الجانب السلوكي في تفسير الشيخ ابن عثيمين رحمه الله

إنضم
02/04/2003
المشاركات
1,318
مستوى التفاعل
0
النقاط
36
الاهتمامُ بإصلاحِ النفسِ وتهذيبها وتزكيتها مِن مَقاصدِ القرآنِ الكريمِ ، ومِن سِيْمَا العلماءِ الربّانيّينَ ؛ ولذا فقد نالَ هذا الجانبُ عنايةَ الشيخِ رحمه الله في تفسيره ، وتجلَّى ذلكَ في أمرينِ :
الأمر الأول : الفوائد المسْلَكيَّةُ مِن الآياتِ
بَرَزَ هذا الجانبُ عند تفسيرهِ للآياتِ التي أوردها شيخُ الإسلامِ ابن تيميةَ رحمه الله في العقيدةِ الواسطيةِ ، فبعدَ تفسيرها وبيانِ معناها يقول : الفوائدُ المسلكيةُ مِن الآيات .
ومِن أمثلةِ ذلكَ :
عند تفسيرهِ للآياتِ الواردةِ في إثباتِ صفةِ المحبّةِ قالَ :" وهُنَا سُؤالانِ :
الأول : بماذا يَنالُ الإنسانُ مَحبّةَ الله  ؟ " ثُمَّ ذكرَ جوابهُ .
" السؤالُ الثاني : ما هي الآثارُ المسلكيةُ التي يستلزمها ما ذُكِر ؟
والجوابُ :
أولاً : قولهُ :{ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}(البقرة: من الآية195) : يقتضي أنْ نُحْسِنَ ، وأنْ نحرصَ على الإحسانِ ، لأنّ الله يُحِبُّه ، وكُلُّ شيءٍ يُحِبُّه الله ،فإنَّنا نحرصُ عليهِ .
ثانياً : قوله :{ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}(الحجرات:من الآية9) : يقتضي أنْ نعدلَ ونحرصَ على العدلِ .
ثالثاً : قوله :{ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ}(التوبة:من الآية7) : يقتضي أنْ نَتَّقِيَ الله  ، لا نَتَّقِي المخلوقينَ بحيث إذا كانَ عندنا مَن نستحي مِنه مِن الناسِ ، تَرَكْنَا المعاصي ، وإذا لم يكنْ ، عَصَيْنَا ، فالتقوى أنْ نَتَّقِيَ الله  ،ولا يُهمّك الناس . أصلحْ ما بينكَ وبينَ الله، يُصْلِحْ الله ما بينكَ وبينَ الناسِ . أنظر يا أخي إلى الشيءِ الذي بينكَ وبين الله ، يُصْلِح الله ما بينكَ وبينَ الناسِ . أنظر يا أخي إلى الشيءِ الذي بينكَ وبينَ رَبِّكَ ، ولا يُهمَّكَ غير ذلكَ ، {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا}(الحج:من الآية38). افعلْ ما يقتضيهِ الشرعُ ، وستكونُ لكَ العاقبة .
رابعاً : يقولُ الله تعالى{ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ }(البقرة:من الآية222)،وهذهِ تَستوجِبُ أنْ أُكْثِرَ التوبةَ إلى الله  ، أُكْثِرَ أنْ أرجعَ إلى الله بقلبي وقالبي ، ومُجرَّدُ قَوْلِ الإنسان : أتوبُ إلى الله . هذا قد لا يَنفعُ ، لكنْ تَستحْضِر وأنتَ تقولُ : أتوبُ إلى الله : أنّ بينَ يديكَ مَعاصِي ، تَرجِعُ إلى الله مِنها وتَتُوب ، حتّى تنالَ بذلكَ مَحبَّةَ الله .
{ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ}(البقرة: من الآية222) : إذا غسلتَ ثوبكَ مِن النجاسةِ ، تُحِسُّ بأنّ الله أحبَّكَ ؛ لأنّ الله يُحِبُّ المتطهـرين . إذا توضَّأتَ ، تُحِسُّ بأنّ الله أحبَّكَ ؛ لأنكَ تَطهَّرْتَ . إذا اغتسلتَ ، تُحِسُّ بأنّ الله أحبَّكَ ، لأنّ الله يُحِبُّ المتطهرين .
ووالله ، إنَّنَا لغافلونَ عن هذهِ المعاني ، أكثرُ ما نستعملُ الطهارةَ مِن النجاسةِ أو مِن الأحداثِ ، لأنّها شرطٌ لصحةِ الصلاةِ ، خَوفًا مِن أنْ تَفسُدَ صَلاتُنا ، لكنْ يغيبُ عَنَّا كثيراً أنْ نَشعُرَ بأنّ هذا قُرْبَةٌ وسببٌ لمحبةِ الله لنا ، لو كُنَّا نستحضرُ عندما يغسلُ الإنسانُ نقطةَ بولٍ أصابتْ ثَوْبَهُ أنّ ذلكَ يجلبُ مَحَبَّةَ الله لهُ ، لَحَصَّلْنَا خيراً كثيراً ، لكنّنا في غفلةٍ .
