ناصر عبد الغفور
Member
بسم1
التوحيد في القرآن الكريم: 2
4- - بيان القرآن لأنواع التوحيد وأقسامه، وذم وتقريع من يُقِرُّ بربوبيته - سبحانه - دون ألوهيته:
كما هو معلوم فقد قسَّم أهلُ العلم التوحيدَ إلى أقسام، وإن اختلفوا في هذا التقسيم، فمنهم من جعله ثنائيًّا، ومنهم من جعله ثلاثيًّا، وهذا مجرد اصطلاح، ولا مشاحَّةَ في الاصطلاح كما يقال.
فمن التقسيم الثنائي: التوحيد العلمي الخبري، أو توحيد المعرفة والإثبات، والتوحيد العملي الإرادي، أو توحيد العبادة أو القصد والطلب.
أما الثلاثي فهو: توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات.
وكما قلت، هذا مجرد تقسيم اصطلاحي؛ فمثلاً التوحيد العلمي الخبري، أو توحيد المعرفة والإثبات يشمل توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات، والتوحيد العلمي الإرادي أو القصد والطلب هو توحيد الألوهية.
وهذه الأقسام لم يهتدِ إليها العلماء صدفة، أو يحدثوها إحداثًا، بل باستقراء آيات القرآن الكريم، فبالاستقراء لنصوص الكتاب وصَلوا لهذه الأقسام.
فالقرآن مليء بالآيات الدالة على أقسام التوحيد الثلاثة، بل هناك آيةٌ من كتاب ربنا حَوَتْ جميع هذه الأقسام، وهي قوله -تعالى-: ﴿ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا ﴾ [مريم: 65].
والملاحظ لمن تتبع آيات الكتاب أن الله -تعالى- أكثَرَ من ذكر الآيات المتعلقة بربوبيته – سبحانه - وذلك - كما قال العلماء - لأمرينِ اثنين:
• غرس محبة الله -تعالى- في قلوب عباده.
• إقامة الحجَّة على أهل الشرك والأوثان؛ لأن توحيدَ الربوبية مستلزِم لتوحيد الألوهية، ومَن أقر بالأول، لزِمه الإقرارُ بالثاني، وإلا فقد عظُم ذنبُه وثقل وزره؛ كما في حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: سألت رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم-: أيُّ الذنب أعظمُ؟ قال: ((أن تجعَلَ لله ندًّا وهو خلَقَك...))؛ متفق عليه.
وقد ذكَر الله -تعالى- في مواضعَ كثيرة من كتابه أن المشركين يُقِرُّون بربوبيته - سبحانه - وبأنه الخالق الرازق المنعم المحيي المميت، لكنهم في ألوهيته يجعلون معه شركاءَ وأندادًا؛ كما قال -تعالى-: ﴿ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ ﴾ [يوسف: 106]، وقال -تعالى-: ﴿ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴾ [العنكبوت: 61]، ﴿ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ﴾ [العنكبوت: 63]، ﴿ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴾ [الزخرف: 87]، ﴿ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ ﴾ [المؤمنون: 86 - 899].
وأوَّلُ أمر في القرآن هو أمر بتوحيده - سبحانه - في ألوهيتِه؛ لأنه الواحد في ربوبيته؛ قال -تعالى-: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 21، 22].
لذلك ذمَّ الله -تعالى- المشركين في ألوهيته، مع أنهم يُقِرون بربوبيته، وذلك في آيات كثيرة من القرآن الكريم، نذكر منها: قوله - جل وعلا -: ﴿ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ * أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ الآيات؛ النمل [59 - 644].
ومن الآيات في توحيد الألوهية قوله -تعالى-: ﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [الأنعام: 162، 163].
وأما توحيد الأسماء والصفات: فكثيرة هي الآياتُ الواردة في هذا النوع من التوحيد، فقد عرَّفَنا ربُّنا بنفسه عن طريق أسمائه وصفاته، وهذا من لُطفه ورحمته بعباده؛ إذ لا يتصور عبادة من لا نعرفه؛ قال -تعالى-: ﴿ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ﴾ [محمد: 19]، "ومن أعظم طُرق العلم بأنه -تعالى- "لا إله إلا هو" تدبُّر أسمائه وصفاته، وأفعاله الدالة على كماله وعظمته وجلاله، فإنها توجِبُ بَذْلَ الجُهد في التألُّه له، والتعبُّد للرب الكامل الذي له كلُّ حمدٍ ومجدٍ وجلال وجمال"؛ تيسير الكريم الرحمن.
