يوسف العليوي
New member
- إنضم
- 05/07/2004
- المشاركات
- 103
- مستوى التفاعل
- 2
- النقاط
- 18
[align=center]أثر تعلم القرآن في زيادة الثروة اللغوية[/align]
سبق في مشاركة سابقة أن تحدثت عن أثر القرآن الكريم في تكوين الملكة اللسانية، وسأذكر هنا جانبًا من جوانب التأثير.
[align=center]________________[/align]
الثروة اللغوية ذات أهمية كبرى في اكتساب الملكة اللسانية بل في غيرها، فهي تساعد المرء على فهم كثير مما يقرأ أو يسمع، مما يحفزه إلى سرعة القراءة، وإلى الحديث بطلاقة، كما تساعده على الحديث عن المعنى الواحد بطرق مختلفة، والتنويع بين المترادفات ليعبر عن الموقف باللفظ المناسب له، كما تمنحه الثروة اللغوية قدرة فائقة على التفكير، وعلى التعبير عما في النفس من مشاعر وأحاسيس ورؤى وأفكار، وتمده بقدرة على التأثير والإقناع، فضلاً عما في الثروة اللغوية من تنشيط للإبداع، وتحفيز على التواصل والتفاعل مع الآخرين واستنطاق آرائهم وأفكارهم واكتساب خبراتهم.
إذا أدركنا هذه الأهمية للثروة اللغوية في التنمية اللغوية، والتواصل الاجتماعي، واكتساب الخبرات، وتنشيط الإبداع والإنتاج الفكري، ندرك ما ينتج عن فقدان هذه الثروة أو ضعفها من آثار سلبية، من عزلة اجتماعية، واضطراب في الشخصية، وضيق في الأفق الثقافي والفكري، وضحالة في الإنتاج الفكري والإبداعي، وهجران للغة( ).
وإذا كان الأمر بهذه الأهمية فإنه ينبغي السعي لتنمية الحصيلة اللغوية وإثرائها. ولعل من أهم الوسائل لذلك القراءة، والحفظ، وقد سبق بيان أهمية الحفظ في اكتساب الملكة اللسانية، وأعظم ما يحفظ كتاب الله ، الذي يمد المرء بثروة لغوية كبيرة، وقد عد قوم ألفاظه فبلغت أكثر من سبع وسبعين ألف لفظة( ).
وإذا كان (لسانُ العرب أوسعُ الألسنة مذهبًا، وأكثرُها ألفاظًا) كما قال الشافعي( ) فإن القرآن الكريم حوى أفصحها، وأعذبها، وأشرفها، كما قال الراغب الأصفهاني: (ألفاظ القرآن هي لُبّ كلام العرب وزبدته، وواسطته وكرائمه، وعليها اعتماد الفقهاء والحكماء في أحكامهم وحِكَمهم، وإليها مفزع حذّاق الشعراء والبلغاء في نظمهم ونثرهم، وما عداها وعدا الألفاظ المتفرعات عنها والمشتقات منها، هو بالإضافة إليها كالقشور والنوى بالإضافة إلى أطايب الثمرة، وكالحُثالة والتِّبن بالإضافة إلى لبوب الحنطة)( )، وقال الخطابي: (إنما يقوم الكلام بهذه الأشياء الثلاثة: لفظ حامل، ومعنى به قائم، ورباط لهما ناظم. وإذا تأملت القرآن وجدت هذه الأمور منه في غاية الشرف والفضيلة، حتى لا ترى شيئًا من الألفاظ أفصح ولا أجزل ولا أعذب من ألفاظه…) إلى أن قال: (واعلم أن القرآن إنما صار معجزًا لأنه جاء بأفصح الألفاظ في أحسن نظوم التأليف مضمناً أصح المعاني)( )، ثم قال: (واعلم أن عمود هذه البلاغة التي تجمع لها هذه الصفات هو وضع كل نوع من الألفاظ التي تشتمل عليها فصول الكلام موضعه الأخص الأشكل به، الذي إذا أُبدل مكانه غيره جاء منه إما تبدل المعنى الذي يكون منه فساد الكلام، وإما ذهاب الرونق الذي يكون معه سقوط البلاغة)( ).