خامساً : قوله : {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } (آل عمران: من الآية31) : هذا أيضاً يستوجبُ أنْ نحرصَ غايةَ الحرصِ على اتّباعِ النبي  ، بحيث نَتَرَسَّمُ طريقهُ ، لا نخرج مِنه ، أو نَقْصُر عنهُ ، ولا نزيد ، ولا ننقص .وشُعورنا هذا يَحمِينا مِن البدعِ ، ويَحمِينا مِن التقصيرِ ، ويَحمِينا مِن الزيادةِ والغُلُوِّ، ولو أنَّنَا نشعرُ بهذهِ الأمورِ ؛ فانظر كيفَ يكونُ سُلوكُنَا وآدَابُنَا وأخْلاقُنَا وعِبادَاتُنَا.
سادساً : قولـه : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ }(المائدة:من الآية54) ، نُحَذَّرُ بهِ مِن الرِّدَّةِ عن الإسلامِ ، التي مِنها تَرْكُ الصلاةِ مثلاً؛ فإذا عَلِمْنَا أنّ الله يُهدِّدُنَا بأنّنا إنْ ارْتَدَدْنَا عن دِيننَا ،أهْلَكَنَا الله ، وأَتَى بقومٍ يُحِبُّهُم ويُحِبُّونَه، ويقومونَ بواجبهم نحو رَبِّهِمْ ، فإننا نُلازم طاعةَ الله والابتعادَ عن كُلِّ ما يُقَرِّبُ للرِّدَّةِ .
سابعاً : قوله{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ}(الصف:4)
إذا آمَنَّا بهذهِ المحبَّةِ ، فَعَلْنَا هذهِ الأسبابَ الخمسة التي تَستلزِمُهَا وتُوجِبُهَا : القتال ، وعدمُ التوانِي ، والإخلاصُ ؛ بأنْ يكونَ في سبيلِ الله ، أنْ يَشُدَّ بعضنا بعضاً كأنّنا بنيان ، أنْ نُحكِمَ الرابطةَ بيننا إحكاماً قويًّا كالبنيانِ المرصوص ، أنْ نَصُفَّ ، وهذا يَقتضِي التساوي حِسًّا ، حتّى لا تختلفَ القلوبُ ، وهو مما يُؤكِّد الأُلْفَةَ ، والإنسانُ إذا رَأَى واحدًا عن يمينهِ وواحدًا عن يسارهِ ، يَقْوَى على الإقدامِ ، لكنْ لو يُحيطونَ بهِ مِن جميعِ الجوانبِ ، فَسَتَشْتَدُّ هِمَّتُه .
فصارَ في هذهِ الآياتِ ثلاثةُ مباحثَ :
1- إثباتُ المحبةِ بالأدلّةِ السمعيّةِ .
2- أسبابها .
3- الآثارُ المسلكيةُ في الإيمانِ بها ".( )
وعند تفسيره لآياتِ الصِّفاتِ المنْفِيَّةِ في تَنـزِيهِ الله ونَفْيِ المِثْلِ عنه ؛ قال :" والذي نستفيدهُ مِن الناحيةِ المسلكيّةِ في هذه الآياتِ :
أولاً : في قوله:{تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالأِكْرَامِ}(الرحمن:78) : إذا عَلِمْنَا أنّ الله تعالى مَوصُوفٌ بالجلالِ ، فإنّ ذلكَ يَستوجِبُ أنْ نُعظِّمَهُ ، وأنّ نُجِلَّهُ .
وإذا عَلِمْنَا أنّه مَوصُوفٌ بالإكرامِ فإنّ ذلكَ يَستوجِبُ أنْ نَرْجُوَ كَرَمَهُ وفَضْلَهُ .وبذلكَ نُعظِّمَهُ بما يستحقّه مِن التعظيمِ والتكريم .
ثانياً : قولهُ :{ فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ}(مريم:من الآية65) ، فالفوائدُ المسلكيةُ في ذلكَ هو أنْ يعبدَ العبدُ رَبَّهُ ، ويَصطبِرَ للعبادةِ ، لا يملُّ ، ولا يتعبُ ، ولا يضجرُ ، بلْ يصبرُ عليها صَبْرَ القرينِ لقَرينهِ في المبارزةِ في الجهاد .
ثالثاً : قوله :{ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً}(مريم: من الآية65) ،{وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} (الاخلاص:4) ، { فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً }(البقرة:من الآية22) ، ففيها تَنْزِيهُ لله  ، وأنّ الإنسانَ يشعرُ في قَلبهِ بأنّ الله تعالى مُنَزَّهٌ عن كُلِّ نَقْصٍ ، وأنّه لا مَثِيلَ لهُ ، ولا نِدَّ لَهُ ، وبهذا يُعظِّمُهُ حَقَّ تَعظيمهِ بِقدْرِ استطاعتهِ .