ولعِظَمِ شأن هذا النوع من أنواع التوحيد لا تكاد تخلو آية من آيات القرآن من ذكرِ صفةٍ أو اسم؛ يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: "والقرآن فيه من ذِكْر أسماء الله وصفاته وأفعاله أكثر مما فيه من ذِكر الأكل والشُّرب والنكاح في الجنة، والآياتُ المتضمنة لذكر أسماء الله وصفاته أعظمُ قدرًا من آيات المعاد؛ فأعظمُ آيةٍ في القرآن آيةُ الكرسي المتضمنة لذلك...، وأعظم سورةٍ سورةُ أمِّ القرآن...؛ درء تعارض العقل والنقل، (3/61)، دار الكنوز الأدبية.
وتعريف العباد بربهم عن طريق أسمائه وصفاته كان مِن أعظم وظائف الرسل - عليهم السلام - كما يقول شيخُ الإسلام ابن القيم - رحمه الله تعالى -: "إن دعوةَ الرسل تدور على ثلاثة أمور: - منها -: تعريف الربِّ المدعو إليه بأسمائه وصفاته وأفعاله.."؛ الصواعق المرسلة: (4/1489)، دار العاصمة.
وقد أمَرَنا اللهُ -تعالى- بدعائه بأسمائه فقال -تعالى-: ﴿ وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [الأعراف: 180].
والمتدبِّرُ لكلام الله - جل ذكره - يجد أن الآياتِ المختومةَ ببعض أسماء الله -تعالى- لا تنتهي إلا بما يناسِبُها من الأسماء، ولنكتفِ بمثال واحد؛ قال -تعالى- في سورة المائدة: ﴿ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [المائدة: 38، 39]، قال الأصمعي - رحمه الله تعالى -: "قرأتُ هذه الآيةَ وإلى جنبي أعرابي، فقلت: والله غفور رحيم - أي بدلاً من "وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ" - سهوًا، فقال الأعرابيُّ: كلامُ من هذا؟ قلت: كلامُ الله، قال: أعِدْ، فأعَدْتُ والله غفور رحيم، فقال: ليس هذا كلامَ الله، فتنبَّهْتُ، فقلت: "وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ" فقال: أصَبْتَ، هذا كلامُ الله، فقلت: أتقرأُ القرآن؟ قال: لا، فقلت: فمن أين علِمْتَ أني أخطأت؟ فقال: يا هذا، عزَّ فحكَم فقطَع، ولو غفَر ورحِم ما قطَع"؛ ذكَر هذه القصة ابن الجوزي - رحمه الله تعالى - في تفسيره المسمى زاد المسير.
كما وردتْ آياتٌ كثيرة تنزِّه الله -تعالى- عن النقائص، وتُثبِت له الكمال المطلق، مثل قوله -تعالى-: ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الشورى: 11]، ﴿ فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [النحل: 74]، ﴿ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ [الروم: 27]، ﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ﴾ [الإخلاص: 1]؛ أي: أحدٌ في ذاته، وفي صفاته وأسمائه، وأفعاله - سبحانه.
والملاحظ أن آياتِ الإثبات ترِدُ في القرآن الكريم مفصَّلة، فنجد الآياتِ في إثبات الصفاتِ العلى لله -تعالى- كثيرة جدًّا على وجه التفصيل، في حين أن التنزيهَ يرِدُ عمومًا مجمَلاً؛ وذلك لأنَّ الكمالَ في الإثبات أن يكونَ مفصَّلاً بخلاف النفيِ، فالكمالُ فيه أن يكون مجمَلاً.
5- - ذِكرُ القرآنِ لجَزاء أهل التوحيد وأهل الشِّرك في الدارَين:
وهذا كثير جدًّا في القرآن، لكن لا بأس أن نَذكُرَ بعض الآيات على سبيل المثال لا الحصر؛ فقد وعد الله تعالى أهل التوحيد والإيمان وعودًا عظيمة في هذه الدار قبل دار القرار، فوعَدَهم في الدنيا بالتمكين والاستِخلاف في الأرض، والثبات والأمن والاستقرار، والمحبة في قلوب الخَلق، والفُرقان الذي يُميِّزون به بين الحق والباطل، والنافع والضار، والرشاد والغي، ومَغفِرة الذنوب.