إن ألفاظ القرآن الكريم التي يحصلها المرء بحفظه له، ليست كسائر الألفاظ؛ بل هي ألفاظ قد بلغت الغاية في الحسن والفصاحة والبلاغة، سلاسةً في النطق، وعذوبةً على السمع، ودقةً في الاختيار، للدلالة على المعنى المراد دلالة فائقة الوضوح، يُلحظ فيها مراعاة الفروق بين معاني الألفاظ المتقاربة، وملاءمة الألفاظ للسياق، ومناسبة الفواصل للآي، وتصوير المعنى أكمل تصوير، يسهم في ذلك جرس الحروف الذي يوحي بالمعنى وحيًا، فيعطي للمعنى في النفس بعدًا وشعورًا عميقًا( ).
وقد أكدت البحوث والدراسات الميدانية أثر حفظ القرآن الكريم وتلاوته في زيادة الثروة اللغوية من الألفاظ والتراكيب( ).
ومما يدل على أثر القرآن الكريم في التزود من الثروة اللغوية تضمين البلغاء والأدباء في كلامهم معاني وألفاظًا من القرآن الكريم، أو جملاً توافق لفظ القرآن الكريم( )؛ مما يعد اقتباسًا في البلاغة العربية.
ومن أمثلة ذلك: ما جاء في البخاري (1243) من حديث أم العلاء رضي الله عنها في وفاة عثمان بن مظعون أن النبي قال: «أَمَّا هُوَ فَقَدْ جَاءَهُ الْيَقِينُ. وَاللهِ، إِنِّي لأَرْجُو لَهُ الْخَيْرَ. وَاللهِ، مَا أَدْرِي وَأَنَا رَسُولُ اللهِ مَا يُفْعَلُ بِي». وفي قوله: «جَاءَهُ الْيَقِينُ» موافقة لقوله تعالى: ﴿ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِين ﴾ [الحجر: 99]، وفي قوله: «وَاللهِ، مَا أَدْرِي وَأَنَا رَسُولُ اللهِ مَا يُفْعَلُ بِي» موافقة لقوله تعالى: ﴿قُلْ مَا كُنْت بِدْعًا مِن الرُّسُل وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ﴾ [الأحقاف: 9].
وفي البخاري (3353 و3374) عن أبي هريرة قال: قيل للنبي : من أكرم الناس؟ قال: «أَكْرَمُهُمْ أَتْقَاهُمْ». قال ابن حجر: قوله : «أَكْرَمُهُمْ أَتْقَاهُمْ» هو موافق لقوله تعالى: ﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ ﴾ [الحجرات: 13]( ).
ومن ذلك ما في البخاري (1127) ومسلم (775) من حديث علي بن أبي طالب أن رسول الله طرقه وفاطمة بنت النبي ليلة، فقال: «أَلا تُصَلِّيَان؟» فقلت: يا رسول الله، أنفسنا بيد الله، فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا. فانصرف حين قلنا ذلك، ولم يرجع إلي شيئًا، ثم سمعته وهو مول يضرب فخذه وهو يقول: ﴿ وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً ﴾ . قال ابن حجر: (قوله: أنفسنا بيد الله، اقتبس علي ذلك من قوله تعالى: ﴿ الله يَتَوَفَّى الأَنْفُس حِينَ مَوْتِهَا ﴾ الآية [الزمر: 42])( )، وقراءة النبي الآية لها مدخل فيما نقول.
