فى سورة البقرة في سياق النعم التي أنعم بها على بني إسرائيل: (وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60) وفى الآية إشارة إلى أن الماء إذا تم قسمته الواضحة العادلة فلا مبرر للنزاع حول الماء والاعتداء على حصة الغير، حيث مقتضى القسمة العادلة أن يعرف كل حقه ولايتجاوزه إلى غيره.
وبناء على المبدأ المنبثق من الآية، يحق أن نقول إن الموارد الاقتصادية إذا تمت قسمتها العادلة ونالت القسمة احتراما وامتثالا من الجميع فإن ذلك يغلق بابا من أبواب الفساد فى الأرض.
وإن كانت بعض الدول ذات قوة لم تقتنع بمواردها الاقتصادية ولاسيما الطبيعية منها المتوفرة فى منطقتها وتوغلت فى مناطق أخرى وسيطرت على مواردها وحرمت أهلها منها فإن هذا الاستعمار الاقتصادي فساد فى الأرض وإن كان باسم التجارة الحرة والاستثمار الحر.
إن المبدأ المنبثق من "قد علم كل أناس مشربهم" مبدأ عظيم من رب رحيم ويجب أن يطبق على كل المستويات من مائدة طعام بسيطة إلى سياسات واتفاقيات دولية.
والجدير بالذكر أن بني إسرائيل هم أول من تم تلقينهم بهذا المبدأ، وهم مع أقرانهم أكثر الشعوب انتهاكا لحرمة هذا المبدأ، ولسان حالهم يقول: مهما انفجرت العيون وتكاثرت، فلن نسمح لأحد أن ينهل من مورد.
صلة الرحم عمران وقطع الرحم فساد
والفساد فى الأرض له صلة بقطع الرحم، وهذه الصلة واضحة جدا فى ثلاث مواضع من القرآن الكريم وهي كالتالي:
الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27) [البقرة]
وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25) [الرعد]
فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) [محمد]
ونظام الآيات يدل على أن صلة الرحم له تأثير إيجابي كبير على عمران الأرض، كما أن القطيعة إعلان بالفساد. وصلة الرحم باب عظيم من الاقتصاد الإسلامي، فإن المجتمع الذي أنشئ على الإحسان إلى الأقربين والإنفاق على المحتاجين، وقويت فيه قيمة صلة الأرحام، لا يكون فى حاجة إلى نظام التأمين الصناعي القائم فى التسويق على متاجرة الخوف، واستغلال الضعف النفسي عند البشر. فهل آن للبشرية أن تعيد النظر فيما أفسد أمرها وأوهن عظمها وأسلمها للذل والهوان؟ وهل آن لها ان تقارن بين النظامين، نظام التكافل الإسلامي الطبيعي ونظام التأمين التجاري.
ــــــ
[1]القاموس المحيط، فسد
[2]تاج العروس، فسد
[3] تفسير المنار 12/200
[4]تفسير ابن كثير: دار طيبة (6 / 199)
[5]فى ظلال القرآن (5 / 2710)
[6]تفسير الإمام عبد الحميد الفراهي تفسير سورة الروم
[7]باب فى الشركة، سنن أبي داود.
وكلمة الفساد فى الأرض له دلالات قوية، فإن الأرض وضعت للأنام، وهي المأوى الوحيد لجميع الأنام إلى يوم القيامة، فإذا كان سلوك فرد أو جماعة يسيء إلى هذا المأوى أو يؤدي إلى خرابه فلا غرابة عقلا فى أن يقوم بحكم الفطرة جميع البشر ضده وللضرب على يديه، فالقرآن الكريم حينما يقرر لسلوك أنه الفساد فى الأرض فإنما يجعل المشكلة تخص كل البشر، ويجعل الموقف نفسه ينادي البشر أجمعهم إلى المبادرة لإيجاد حل مكافح لها، ولا يوجد من البشر من يعارض هذا النداء إلا من كان له مصلحة شخصية فى المشكلة نفسها.
