لطفي الزغير
New member
[align=center]بسم الله الرحمن الرحيم[/align]الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد :
فلقد كتبت هذا الموضوع قبل عدة أيام لهذا الملتقى المبارك ، ولكن منذ يومين أو ثلاثة أحاول الدخول إلى موقع الملتقى دون فائدة ، وتخرج عبارة لا يمكن الوصول للصفحة ، ولهذا قمت بإنزال الموضوع في ملتقى أهل الحديث ، وبعد أن فتح موقع الملتقى معي ها أنا ذا أعيد طرح الموضوع في الملتقى آملاً أن يحوز على استحسانكم ومشاركاتكم .
[align=center]التوازن في الخطاب القرآني من خلال جزء عم [/align]
يمتاز القرآن الكريم إجمالاً بالتوازن من كل جانب ، كيف لا وهو كلام الله سبحانه وتعالى ، والمتصفح لسور القرآن وآياته يلحظ ذلك جلياً فيه ، وأنواع التوازن التي أقصدها كثيرة ؛ فمنها التوازن التشريعي ، ومنها التوازن في الخلق والتكوين ، ومنها التوازن في الخطاب الذي زخرت به آيات القرآن الكريم .
وأقصد بالتوازن في الخطاب هو أن يذكر الأمر ونقيضه معاً في آية واحدة أحياناً ، أو في سياق من الآيات .
ومن أول سورة في جزء عم نلحظ ذلك ، من خلال إشارة كتهيئة لما بعدها ، وذلك من خلال قوله تعالى } وخلقتاكم أزواجاً { ، فهذا فيه إشارة إلى الذكر والأنثى من الإنسان أولاً ، ثم من كل مخلوقات الله سبحانه وتعالى ، في قوله : } ومن كل خلقنا زوجين اثنين { إذاً أول ملامح التوازن في هذا الجزء يتجلى بالإشارة إلى ما لا يتم التوازن إلا به في هذه الحياة وهو الذكر والأنثى ، من الإنسان ومن كل شيء ولهذا ورد الخطاب بذكرهما جميعاً في آية واحدة ، وللتأكيد على جانب التوازن في الخطاب وأنَّ الشرع ذكر ما يقتضي ذلك ، وهو الأرض ، وبين تعالى في آية مجملة ذلك من خلال قوله تعالى : } ألم نجعل الأرض مهاداً & والجبال أوتاداً { ، فالتوازن الحقيقي في الأرض لا يتم إلا من خلال هذين الأمرين ؛ تمهيد الأرض وجعلها صالحة للسكن والعيش ، وهذا بحد ذاته بحاجة لما يثبتها ، والتثبيت إنما يكون بالجبال التي هي كالأوتاد ، ولهذا جاء الخطاب القرآني في هذه السورة فشملهما جميعاً وهذا التوازن في الخطاب ينبئُ عن التوازن في الطبيعة التي خلقها الله سبحانه وتعالى متوازنة من كل جانب .
والجانب الآخر في التوازن من خلال هذه السورة ذكر الله سبحانه وتعالى لأهل الشقاوة وأهل السعادة ، وهذا نلحظه دوماً في الآيات القرآنية ، فلا يكاد يُذكر فريق إلا ويردف بذكر الفريق الآخر في نفس السورة ، قال تعالى : } إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21) لِلطَّاغِينَ مَآَبًا (22) لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24) إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25) جَزَاءً وِفَاقًا (26) إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا (27) وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا كِذَّابًا (28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (29) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا { وفي المقابل قال الله تعالى : } إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32) وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (33) وَكَأْسًا دِهَاقًا (34) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا (35) جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا (36) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا (37) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا (38) ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآَبًا { فانظر كيف أن أصحاب الجزائين قد ذكرا في سورة واحدة في آيات متتالية ، مما يؤكد وجود هذا الأمر وحضوره بقوة في هذا الجزء من كتاب الله تعالى .
