الجابري وتفسيره "فهم القرآن الحكيم"

إنضم
20/05/2009
المشاركات
42
مستوى التفاعل
0
النقاط
6
استهلال في قصة المقال:
في العام الماضي (2009) تشرفت بزيارة أرض النور (الحجاز) وفي زيارتي سعيت للالتقاء بما يمكن من مثقفي المملكة، ويسر الله لي لقاء عدد منهم، وكان بين الذين كنت أنوي زيارتهم الشيخ سلمان العودة، غير أن وقته ووقتي ما كانا يسمحان باللقاء، وأثناء وجودي هنالك ذهبت بصحبة الصديق الفاضل الدكتور عبد الرحمن الشهري والأستاذ العزيز محمد بن جماعة إلى إحدى مكتبات الرياض لنقتني بعض الكتب، فوقعت عياني على كتاب "فهم القرآن الحكيم" للجابري، فاقتنيته، ولما عدت إلى كوالالمبور قرأت الكتاب، وصادف انتهائي من قراءته اتصال أحد مراكز الأبحاث اللبنانية بي من أجل كتابة بحث عن كتاب الجابري هذا، بغرض إقامة حلقة نقاشية خاصة يحضرها الجابري لمناقشته مباشرة في كتابيه "المدخل إلى القرآن" و"فهم القرآن الحكيم".كتبت بحثاً نقدياً عن الكتاب، ولما اعتذر الجابري عن القدوم بسبب تردي حالته الصحية، أرسل بحثي إلى الجابري، فعقب الرجل ولم يزد على القول: " أشكر الكاتب على اهتمامه وعلى مجهوده، أما آراؤه فهي له سواء كانت تنويها أو اعتراضا، وليس من حقي الاعتراض على حقه في إبداء الراي فيما يقرأ. مع خالص التقدير له"، وذلك بالرغم من أن ما أوردته كان قاسياً في معناه (وليس في مبناه). ولما جاء إلينا فضيلة الشيح العودة في ديسمبر الفائت كان من بين الأمور التي دار الحديث فيها بيننا فيها كتاب الجابري الجديد، وأخبرته بأني أجريت بحثاً عنه، وأعطيته نسخة (ذكر ذلك مجملاً في حلقة 7 أيار/مايو 2010 الحلقة التي تعرض فيها للجابري بعد وفاته)، وبما أن البحث قيد النشر، فهذا مقال مقتطف من البحث لعل فيه ما يفيد.

_______________________
نص المقال:

الجابري وإعادة "فهم القرآن الحكيم"

مع أن دافع محمد عابد الجابري في دراساته في "نقد العقل العربي" كان نكسة حزيران (يونيو) 1967 وبداعي ظهور "الصحوة الإسلامية" في السبعينيات ثم "الثورة الخُمينية في إيران" (كما يقول هو نفسه)، إلا أنه في نهاية المطاف وجد نفسه أمام مشروع نقدي كبير هو "نقد العقل العربي"، المشروع الذي سيشغل الفكر العربي خلال ما يزيد على عقد ونصف، غير أنه ينتقل بعد الانتهاء من "نقد العقل العربي" في أجزائه الأربعة إلى دراسة القرآن ذاته.

ومع أن هذا الانتقال يبدو منطقياً للغاية حسب المسار الذي رسمته دراساته السابقة، إلا أن الجابري يتردد في تقديم كتابه على أنه "ذيل وتكملة" لمشروع نقد العقل العربي، إلا أن واقع الحال وسياق البحوث كان (برأينا) يقوده إلى دراسة القرآن، حيث يرى الجابري في نفسه أنه بات الآن ـ بعد دراساته ـ "أقدر على التعامل مع مفاتيح هذا الباب" مما لو فعل ذلك من قبل.

ومع أن السبب المباشر لدراسته "مدخل إلى القرآن الكريم" يرجع إلى أحداث سبتمبر 2001 "وما تلا ذلك من أحداث جسام وردود فعل غاب فيها العقل"، ما حفز الجابري لكتابة هذا المؤلف بغاية مباشرة هي "التعريف" بالقرآن الكريم "للقراء العرب وأيضاً للقراء الأجانب"، تعريفا زعم فيه أنه ينأى به عن "التوظيف الأيديولوجي والاستغلال الدعوي الظرفي".