ولما كانت الأرض مخزنا للموارد الطبيعية ومستودعا للثروات التي بها قيام الحياة ناسب أن يكون إساءة استخدام تلك الموارد والثروات من أبرز مظاهر الفساد فى الأرض، ولذلك يرى المتتبع لكلمات القرآن الكريم أن كلمة الفساد وإن كانت تشمل المساوئ كلها إلا أن الاستخدام القرآني للكلمة يدل على أن للكلمة صلة قوية بالانحراف الاقتصادي والجرائم المالية، لاسيما إن كانت كلمة الفساد مقرونة بالأرض.
ثم فى جانب آخر نجد تصريحات من علماء اللغة بأن كلمة الفساد تطلق أكثر ما تطلق على المدلول المالي. يقول الفيروزآبادي: والفساد أخذ المال ظلما، والمفسدة ضد المصلحة، وتفاسدوا قطعوا الأرحام[1]. بينما نجد توضيحا أكثر فى تاج العروس حيث جاء: والفساد أخذ المال ظلما بغير حق، هكذا فسر مسلم البطين قوله تعالى: للذين لايريدون علوا فى الأرض ولافسادا[2].
خصوصية الفساد فى الأرض بجرائم مدين
إن صلة الكلمة بالجانب المالي تتضح جليا حين التأمل فى قصة مدين الواردة فى التنزيل الحكيم فى مواضع أربعة، في سورة الأعراف من آية 85 إلى آية 93 وفى سورة هود من آية 84 إلى آية 95 وفى سورة الشعراء من آية 176 إلى آية 190 وفى سورة العنكبوت فى الآيتين 36 و37. حيث إن كلمة الفساد فى الأرض وردت فى كل موضع من المواضع الأربعة، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على الصلة الوثيقة بين دلالة الفساد فى الأرض وبين جرائم القوم والتي كانت جرائم مالية، ولانرى مثل هذا الاطراد فى استخدام الكلمة فى أي أمة أخرى من الأمم التي ورد ذكرهم فى القرآن الكريم. وقد سمى انحرافهم المالي المتمثل فى عدم إيفائهم الكيل والميزان فى مواضع ثلاثة مقرونة بذكر الفساد في الأرض بينما فى سورة العنكبوت لم يسم الانحراف المالي بل اكتفى بذكر قوله "ولاتعثوا فى الأرض مفسدين". أي إن عنوان الانحراف الذي تورطوا فيه هو الفساد فى الأرض، كما أن عنوان الانحراف الذي وقعت فيه قوم لوط هو الفاحشة والإجرام.
إن الخطأ الأكبر الذي وقعت فيه قوم شعيب هو نقص المكيال والميزان، والنية من وراء النقص هو الحصول على مال الغير من غير رضى منه ولا مقابل يدفعه، ومن ثم الإخلال بثقة الناس فى الميزان الذي وضعها الرحمن رحمة بالعباد حتى تستقيم لهم الحياة، وقد اتفق العقلاء على أن الحياة قيامها المال، وأن العمران أساسه الميزان، فإذا كان الاعتداء على المال اختلت الحياة وإذا كان الإضرار بالميزان تضرر العمران.
ونبي الله شعيب عليه السلام هو الاسم الأول الذي ورد إلينا من خلال تاريخ موثق لإصلاح النظام المالي والاقتصادي، وذكر القرآن الكريم قصته مرارا وبتفصيل يدل على أن القصة تحمل فى طيها مساحة كبيرة للتأمل لمن يتطلع إلى الفوز بحكمة القرآن. وحقيق بمن يريد أن يتقدم بمشروع إصلاح النظام الاقتصادي أن يجعل مثال شعيب الحجر الأساس لكل محاولاته.