فمن عاقبة أهل التوحيد في هذه الدنيا ما ذكَرَه الله تعالى في قوله: ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ﴾ [النور: 55]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا ﴾ [مريم: 96]، وقال تعالى: ﴿ أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴾ [الأنفال: 299]، ولا ريبَ أن التوحيد أسُّ التقوى وأصله، فكيف يتَّقي اللهَ من لم يوحده؟
أما بالنِّسبة لجزائهم الأُخرويِّ، فكثيرة هي الآيات التي وردَت في وصفِ ما أعدَّه الله لأهل توحيده من النعيم المُقيم، والرضوان العظيم، يقول تعالى: ﴿ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [يونس: 26]، وقال تعالى: ﴿ إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ * أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ * فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ * يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ * بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ * لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ * وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ * كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ ﴾ [الصافات: 40 - 49]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ ﴾ [البروج: 111].
وقد جمَع الله لهم بين الحُسنَيينِ - الجزاء الدنيوي والأخروي - في عدة آيات؛ كقوله - جل جلاله -: ﴿ أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [يونس: 62 - 64]، وقوله - عز مِن قائل -: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [الأحقاف: 13، 144].
أما أهل الشِّركِ والضلال، الذين استكبَروا عن توحيد ذي الجلال، فقد تعرَّضوا لأنواع من النكال؛ لجُرمِهم وقُبحِ ما أتوه من الأفعال؛ قال تعالى: ﴿ فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾ [العنكبوت: 40].
وأما عذابهم الأخروي، فهو أشدُّ وأبقى: ﴿ إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى ﴾ [طه: 74]، ﴿ وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ * مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ * يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ ﴾ [إبراهيم: 15 - 17]، ﴿ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ ﴾ [النحل: 28، 29]، ﴿ فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ * إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ ﴾ [الصافات: 33 - 355].
التوحيد في القرآن الكريم: 2
4- - بيان القرآن لأنواع التوحيد وأقسامه، وذم وتقريع من يُقِرُّ بربوبيته - سبحانه - دون ألوهيته:
كما هو معلوم فقد قسَّم أهلُ العلم التوحيدَ إلى أقسام، وإن اختلفوا في هذا التقسيم، فمنهم من جعله ثنائيًّا، ومنهم من جعله ثلاثيًّا، وهذا مجرد اصطلاح، ولا مشاحَّةَ في الاصطلاح كما يقال.
فمن التقسيم الثنائي: التوحيد العلمي الخبري، أو توحيد المعرفة والإثبات، والتوحيد العملي الإرادي، أو توحيد العبادة أو القصد والطلب.
أما الثلاثي فهو: توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات.
وكما قلت، هذا مجرد تقسيم اصطلاحي؛ فمثلاً التوحيد العلمي الخبري، أو توحيد المعرفة والإثبات يشمل توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات، والتوحيد العلمي الإرادي أو القصد والطلب هو توحيد الألوهية.
وهذه الأقسام لم يهتدِ إليها العلماء صدفة، أو يحدثوها إحداثًا، بل باستقراء آيات القرآن الكريم، فبالاستقراء لنصوص الكتاب وصَلوا لهذه الأقسام.
فالقرآن مليء بالآيات الدالة على أقسام التوحيد الثلاثة، بل هناك آيةٌ من كتاب ربنا حَوَتْ جميع هذه الأقسام، وهي قوله -تعالى-: ﴿ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا ﴾ [مريم: 65].
والملاحظ لمن تتبع آيات الكتاب أن الله -تعالى- أكثَرَ من ذكر الآيات المتعلقة بربوبيته – سبحانه - وذلك - كما قال العلماء - لأمرينِ اثنين:
• غرس محبة الله -تعالى- في قلوب عباده.