ومما يذكر هنا ما يروى عن المعتصم أن ملك الروم كتب إليه يتوعده ويتهدده، فأمر الكتاب أن يكتبوا جوابه، فلم يعجبه مما كتبوا شيئًا، فقال لبعضهم: اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد، فقد قرأت كتابك، وفهمت خطابك، والجواب ما ترى لا ما تسمع، وسيعلم الكفار لمن عقبى الدار. قال القلقشندي: (هذا مع ما ينسب إلى المعتصم من ضعف البصر بالعربية...، ولا يستكثر مثل ذلك على الطبع السليم، والرجوع إلى سلامة العنصر وطيب المحتد)( ).
ومن العجيب أن تكون ألفاظ القرآن جارية على ألسنة الكتاب من الكفار، ومن أمثلة ذلك ما يذكر عن أبي إسحاق إبراهيم بن هلال، الصابي لقبًا وديانة، الذي (لم يهده الله تعالى للإسلام، كما هداه لمحاسن الكلام) أنه كان (يحفظ القرآن حفظاً يدور على طرف لسانه، وسن قلمه) كما قال الثعالبي، وقال: (برهان ذلك ما أوردته في كتاب الاقتباس من فصوله التي أحسن فيه كل الإحسان، وحلاها بآي من القرآن)( ).
ومن ذلك أن الأدفونش ملك الفرنج بالأندلس، كتب إلى يعقوب بن عبد المؤمن أمير المسلمين بالأندلس، بخط وزير له يقال له ابن الفخار: باسمك اللهم فاطر السموات والأرض، والصلاة على السيد المسيح بن مريم الفصيح، أما بعد، فلا يخفى على ذي ذهن ثاقب، وعقل لازب، أني أمير الملة النصرانية، كما أنك أمير الملة الحنيفية، وقد علمتم ما هم عليه رؤساء جزيرة الأندلس من التخاذل والتواكل والإخلاد إلى الراحة، وأنا أسومهم الخسف، وأخلي منهم الديار، وأجوس البلاد، وأسبي الذراري، وأقتل الكهول، والشبان لا يستطيعون دفاعًا، ولا يطيقون امتناعًا، فلا عذر لك في التخلف عن نصرهم، وقد أمكنتك يد القدرة، وأنتم تعتقدون أن الله فرض عليكم قتال عشرة منا بواحد منكم، والآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفًا، فلتقاتل عشرة منكم الواحد منا. ثم بلغني أنك أخذت في الاحتفال، وأشرفت على ربوة الإقبال، وتماطل نفسك عامًا بعد عام؛ وأراك تقدم رجلاً وتؤخر أخرى؛ ولست أدري إن كان الجبن أبطأك، أو التكذيب بما أنزل عليك ربك. ثم حكي لي أنك لا تجد إلى الجواز سبيلاً لعلة لا يجوز لك التقحم به معها؛ فأنا أقول ما فيه الراحة لك، وأعتذر لك وعنك، على أن تفي لي بالعهود والمواثيق والاستكثار من الرهن، وترسل إلي بجملة من عبيدك بالمراكب والشواني، وأجوز بحملتي إليك، وأبارزك في أعز الأماكن عليك؛ فإن كانت لك فغنيمة وجهت إليك، وهدية عظيمة مثلت بين يديك، وإن كانت لي كانت يدي العليا عليك وأستوجب سيادة الملتين، والحكم على الدينين، والله تعالى يسهل ما فيه الإرادة، ويوفق للسعادة، لا رب غيره، ولا خير إلا خيره. فكتب رحمه الله جوابًا على أعلى كتابه: ارجع إليهم، فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها، ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون( ).
ومما يدل على أثر القرآن الكريم في زيادة الثروة اللغوية ما نسمعه من الأئمة وغيرهم في دعاء القنوت وغيره من الأدعية الكثيرة التي يدعون بها مما وردت في القرآن الكريم.