الحرية المطلقة تفتح أبوب الفساد
ومن تأمل فى الأزمات المالية المتتالية فى زماننا وجد أنها تعود إلى إعطاء رواد السوق حرية مطلقة من القيم الأخلاقية، وللعلامة أحمد رشيد رضا وقفة جميلة عند قصة مدين فى هذا الخصوص حيث قال:
"في قصَّة شعيب مع قومه مسأَلةٌ من أَهمِّ مسائل الاجتماع في العالم المدنيِّ، وهي التَّنازع بين رجال المال ورجال الإِصلاح في حرِّيَّة الكسب المطلقة، وتقييد الكسب بالحلال ومراعاة الفضيلة فيه، فقوم شعيبٍ كانوا يستبيحون تنمِية الثَّروة بجمِيع الطُّرقِ الممكنة حتَّى التَّطفيف في المكيال والميزان، فإِذا كالوا أَو وزنوا للنَّاس نقصوا وأَخسروا، وإِذا اكتالوا عليهم لأَنفسهم استوفوا وأكثروا، وكانوا يبخسون النَّاس أشياءهم في كلِّ أَنواعها، وكان شعيبٌ - عليه السَّلام - ينهاهم عن ذلك ويوصِيهم بالقسط فيه، واجتناب أكل أموال النَّاس بالباطل والقناعة بالحلال، وكانت حجَتهم حرِّيَّة الكسب مقرونةً بحرِّيَّة الِاعتقاد، كما حكاه اللهُ عنهم بقوله: - قالوا يا شعيب أَصلاتك تأْمرك أَن نترك ما يعبد آباؤُنا أَو أَن نفعل في أَموالنا ما نشاء - 87، ... وما زال التَّنازع الْماليُّ أَعقد مشاكل الاجتماع، وزعم بعض علماء الاقتصاد أَنَّ الإِصلاح الماليَّ أَعظم أُسس الإِسلام، ولأَجله عادى كبراء قريْشٍ بعثة محمَّدٍ - عليه الصَّلاة والسَّلام –[3]
إذا اختلت الموازين فانتظر الويلات
إن التأمل فى قصة مدين يرشدنا إلى نقطة مهمّة، وهي أنهم استحقوا العذاب المستأصل لأنهم أصبحوا الخطر الأعظم على عمران الأرض، وتحديا خطيرا لمسيرة المدنية، لما ساد الفساد المالي عليهم أجمعين، وغدا هو العرف والقانون، فإن تلبس بعض أفراد المجتمع فى نقص المكيال والميزان أمر هين مادام ذلك جريمة فى نظر المجتمع، وسيئة فى قانون العرف، حيث إن المجتمع والقائمين عليه سوف يقومون بالضرب على أيدي هؤلاء المجرمين، كما نرى اليوم فى كل دول العالم، بغض النظر عن الدين والنظام، حيث توجد فى كل دولة القوانين الصريحة والإجراءات الحاسمة لمكافحة الغش التجاري.
أما إذا اختلت الموازين العامة وأصبح الغش هو العرف، والأمانة هي السذاجة والغباء، وأصبح موضوع السخرية والملام من أنكر ذلك، فهناك غضب الله والعقاب الشديد.
فينبغي أن تحذر البشرية من الويلات والأزمات فى كل ترخيص قانوني لأي تعامل مالي يؤدي بالبشرية إلى الضرر ويصدق عليه الفساد فى الأرض وما أكثر ذلك فى زماننا من البيوع القصيرة والمستقبليات والاتجار بالمخاطر وتجارة الديون إلى تعاملات لانهاية لها نالت ترخيصا قانونيا، ففتحت أبواب الفساد فى الأرض.