• إقامة الحجَّة على أهل الشرك والأوثان؛ لأن توحيدَ الربوبية مستلزِم لتوحيد الألوهية، ومَن أقر بالأول، لزِمه الإقرارُ بالثاني، وإلا فقد عظُم ذنبُه وثقل وزره؛ كما في حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: سألت رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم-: أيُّ الذنب أعظمُ؟ قال: ((أن تجعَلَ لله ندًّا وهو خلَقَك...))؛ متفق عليه.
وقد ذكَر الله -تعالى- في مواضعَ كثيرة من كتابه أن المشركين يُقِرُّون بربوبيته - سبحانه - وبأنه الخالق الرازق المنعم المحيي المميت، لكنهم في ألوهيته يجعلون معه شركاءَ وأندادًا؛ كما قال -تعالى-: ﴿ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ ﴾ [يوسف: 106]، وقال -تعالى-: ﴿ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴾ [العنكبوت: 61]، ﴿ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ﴾ [العنكبوت: 63]، ﴿ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴾ [الزخرف: 87]، ﴿ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ ﴾ [المؤمنون: 86 - 899].
وأوَّلُ أمر في القرآن هو أمر بتوحيده - سبحانه - في ألوهيتِه؛ لأنه الواحد في ربوبيته؛ قال -تعالى-: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 21، 22].
لذلك ذمَّ الله -تعالى- المشركين في ألوهيته، مع أنهم يُقِرون بربوبيته، وذلك في آيات كثيرة من القرآن الكريم، نذكر منها: قوله - جل وعلا -: ﴿ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ * أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ الآيات؛ النمل [59 - 644].
ومن الآيات في توحيد الألوهية قوله -تعالى-: ﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [الأنعام: 162، 163].
وأما توحيد الأسماء والصفات: فكثيرة هي الآياتُ الواردة في هذا النوع من التوحيد، فقد عرَّفَنا ربُّنا بنفسه عن طريق أسمائه وصفاته، وهذا من لُطفه ورحمته بعباده؛ إذ لا يتصور عبادة من لا نعرفه؛ قال -تعالى-: ﴿ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ﴾ [محمد: 19]، "ومن أعظم طُرق العلم بأنه -تعالى- "لا إله إلا هو" تدبُّر أسمائه وصفاته، وأفعاله الدالة على كماله وعظمته وجلاله، فإنها توجِبُ بَذْلَ الجُهد في التألُّه له، والتعبُّد للرب الكامل الذي له كلُّ حمدٍ ومجدٍ وجلال وجمال"؛ تيسير الكريم الرحمن.
ولعِظَمِ شأن هذا النوع من أنواع التوحيد لا تكاد تخلو آية من آيات القرآن من ذكرِ صفةٍ أو اسم؛ يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: "والقرآن فيه من ذِكْر أسماء الله وصفاته وأفعاله أكثر مما فيه من ذِكر الأكل والشُّرب والنكاح في الجنة، والآياتُ المتضمنة لذكر أسماء الله وصفاته أعظمُ قدرًا من آيات المعاد؛ فأعظمُ آيةٍ في القرآن آيةُ الكرسي المتضمنة لذلك...، وأعظم سورةٍ سورةُ أمِّ القرآن...؛ درء تعارض العقل والنقل، (3/61)، دار الكنوز الأدبية.
وتعريف العباد بربهم عن طريق أسمائه وصفاته كان مِن أعظم وظائف الرسل - عليهم السلام - كما يقول شيخُ الإسلام ابن القيم - رحمه الله تعالى -: "إن دعوةَ الرسل تدور على ثلاثة أمور: - منها -: تعريف الربِّ المدعو إليه بأسمائه وصفاته وأفعاله.."؛ الصواعق المرسلة: (4/1489)، دار العاصمة.
وقد أمَرَنا اللهُ -تعالى- بدعائه بأسمائه فقال -تعالى-: ﴿ وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [الأعراف: 180].