وما إن انتهى الجابري من كتابه التعريفي (مدخل إلى القرآن) (2004) في جزئه الأول، حتى وجد نفسه أمام الجزء الثاني وهو "فهم القرآن"؛ "لأن "فهم القرآن" يستعيد (...) سؤال "التعريف بالقرآن" بكل حمولته وآفاقه، وعلى الرغم من أنه خطط، كما يشير في مقدمة الجزء الأول، ليكون هذا الجزء مكملاً للتعريف، فقد كان من المقرر أن يقتصر موضوع الجزء الثاني على جملة موضوعات محددة في القرآن؛ إلا أن "مصاحبة جميع التفاسير المتوفرة" جعلته يرى بأن المنهجية المخطط لها سابقا لن تفي بالغرض، و"ترقى إلى مستوى الرؤى والآفاق التي طرحها (التعريف)، ما لم يتجاوز مجرد الاقتصار على جملة موضوعات في القرآن، إلى فهم القرآن ككل، (أي) إلى تفسير".

هكذا شرع الجابري بكتابة ما سماه "فهم القرآن الحكيم: التفسير الواضح حسب ترتيب النزول" في ثلاثة أجزاء نشر الجزء الأول منه في شباط (فبراير) عام 2008، والجزء الثاني في تشرين الأول (أكتوبر) من العام نفسه، والجزء الثالث والأخير في شباط (فبراير) عام 2009، ويثير العنوان المُركّب للكتاب "فهم القرآن الحكيم: التفسير الواضح حسب ترتيب النزول" وثوقية مفرطة غير معتادة من الجابري، وبشكل خاص يثير العنوان الفرعي "التفسير الواضح حسب ترتيب النزول" الاستفهام عن تسمية هذا "الفهم" بـ"التفسير الواضح"، فمن جهةٍ أولى إن ما يتضمنه هذا الفهم هو "تفسير" (وهذا الـ"تفسير" أمر لا نعثر على أي تعريف له في الأجزاء الثلاثة فضلاً عن كتاب المدخل!)، ومن جهة أخرى فإن "الوضوح"، على ما ذكره في مقدمة الكتاب، يتجلى أولاً في طريقة كتابة القرآن (بما سماه "علامات الإفهام"، والتي تكاد تتطابق مع مدلول علامات الترقيم، فهي علامات يزعم أنها تساعد على فهم القرآن "بوضوح") وفي طريقة فهمه، فبأي معنى يقصد الجابري "الوضوح" كصفة لتفسيره؟

يعزو الجابري فكرته عن "فهم" القرآن إلى عبارة للإمام الشاطبي، في كتابه الذائع "الموافقات"، التي يقول فيها إن "المدني من السور ينبغي أن يكون منزلاً في الفهم على المكِّي، وكذلك المكّي بعضه مع بعض على حسب ترتيبه في التنزيل، وإلا لم يصح (الفهم)"، غير أن الشاطبي لم يكن يقصد بـ"فهم القرآن" مقرونا بعبارة "القرآن يشرح بعضه بعضاً" ما استخلصه الجابري من أنه يعني فهم الكتاب. والحقيقة أن فكرة الشاطبي تتجاوز مبدأ فهم القرآن، وفق ترتيب النزول "مساوقاً فعلاً لمسيرة الدعوة"، أي "قراءة القرآن بالسيرة، وقراءة السيرة بالقرآن"، على حد تعبير الجابري، الذي يرى أن "تسلسل سوره، حسب ترتيب النزول، يُباطنه تسلسل منطقي سرعان ما نكتشفه عندما نتنبَّه إلى الموضوع الذي تركز عليه هذه المجموعة من السور أو تلك في تسلسلها، وبالرجوع إلى وقائع السيرة نكتشف أن ذلك المنطق، الذي يُباطن تسلسل السور داخل كل مجموعة، يتطابق في مضمونه مع تسلسل هذه الوقائع"، فالشاطبي يرى أن كليات القرآن نزلت في أوائل السور المكية، وأن ما نزل بعدها مستند إلى هذه الأصول. فإذا تقرر أن الشاطبي يرى في الخطاب القرآني كلاً واحداً يستند بعضه إلى بعض، آخره إلى أوله، وأوله إلى آخره، ومن كلياته إلى فرعياته، ومن مكيه إلى مدنيه، وهذا يعني أن مسألة مسايرة الحوادث الواقعة بالسيرة في فهم القرآن أمر غير مقصود من كلام الشاطبي.