جرائم قوم ثمود المالية
لقد ذكر الفساد فى الأرض في قصة ثمود، ومع أن القرآن الكريم لم ينص على أنهم كانوا منغمسين فى الفساد المالي، إلا أن ابتلاءهم بالناقة يدل على شدة حرصهم على الدنيا، وإفراطهم فى حب المال، وقد ذهب المفسرون فى تفسيرقوله تعالى: وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (48) [النمل] إلى أن هؤلاء الرهط كانوا قد قطعوا شوطا كبيرا فى مخادعة الناس فى أموالهم، فقد جاء فى تفسير ابن كثير:
قال عبد الرزاق: أنبأنا يحيى بن ربيعة الصنعاني، سمعت عطاء -هو ابن أبي رباح -يقول: {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ } قال: كانوا يقرضون الدراهم، يعني: أنهم كانوا يأخذون منها، وكأنهم كانوا يتعاملون بها عددًا، كما كان العرب يتعاملون.
وقال الإمام مالك، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب أنه قال: قَطْع الذهب والورق من الفساد في الأرض[4]. ولاشك أن الذين يتجرأون على قرض الدراهم ويستسيغون خداع الناس لايقفون عند قرض الدراهم، إنما يتخذون كل وسيلة لتلبية رغباتهم، وكان ابن كثير موفقا عندما قال:والغرض أن هؤلاء الكفرة الفسقة، كان من صفاتهم الإفساد في الأرض بكل طريق يقدرون عليها، فمنها ما ذكره هؤلاء الأئمة منها ما لم يذكروه.
أكل السحت من الفساد فى الأرض
وقد تحدث القرآن الكريم عن جرائم بني إسرائيل وقال: "وترى كثيرا منهم يسارعون فى الإثم والعدوان وأكلهم السحت...(المائدة62) "إلى أن قال:" ويسعون فى الأرض فسادا والله لايحب المفسدين"(المائدة 64) فإن الإعطاء عن طيب القلب بر وإنفاق، بينما الأخذ من غير رضا سحت وعدوان، وبالأول تعمر الأرض وتتزين وبالأخير يظهر الفساد فى الأرض. ومن أدمن السحت والعدوان فلا وازع يردعه ولا حد يمنعه من المسارعة فيهما. وكان اليهود وأقرانهم مسارعين فى العدوان وأكل السحت، إلا أن وسائل التقنية الحديثة السريعة زادت من مسارعتهم هذه، وبالتالي كبرت فى حجم انتشارالفساد فى الأرض.
لاتمنعوا خلق الله من الأكل فى أرض الله
وفى موضع من قصة ثمود يذكر القرآن الكريم ناقة الله ويقول: وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74) [الأعراف]
ونظام الآيات يشير إلى أن الإساءة إلى الناقة ومنعها من الأكل فى أرض الله اعتبرها الله من الفساد فى الأرض.
وهنا وقفة للتأمل فإن الناقة كانت آية الله، وكذلك الإنسان آية من آيات الله، وقد منع الإساءة إليه إلا بحق، كما أن من حق الإنسان الأساسي أن يكون لديه مايسد به جوعه وتقوم عليه حياته، فإذا بلغ من قسوة بعض الفئات لطمعهم فى الازدياد من الثروات أن يدفعوا الآخرين بمخططاتهم إلى الفقر والفاقة والحرمان من أساسيات الحياة، فإن ذلك من الفساد فى الأرض، والواجب على كل من لايرضى تحول الأرض الجميلة إلى عالم البؤس والشقاء أن يكافح تلك المخططات والسياسات بكل جرأة وصمود.
السرقة والنهابة من الفساد فى الأرض
صلة الفساد فى الأرض بالجريمة المالية تظهر أيضا فى قصة يوسف عليه السلام، حيث إنه عندما وجهت تهمة السرقة إلى إخوته، قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ (73) [يوسف]
فإذا كانت السرقة من الفساد فى الأرض فما بالك بقطع الطريق ونهب أموال الناس، ويتجلى ذلك فى الآية التي نزلت فى عقوبة المحاربين ومنهم النهبة وقطاع الطريق، حيث قال تعالى:
إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [المائدة : 33]
وفى قصة ذي القرنين وصف القوم ياجوج وماجوج بالمفسدين فى الأرض حيث جاء: قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) [الكهف] فأعمال النهب التي كانوا يقومون بها بين حين وحين سميت فسادا فى الأرض.