رابعاً : قوله :{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً }(البقرة:من الآية165) ، فَمِنْ فوائدها مِن الناحيةِ المسلكيّةِ : أنّه لا يجوزُ للإنسانِ أنْ يَتَّخِذَ أحدًا مِن الناسِ مَحْبُوبًا كَمَحَبَّةِ الله ، وهذهِ تُسمَّي المحبَّة مَع الله ".( )
وعند تفسيره للآياتِ الدَّالَّةِ على نُزولِ القرآنِ قال :"
ما نستفيدهُ مِن الناحية المسلكيّةِ مِن هذه الآيات :
نستفيد أنّنا إذا عَلِمْنَا أنّ هذا القرآنَ تَكلَّم بهِ رَبُّ العالمينَ ؛ أَوْجَبَ لنا ذلكَ تَعظِيمَ هذا القرآنِ ، واحترامَهُ ، وامتثالَ ما جاءَ فيهِ مِن الأوامـرِ ، وتركَ ما فيهِ مِن المنهيـاتِ والمحذوراتِ ، وتصديقَ ما جاءَ فيهِ مِن الأخبارِ عن الله تعالى وعن مَخلوقاتِهِ السابقةِ واللاحقة ".( )
وكما بَرَزَ هذا الجانبُ في شرحهِ للآياتِ الواردةِ في العقيدة الواسطيّة ؛ فقد تعرّضَ لهُ في تفسيرهِ ، ومِن أمثلته :
عند تفسيره لقولـه تعالى : {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً} (النساء:126)
ذكرَ مِن فوائدها :" إحاطـةُ الله بكلِّ شيءٍ لقولهِ { وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً} ويترتّبُ على هذه الفائدةِ فائدةٌ مَسلكيّةٌ مُهِمّةٌ وهي : أنّكَ إذا عَلِمْتَ إحاطةَ الله بكلِّ شيءٍ خِفْتَ مِنه وخَشِيتَهُ وراقبتهُ ؛ لأنّه مَهْمَا كُنتَ في أيِّ مكانٍ فإنّ الله مُحيطٌ بِكَ ، فإذا آمنتَ بهذا خِفْتَ رَبَّ العالمين المحيط بكلِّ شيءٍ ، وينبني على ذلكَ خَوْفُ الله بالقلبِ ؛ لأنّ الله مُحيطٌ حتّى بقلبكَ .
يتبع إن شاء الله
 
الأمر الثاني : جانبُ الإرشاداتِ والتوجيهاتِ لطالبِ العلمِ
لقد كانَ الشيخُ رحمه الله يُلقِي تفسيرهُ على طُلاّبِهِ ، فكانَ يستغلُّ ذلكَ بتذكيرهم بما تدلُّ عليه الآياتُ المفسَّرةُ ، أو بما تُشِير إليه مِن الإرشاداتِ والتوجيهاتِ ؛ رغبةً مِنه رحمه الله في تهذيبِ سُلوكِهم ، وحثِّهم على العلمِ ، والتخَلُّقِ بأخلاقهِ ، ومِن الأمثلةِ على ذلكَ :
1 – توجيهاته بخصوصِ الفتوى والإفتاء أحكامًا وآدابًا .
كثيرًا ما تعرّضَ الشيخُ رحمه الله لهذا الأمرِ نظرًا لأهمّيتهِ ؛ إذْ هو يعلمُ أنّ مَن أمَامَهُ سيكونُ مِن أهلِ الفتوى يومًا ما ، إنْ استمرّ في الطلبِ ولم ينقطع .
فمثلاً عند تفسيره لقوله تعالى:{وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (البقرة:42)
ذكرَ مِن فوائدها :" تحريمُ كِتمان الحقِّ ؛ لقوله تعالى :{ وَتَكْتُمُوا }؛ ولكن هـلْ يُقال : إنّ الكِتمَانَ لا يكونُ إلا بعدَ طَلَبٍ ؟
الجواب : نعم ، لكن الطلبَ نَوعانِ : طلبٌ بلسانِ المقالِ ؛ وطلبٌ بلسانِ الحالِ ؛ فإذا جاءكَ شخصٌ يقولُ : ما تقولُ في كذا ، وكذا : فهذا طلبٌ بلسانِ المقالِ ؛ وإذا رأيتَ الناسَ قد انْغَمَسُوا في مُحَرَّمٍ : فبيانهُ مطلوبٌ بلسانِ الحالِ ؛ وعلى هذا فيجبُ على الإنسانِ أنْ يُبَيِّنَ المنكرَ ، ولا ينتظرَ حتَّى يُسألَ ؛ وإذا سُئِلَ ولم يُجبْ لكونهِ لا يَعلم فلا إثم عليهِ ؛ بلْ هذا هو الواجبُ ؛ لقولهِ تعالى : {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ }(الاسراء:من الآية36). هذه واحدة .
ثانياً : إذا رَأَى مِن المصلحةِ ألا يُبَيِّنَ فلا بأسَ أنْ يَكْتُمَ كما جاءَ في حديثِ عليِّ بن أبي طالب  :" حَدِّثُوا الناسَ بما يَعرفُون ؛ أَتُحِبُّونَ أنْ يُكذَّبَ الله ورسوله "( ) ؛ وقالَ ابنُ مَسعودٍ  : "إنّك لنْ تُحدِّثَ قَومًا حَديثًا لا تَبلُغُهُ عُقولهم إلا كانَ لبعضهم فتنةً "( ) ؛ فإذا رأيتَ مِن المصلحةِ ألاَّ تُبَيِّنَ فلا تُبَيِّنْ ولا لَوْمَ عليكَ .