من حق الجابري أن يرى أن تفسير القرآن مواكب لأحداث السيرة، فهذا أمر لا يمكن للمرء أن يقطع بخطئه، غير أنه ليس من حق الجابري نسبة ذلك وتأسيسه على الشاطبي الذي لم يكن يخطر بباله ما فهمه الجابري منه، ولا كان مقصوداً في شيء من كلامه.

يؤسس الجابري فهمه للقرآن على أقسام المدني والمكي، وتقسيم مكيِّ القرآن تقسيماً سداسياً مستوحىً بشكل واضح من تقسيم نولدكه الذي أخذه عنه بلاشير. وعلى الرغم من أن الجابري انتقد تقسيم بلاشير (المنقول عن نولدكه) الآنف الذكر "إجمالاً، بأنه لا جديد (فيه)، فالتحقيب الذي اعتمده بلاشير مبني على التمييز بين خصائص القرآن المكي ومميزات القرآن المدني، وهي أمور معروفة، وقد فصل القول فيها كثير من المؤلفين المسلمين قديماً وحديثاً. أما ترتيب السور داخل هذا التحقيب، سواء كمجموعات، أو داخل كل مجموعة على حدة، فلا شيء يفسِّره، فقد جاء اعتباطياً إلى حد كبير"!!، وذلك على الرغم أن تقسيم بلاشير، كما هو واضح، محاولة لمطابقة موضوعات السور مع السيرة النبوية، إلا أن الجابري عاد واعتمد على المعيار نفسه؛ أي "المطابقة بين المسارين: مسار السيرة النبوية، والمسار التكويني للقرآن" في تقسيم القرآن إلى مراحل ويستوحي التقسيم ذاته لنولدكه!

الشيء الذي يجب أن نذكِّر به أن المنهج الذي اتبعه الجابري هو منهج معروف في خطوطه العامة، وقد أشار هو بنفسه إلى أن فكرة تفسير القرآن، وفقاً لترتيب النزول تعود إلى المستشرق الفرنسي ريجس بلاشير الذي قام بترجمة "معاني القرآن" إلى الفرنسية (1947-1950) على أساس ترتيب النزول الذي وضعه ثيودور نولدكه، وإلى محمد عزة دروزة في "التفسير الحديث" (1961-1964)، ونضيف نحن تفسير عبد الرحمن حبنكة الميداني (1927-2004) "معارج التفكر ودقائق التدبر"، أي أنه من حيث خطوط المنهجية العامة لم يأتِ بجديد، وإنما جديده يكمن في تفاصيل المنهج وطريقة تطبيقه التي جعلته يسميه "التفسير الواضح".

الجابري يعترف بأن مسألة الترتيب التي "فصّل القول فيها كثير من المؤلفين قديماً وحديثاً" لا يحسمها النص التاريخي (الوثائق التاريخية) الصحيح؛ ذلك أن الوثائق (النصوص) التي تتعلق بالترتيب التاريخي للقرآن مضطربة وليست على درجة من التوثيق يمكن الاطمئنان إليها بشكل تام، فضلاً عن أن "كثيرا منها يطرح مشكلة التوافق في السياق" (سياق السيرة النبوية الشريفة)، إلا أن الجابري يعود ليستند إليها على أساس أن الاستناد إليها لمعرفة ترتيب القرآن أمر لا مفر منه، إنه "ترتيب ضروري، ولكنه لا يكفي".

الجابري يرى ضرورة إعادة ترتيب القرآن بالاستناد إلى "لوائح الترتيب المتشابهة" معيارا "جديداً" لملء الفراغ المنهجي في ضبط نزول السور وإزالة الاضطراب في لوائح الترتيب، وخصائص "التمييز بين المكي والمدني" والاتساق "وقائع السيرة النبوية"!