إقامة السدود لحماية الثروات
وهناك نكتة لطيفة وهي أن القوم قد طلبوا من ذي القرنين إقامة السد بينهم وبين ياجوج وماجوج للتوقي من توغلهم ونهبهم أموالهم، ولاشك أن إقامة سد مثل هذا يتطلب جهودا جبارة وتكاليف مالية باهظة، ولكنهم احتملوا كل ذلك، لأن الخطوة مع صعوبتها كان لابد منها لأجل مستقبل آمن وحماية أكيدة للأنفس والممتلكات.
وقياسا على ذلك، إذا كانت الشعوب القوية تفرض على الشعوب الضعيفة سياسات اقتصادية تزيد فى فقرهم وتبعيتهم للغير ويتم استغلال مواردهم الاقتصادية عن طريق اتفاقيات مالية مختلفة، فإن العلاج الناجع هو ما كان قد وصف فى أمر ياجوج وماجوج، أي سد كل الثغرات التي يخشى من خلالها تسلل تلك السياسات الاستعمارية إلى البلاد، وإنها خطوة صعبة ولا ريب، وتتطلب تضحيات من الشعوب والتي بعدها يكتب لهم الاكتفاء الذاتي ويكتب لمواردهم وممتلكاتهم الحماية من أيد عابثة.
إهلاك الحرث والنسل من الفساد فى الأرض
ومن الفساد فى الأرض الإضرار بالموارد الطبيعية فى الأرض، ويشهد لذلك قوله تعالى: وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ [البقرة : 205]
فجميع السياسات الاقتصادية والنشاطات الصناعية التي تسبب الضرر إلى الطبيعة ومواردها يجب أن يعاد فيها النظر على الفور، ويدخل فى ذلك ظاهرة الاستعجال فى استغلال الموارد الطبيعية بغض النظر عما سيبقى للأجيال القادمة.
إن النظرية الاقتصادية الصحيحة هي التي تزيد فى عمران الأرض وليس فى فسادها، وإن العيب الأكبر فى النظريات الاقتصادية الحديثة أنها تخضع لرغبة استقطاب ثروات العالم إلى دولة أو مجموعة دول، وليس فى تعمير الأرض كلها، فإذا أيدت الاقتصاد الحر والتجارة الحرة فإنما لدعم اقتصادها وإذا رفعت صوتها فى صالح التدخل الحكومي فى النشاط الاقتصادي وفرض قيود على السوق فإنما لدعم اقتصادها فحسب، أما عن عمران العالم كله ورفع المستوى الاقتصادي للبشر أجمعهم، فلم يبد له أي اهتمام. أما القرآن الكريم فإنه يهتم بالأرض كلها لأن الأرض لله والإنسان خليفة من الله فى الأرض كلها.
الفساد فى الأرض يتربى على أيدي المترفين
وآفات الثراء والترف من الفساد فى الأرض، ويتجلى ذلك فى قوله تعالى: فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116) [هود] ونظام الآية يدل على الصلة الوثيقة بين الظلم والإجرام وبين الترف، فالظلم والإجرام ينشآن فى بيئة الثراء والترف، ومن ثم يؤول الأمر إلى الفساد فى الأرض. وقد شاع بين الناس فى عصر المادية الحديث، أن الثري ليس لديه خيار إلا أن يبقى ثريا، بينما الذي ليس بثري لديه خيار في أن يبقى على حاله أو يختار أن يصبح ثريا. يعني إذا بقي الفقير فقيرا فاللوم عليه أنه لماذا لم يأخذ بالخيار الآخر. بدون تعليق على صحة هذا القول وبدون تعليق على أن الاستعمار الاقتصادي الجديد هل فعلا أعطى الفقراء خيار النقلة النوعية ليصبحوا أثرياء، إلا أنه من المؤكد أن فرص التلبس بالفساد فى الأرض متاحة للأثرياء أكثر بكثير من الفقراء وهم يستغلون تلك الفرص إلا من خشي الله.