ثالثاً : إذا كانَ قَصْدُ السائلِ الامتحانَ ، أو قَصْدُهُ تَتَبُّعَ الرُّخَصِ ، أو ضربُ أقوالِ العلماءِ بعضها ببعضٍ . وأنتَ تَعلمُ هذا ، فَلَكَ أنْ تَمْتَنِعَ ؛ الامتحانُ أنْ يَأْتِيَ إليكَ ، وتعرفُ أنّ الرجلَ يَعرفُ المسألةَ ، لكنْ سَأَلَكَ لأجلِ أنْ يَمْتَحِنَكَ : هلْ أنتَ تَعرِفُهَا ، أو لا ؛ أو يُرِيدُ أنْ يَأخُذ مِنكَ كَلامًا لِيَشِيَ بهِ إلى أحدٍ ، ويَنقلهُ إلى أحدٍ : فَلَكَ أنْ تَمْتَنِعَ ؛ كذلكَ إذا عَلِمْتَ أنّ الرجل يَتَتَبَّعُ الرُّخَصَ ، فيأتي يَسألُكَ يقول : سألتُ فُلاناً ، وقالَ : هذا حَرَامٌ . وأنتَ تَعرفُ أنّ المسؤولَ رجلٌ عالِمٌ ليسَ جَاهِلاً : فَحينئذٍ لكَ أنْ تَمْتَنِعَ عن إِفْتَائِهِ ؛ أمّا إذا كانَ المسؤولُ رَجُلاً تَعرفُ أنّه ليسَ عندهُ عِلْمٌ . إمّا مِن عامّةِ الناسِ ، أو مِن طلبةِ العلمِ الذين لم يبلغوا أنْ يكونوا مِن أهلِ الفتوى : فَحينئذٍ يَجِبُ عليكَ أنْ تُفْتِيَهُ ؛ لأنّه لا حُرْمَةَ لفتوى مَن أَفْتَاهُ ؛ أمّا لو قالَ لكَ : أنا سَألتُ فُلاناً ، ولَكِنِّي كُنت أطلبكَ ، ولم أَجِدْكَ ، وللضرورةِ سألتُ فُلاناً ؛ لكن لما جاءَ الله بكَ الآنَ أَفْتِنِي : فَحينئذٍ يَجِبُ عليكَ أنْ تُفْتِيَهُ ؛ لأنّ حالَ هذا الرجلِ كأنّه يقولُ : أنا لا أطمئنُ إلا لِفَتْوَاكَ ؛ وخلاصةُ القولِ أنّه لا يَجِبُ عليكَ الإفتاءُ إلاَّ إذا كانَ المسْتَفْتِي مُسْتَرْشِدًا ؛ لأنّ كِتمانَ الحقِّ لا يَتَحقَّقُ إلاَّ بعدَ الطلبِ بلسانِ الحالِ ، أو بلسانِ المقالِ ".( )
وعند تفسيره لقوله تعالى:{ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ}(البقرة: من الآية208)
ذكرَ مِن فوائدها :" قَرْنُ الحُكْمِ بِعِلَّتِهِ ؛ لقولهِ تعالى :{ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} ثم عَلَّلَ :{ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ}.
ويَتفرّعُ على هذهِ الفائدةِ : أنّه ينبغي لِمَنْ أَتَى بالأحكامِ أنْ يَقْرِنَهَا بالعِلَلِ التي تَطمَئِنُّ إليها النفسُ ؛ فإنْ كانت ذاتَ دليلٍ مِن الشَّرْعِ قَرَنَهَا بدليلٍ مِن الشَّرْعِ ؛وإنْ كانت ذاتَ دليلٍ مِن العَقْلِ ، والقياسِ ، قَرَنَهَا بدليلٍ مِن العَقْلِ ، والقياسِ ؛ وفائدةُ ذِكْرِ العِلَّةِ أنّه يُبَيِّنُ سُمُوَّ الشريعةِ وكَمَالَهَا ؛ وأنّه تَزِيدُ بهِ الطُّمَأنِينةُ إلى الحُكْمِ ؛وأنّه يُمْكِنُ إلحاقُ مَا وافقَ الحُكْمَ في تِلكَ العِلَّةِ ".( )
وعند تفسيره لآياتِ الفرائضِ ذكرَ مِن فوائدها :" أنّ أمرَ الفرائضِ إلى الله ؛ لقولهِ: { فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ}(النساء: من الآية11) وأقولُ ذلكَ وإنْ كانَ أمرًا مَعلومًا لكن مِن أجلِ الأدبِ في الفُتْيَا . كانَ الإمامُ أحمد رحمه الله - مع علمهِ الغزير - لا يُطلِقُ على الشيءِ أنّه فريضةٌ أو أنّه حَرامٌ إلاّ إذا وَرَدَ به النَّصُّ ( ) ".( )
2 – الحثُّ على العَمَلِ بالعِلْمِ .