هذان المعياران يفرضهما الغرض، وهو "بناء تصور منطقي عن المسار التكويني للنص القرآني"، حيث لا بد من اللجوء إلى "التصرف" لحل المشكلة، أي لابد من "اجتهاد مبني على الظن والترجيح"، فهو تصرف "تبرره النتائج التي يمكن استخلاصها منه".

حسناً إذا، إذا كان هذا هو الموقف "العلمي" للجابري، فلم منح نفسه الحق أن ينتقد بقسوة محاولة بلاشير (ومِن ورائه نولدكه) الذي قام بالأمر نفسه "تماماً"؟! فقد استند نولدكه إلى معيار مركب، يستند من جهة على "الإشارات التي تحيل في القرآن إلى وقائع تاريخية" تتعلق بالسيرة النبوية، ومن جهة أخرى يستند على "خصائص النص القرآني، وبالخصوص منها الفرق الواضح بين السور المكية والسور المدنية، سواء على مستوى الأسلوب، أو على مستوى الموضوعات". غير أن الجابري مع ذلك عقّب بالقول: "إنه لا جديد" في تحقيب بلاشير لترتيب القرآن!

من حق الجابري وغيره أن يفسروا المصحف وفق ترتيب النزول، وهذا النمط التفسيري يمثل بطبيعة الحال ضرورة لفهم كيف توطد الإسلام في البيئة العربية في القرن السابع الميلادي، ولكشف العلاقة الحميمة بين الخطاب القرآني وظروف تنزيله، غير أن هذا النمط التفسيري يعتريه احتمالية مضاعفة تقلل من قيمته، فمن جهة ترتيب النزول غير قابل للحسم بعد، بسبب إشكالات ذكرها الجابري نفسه، والمفسر يحتاج لما سماه الجابري "التصرف" الاجتهادي الظني ليطمئن إلى ترتيب معين، عبر "خلق" معايير خاصة به (قابلة للرد والطعن)، ومن جهة ثانية فإن المفسر يقوم بتأويل الآيات اعتماداً على التأويل الأول (ترتيب النزول)، أي أن التفسير ههنا هو في واقع الحال "تأويل التأويل"!! فهل هذا هو "التفسير الواضح"؟! أين يكمن الوضوح في تلافيف التأويل المضاعف هذا؟! لقد أشار الصديق الدكتور رضوان السيد محقاً في مقاله عن "محمد عابد الجابري وتفسير القرآن" (الحياة- 08 أيار (مايو) 2010) إلى أن هذا "أدعى الى ألا يكون التفسير واضحاً على الإطلاق".

إنه لأمر مثير للدهشة أن يسمَّى الكتاب بـ"التفسير الواضح حسب ترتيب النزول" ولا يتضمن أي من أجزائه الثلاثة تعريفا ولو إجرائيا لمفهوم "التفسير"! ولا حتى في الكتاب المؤسس "مدخل إلى القرآن"!، فليس ثمة أي نوع من الضبط والتعريف لمفهوم التفسير كما أشرنا من قبل، فهل يعني ذلك أن الجابري يستخدم مصطلح التفسير وفقاً لاصطلاح علماء القرآن؟ أم أنه يستقي مفهوم "التفسير" وكذلك "الفهم" من النظريات الإبستمولوجية الحديثة؟

"فهم القرآن" ـ كما يطرحه في كتابه التعريفي بالقرآن "مدخل إلى القرآن"، ليس هو من "أنواع الفهم التي شيدها علماء المسلمين لأنفسهم حول القرآن" فهم في عموم الأحوال يدرسونه في مقامات مختلفة عن المقام الذي يدرس فيه الجابري القرآن. هذا الفهم للظاهرة القرآنية غايته النظر إلى "القرآن بوصفه معاصراً لنفسه ومعاصراً لنا".

