مع العد التنازلي لأيام شعبان .. هل تهيأت النفوس والبيوت لرمضان ؟
ولا يتم هذا التهيؤ إلا بأمرين مهمين :
الأول : توبة نصوح ، يصحح بها المسلم طريقه إلى الله تعالى .
الثاني : علم ، يصحح به عمله ، فيجب على كل من افترض عليه الصيام تعلم أحكام الصيام وآدابه .. حتى يكون صيامه صحيحًا مقبولا ، وينال به مغفرة الذنوب ، والعتق من النيران .
اللهم بلغنا رمضنا ، واجعلنا من المقبولين .. إنك سميع الدعاء .
وحاجتنا إلى التوبة والاستغفار في كل يوم تتكرر ، لأننا في كل يوم نخطئ مرارًا ، ومن هنا نفهم قول النبي صلى الله عليه وسلم : " يَا أَيُّهَا النَّاسُ ، تُوبُوا إِلَى اللهِ ، فَإِنِّي أَتُوبُ ، فِي الْيَوْمِ إِلَيْهِ مِائَةَ مَرَّةٍ " رواه مسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما .
وإياك أن تسوف التوبة ، فمعظم صراخ أهل النار من التسويف .
فمن الآن فتب ، وجدد التوبة في كل يوم مرارًا ، ولا تقول كما يقول : هذا الجاهل : إذا جاء رمضان فعلت وفعلت ؛ فإن تأخير التوبة إثم ، ولا يدري المغرور متى يكون أجله .
واعلموا أننا جميعًا نحتاج إلى توبة تجب ما قبلها ، ولن تكون إلا بتوفيق من الله تعالى ، واقرأوا إن شئتم : { وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ . يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ } [ التوبة : 118، 119] .
اللهم اغفر لنا ما مضى ، وأصلح لنا ما بقي .. إنك سميع الدعاء .
حل عقدة الإصرار
ومن معاني التوبة : حل عقدة الإصرار ، هذه العقدة المهلكة ، والتي قد لا يلتفت إليها بعض من يظن أنه قد تاب ؛ فعندما يصر القلب على العود إلى الذنب ، فقد افتقد شرطًا من شروط صحة التوبة ، ولم تُحل منه عقدة الإصرار ؛ وقد قال الله تعالى : { وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُون } [آل عمران: 135] .
فاحرص أيها التائب على حل هذه العقدة ، لتصح توبتك ؛ واعلم أن التوبة تحتاج إلى تغيير لحياتك ؛ قال عز ذكره : { وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا } [الفرقان : 71] .
فلابد من العمل الصالح بعد التوبة .
اللهم إنا نسألك توبة ترضيك ، تمحو ما قد كان من تقصيرنا ، إنك أنت التواب الرحيم ... وللحديث صلة .
تقدم أن التهيؤ لرمضان يكون بأمرين مهمين :
توبة يصحح بها المسلم طريق نجاته .
وعلم يصحح به عمله ؛ وتكلمت عن بعض جوانب التوبة .
أما العلم ؛ فاعلموا - رحمكم الله - أنه لا يستطيع أحد أن يعمل عملا صحيحًا ، أو يقول قولا صحيحًا إلا بعلم ؛ وهذا ينتظم فيه الأمور الدينية والدنيوية ، ولذلك بوَّب البخاري في كتاب العلم من صحيحه ( باب العلم قبل القول والعمل ) .
ثم اعلموا أن الصيام في اللغة مطلق الإمساك ؛ وفي الشرع : إمساك عن المفطرات من طلوع الفجر الصادق إلى غروب الشمس ، بنية .
وهناك تعريف أشمل من ذلك ، فقد عرفه الحافظ بن حجر - رحمه الله - في ( فتح الباري ) بقوله : إمساك مخصوص ، في زمن مخصوص ، عن شيء مخصوص ، بشرائط مخصوصة . وسأتناول هذه التعريف - إن شاء الله - بالشرح ؛ لأنه يشمل كل ما يتعلق بالصيام .