عند تفسيره لقوله تعالى :{أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ } (البقرة:من الآية44)
ذكرَ مِن فوائدها :" تَوبيخُ العالِمِ المخالفِ لما يَأمُرُ بهِ ، أو لما يَنْهَى عنهُ ؛ وأنّ العالِمَ
إذا خالفَ فَهُوَ أسوأُ حالاً مِن الجاهلِ ؛ لقوله تعالى:{ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ}؛ وهذا أَمْرٌ فُطِرَ الناسُ عليهِ . أنّ العالِمَ إذا خالفَ صَارَ أشَدَّ لَوْمًا مِن الجاهلِ ؛ حتّى العامّةُ تَجِدُهُمْ إذا فعلَ العالِمُ مُنكًرًا قالوا : كيفَ تفعلُ هذا وأنتَ رجلٌ عالِمْ ؟! أو إذا تَرَكَ واجبًا قالوا : كيفَ تتركُ هذا وأنتَ عَالِم ؟ ".( )
3 – مَعرفةُ الحقِّ بالحقِّ لا بالرِّجَالِ .
عند تفسيره لقوله تعالى:{وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ }(البقرة: من الآية101)
ذكرَ مِن فوائدها :" أنّه يَجِبُ على الإنسانِ أنْ يَعرِفَ الحقَّ بالحقِّ لا بالرجالِ ؛ فما دَامَ أنّ هذا الذي قِيلَ حَقٌّ فَاتْبَعْهُ مِن أيٍّ كانَ مَصْدَرُه ؛ فَاقْبَلِ الحقَّ للحقِّ ؛ لا لأنّه جاءَ بهِ فُلانٌ ، وفُلان ".( )
4 – الحثُّ على نَشْرِ العلمِ ، والدعوةِ إليه .
عند تفسيره لقوله تعالى:{فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ}(البقرة:152)
ذكرَ مِن فوائدها :" تحريم كُفْرِ النعمةِ ؛ لقوله تعالى:{ وَلا تَكْفُرُونِ}ولهذا إذا أَنْعَمَ الله على عَبدِهِ نعمةً فإنّه يُحِبُّ أنْ يُرَى أثرُ نِعمَتِهِ عليه ؛فإذا أَنْعَمَ الله عليهِ بِعِلْمٍ فإنّ الله يُحِبُّ مِن هذا العَالِمِ أنْ يَظْهَرَ أثرُ هذهِ النعمةِ عليه :
أولاً : على سُلوكِهِ هو بنفسهِ بحيثُ يكونُ مَعرُوفًا بعلمهِ ، وعَمَلِهِ به .
ثانياً : بِنَشْرِ عِلْمِهِ ما استطاعَ ،سواء كانَ ذلكَ على وجهِ العمومِ ، أو الخصوصِ .
ثالثاً : أنْ يَدْعُوَ إلى الله على بصيرةٍ بحيثُ إنّه في كُلِّ مجالٍ يمكنهُ أنْ يَتَكَلَّمَ في الدعوةِ إلى الله بقدرِ ما يستطيع حتّى في المجالسِ الخاصّةِ فيما إذا دُعِيَ إلى وَليمةٍ مثلاً ، ورأى مِن المصلحةِ أنْ يتكلَّم فليتكلَّم ؛ وبعضُ أهلِ العلمِ يكـونُ معهُ كتابٌ ، فيقرأُ الكتابَ على الحاضرين ، فيستفيد ، ويُفِيد ؛ وهذا طَيِّبٌ إذا عَلِمَ مِن الناسِ قَبول هذا الشيءِ بأنْ يكونَ قد عَوَّدَهُم على هذا ، فصاروا يَرقُبونه مِنه ؛ أمّا إذا لم يُعوِّدْهُم فإنّه قد يُثقل عليهم بهذا ، ولكنْ مِن الممكنِ أنْ يفتحَ المجالَ بإيرادٍ يُورِدُهُ -سؤالاً مثلاً - حتّى ينفتحَ المجالُ للناسِ ، ويسألونَ ، وينتفعونَ ؛ لأنّ بعضَ طلبةِ العلمِ تذهبُ مجالسهمْ كمجالسِ العامّةِ لا ينتفعُ الناسُ بها ؛ وهذا لا شكَّ أنّه حِرمَان - وإن كانوا لا يأثمونَ إذا لم يأتوا بما يُوجب الإثمَ - ؛ فالذي ينبغي لطالبِ العلمِ - حتّى وإنْ لم يُسأل - أنْ يُورِدَ هو سؤالاً لأجلِ أنْ يفتحَ البابَ للحاضرين ، فيَسْأَلُوا ؛ وقد جاءَ جبريلُ إلى النبي  يَسألُه عن الإسلامِ ، والإيمانِ ،والإحسانِ ،والساعةِ ، وأمَارَاتِهَا ؛ وقالَ النبي  : [ هَذا جبريلُ أتَاكُم يُعلِّمكُم دِينَكُم ]( )؛ مع أنّ الذي يُجيب الرسولُ  ؛ ولكن جَعَلَهُ مُعلِّمًا وهو يَسْأَلْ ؛ لأنّه هو السببُ في هذا التعليم ".( )