وإذا تدرجنا إلى السور التالية فإنا لا نعدم أمثلة على التوازن ، وباطلاع بسيط على سورة النازعات تتوضح الصورة ، إذ إنَّ سبحانه وتعالى قد بين خلقه لأمرين عظيمين شكلا جانب التوازن في هذا الحياة الدنيا أيضاً فشملهما الخطاب معاً في توازن في الخطاب أيضاً وهما ؛ السماء والأرض ، فقال تعالى : } أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا { ، ولا يتوقف الأمر عند هذا في هذه السورة بل إننا نجد قبل نهايتها إشارة أخرى إلى هذا التوازن في مقام إقامة الحجة على العباد وبيان مآل كل فريق من الفرقين ؛ الطائعين والعصاة ، قال الله تعالى : } فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآَثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى { وفي المقابل قال : } فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآَثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى { .
وهذا التوازن في الخطاب كما قلت يتجلى لنا في أكثر من سورة ، ولا أريد أن أُكثر الصفحات بالأمثلة ولكن لينظر إلى الكلمات التالية في سورة عبس ، إذ إن في الإشارة ما يغني عن العبارة ، ( يزكى مع ألا يزكى ، و فأنت له تصدى مع فأنت عنه تلهى ، وأماته فأقبره مع أنشره ، وأمه وأبيه ، ووجوه يومئذٍ مسفرة مع وجوه يومئذٍ عليها غبرة ) وهكذا القول أيضاً في سورة التكوير في أكثر من آية أجلاها وأوضحها في قوله تعالى : } وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ { وكذلك في قوله تعالى : } وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ { فانظر التوازن في الخطاب بين الآيتين الأولين ، الجنة أزلفت ، والجحيم سعرت ، وفي قوله تعالى : والليل إذا عسعس ، والصبح إذا تنفس . وكذلك الحال في سورة الانفطار ابتداءً من قوله تعالى : ( علمت نفس ما قدمت وأخرت ) ، في إشارة إلى التقديم والتأخير ،وهما متضادان ، وانتهاءً بقوله تعالى : } إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ { .
ويتجلى التوازن في أوضح صوره في سورة المطففين ، حيث إننا لا نلمس توازناً في الخطاب وحسب ، بل نجد توازناً حتى في عدد الحروف ونوعية العبارات وذلك في قوله تعالى : } كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (9) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ { وفي المقابل يقول الله تعالى : } كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ { ، فلاحظوا الكلمات والعبارات ، بل وعدد الأحرف أيضاً ، والتعبيرات القرآنية في مثال من أوضح الأمثلة على التوازن في الخطاب القرآني في هذا الجزء المبارك من القرآن العظيم ، ولا يقف الأمر عند ذلك في هذه السورة بل جاء فيها بيان ما تؤول إليه الأمور وانقلاب الأوضاع لإحداث توازن لم يتحقق في الدنيا ويتحقق في الآخرة وذلك في قوله : } إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا يَضْحَكُونَ { وفي المقابل :} فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ { ، في إشارة إلى أنَّ التوازن في الخطاب يحمل في طياته توازناً آخر وهو الذى تسيقيم به الحياة ، ألا وهو عدل الله تعالى وتحقق هذا العدل إن لم يكن في الدنيا ففي الآخرة ، فهو توازن من جهتين .
وكما يلاحظ القارئ الكريم أنَّ شواهد التوازن في الخطاب كثيرة وكثيرة جداً ، ولو أردنا أن نلتمسها في كل سورة من سور القرآن الكريم لوجدناها ، ولكني أختم بسورة هي مثال حي على التوازن ، ولا نكاد نعدم هذا التوازن في أيٍّ من آياتها ، وهي سورة الليل.
قال تعالى :(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4) فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10) وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى (11) إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12) وَإِنَّ لَنَا لَلْآَخِرَةَ وَالْأُولَى (13) فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (14) لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى (21) {
فالقارئ لهذه السورة يلاحظ التوازن في الخطاب في كل آياتها تقريباً ابتداءً من قوله والليل إذا يغشى ، والنهار إذا تجلى ، ثم قوله وما خلق الذكر والأنثى ، ثم بقوله تعالى فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى ، وفي المقابل وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى ، وهكذا في توازن رائع يستمر إلى آخر السورة ، فالتوازن حقيقة واقعة في هذا الجزء ، يمكن أن يضاف إلى تفسير جزء عم ، ونشير إليها عند تناولنا لهذه الآيات وهو ما كنت أفعله عند تدريسي لهذا الجزء ، والله أسأل أن يجعل الصواب والسداد رفيقنا في أعمالنا ونتاجنا ، فما كان في هذه الكلمات من صواب فهو من الله ، وما فيه من خلل قصور فمن نفسي والشيطان أعاذنا الله منه .