أما الإمساك المخصوص ؛ فالصيام في اللغة : مطلق الإمساك ؛ فالإمساك عن الطعام ، أو عن الشراب ، أو عن الحركة ، أو عن الكلام ؛ هذا كله صيام في اللغة .
أما في الشرع المطهر ، فهو إمساك بنية ؛ فالإمساك بلا نية لا يكون عبادة ؛ ويتعلق بالنية مسائل :
الأولى : أن النية في اللغة القصد ، والعزم ؛ وفي الشرع : قصد الشيء مقترنًا بفعله ؛ فهي انبعاث النفس لفعل الشيء ، وليس للسان فيها دخل ؛ إنما هي عمل القلب .
وشأن النية سهل ميسور ؛ حتى قال الفقهاء : من قام لوجبة السحر يكفيه هذا في النية ، فإن وجبة السحر لا تكون إلا للصيام .
المسألة الثانية : للصيام نيتان ؛ نية عامة بصيام الشهر كاملا ؛ وهذه تبدأ من الآن ، فإن عاجل الإنسان أجله قبل أن يدرك رمضان ، فإنه يؤجر بهذه النية ؛ فرأس مال المسلم في العمل مع الله تعالى : نيته ؛ فربما ناوِ خير أجر عليه أجرا عظيمًا ؛ ورب فاعل خير رد عليه ، لما كان فيه من الرياء أو حظ من حظوظ النفس .
والنية الخاصة : هي ما يتعلق بتبييت النية من الليل لصيام كل يوم ؛ فكل يوم عبادة مستقلة تحتاج إلى نية ؛ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : " " مَنْ لَمْ يُبَيِّتِ الصِّيَامَ قَبْلَ الْفَجْرِ فَلَا صِيَامَ لَهُ " وفي رواية : " مَنْ لَمْ يُجْمِعِ الصِّيَامَ قَبْلَ الْفَجْرِ فَلَا صِيَامَ لَهُ " رواه أحمد وأهل السنن عن حفصة رضي الله عنها ، قال الترمذي – رحمه الله : وَإِنَّمَا مَعْنَى هَذَا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ : لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُجْمِعِ الصِّيَامَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فِي رَمَضَانَ ، أَوْ فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ ، أَوْ فِي صِيَامِ نَذْرٍ ، إِذَا لَمْ يَنْوِهِ مِنَ اللَّيْلِ لَمْ يُجْزِهِ ؛ وَأَمَّا صِيَامُ التَّطَوُّعِ فَمُبَاحٌ لَهُ أَنْ يَنْوِيَهُ بَعْدَ مَا أَصْبَحَ ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَقَ .ا.هـ.
الفرق بين النية والإخلاص :
تقدم تعريف النية ؛ ويجب الإخلاص فيها ، ومعناه : أن يجردها لله عز وجل ، فلا يكون فيها رياء ، ولا حظ من حظوظ النفس ؛ ويدخل ذلك في قوله صلى الله عليه وسلم : " مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ " .
اللهم ارزقنا الإخلاص في النية ، والقول ، والعمل ... إنك سميع الدعاء ... آمييين .
الزمن المخصوص :
وقت الصيام من طلوع الفجر الصادق إلى غروب الشمس ؛ فالفجر فجران : كاذب وهو الذي يظهر في السماء مستطيلا كذنب السرحان ؛ وصادق وهو الذي يكون مستعرضًا ثم يكون بعده شيء من الغلس ، ثم يظهر ضوء النهار ، وهذا الذي يتعلق به العبادة ، فهو وقت صلاة الصبح ، وأول وقت الصيام ؛ قال الله تعالى : { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ } [البقرة: 187] ؛ والمراد بالخيط الأبيض والخيط الأسود : بياض النهار وسواد الليل ؛ وفي الصحيحين عَنْ عُمَرَ t قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e: " إِذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ ، وَأَدْبَرَ النَّهَارُ ، وَغَابَتِ الشَّمْسُ ، فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ " .
ويتعلق بزمن الصوم مسائل : الأولى : أن الله تعالى علق العبادات بأشياء محسوسة في حساب وقتها ؛ فطلوع الفجر ، ومغيب الشمس أمران محسوسان يعرفان بالمشاهدة . وعلى ذلك إذا رأى صائم غياب الشمس فله أن يفطر ولو لم يسمع الأذان ، وكذلك إذا رأى الفجر الصادق فعليه أن يمسك ولو لم يسمع أذانًا .
على ذلك فالساكنين في أدوار عالية يرون منها الشمس ، لا يفطرون وإن سمعوا الأذان حتى تغيب الشمس .. وكذا المسافرون بالطائرة ، لا يفطرون حتى تغيب الشمس . المسألة الثانية : إذا قام من الليل ولم يتبين له طلوع الفجر ، وليس عنده ما يستدل به على ذلك ، فله أن يأكل ويشرب حتى يتبين له ؛ كما بينت الآية ؛ وذلك لأن الأصل ها هنا بقاء الليل ، والشك في طلوع الفجر ، ولا يزول اليقين بالشك .. أما إذا كان عنده ما يستدل به كالتقوايم والساعات ونحو ذلك فلا يسارع بأكل أو بشرب حتى يتبين له . المسألة الثالثة : إذا حدث غيم ، وظُنَّ أن الشمس قد غابت فلا يسارع أحد بإفطار حتى يتبين ، لا سيما ووسائل التبين في عصرنا كثيرة ، لأن الأصل بقاء النهار ، فإن سارع وأفطر ، فيجب عليه قضاء هذا اليوم . وكذلك من يسمع أذانا من خلال المذياع أو التلفاز ، يلزمه أن يتأكد أن هذه الأذان خاص بمحلته ، لا ببلد آخر فيه فارق توقيت ، فمن تسرع وأفطر ، يلومه قضاء هذا اليوم .
وهذا ، والعلم عند الله تعالى ... وللحديث صلة .
الشيء المخصوص :
المفطرات الحسية من طعام وشراب وجماع ، هي الشيء المخصوص الذي يمسك عنه الصائم في وقت الصيام ؛ أي من طلوع الفجر الصادق إلى غروب الشمس ؛ ويتعلق بها مسائل : الأولى : الحقن المغذية ، ونقل الدم .. يأخذ حكم الطعام والشراب بجامع التغذية . الثانية : كل ما يدخل الجوف من المدخل الطبيعي للأكل والشرب يفطر به الصائم . الثالثة : من أكل أو شرب متعمدًا ، فقد ارتكب كبيرة من الكبائر ؛ ويلزمه التوبة والاستغفار ، وقضاء اليوم الذي أفطره عند جمهور العلماء ؛ وقال المالكية : ويلزمه - أيضًا – الكفارة المغلظة التي للجماع ؛ بجامع الانتهاك ؛ والكفارة المغلظة على الترتيب : عتق رقبة ، فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين ، فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينًا . الرابعة : من أكل أو شرب ناسيًا ، فليتم صومه ؛ لما أخرجه الشيخان عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e: " مَنْ نَسِيَ وَهُوَ صَائِمٌ فَأَكَلَ أَوْ شَرِبَ فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ ، فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اللَّهُ وَسَقَاهُ " . الخامسة : يجوز مضغ الطعام لصغير لا يقوى على ذلك ، ويحرص من يفعل ذلك ألا يصل إلى جوفه شيء . السادسة : من السنة المبالغة في المضمضة والاستنشاق إلا للصائم . السابعة : يتجنب الصائم استعمال الفرشاة والمعجون أثناء الصيام حذرا من تحلل شيء من العجون ووصوله إلى الجوف ، وأما السواك ( عود الآراك ) فيجوز استعماله بلا كراهة على الصحيح .
هذا ما يتعلق بالطعام والشراب ... وللحديث صلة .