لقد شعر الجابري أن هذه المقدمة قد تقود القارئ للالتباس، فيظن أن ما سيقوم به الجابري هو "كتابة تفسير للقرآن"؛ فسارع الجابري فوراً لرد هذا الخاطر "المتسرع" وأعلن قائلاً: "إننا لا نريد أن يفهم القارئ أننا بصدد كتابة تفسير للقرآن"، فهذا "الفهم للقرآن" في الواقع هو ليس أكثر من مجرد "تعريف بالقرآن"، و"التعريف بالشيء قد يكون بوصفه من الخارج، وقد يكون بتبيان مسائله وموضوعاته وإبراز حديثه عن نفسه. وهذا كله لا يمكن القيام به بالنسبة إلى القرآن من دون الرجوع إلى خطابه، وبالتالي محاولة فهم هذا الخطاب"، وبالتالي لا بد من فهم القرآن من أجل تعريفه الأمر الذي سيقتضي بالضرورة "تفسيراً لنصوص من القرآن"، لكن ذلك لا يعني أنه تفسير للقرآن، إنه فقط في جزء منه تفسير "لبعض" آيات من القرآن لا أكثر.

في النهاية تمثل محاولة الجابري محاولة محمودة لقراءة القرآن من منظور تطور تاريخي لنصوصه، إلا أننا نؤكد أن هذا لا يعني أن الجابري من الناحية المنهجية قد ابتكر شيئاً جديداً، فهو في النهاية يستعيد منهجا مسبوقا، ومن الصعب وفق هذا فهم هذا الإعجاب بنفسه بعد إنجاز الجزء الثاني حين يقول: "يمكن القول، من دون فخر زائد ولا تواضع زائف، إنه لأول مرة أصبح ممكناً عرض القرآن ومحاولة فهمه بكلام متصل مسترسل يشد بعضه بعضا، كلام يلخص مسار التنزيل ومسيرة الدعوة في تسلسل يرضي النزوع المنطقي في العقل البشري"!

الرجل اتبع خطوات نولدكه (رغم نقده الشديد لها) مع بعض التعديل، ونحن ندعو إلى مقارنة واسعة مع مؤلَّف "تاريخ القرآن"، فربما تقود إلى مراجعة مشروع الجابري بوصفه نسخة مطورَّة عن مشروع نولدكه.

ومع ذلك ورغم كل الملاحظات التي أشرنا إليها في هذا البحث عن "فهم القرآن" فإن الكتاب في النهاية يمثل إضافة لفهم السيرة النبوية قبل أن يكون إضافة لفهم القرآن، ذلك أن فائدة مراجعة خطاب عالمي لرسالة خاتمة لا يمكن أن يُحشر في زوايا تاريخ النزول، إنما يمكن أن يكون مساعدا لفهم التاريخ، وهذه هي الإضافة الحقيقية التي تقدمها منهجية "التفسير وفق ترتيب النزول". وإذا كان لا بد من تحديد إضافة الجابري في حلقات سلسلة هذا النوع من التفاسير، فهي أنه اجتهد في تعديل الترتيب محاولاً جهده أن يربطه بوقائع السيرة على نحو متواصل، الأمر الذي لم يكن ملاحظا على هذا النحو من قبل (وخصوصاً في تفسير عزة دروزة)، بحيث صار "فهم القرآن" لدى الجابري أقرب إلى "فهم السيرة" من خلال القرآن وليس العكس.
 
مقالة قيمة بارك الله فيك أخي العزيز، وهذه هي الخلاصة في هذا الكتاب حقاً، إنها مسبوقة بِمُحاولاتٍ أكثرَ هُدوءاً منها، ولم يَثُر حولها هذا النقدُ الذي ثار حول الجابري، ولعل إضافتها لفهم السيرة النبوية أكثر، علماً أن هناك من استخرج بعض أحداث السيرة النبوية من خلال القرآن مرتبةً كما فعل الدكتور محمد بكر عابد في كتابه (حديث القرآن الكريم عن غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم) الذي نشرته دار الغرب الإسلامي، وقد قدم له الأستاذ الدكتور أكرم ضياء العمري وأشار فيه إلى محاولة المستشرق الألماني نولدكه ترتيب القرآن على حسب النزول. وقد يكون هناك جهود أخرى في هذا الميدان، سلكت المنهج نفسه .
 