وعند تفسيره لقوله تعالى:{قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (سـبأ:47)
قالَ :" أدعو نفسي وإيّاكُم إلى أنْ يكـونَ عِلْمُنَا مُنْسَابًا إلى غَيرِنَا ، بمعنى أنْ نَنْشُرَ العلمَ وأنْ ندعوا الناسَ إليه ، صحيحٌ أنّ حضورنا إلى هذا المجلسِ وتعلُّمَنا ، لا شكَّ أنّه فائدةٌ عظيمةٌ ، وأنّه مجلسٌ مِن مجالـسِ الذِّكْرِ ، لكن ينبغي أنْ نَنْشُرَ هذا العلم وندعـوا الناسَ بالمستطاعِ ، وأمّا أنْ نبقى كَنُسَخٍ مِن كُتُبٍ ؛ الفائدةُ لا تَعدُو صُدُورَنَا ، فهذا لا شكَّ أنّه ضعيفٌ ، ولا يَلِيقُ بطالبِ العلمِ "... إلى أنْ قال :" أنا أُريد مِنكم أن تكونوا عُلماءَ ربَّانيِّينَ دُعاةً إلى الخيرِ مهما استطعتم ، ويكون أجركـم على الله  ؛ لأنّ الإنسانَ مَسؤولٌ عن عِلْمِهِ ، فإنّ الله تعالى ما أعطاكَ العلمَ إلاّ بِميثَاقٍ : {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ }(آل عمران: من الآية187)
يتبع إن شاء الله
 
5 – استحضارُ نِيَّةِ القيامِ بِفَرْضِ الكفايةِ .
عند تفسيره لقوله تعالى :{لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ} (يّـس:6)
ذكرَ مِن فوائدها :" سَبُّ هؤلاءِ الذينَ غَفَلُوا عن الرسالاتِ لقوله :{فَهُمْ غَافِلُونَ} وأنّ الغفلةَ عن البحثِ عن الرسالةِ يُعتبر ذَمًّا ، وكذلكَ نقولُ فيمن غفـلَ عن البحث في جزئيّاتِ الشريعةِ ، فمثلاً مَن غفلَ عن البحثِ في أحكامِ الصلاةِ فإنّه يُذَمُّ ، ولهذا نقولُ : إنّ تَعلُّمَ العلمِ الشرعيِّ فرضُ كِفَايَةٍ ،ومَن أرادَ أنْ يقومَ بعبادةٍ مِن العباداتِ كان تَعلُّمُ أحكامها فرضَ عَيْنٍ ، وبناءً على هذا نقولُ : كُلُّ طلبةِ العلمِ في كلِّ مكانٍ قائمونَ بفرضِ كِفَايَةٍ ، ولهذا يَحسُنُ بهم أنْ يستحضروا هذا الأمرَ ، وأنّنا في مَجالسنا هذه نقومُ بفرضِ كِفَايَةٍ نُثَابُ عليه ثوابَ الفرضِ ، وقد قال الله تعالى :[ما تقرَّبَ إليَّ عبدي بشيءٍ أحبَّ إليَّ مِمَّا افترضتهُ عليه ]( ) ، وهذه مسألةٌ يَغفلُ عنها كثيرٌ مِن الطلبةِ ، لا في مجالسِ ( ) الذِّكْرِ والعلمِ ، ولا في المجالسِ الأخرى مجالسِ المراجعةِ ، تجدُ الإنسانَ يُراجع الكتابَ لكنّهُ لا يستحضرُ أنّه الآنَ قائمٌ بفرضِ كِفَايَةٍ ، وهذا يُفَوِّتُ خيرًا كثيرًا ، لهذا نسألُ الله أنْ يُعيننا على تَذكُّرِ هذا المعنى حتّى نَكْسَبَ خيرًا بما نقرأهُ أو نُراجعهُ ".( )
6 – التأكيدُ على مُواصَلةِ الطَّلَبِ .
عند تفسيره لقوله تعالى :{يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ}(النساء: من الآية26)
قالَ :" ليسَ في الشَّرْعِ شيءٌ مَجهولٌ لِكُلِّ أحدٍ ، لقوله : { لِيُبَيِّنَ لَكُمْ } فالشَّرْعُ لا يُمكن أنْ يكونَ خَفِيًّا على كُلِّ أحدٍ ،لكنّهُ يخفى على الإنسانِ لأسبابٍ : إمّا قِلَّةُ العلمِ، وإمّا قُصُورُ الفهمِ ، وإمّا التقصيرُ في الطَّلَبِ ، وإمّا سُوء القَصْدِ ، أربعةُ أسبابٍ لِخَفاء الحكم ِالشَّرْعيِّ على الإنسانِ .
الأوّلُ : قلّةُ العلمِ : كأنْ يكونَ الإنسانُ لم يُطالع ولم يُراجع ،ولم يستوعب كتب العلماءِ، وهذا تخفى عليه الأحكامُ الشرعيّةُ لقلّةِ علمهِ .