ومما يدل أيضًا على أثر القرآن في زيادة الثروة اللغوية ما يلحظ من استعمال عوام الناس لألفاظ القرآن الكريم وتعبيراته في كلامهم، من ذلك مثلاً قولهم: صم بكم، في مقام عدم الاستجابة وقصور الفهم. وقولهم: والصلح خير، في مقام الدعوة إلى الصلح. وقولهم: ما على الرسول إلا البلاغ، حين يبلغون ما يستثقله المخاطب ويعترض عليه. وقولهم: ذهب هباء منثورًا، وطامة كبرى، ولا يسمن ولا يغني من جوع، وقاب قوسين، وما على المحسنين من سبيل، وأن تعفوا أقرب للتقوى، وإن أكرمكم عند الله أتقاكم، والذكرى تنفع المؤمنين، وإن بعض الظن إثم، والإنسان على نفسه بصيرة، ويخلق ما لا تعلمون، وغيرها كثير( ).
ويُذكر في هذا المقام القصة المشهورة عن المتكلمة بالقرآن، التي تُروى عن عبد الله بن المبارك مع عجوز لا تجيب عن أسئلته إلا بجمل أو آيات من القرآن، فلما سأل أبناءها عن شأنها قالوا: هذه أمنا لها منذ أربعين سنة لم تتكلم إلا بالقرآن؛ مخافة أن تزل فيسخط عليها الرحمن. قال ابن المبارك: فقلت: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم( ).
وبغض النظر عن جواز الفعل -إن صحت القصة- فإن هذه العجوز لم تكن لتنطق بالقرآن وتستحضره في كل أجوبتها إلا لملازمتها له تلاوةً وحفظًا. وفي رد ابن المبارك اقتباس من القرآن.
ويحسن التنبيه هنا إلى أن الدراسات التي توصلت إلى هذه النتيجة قامت على عينة من الأطفال، مما يدل على العناية بمرحلة الطفولة في حفظ القرآن وتلاوته؛ لأن هذه المرحلة من أهم المراحل للتزود بالثروة اللغوية، واكتساب اللغة، ويبقى أثرها عليه لاحقاً في التنمية الفكرية والاجتماعية.[/align]
سبق في مشاركة سابقة أن تحدثت عن أثر القرآن الكريم في تكوين الملكة اللسانية، وسأذكر هنا جانبًا من جوانب التأثير.
[align=center]________________[/align]
الثروة اللغوية ذات أهمية كبرى في اكتساب الملكة اللسانية بل في غيرها، فهي تساعد المرء على فهم كثير مما يقرأ أو يسمع، مما يحفزه إلى سرعة القراءة، وإلى الحديث بطلاقة، كما تساعده على الحديث عن المعنى الواحد بطرق مختلفة، والتنويع بين المترادفات ليعبر عن الموقف باللفظ المناسب له، كما تمنحه الثروة اللغوية قدرة فائقة على التفكير، وعلى التعبير عما في النفس من مشاعر وأحاسيس ورؤى وأفكار، وتمده بقدرة على التأثير والإقناع، فضلاً عما في الثروة اللغوية من تنشيط للإبداع، وتحفيز على التواصل والتفاعل مع الآخرين واستنطاق آرائهم وأفكارهم واكتساب خبراتهم.
إذا أدركنا هذه الأهمية للثروة اللغوية في التنمية اللغوية، والتواصل الاجتماعي، واكتساب الخبرات، وتنشيط الإبداع والإنتاج الفكري، ندرك ما ينتج عن فقدان هذه الثروة أو ضعفها من آثار سلبية، من عزلة اجتماعية، واضطراب في الشخصية، وضيق في الأفق الثقافي والفكري، وضحالة في الإنتاج الفكري والإبداعي، وهجران للغة( ).