والقرآن الكريم قد ذكر للاعتبار قصة قارون الذي بغى على قومه لما أوتي من أموال وكنوز فعدّ ذلك من الفساد. إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) [القصص]
ولسيد قطب وقفة جميلة عند هذه الآيات حيث يقول:
"لقد كان قارون من قوم موسى ، فآتاه اللّه مالا كثيرا ، يصور كثرته بأنه كنوز - والكنز هو المخبوء المدخر منالمال الفائض عن الاستعمال والتداول - وبأن مفاتح هذه الكنوز تعبي المجموعة من أقوياء الرجال .. من أجل هذا بغى قارون على قومه. ولا يذكر فيم كان البغي ، ليدعه مجهلا يشمل شتى الصور. فربما بغى عليهم بظلمهم وغصبهم أرضهم وأشياءهم - كما يصنع طغاة المال في كثير من الأحيان - وربما بغى عليهم بحرمانهم حقهم في ذلك المال. حق الفقراء في أموال الأغنياء ، كي لا يكون دولة بين الأغنياء وحدهم ومن حولهم محاويج إلى شيء منه ، فتفسد القلوب ، وتفسد الحياة. وربما بغى عليهم بهذه وبغيرها من الأسباب....
«وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ» .. الفساد بالبغي والظلم. والفساد بالمتاع المطلق من مراقبة اللّه ومراعاة الآخرة.
والفساد بملء صدور الناس بالحرج والحسد والبغضاء. والفساد بإنفاق المال في غير وجهه أو إمساكه عن وجهه على كل حال. «إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ» .. كما أنه لا يحب الفرحين.[5]
الشح والربا وقلة المواساة من الفساد فى الأرض
ومن الآيات التي توضح المفهوم الاقتصادي للفساد فى الأرض، قوله تعالى:
فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38) وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40) ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) [الروم]
وقد ذهب الكثير إلى ربط الفساد فى الآية المذكورة بالشرك لقرب ذكره، إلا أن التأمل فى نظام مجموعة الآيات يوحي بأن الفساد الذي ظهر فى البر والبحر له صلة قوية أيضا ببخس حقوق الناس وفشو التعامل بالربا.
فإن أبواب الفساد فى الأرض تفتح على مصراعيها حينما تكون الغاية الوحيدة لدى الإنسان هو الزيادة فى المال، فيفر عن مسؤولياته الاجتماعية خشية أن يحدث الإنفاق فيها نقصا فى أمواله، ويجعل الأولوية للإقراض الربوي لأن ذلك يضمن الزيادة فى أمواله زيادة مضاعفة من غير مخاطر، ومثل هذا الإنسان لايعرف قلبه الرحمة بالبشر، ولا يعني شيئا بهموم من حوله ولو كان من ذوي قرابته، إنما يصف لكل محتاج وصفة واحدة تتلخص فى الاقتراض الربوي.
وفى هذه الآيات كلمة جامعة للإمام الفراهي يقول فيها: "يشير إلى أن بناء الفساد هو الشرك. ومن الشرك ينشأ حب الدنيا، والشح، وقلة المواساة والتقوى، فيجمع أسباب الفساد"[6].