أما من جامع في نهار رمضان ، فقد ارتكب كبيرة من الكبائر ، فيلزمه التوبة والاستغفار ، والقضاء والكفارة المغلظة ، على الترتيب المذكور في المقالة السابقة ؛ ففي الصحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : هَلَكْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَالَ: " وَمَا أَهْلَكَكَ " ، قَالَ : وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي فِي رَمَضَانَ ، قَالَ : " هَلْ تَجِدُ مَا تُعْتِقُ رَقَبَةً ؟ " قَالَ : لا ، قَالَ : " فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ ؟ " قَالَ : لا ، قَالَ : " فَهَلْ تَجِدُ مَا تُطْعِمُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ؟ " قَالَ : لا ؛ قَالَ : ثُمَّ جَلَسَ ؛ فَأُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِعَرَقٍ فِيهِ تَمْرٌ ؛ فَقَالَ : " تَصَدَّقْ بِهَذَا " قَالَ : أَفْقَرَ مِنَّا ؟ فَمَا بَيْنَ لابَتَيْهَا أَهْلُ بَيْتٍ أَحْوَجُ إِلَيْهِ مِنَّا ! فَضَحِكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى بَدَتْ أَنْيَابُهُ ، ثُمَّ قَالَ : " اذْهَبْ فَأَطْعِمْهُ أَهْلَكَ "، وفي رواية عند مسلم أَنَّ رَجُلا وَقَعَ بِامْرَأَتِهِ فِي رَمَضَانَ ، فَاسْتَفْتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ : " هَلْ تَجِدُ رَقَبَةً " قَالَ : لا ، قَالَ : " وَهَلْ تَسْتَطِيعُ صِيَامَ شَهْرَيْنِ " ، قَالَ : لا ، قَالَ : " فَأَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا " .
قال النووي – رحمه الله : والفَرَق والعَرَق عند الفقهاء ما يسع خمسة عشر صاعًا ، وهي ستون مدًّا لستين مسكينًا ، لكل مسكين مد .ا.هـ .
ودل الحديث على أن الوطء في نهار رمضان كبيرة من كبائر الذنوب المهلكات ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقر الرجل على قوله : ( هلكت ) ، ورتب على فعله الكفارة المغلظة .
ويترتب على ذلك مسائل : الأولى : الاستمناء لا يحل ، فإن وقع من أحد في نهار رمضان فقد ارتكب إثمًا ، ويلزمه التوبة والاستغفار ، وقضاء اليوم . الثانية : من أدام الفكر في هذه الشهوة حتى أمنى ، فقد أفسد صيامه ، ويلزمه مع الاستغفار قضاء اليوم بعد رمضان ؛ فإن أمذى فقط ، ففيها خلاف بين أهل العلم ، والأولى القضاء ، لأنه ينبغي على الصائم أن يبتعد بالكلية عن كل الأسباب المهيجة لشهوته . الثالثة : القبلة ونحوها لمن كان يملك أربه ، فجائزة ؛ وإن كان لا يملك أربه ، فمكروهة لأنه قد توقعه في المحظور ، والأولى أن لا يفعلها في النهار ، وله في اليل سعة . الرابعة : من نام في نهار رمضان فاحتلم ، فلا شيء عليه ، ويتم صومه ، ويسارع بالاغتسال من أجل الصلاة . الخامسة : من أجنب ليلا ، وغلبه النوم ، ولم يستيقظ إلا بعد دخول وقت الصيام ، وكان قد نوى الصيام ، فصيامه صحيح ، ويسارع بالاغتسال من أجل الصلاة . السادسة : ذهب بعض أهل العلم إلى كراهة الطيب للصائم لأنه من دواعي الشهوة ، ولا دليل على ذلك ، ولكن يجتنب البخور ونحوه مما يدخل في الحلق ، وقد يتكثف فيمر إلى الجوف .
هذا ، والعلم عند الله تعالى ، وللحديث صلة .