وإذا كان الأمر بهذه الأهمية فإنه ينبغي السعي لتنمية الحصيلة اللغوية وإثرائها. ولعل من أهم الوسائل لذلك القراءة، والحفظ، وقد سبق بيان أهمية الحفظ في اكتساب الملكة اللسانية، وأعظم ما يحفظ كتاب الله ، الذي يمد المرء بثروة لغوية كبيرة، وقد عد قوم ألفاظه فبلغت أكثر من سبع وسبعين ألف لفظة( ).
وإذا كان (لسانُ العرب أوسعُ الألسنة مذهبًا، وأكثرُها ألفاظًا) كما قال الشافعي( ) فإن القرآن الكريم حوى أفصحها، وأعذبها، وأشرفها، كما قال الراغب الأصفهاني: (ألفاظ القرآن هي لُبّ كلام العرب وزبدته، وواسطته وكرائمه، وعليها اعتماد الفقهاء والحكماء في أحكامهم وحِكَمهم، وإليها مفزع حذّاق الشعراء والبلغاء في نظمهم ونثرهم، وما عداها وعدا الألفاظ المتفرعات عنها والمشتقات منها، هو بالإضافة إليها كالقشور والنوى بالإضافة إلى أطايب الثمرة، وكالحُثالة والتِّبن بالإضافة إلى لبوب الحنطة)( )، وقال الخطابي: (إنما يقوم الكلام بهذه الأشياء الثلاثة: لفظ حامل، ومعنى به قائم، ورباط لهما ناظم. وإذا تأملت القرآن وجدت هذه الأمور منه في غاية الشرف والفضيلة، حتى لا ترى شيئًا من الألفاظ أفصح ولا أجزل ولا أعذب من ألفاظه…) إلى أن قال: (واعلم أن القرآن إنما صار معجزًا لأنه جاء بأفصح الألفاظ في أحسن نظوم التأليف مضمناً أصح المعاني)( )، ثم قال: (واعلم أن عمود هذه البلاغة التي تجمع لها هذه الصفات هو وضع كل نوع من الألفاظ التي تشتمل عليها فصول الكلام موضعه الأخص الأشكل به، الذي إذا أُبدل مكانه غيره جاء منه إما تبدل المعنى الذي يكون منه فساد الكلام، وإما ذهاب الرونق الذي يكون معه سقوط البلاغة)( ).
إن ألفاظ القرآن الكريم التي يحصلها المرء بحفظه له، ليست كسائر الألفاظ؛ بل هي ألفاظ قد بلغت الغاية في الحسن والفصاحة والبلاغة، سلاسةً في النطق، وعذوبةً على السمع، ودقةً في الاختيار، للدلالة على المعنى المراد دلالة فائقة الوضوح، يُلحظ فيها مراعاة الفروق بين معاني الألفاظ المتقاربة، وملاءمة الألفاظ للسياق، ومناسبة الفواصل للآي، وتصوير المعنى أكمل تصوير، يسهم في ذلك جرس الحروف الذي يوحي بالمعنى وحيًا، فيعطي للمعنى في النفس بعدًا وشعورًا عميقًا( ).
وقد أكدت البحوث والدراسات الميدانية أثر حفظ القرآن الكريم وتلاوته في زيادة الثروة اللغوية من الألفاظ والتراكيب( ).
ومما يدل على أثر القرآن الكريم في التزود من الثروة اللغوية تضمين البلغاء والأدباء في كلامهم معاني وألفاظًا من القرآن الكريم، أو جملاً توافق لفظ القرآن الكريم( )؛ مما يعد اقتباسًا في البلاغة العربية.
ومن أمثلة ذلك: ما جاء في البخاري (1243) من حديث أم العلاء رضي الله عنها في وفاة عثمان بن مظعون أن النبي قال: «أَمَّا هُوَ فَقَدْ جَاءَهُ الْيَقِينُ. وَاللهِ، إِنِّي لأَرْجُو لَهُ الْخَيْرَ. وَاللهِ، مَا أَدْرِي وَأَنَا رَسُولُ اللهِ مَا يُفْعَلُ بِي». وفي قوله: «جَاءَهُ الْيَقِينُ» موافقة لقوله تعالى: ﴿ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِين ﴾ [الحجر: 99]، وفي قوله: «وَاللهِ، مَا أَدْرِي وَأَنَا رَسُولُ اللهِ مَا يُفْعَلُ بِي» موافقة لقوله تعالى: ﴿قُلْ مَا كُنْت بِدْعًا مِن الرُّسُل وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ﴾ [الأحقاف: 9].