الذي جعل الجابري يحظى بهذا الاهتمام هو أنه يمتلك أدوات منهجية جديدة، وجاء إلى الدراسات القرآنية من خلفية معرفية مختلفة حتى عن المستشرقين. إضافة إلى ذلك الاهتمام بعموم إنتاج الجابري يرجع إلى دوره في شد الفكر العربي (غير الإسلامي) إلى احترام التراث وإعادة قراءته وفهمه في وقت كان فيه هؤلاء المفكرون العرب غارقون في العمى الأيديولوجي، وأذكر أني حضرت مناقشة له في منتصف التسعينات في مدرج كلية الآداب في جامعة دمشق، في الأسبوع الفلسفي الذي يقام سنوياً، وأذكر جيداً كيف ثار غضباً "صادق جلال العظم" ("شيخ" الماركسية في سورية) بسبب اللغة التي يتعامل فيها الجابري مع التراث الإسلامي، خصوصاً عندما نفى الجابري فيها بشدة أنه "علماني" قائلاً إنه "مسلم" فحسب.
صحيح أن الجابري لما دخل حقل الدراسات القرآنية تكشف عن "فقر" في هذا الحقل من الدراسات، لكنه هو أيضاً نفسه خضع لتحول تأثراً بها، وعلينا عند قراءة ما كتبه الرجل أن نلاحظ ذلك، فالتغيير أمر طبيعي يحدث في البشر، طبعاً كل هذا لا يجعلنا لا نرى المشكلات فيما يكتبه ولا يمنعنا من نقده فهذا حقنا جميعاً.
 
الجابري لم يحظ بالاهتمام إلا لأنه خرج عن المألوف وخرج عن المنقول والمعقول
الجابري لم يمتلك منهجية علمية ولم يسلك أي من المناهج المقبولة ومؤلفاته صارخة بهذه الحقيقة
وفي نظري أن الذي يتلقف فكر الجابري لا يخرج عن واحد من ثلاثة:
إما جاهل بحقيقة كيف كان يكتب الجابري وعن ماذا كان يكتب.
وإما هو من أنصار هذا الفكر الذي يدعو إلى زعزعة الثقة في تراث الأمة وتاريخيها.
وإما مذبذب وحائر بين فكر الجابري الذي أقل ما يقال عنه إنه هدم في تاريخ الأمة وبين أن يتمسك بالحق الذي يحمله الخط الأصيل في مسيرة هذه الأمة ، وهذا أقل ما يقال عنه إنه يريد أن يمسك العصا من المنتصف حتى لا يفقد هويته وربما يكون باحثا عن الشهرة والبروز وهذه هي الطريق التي يراها تحقق له غايته.
 
إنه لأمر مثير للدهشة أن يسمَّى الكتاب بـ"التفسير الواضح حسب ترتيب النزول" ولا يتضمن أي من أجزائه الثلاثة تعريفا ولو إجرائيا لمفهوم "التفسير"! ولا حتى في الكتاب المؤسس "مدخل إلى القرآن"!، فليس ثمة أي نوع من الضبط والتعريف لمفهوم التفسير كما أشرنا من قبل، فهل يعني ذلك أن الجابري يستخدم مصطلح التفسير وفقاً لاصطلاح علماء القرآن؟ أم أنه يستقي مفهوم "التفسير" وكذلك "الفهم" من النظريات الإبستمولوجية الحديثة؟
.

 
 