فلقد كتبت هذا الموضوع قبل عدة أيام لهذا الملتقى المبارك ، ولكن منذ يومين أو ثلاثة أحاول الدخول إلى موقع الملتقى دون فائدة ، وتخرج عبارة لا يمكن الوصول للصفحة ، ولهذا قمت بإنزال الموضوع في ملتقى أهل الحديث ، وبعد أن فتح موقع الملتقى معي ها أنا ذا أعيد طرح الموضوع في الملتقى آملاً أن يحوز على استحسانكم ومشاركاتكم .
[align=center]التوازن في الخطاب القرآني من خلال جزء عم [/align]
يمتاز القرآن الكريم إجمالاً بالتوازن من كل جانب ، كيف لا وهو كلام الله سبحانه وتعالى ، والمتصفح لسور القرآن وآياته يلحظ ذلك جلياً فيه ، وأنواع التوازن التي أقصدها كثيرة ؛ فمنها التوازن التشريعي ، ومنها التوازن في الخلق والتكوين ، ومنها التوازن في الخطاب الذي زخرت به آيات القرآن الكريم .
وأقصد بالتوازن في الخطاب هو أن يذكر الأمر ونقيضه معاً في آية واحدة أحياناً ، أو في سياق من الآيات .
ومن أول سورة في جزء عم نلحظ ذلك ، من خلال إشارة كتهيئة لما بعدها ، وذلك من خلال قوله تعالى } وخلقتاكم أزواجاً { ، فهذا فيه إشارة إلى الذكر والأنثى من الإنسان أولاً ، ثم من كل مخلوقات الله سبحانه وتعالى ، في قوله : } ومن كل خلقنا زوجين اثنين { إذاً أول ملامح التوازن في هذا الجزء يتجلى بالإشارة إلى ما لا يتم التوازن إلا به في هذه الحياة وهو الذكر والأنثى ، من الإنسان ومن كل شيء ولهذا ورد الخطاب بذكرهما جميعاً في آية واحدة ، وللتأكيد على جانب التوازن في الخطاب وأنَّ الشرع ذكر ما يقتضي ذلك ، وهو الأرض ، وبين تعالى في آية مجملة ذلك من خلال قوله تعالى : } ألم نجعل الأرض مهاداً & والجبال أوتاداً { ، فالتوازن الحقيقي في الأرض لا يتم إلا من خلال هذين الأمرين ؛ تمهيد الأرض وجعلها صالحة للسكن والعيش ، وهذا بحد ذاته بحاجة لما يثبتها ، والتثبيت إنما يكون بالجبال التي هي كالأوتاد ، ولهذا جاء الخطاب القرآني في هذه السورة فشملهما جميعاً وهذا التوازن في الخطاب ينبئُ عن التوازن في الطبيعة التي خلقها الله سبحانه وتعالى متوازنة من كل جانب .
والجانب الآخر في التوازن من خلال هذه السورة ذكر الله سبحانه وتعالى لأهل الشقاوة وأهل السعادة ، وهذا نلحظه دوماً في الآيات القرآنية ، فلا يكاد يُذكر فريق إلا ويردف بذكر الفريق الآخر في نفس السورة ، قال تعالى : } إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21) لِلطَّاغِينَ مَآَبًا (22) لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24) إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25) جَزَاءً وِفَاقًا (26) إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا (27) وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا كِذَّابًا (28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (29) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا { وفي المقابل قال الله تعالى : } إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32) وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (33) وَكَأْسًا دِهَاقًا (34) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا (35) جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا (36) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا (37) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا (38) ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآَبًا { فانظر كيف أن أصحاب الجزائين قد ذكرا في سورة واحدة في آيات متتالية ، مما يؤكد وجود هذا الأمر وحضوره بقوة في هذا الجزء من كتاب الله تعالى .
وإذا تدرجنا إلى السور التالية فإنا لا نعدم أمثلة على التوازن ، وباطلاع بسيط على سورة النازعات تتوضح الصورة ، إذ إنَّ سبحانه وتعالى قد بين خلقه لأمرين عظيمين شكلا جانب التوازن في هذا الحياة الدنيا أيضاً فشملهما الخطاب معاً في توازن في الخطاب أيضاً وهما ؛ السماء والأرض ، فقال تعالى : } أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا { ، ولا يتوقف الأمر عند هذا في هذه السورة بل إننا نجد قبل نهايتها إشارة أخرى إلى هذا التوازن في مقام إقامة الحجة على العباد وبيان مآل كل فريق من الفرقين ؛ الطائعين والعصاة ، قال الله تعالى : } فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآَثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى { وفي المقابل قال : } فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآَثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى { .
وهذا التوازن في الخطاب كما قلت يتجلى لنا في أكثر من سورة ، ولا أريد أن أُكثر الصفحات بالأمثلة ولكن لينظر إلى الكلمات التالية في سورة عبس ، إذ إن في الإشارة ما يغني عن العبارة ، ( يزكى مع ألا يزكى ، و فأنت له تصدى مع فأنت عنه تلهى ، وأماته فأقبره مع أنشره ، وأمه وأبيه ، ووجوه يومئذٍ مسفرة مع وجوه يومئذٍ عليها غبرة ) وهكذا القول أيضاً في سورة التكوير في أكثر من آية أجلاها وأوضحها في قوله تعالى : } وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ { وكذلك في قوله تعالى : } وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ { فانظر التوازن في الخطاب بين الآيتين الأولين ، الجنة أزلفت ، والجحيم سعرت ، وفي قوله تعالى : والليل إذا عسعس ، والصبح إذا تنفس . وكذلك الحال في سورة الانفطار ابتداءً من قوله تعالى : ( علمت نفس ما قدمت وأخرت ) ، في إشارة إلى التقديم والتأخير ،وهما متضادان ، وانتهاءً بقوله تعالى : } إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ { .
ويتجلى التوازن في أوضح صوره في سورة المطففين ، حيث إننا لا نلمس توازناً في الخطاب وحسب ، بل نجد توازناً حتى في عدد الحروف ونوعية العبارات وذلك في قوله تعالى : } كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (9) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ { وفي المقابل يقول الله تعالى : } كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ { ، فلاحظوا الكلمات والعبارات ، بل وعدد الأحرف أيضاً ، والتعبيرات القرآنية في مثال من أوضح الأمثلة على التوازن في الخطاب القرآني في هذا الجزء المبارك من القرآن العظيم ، ولا يقف الأمر عند ذلك في هذه السورة بل جاء فيها بيان ما تؤول إليه الأمور وانقلاب الأوضاع لإحداث توازن لم يتحقق في الدنيا ويتحقق في الآخرة وذلك في قوله : } إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا يَضْحَكُونَ { وفي المقابل :} فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ { ، في إشارة إلى أنَّ التوازن في الخطاب يحمل في طياته توازناً آخر وهو الذى تسيقيم به الحياة ، ألا وهو عدل الله تعالى وتحقق هذا العدل إن لم يكن في الدنيا ففي الآخرة ، فهو توازن من جهتين .
وكما يلاحظ القارئ الكريم أنَّ شواهد التوازن في الخطاب كثيرة وكثيرة جداً ، ولو أردنا أن نلتمسها في كل سورة من سور القرآن الكريم لوجدناها ، ولكني أختم بسورة هي مثال حي على التوازن ، ولا نكاد نعدم هذا التوازن في أيٍّ من آياتها ، وهي سورة الليل.
قال تعالى :(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4) فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10) وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى (11) إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12) وَإِنَّ لَنَا لَلْآَخِرَةَ وَالْأُولَى (13) فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (14) لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى (21) {
فالقارئ لهذه السورة يلاحظ التوازن في الخطاب في كل آياتها تقريباً ابتداءً من قوله والليل إذا يغشى ، والنهار إذا تجلى ، ثم قوله وما خلق الذكر والأنثى ، ثم بقوله تعالى فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى ، وفي المقابل وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى ، وهكذا في توازن رائع يستمر إلى آخر السورة ، فالتوازن حقيقة واقعة في هذا الجزء ، يمكن أن يضاف إلى تفسير جزء عم ، ونشير إليها عند تناولنا لهذه الآيات وهو ما كنت أفعله عند تدريسي لهذا الجزء ، والله أسأل أن يجعل الصواب والسداد رفيقنا في أعمالنا ونتاجنا ، فما كان في هذه الكلمات من صواب فهو من الله ، وما فيه من خلل قصور فمن نفسي والشيطان أعاذنا الله منه .