وفي البخاري (3353 و3374) عن أبي هريرة قال: قيل للنبي : من أكرم الناس؟ قال: «أَكْرَمُهُمْ أَتْقَاهُمْ». قال ابن حجر: قوله : «أَكْرَمُهُمْ أَتْقَاهُمْ» هو موافق لقوله تعالى: ﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ ﴾ [الحجرات: 13]( ).
ومن ذلك ما في البخاري (1127) ومسلم (775) من حديث علي بن أبي طالب أن رسول الله طرقه وفاطمة بنت النبي ليلة، فقال: «أَلا تُصَلِّيَان؟» فقلت: يا رسول الله، أنفسنا بيد الله، فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا. فانصرف حين قلنا ذلك، ولم يرجع إلي شيئًا، ثم سمعته وهو مول يضرب فخذه وهو يقول: ﴿ وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً ﴾ . قال ابن حجر: (قوله: أنفسنا بيد الله، اقتبس علي ذلك من قوله تعالى: ﴿ الله يَتَوَفَّى الأَنْفُس حِينَ مَوْتِهَا ﴾ الآية [الزمر: 42])( )، وقراءة النبي الآية لها مدخل فيما نقول.
ومما يذكر هنا ما يروى عن المعتصم أن ملك الروم كتب إليه يتوعده ويتهدده، فأمر الكتاب أن يكتبوا جوابه، فلم يعجبه مما كتبوا شيئًا، فقال لبعضهم: اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد، فقد قرأت كتابك، وفهمت خطابك، والجواب ما ترى لا ما تسمع، وسيعلم الكفار لمن عقبى الدار. قال القلقشندي: (هذا مع ما ينسب إلى المعتصم من ضعف البصر بالعربية...، ولا يستكثر مثل ذلك على الطبع السليم، والرجوع إلى سلامة العنصر وطيب المحتد)( ).
ومن العجيب أن تكون ألفاظ القرآن جارية على ألسنة الكتاب من الكفار، ومن أمثلة ذلك ما يذكر عن أبي إسحاق إبراهيم بن هلال، الصابي لقبًا وديانة، الذي (لم يهده الله تعالى للإسلام، كما هداه لمحاسن الكلام) أنه كان (يحفظ القرآن حفظاً يدور على طرف لسانه، وسن قلمه) كما قال الثعالبي، وقال: (برهان ذلك ما أوردته في كتاب الاقتباس من فصوله التي أحسن فيه كل الإحسان، وحلاها بآي من القرآن)( ).