الثاني : أو قصورُ فهمهِ : يكونُ عندهُ علمٌ واسعٌ لكنّه لا يفهم ، هذا أيضًا يفوتهُ خيرٌ كثير مِن الأحكامِ الشرعيّةِ .
الثالث : أو لتقصيرهِ في الطلبِ : إنسانٌ مُقصِّر ، عنده علمٌ ، عنده فهمٌ ، لكن ما يحرص على أنْ يُحقِّقَ المسائلَ ويُنقِّحَها ويُحرِّرَها ، فيفوتهُ شيءٌ كثير .
الرابع : أو سوءُ القصْد ، حيثُ يكونُ لا يُريد إلاّ نَصْرَ رَأْيِهِ فقط ، فهذا – والعياذ بالله – يُحرم الخير ويُحرم الصواب .
ما دواءُ هذه العللِ والآفاتِ ؟
الجواب :
الأول : قلّةُ العلمِ : دواءهُ كثرةُ العلمِ ، أنْ يُراجعَ المسألةَ ، يُطالع كتبَ العلماءِ – كتب الحديث ، كتب التفسير - .
الثاني : قُصور الفهمِ : هذا مُشْكِل ؛ لأنّهُ غَرِيزِيٌّ ، لكن ثِقُوا بأنّه مع التمرُّنِ يَحصلُ على قوّةِ الفهمِ ، وأضربُ لكم مثلاً : لو أنّ إنسانًا راجعَ كتبَ شيخِ الإسلام ابن تيميةَ ؛ أوّلَ ما يُراجِعْ لَقَالَ : هذا ما يُمكن نفهمها ، لكن مع التمرُّنْ عليها يفهمها وتكونَ عنده كالفاتحةِ ، إذًا الفهمُ يحتاجُ إلى تمرينٍ ، ومِن تمارينِ الفهمِ : المناقشةُ مع الناسِ ؛ لأنّه كثيرًا ما يغيبُ عنكَ شيءٌ مِن العلمِ وبالمناقشةِ يتبينُ لكَ شيءٌ كثير .
الثالث : التقصيرُ في الطَّلَبِ : دواءهُ الجدُّ والاجتهادُ ، اجتهدْ ولا تتوانَى ، ثمّ التقصيرُ في الطَّلَبِ ليسَ معناهُ قِلَّةُ الطَّلَبِ ، حتّى الترتيبُ في الطَّلَبِ هذا ايضًا يُضِرُّ بالإنسانِ ويُنقِصُ عِلْمَهُ ،بعضُ الناسِ مثلاً إذا أرادَ أنْ يُراجِعَ مَسألةً في الكتبِ الكبيرةِ صارَ يستعرضُ الفِهْرِسَ ؛ يَجِدُ بَحْثًا ثُمَّ يذهبُ يبحثُ فيه وينسى الأوّل ، وهذا الذي يُقَطِّعُ عليه الأوقاتَ تقطيعًا ، ما دُمْتَ تُريد تحقيقَ مسألةٍ فَأَغْمِضْ عينيكَ عَمّا سِوَاهَا ، وإلاّ ستكونُ ، كالذي يلقطُ الجرادَ في أرضٍ جَرْدَاء ، ما تُحَصِّلُ شيئًا ، هذا تقصيرٌ في الطَّلَبِ ؛ ما هو تقصيرٌ كَمِّيٌّ ، ولكن تقصيرٌ كَيْفِيٌّ .
الرابع : سوءُ القصْدِ : هذا هو العلّةُ ، سوءُ القصْدِ يحتاجُ إلى إخلاصٍ ونُصحٍ لله  ، فإذا قصدَ الإنسانُ حفظَ الشريعةِ وأنْ يَرِثَ الأنبياءَ سَهُلَ عليه حُسْنُ القصْدِ ؛ لأنّهُ إذا عَلِمَ أنّ الإنسانَ إذا طلبَ العلمَ لغيرِ الله فإنّهُ يُحرم الخير ، وعن الوعيد ، وأنّ الله يَنْزِعُ بركةَ العلمِ مِنه حَرِصَ على أنْ يكونَ قصْدُهُ حسنًا .
فهذه أمورٌ أربعةٌ هي التي يُحرم الإنسانُ إيَّاها في عدم تَبَيُّنِ الأحكامِ الشرعيّةِ ، وإلاّ فالله  تَكَفَّلَ {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} ".( )
7 – الحثُّ على الرسوخِ في العلمِ .