لماذا لم يقدم الجابري مفهوما للتفسير اومفهوما لما قارَبَ به المفسرون التفسير من المفاهيم الاخرى التي حسبوها بديلا او قائما بمفهوم التفسير ؟ فهو كجميع غيره لا جواب لديهم غير العجز ، العجز بسبب التناقض بين تعريف القرءان بذاته وتصريح القرءان عن نفسه مع عمل التفسير بذلك المفهوم الذي يقدمون به القرءان ، وتناقض بين مفهوم التفسير في ءاية التفسير وصنيع التفسير الذي يقوم به كغيره من المفسرين الزعم ،فمهما بذلوا من جهد في سبيل تقديم مفهوم للتفسير فانهم لم ولن يقدموا سوى ماسبق ان قدموا ولن ياتوا بجديد او ببديل يفترق عن المتوهم انها مرادفات التفسير وهي البيان والتفصيل وما شابه ،
فلا المفهوم الذي قدموه يناسب ءاية التفسير وليس ذلك المفهوم الذي قدموه ايضا يتفق مع تعريف القرءان بنفسه ،
فالمفسرون يعيشون ابدا اشكالية التفسير الزعم وتناقضه مع تعريف القرءان بذاته ،
فهم لم يقدموا مفهوما لكلمة التفسير التي وردت في الءاية ، بل استعاروا مفهوما لغيرها وجعلوه بديلا لمفهومها ، ثم لم يلزموا انفسهم بمقتضيات هذا المفهوم للتفسير والبديل لمفهوم التفسير القرءاني الذي لم ينفي القرءان خلوه من هذه الاوصاف ( البيان والتفصيل مثلا ) ولا من مقتضيات هذا المفهوم البديل ايضا وانما هو يتصف بها حقا ولكنهم ناقضوها بعملية تفسير التفسير وبيان المبين وتفصيل التفصيل ،وذلك بكونهم خالفوا كون القرءان يتصف بها بكونه تفصيلا لكل ملتبس وبيانا لكل خافي وكشفا لكل ستر وتمثيلا لغرض الايضاح ، اذ انه بموجب هذا المفهوم البديل الذي قدموه فان القرءان لايتطلب تفسيرا او بيانا ومع ذلك ناقضوا القرءان بهذا العمل ،
فلا الاولون ولا الءاخرون قدموا مفهوما للتفسير يتماهى مع ءاية التفسير او مفهوما حقيقيا لايتناقض وحقيقة وطبيعة القرءان ، بل قدموا مفاهيم تتصادم اشد المصادمة لتعريف القرءان بذاته ، فقد عرفوا التفسير بالتاويل ، والتفصيل ، والبيان ، والتوضيح ، وازالة اللبس ، وفك الاشكال ، وجميع ذلك يمثل تمييعا لمفهوم التفسير كما انه تمييعا لمفهوم تلك الكلمات في ان واحد وخلطا عجيبا بحيث ان مفهوم كل صيغة يساوي مفهوم الصيغة الاخرى بدون حساب اي خصوصية او اشارة او دلالة نوعية لتلك الصيغة مع عدم اغفال التناقض بين مفاهيم تلك الصيغ التي قدموها كذلك وطبيعة واشارة القرءان الى نفسه وتعريفه بذاته تعريفا ذاتيا لايتفق وعمل التفسير الذي قدموه وتلك المفاهيم التي قدموها ،

لذلك لم يقدم الجابري هذا التعريف الذي عجز عنه الاولون والءاخرون الذين مثلوا لكل كلمة بالاخرى وهكذا حتى يؤول الامر الى ان يستوي عندهم الشيء وضده في المفاهيم ، فعندهم ان ؛
التفسير = البيان = التاويل = الكشف = الايضاح = التفصيل = بيان مشكل القرءان ، ولم يخرج احد عن هذه الدائرة الفارغة المبهمة الهائمة ، فهي مجرد نظائر لالفاظ او وجوها للفظ واحد ،
كما انهم لم لم يقدموا احقية شرعية او اي مبرر حقيقي او لعملهم الذي زعموه تفسيرا ، وانما قدموا تبريرا لايتفق ووصف القرءان لذاته ، وقدموا التفسير على ان الاشكال في القرءان ولم يقدموا تفسيرهم على فرضية الاشكال في المخاطب لا الخطاب ،
ثم ان القرءان لم يقدم نفسه على انه عموم يتَطَلَبَ تخصيصه او اشكال يتطلب حله او مبهم يتطلب ايضاحه او سرا او لغزا وجب حله ، كما انهم لم يقدموا اي رخصة او توجيه او أمر من القرءان لهم بعمل التفسير ، فلا نجد غير تخبط اعشى دون تاصيل او شرعية او ميزان من كتاب الله ،
لذلك لن تكون بضاعة الجابري بافضل من بضاعة الذين يطرحون تفسيرهم على نفس الاساس والمنهج ،

والسلام
 
إحالة إلى المقال في الصحافة

إحالة إلى المقال في الصحافة

صحيفة الحياة - الطبعة الدولية
السبت 5 حزيران 2010
http://international.daralhayat.com/internationalsub/1429
 
عودة
أعلى