ومن ذلك أن الأدفونش ملك الفرنج بالأندلس، كتب إلى يعقوب بن عبد المؤمن أمير المسلمين بالأندلس، بخط وزير له يقال له ابن الفخار: باسمك اللهم فاطر السموات والأرض، والصلاة على السيد المسيح بن مريم الفصيح، أما بعد، فلا يخفى على ذي ذهن ثاقب، وعقل لازب، أني أمير الملة النصرانية، كما أنك أمير الملة الحنيفية، وقد علمتم ما هم عليه رؤساء جزيرة الأندلس من التخاذل والتواكل والإخلاد إلى الراحة، وأنا أسومهم الخسف، وأخلي منهم الديار، وأجوس البلاد، وأسبي الذراري، وأقتل الكهول، والشبان لا يستطيعون دفاعًا، ولا يطيقون امتناعًا، فلا عذر لك في التخلف عن نصرهم، وقد أمكنتك يد القدرة، وأنتم تعتقدون أن الله فرض عليكم قتال عشرة منا بواحد منكم، والآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفًا، فلتقاتل عشرة منكم الواحد منا. ثم بلغني أنك أخذت في الاحتفال، وأشرفت على ربوة الإقبال، وتماطل نفسك عامًا بعد عام؛ وأراك تقدم رجلاً وتؤخر أخرى؛ ولست أدري إن كان الجبن أبطأك، أو التكذيب بما أنزل عليك ربك. ثم حكي لي أنك لا تجد إلى الجواز سبيلاً لعلة لا يجوز لك التقحم به معها؛ فأنا أقول ما فيه الراحة لك، وأعتذر لك وعنك، على أن تفي لي بالعهود والمواثيق والاستكثار من الرهن، وترسل إلي بجملة من عبيدك بالمراكب والشواني، وأجوز بحملتي إليك، وأبارزك في أعز الأماكن عليك؛ فإن كانت لك فغنيمة وجهت إليك، وهدية عظيمة مثلت بين يديك، وإن كانت لي كانت يدي العليا عليك وأستوجب سيادة الملتين، والحكم على الدينين، والله تعالى يسهل ما فيه الإرادة، ويوفق للسعادة، لا رب غيره، ولا خير إلا خيره. فكتب رحمه الله جوابًا على أعلى كتابه: ارجع إليهم، فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها، ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون( ).
ومما يدل على أثر القرآن الكريم في زيادة الثروة اللغوية ما نسمعه من الأئمة وغيرهم في دعاء القنوت وغيره من الأدعية الكثيرة التي يدعون بها مما وردت في القرآن الكريم.
ومما يدل أيضًا على أثر القرآن في زيادة الثروة اللغوية ما يلحظ من استعمال عوام الناس لألفاظ القرآن الكريم وتعبيراته في كلامهم، من ذلك مثلاً قولهم: صم بكم، في مقام عدم الاستجابة وقصور الفهم. وقولهم: والصلح خير، في مقام الدعوة إلى الصلح. وقولهم: ما على الرسول إلا البلاغ، حين يبلغون ما يستثقله المخاطب ويعترض عليه. وقولهم: ذهب هباء منثورًا، وطامة كبرى، ولا يسمن ولا يغني من جوع، وقاب قوسين، وما على المحسنين من سبيل، وأن تعفوا أقرب للتقوى، وإن أكرمكم عند الله أتقاكم، والذكرى تنفع المؤمنين، وإن بعض الظن إثم، والإنسان على نفسه بصيرة، ويخلق ما لا تعلمون، وغيرها كثير( ).
ويُذكر في هذا المقام القصة المشهورة عن المتكلمة بالقرآن، التي تُروى عن عبد الله بن المبارك مع عجوز لا تجيب عن أسئلته إلا بجمل أو آيات من القرآن، فلما سأل أبناءها عن شأنها قالوا: هذه أمنا لها منذ أربعين سنة لم تتكلم إلا بالقرآن؛ مخافة أن تزل فيسخط عليها الرحمن. قال ابن المبارك: فقلت: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم( ).
وبغض النظر عن جواز الفعل -إن صحت القصة- فإن هذه العجوز لم تكن لتنطق بالقرآن وتستحضره في كل أجوبتها إلا لملازمتها له تلاوةً وحفظًا. وفي رد ابن المبارك اقتباس من القرآن.
ويحسن التنبيه هنا إلى أن الدراسات التي توصلت إلى هذه النتيجة قامت على عينة من الأطفال، مما يدل على العناية بمرحلة الطفولة في حفظ القرآن وتلاوته؛ لأن هذه المرحلة من أهم المراحل للتزود بالثروة اللغوية، واكتساب اللغة، ويبقى أثرها عليه لاحقاً في التنمية الفكرية والاجتماعية.[/align]