والمتدبِّرُ لكلام الله - جل ذكره - يجد أن الآياتِ المختومةَ ببعض أسماء الله -تعالى- لا تنتهي إلا بما يناسِبُها من الأسماء، ولنكتفِ بمثال واحد؛ قال -تعالى- في سورة المائدة: ﴿ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [المائدة: 38، 39]، قال الأصمعي - رحمه الله تعالى -: "قرأتُ هذه الآيةَ وإلى جنبي أعرابي، فقلت: والله غفور رحيم - أي بدلاً من "وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ" - سهوًا، فقال الأعرابيُّ: كلامُ من هذا؟ قلت: كلامُ الله، قال: أعِدْ، فأعَدْتُ والله غفور رحيم، فقال: ليس هذا كلامَ الله، فتنبَّهْتُ، فقلت: "وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ" فقال: أصَبْتَ، هذا كلامُ الله، فقلت: أتقرأُ القرآن؟ قال: لا، فقلت: فمن أين علِمْتَ أني أخطأت؟ فقال: يا هذا، عزَّ فحكَم فقطَع، ولو غفَر ورحِم ما قطَع"؛ ذكَر هذه القصة ابن الجوزي - رحمه الله تعالى - في تفسيره المسمى زاد المسير.
كما وردتْ آياتٌ كثيرة تنزِّه الله -تعالى- عن النقائص، وتُثبِت له الكمال المطلق، مثل قوله -تعالى-: ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الشورى: 11]، ﴿ فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [النحل: 74]، ﴿ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ [الروم: 27]، ﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ﴾ [الإخلاص: 1]؛ أي: أحدٌ في ذاته، وفي صفاته وأسمائه، وأفعاله - سبحانه.
والملاحظ أن آياتِ الإثبات ترِدُ في القرآن الكريم مفصَّلة، فنجد الآياتِ في إثبات الصفاتِ العلى لله -تعالى- كثيرة جدًّا على وجه التفصيل، في حين أن التنزيهَ يرِدُ عمومًا مجمَلاً؛ وذلك لأنَّ الكمالَ في الإثبات أن يكونَ مفصَّلاً بخلاف النفيِ، فالكمالُ فيه أن يكون مجمَلاً.
5- - ذِكرُ القرآنِ لجَزاء أهل التوحيد وأهل الشِّرك في الدارَين:
وهذا كثير جدًّا في القرآن، لكن لا بأس أن نَذكُرَ بعض الآيات على سبيل المثال لا الحصر؛ فقد وعد الله تعالى أهل التوحيد والإيمان وعودًا عظيمة في هذه الدار قبل دار القرار، فوعَدَهم في الدنيا بالتمكين والاستِخلاف في الأرض، والثبات والأمن والاستقرار، والمحبة في قلوب الخَلق، والفُرقان الذي يُميِّزون به بين الحق والباطل، والنافع والضار، والرشاد والغي، ومَغفِرة الذنوب.
فمن عاقبة أهل التوحيد في هذه الدنيا ما ذكَرَه الله تعالى في قوله: ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ﴾ [النور: 55]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا ﴾ [مريم: 96]، وقال تعالى: ﴿ أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴾ [الأنفال: 299]، ولا ريبَ أن التوحيد أسُّ التقوى وأصله، فكيف يتَّقي اللهَ من لم يوحده؟
أما بالنِّسبة لجزائهم الأُخرويِّ، فكثيرة هي الآيات التي وردَت في وصفِ ما أعدَّه الله لأهل توحيده من النعيم المُقيم، والرضوان العظيم، يقول تعالى: ﴿ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [يونس: 26]، وقال تعالى: ﴿ إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ * أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ * فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ * يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ * بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ * لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ * وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ * كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ ﴾ [الصافات: 40 - 49]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ ﴾ [البروج: 111].
وقد جمَع الله لهم بين الحُسنَيينِ - الجزاء الدنيوي والأخروي - في عدة آيات؛ كقوله - جل جلاله -: ﴿ أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [يونس: 62 - 64]، وقوله - عز مِن قائل -: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [الأحقاف: 13، 144].
أما أهل الشِّركِ والضلال، الذين استكبَروا عن توحيد ذي الجلال، فقد تعرَّضوا لأنواع من النكال؛ لجُرمِهم وقُبحِ ما أتوه من الأفعال؛ قال تعالى: ﴿ فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾ [العنكبوت: 40].
وأما عذابهم الأخروي، فهو أشدُّ وأبقى: ﴿ إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى ﴾ [طه: 74]، ﴿ وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ * مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ * يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ ﴾ [إبراهيم: 15 - 17]، ﴿ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ ﴾ [النحل: 28، 29]، ﴿ فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ * إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ ﴾ [الصافات: 33 - 355].
يتبع إن شاء الله تعالى.