فى الشركة عمران وفى البغي على الشركاء فساد
لقد ذكر الفساد فى الأرض فى قصة داود عليه السلام، وهناك أيضا نجد أن له صلة بالفساد المالي، يقول تعالى: وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ (22) إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23) قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (24) فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (25) يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28) [ص]
فذكر فى ثنايا القصة: وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ. وقال فى ختام القصة:أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ. فقوله: وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ. ناظر إلى قوله: كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ. أي إن بغي الخلطاء بعضهم على بعض هو من الفساد فى الأرض.والمراد بالخلطاء الذين تجمعهم شركة فى المال والمصالح من أي نوع كانت.والمعنى أن عمران الأرض قائم على أساس الشركة فى المال والمصالح وتظافر الجهود، فإذا دخل البغي وأفسد العلاقات، فإن ذلك يؤدي إلى الفساد فى الأرض، ويبطل مقصد العمران. ويؤيد ذلك ما جاء عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ مرفوعا قَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ أَنَا ثَالِثُ الشَّرِيكَيْنِ مَا لَمْ يَخُنْ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ فَإِذَا خَانَهُ خَرَجْتُ مِنْ بَيْنِهِمَا[7].
مبدأ "قد علم كل أناس مشربهم"
لقد ذكرالله تعالى فى سورة البقرة في سياق النعم التي أنعم بها على بني إسرائيل: (وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60) وفى الآية إشارة إلى أن الماء إذا تم قسمته الواضحة العادلة فلا مبرر للنزاع حول الماء والاعتداء على حصة الغير، حيث مقتضى القسمة العادلة أن يعرف كل حقه ولايتجاوزه إلى غيره.
وبناء على المبدأ المنبثق من الآية، يحق أن نقول إن الموارد الاقتصادية إذا تمت قسمتها العادلة ونالت القسمة احتراما وامتثالا من الجميع فإن ذلك يغلق بابا من أبواب الفساد فى الأرض.
وإن كانت بعض الدول ذات قوة لم تقتنع بمواردها الاقتصادية ولاسيما الطبيعية منها المتوفرة فى منطقتها وتوغلت فى مناطق أخرى وسيطرت على مواردها وحرمت أهلها منها فإن هذا الاستعمار الاقتصادي فساد فى الأرض وإن كان باسم التجارة الحرة والاستثمار الحر.
إن المبدأ المنبثق من "قد علم كل أناس مشربهم" مبدأ عظيم من رب رحيم ويجب أن يطبق على كل المستويات من مائدة طعام بسيطة إلى سياسات واتفاقيات دولية.
والجدير بالذكر أن بني إسرائيل هم أول من تم تلقينهم بهذا المبدأ، وهم مع أقرانهم أكثر الشعوب انتهاكا لحرمة هذا المبدأ، ولسان حالهم يقول: مهما انفجرت العيون وتكاثرت، فلن نسمح لأحد أن ينهل من مورد.
صلة الرحم عمران وقطع الرحم فساد
والفساد فى الأرض له صلة بقطع الرحم، وهذه الصلة واضحة جدا فى ثلاث مواضع من القرآن الكريم وهي كالتالي:
الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27) [البقرة]
وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25) [الرعد]
فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) [محمد]
ونظام الآيات يدل على أن صلة الرحم له تأثير إيجابي كبير على عمران الأرض، كما أن القطيعة إعلان بالفساد. وصلة الرحم باب عظيم من الاقتصاد الإسلامي، فإن المجتمع الذي أنشئ على الإحسان إلى الأقربين والإنفاق على المحتاجين، وقويت فيه قيمة صلة الأرحام، لا يكون فى حاجة إلى نظام التأمين الصناعي القائم فى التسويق على متاجرة الخوف، واستغلال الضعف النفسي عند البشر. فهل آن للبشرية أن تعيد النظر فيما أفسد أمرها وأوهن عظمها وأسلمها للذل والهوان؟ وهل آن لها ان تقارن بين النظامين، نظام التكافل الإسلامي الطبيعي ونظام التأمين التجاري.
ــــــ
[1]القاموس المحيط، فسد
[2]تاج العروس، فسد
[3] تفسير المنار 12/200
[4]تفسير ابن كثير: دار طيبة (6 / 199)
[5]فى ظلال القرآن (5 / 2710)
[6]تفسير الإمام عبد الحميد الفراهي تفسير سورة الروم
[7]باب فى الشركة، سنن أبي داود.