التوفيق بين الآيات الثلاثة التى تذكر خلق السماوات والأرض
جاء في بحث علمي محكم مقبول للنشر قبل حوالي عام ونصف في مجلة جامعة القصيم، وعنوانه:
(دراسة نقدية لرد ابن حزم على ابن النغريلة اليهودي)
ما يلي:
الشبهة الثانية:
دعوى اختلاف ترتيب أولية خلق السماء والأرض بين قوله تعالى في سورة النازعات: " أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) "، اختلافها مع قوله تعالى في سورة البقرة: " هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ.. (29) ".
عرض رد ابن حزم:[SUP](
[1])[/SUP]
يرى ابن حزم أن هذه الشبهة كسابقتها يكفي الرد عليها بإمرار المَوضعين على العقل لمرة واحدة والأخذ بظاهر كل منها ليتبين لك الحق، فالله تعالى ذكر في سورة النازعات أنه بنى السماء ورفع سمكها، وأنه بعد ذلك أخرج ماء الأرض ومرعاها وأرسى الجبال فيها. ثم ذكر تبارك وتعالى في سورة البقرة تسويته للسماوات سبعاً، وأن ذلك كان بعد خلقه كل ما في الأرض.
وقع التناقض عند الذي لم يفرق بين أن الله تعالى سوَّى السماء ورفعِ سمكها، وبين أنه سوّاهن سبع سماوات، فإنما أخبر تعالى أن تسوية السماء جملة واختراعها كان قبل دحو الأرض، وأن دحوه الأرض كان قبل تقسيم السماء إلى سبع طبقات.
ثم ذكر تناقض التوراة مع العقل في خلق الإنسان مختلفاً عن الرب بالعلم والخلود، ثم يخاف الرب من أن يأكل من الشجرة فيكون عالماً خالداً.
نقد رد ابن حزم:
هذا الرد منطقي واضح حاسم لا إشكال فيه، وقد سبق ابن عباس رضي الله عنها الرد به على نافع بن الأزرق[SUP](
[2])[/SUP] في حديث طويل[SUP](
[SUP][3][/SUP][/SUP])، والرد به ذكره أكثر العلماء.[SUP](
[4])[/SUP]
" فالآيتان ترشدان إلى أن الله تعالى خلق الأرض أولاً ثم خلق السماوات بعد ذلك، ثم عاد إلى الأرض فمهدها ودحاها.. ثم فسر التمهيد بما لا بد منه في تأتي سكناها من أمر المآكل والمشارب، وإمكان القرار عليها فقال: " أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاهَا " أي: فجّر منها العيون والينابيع والأنهار، وأنبت فيها النبات سواء أكان قوتاً لبني آدم كالحب والثمر، أم قوتاً للأنعام والماشية كالعشب والحشيش ".[SUP]([/SUP]
[SUP][SUP][5][/SUP][/SUP][SUP])[/SUP]
وتلخيص ذلك أن الله تبارك وتعالى شاء وقدَّر أن يخلق الكون؛ فتمَّ خلقه على مراحل:
المرحلة الأولى: خلقُ الأرض.
المرحلة الثانية: بناء السماء ورفع سمكِها.
المرحلة الثالثة: دحو الأرض (تهيئتها بجعلها صالحة للمعاش).
المرحلة الرابعة: الاستواء إلى السماء وتقسيمها إلى سبع طبقات.
فاكتمال خلق الأرض وتسويتها كان قبل اكتمال بناء وتسوية السماوات سبعاً.
إلا أن الباحث يرى أن ما ذكره ابن حزم بعد دفعه الشبهة الثانية - من تناقض للتوراة في خوف الرب من خلود الإنسان رغم أنه ابتداءً حين خلقه جعله ليس بخالدٍ - ليس في مكانه، بل الأصح والأليق بمقتضى السياق أن يذكر تناقضها في ابتداء خلق الكون.
فقصة بدء الخلق في الإصحاح الأول من سفر التكوين، تتناقض مع الرواية الورادة في الإصحاح الثاني منه في مواضع عدة، منها:
1. يُفهم من الإصحاح الأول (1/25-27) أن خلق الدواب متقدم على خلق الإنسان، بينما الإصحاح الثاني (2/7-19) يضع خلق الإنسان قبل الدواب؛ فالرب خلق العشب بعد خلقه الإنسان.
2. يفهم من الإصحاح الأول (1/21-25) أن خلق الطيور سابق لخلق الحيوانات؛ حيث خلقت الطيور في اليوم الخامس والحيوانات في اليوم السادس. بينما يُفهم من الإصحاح الثاني (2/19) أنهما خلقا معاً في الوقت ذاته.
3. يفهم من الإصحاح الأول (1/27) أن آدم وحواء خلقا معاً في الوقت نفسه، بينما يفهم من الإصحاح الثاني (2/20-22) أن آدم خلِق قبلها.
4. يُفهم من الإصحاح الأول (1/10) أن الأرض في بداية الخلق كانت مغطاة بالمياه، بينما الإصحاح الثاني (2/ 17) يشير إلى أن الأرض كانت جافة.
بل إنك تجد التناقض في الإصحاح الأول ذاته من سفر التكوين في مواضع شتى، مثلاً: عند الحديث عما خلق الرب في اليوم الأول (1/3) " وقال الله: ليكن نوراً، فكان نور ". ثم نقرأ عما خلق الرب في اليوم الخامس (1/14) " وقال الله لتكن أنوارٌ في جَلَد السماء ". فهل خلق الشمس والنجوم في اليوم الأول أم الخامس؟
([1]) وقع عرض ابن حزم للشبهة الثانية والرد عليها في صفحة واحدة. من ص(46) إلى ص(47).
([2]) هو نافع بن الأزرق الحروري: من رؤوس الخوارج.. وإليه تنسب طائفة الأزارقة، وكان قد خرج في أواخر دولة يزيد بن معاوية.. وكان إمام سوق الأهواز، ويعترض الناس بما يحير العقل في الناس.. كان يطلب العلم وله أسئلة ومناظرات مع ابن عباس - رضي الله عنهما -. قتل سنة 65 هـ. انظر: لسان الميزان، ابن حجر6/144 (506).
([3]) انظر الحديث الذي رواه البخاري في تفسير القرآن أول سورة حم السجدة [أي: فصلت] معلقاً. ووصله ابن حجر في تغليق التعليق4/301 وفتح الباري8/559، وحكم بصحته. وذكره عبد الرزاق الصنعاني بسنده في تفسيره 1/160-161 والطبري في تفسيره 4/96-97، والحاكم في المستدرك2/494-495 (3938) وقال: على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي.
([4]) انظر: تفاسير الخازن (4/393) وابن كثير (7/107) والشوكاني (5/458) والرازي (31/46) والقرطبي (19/204). وكتب الانتصار للقرآن للباقلاني (2/568) وتأويل مشكل القرآن لابن قتيبة، ص(48)، والبرهان للزركشي (2/62) ودفع إيهام الاضطراب للشنقيطي، ص (252).
([5]) تفسير المراغي (30 / 31).