عند تفسيره لقوله تعالى :{لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ}(النساء: من الآية162)
ذكرَ مِن فوائدها :" فضيلةُ الرسوخِ في العلمِ ،وانتبهوا لكلمةِ " الرسوخ " ،فمعناها الثبوتُ والاستقرار( )،وذلكَ لأنّ العلمَ عِلْمَانِ :عِلْمٌ طَافٍ ،بمعنى أنّه على السَّطْحِ ؛ أيُّ ريحٍ تُزحزحه ، وهذا ما يكونُ عند كثيرٍ مِن الطلبةِ ، تجدْ كثيرًا مِن الطلبةِ يُجَمِّعُ العلومَ دفعةً واحدةً فيكون كالطبيبِ العامّ ليسَ له اختصاصٌ في شيءٍ ، وبعضُ الطلبةِ يُركِّزُ ويحرصُ ، فهذا الذي يُدرِكُ العلمَ ، ويكون عنده قُدرَةٌ ومَلَكَةٌ "... إلى أنْ قالَ :"ومِن ثَمَّ كُنت أقولُ دائمًا لطـلابِ العلمِ : احرصوا على القواعدِ – قواعد العلم – وضوابطِ العلمِ ، وذلكَ لأنّ الجزئيّاتِ لا حَصْرَ لها ، كُلُّ يومٍ يخرجُ للناسِ مُعـاملةٌ جديدةٌ أو حَـدَثٌ جديد في العباداتِ لا يُمكن للإنسانِ أنْ يَحكُمَ عليها حُكمًا صريحًا إلاّ إذا كانَ عندهُ قواعدُ وأصولٌ يُلحِق هذه الجزئيّاتِ بأُصُولِهَا وقواعدها ، أمّا مَن يأخذُ العلمَ مَسألةً مَسألة فهو كالذي يلقطُ الجرادَ مِن الصحراءِ ، يتعبُ ولم يملأ الكيسَ ،لكن الإنسانُ الذي يحرصُ على القواعدِ هذا هو الذي بإذن الله يُدرِكُ العلمَ ".( )


8– تَلَطُّفُ الطالبِ معَ الشيخِ .
عند تفسيره لقوله تعالى :{قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ }(الكهف: من الآية66)
قالَ :" أيْ قالَ مُوسَى للخَضِرِ : هل أتّبِعُكَ ،وهذا عَرْضٌ لطيفٌ ، وتواضع ،وتَأَمَّلْ هذا الأدبَ مِن مُوسَى  مع أنّ مُوسَى أفضل مِنه ، وكانَ عند الله وجيها ، ومع ذلكَ يَتلطَّفُ معه لأنّه سوفَ يأخذُ مِنه عِلْمًا لا يَعْلَمُهُ مُوسَى ، وفي هذا دليلٌ أنّ على طالبِ العلمِ أنْ يتلطَّفَ مع شيخهِ ومع أستاذهِ وأنْ يُعامله بالإكرامِ ".( )
ومـا تقدّمَ نماذجُ مِن إرشاداتهِ وتوجيهاتهِ التي كانَ يُلقِيهَا على طُلاّبِهِ أثناءَ إملائهِ لتفسيره تُبَيِّنُ حرصَ الشيخِ على هذا الجانبِ ، واهتمامه بهِ .
اسأل الله أن ينفعنا بالقرآن .
 
أحسنت أبا خالد - نفع الله بك كما نفع بشيخنا الإمام الزاهد المربي ابن عثيمين -.

ومن أهم ما يميّز العلماء الربانيين أنهم يجمعون بين الأدب والعلم، وبين التعليم والتربية، وبين البيان والحرص على توجيه الطلاب وعموم الناس.

قال الشيخ رحمه الله في آخر تفسيره لسورة النازعات: ( ولهذا نقول أنت لا تسأل متى تموت ولا أين تموت لأن هذا أمر لا يحتاج إلى سؤال أمر مفروغ منه ولابد أن يكون ومهما طالت بك الدنيا فكأنما بقيت يوماً واحداً بل كما قال تعالى هنا: {كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها} ولكن السؤال الذي يجب أن يرد على النفس ويجب أن يكون لديك جواب عليه هو على أي حال تموت؟! ولست أريد على أي حال تموت هل أنت غني أو فقير، أو قوي أو ضعيف، أو ذو عيال أو عقيم، بل على أي حال تموت في العمل، فإذا كنت تساءل نفسك هذا السؤال فلابد أن تستعد؛ لأنك لا تدري متى يفجَؤُك الموت، كم من إنسان خرج يقود سيارته ورجع به محمولاً على الأكتاف، وكم من إنسان خرج من أهله يقول هيئوا لي طعام الغداء أو العشاء ولكن لم يأكله، وكم من إنسان لبس قيمصه وزر أزرته ولم يفكها إلا الغاسل يغسله، هذا أمر مشاهد بحوادث بغتة. فانظر الان وفكر على أي حال تموت، ولهذا ينبغي لك أن تكثر من الاستغفار ما استطعت، فإن الاستغفار فيه من كل هم فرج، ومن كل ضيق مخرج، حتى إن بعض العلماء يقول إذا استفتاك شخص فاستغفر الله قبل أن تفتيه، لأن الذنوب تحول بين الإنسان وبين الهدى واستنبط ذلك من قول الله تبارك وتعالى: {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيماً. واستغفر الله إن الله كان غفوراً رحيماً} [النساء: 105، 106]. وهذا استنباط جيد، ويمكن أيضاً أن يستنبط من قوله تعالى: {والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم} [محمد: 17]. والاستغفار هو الهدى، لذلك أوصيكم بالمراقبة، وكثرة الاستغفار، ومحاسبة النفس حتى نكون على أهبة الاستعداد خشية أن يفجؤُنا الموت ـ نسأل الله أن يحسن لنا الخاتمة ـ.)​
 
عودة
أعلى