ليس من نافلة القول أن أذكِّر بأن " الصوم أمانة ، فليحفظ أحدكم أمانته " كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ؛ ومعنى أن الصوم أمانة أنه يجب أن يحفظ ، وحفظه بحفظ السمع والبصر والجوارح والقلب عن المعصية ، فما استفاد ممسك عن الطعام والشراب والشهوة إذا رد عليه صيامه ، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " رُبَّ صَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إِلَّا الْجُوعُ ، وَرُبَّ قَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ قِيَامِهِ إِلَّا السَّهَرُ " رواه أحمد والنسائي وابن ماجة والحاكم ؛ وفي صحيح البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t قَالَ : قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم : " مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ ، فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ " .
فليس غاية الصيام لله رب العالمين الامتناع عن الحلال من أكل وشرب وزوجة ، ثم يُعمل الإنسان جوارحه فيما حرم الله تعالى ، فلا يتم التقرب إلى الله تعالى بترك هذه الشهوات المباحة والتي هي ممنوعة حالة الصيام فقط ، إلا بعد التقرب إليه بترك ما حرم في كل حال ، وقد صح عن النبي e أنه قال : " ليس الصيام من الأكل والشرب ، إنما الصيام من اللغو والرفث " رواه ابن حبان والحاكم .
فالصائم أشد حرصًا على ترك المعاصي من غيره ، لأنَّ إرادته ارتفعت حتى ترك المباح الحلال لله تعالى في هذه الأوقات ، وهي له حلال في غيرها ؛ وأما المعصية صغيرة كانت أو كبيرة ، فهي حرام عليه في رمضان وفي غير رمضان ؛ فمن ترك الحلال لأمر الله تعالى مستسلمًا مذعنًا ، سهل عليه أن يترك الحرام لله تعالى مستسلمًا مذعنًا ، وهذه هي الغاية من الصيام .
وقد قال بعض السلف : أهون الصيام الإمساك عن الشراب والطعام ، ولله در القائل:
إذا لم يكـنْ في السمعِ مني تصاونُ ... وفي مقلتي غـضٌ وفي منطقي صَمْتُ
فحظي إذًا من صومي الجوعُ والظمأ ... وإن قلتُ إني صُمتُ يومًا فما صُمْتُ
فاحفظوا رحمكم الله أبصاركم وأسماعم وألسنتكم وجوارحكم عن الحرام ، تبلغوا بذلك تقوى الله تعالى ، ويكون صومكم وأعمالكم أقرب للقبول .
بلغنا الله رمضان ، وأعاننا على صيامه وقيامه إيمانا واحتسابا ، وتقبله منا .. إنه سميع الدعاء ... آمييين .
الشرائط المخصوصة :
هي التي تتعلق بوجوب الصيام وصحته ؛ وهي الإسلام ، والبلوغ ، والعقل ، والسلامة من المرض ، والإقامة ؛ وبالنسبة للنساء الخلو من الحيض والنفاس .
فلا يجب الصيام إلا على مسلم ، بالغ ، عاقل ، صحيح ، مقيم ؛ ولا يصح من المرأة الحائض والنفساء ، وتقضي بعد رمضان ما أفطرته في رمضان .
ويتعلق بذلك مسائل : المسألة الأولى : الإسلام شرط وجوب وصحة ، فلا يجب الصيام إلا على المسلم ، ولا يصح من كافر . المسألة الثانية : التكليف منوط بالبلوغ والعقل ؛ فلا يجب الصيام على صغير ، ولا على مجنون ولا على من انتهى به العمر إلى الخرف وذهاب العقل .
ويصح من الصغير ، ويربيه أبويه على ذلك ليعتاده ؛ ولا يصح من مجنون ولا خرف .
ومن انتهى به عمره إلى الخرف ، فقد سقط عنه التكليف ، ولا يفدي ؛ وأما من كان شيخًا كبيرًا أو عجوزًا لم يفقدا عقلهما ، ولكنهما لا يقويا على الصيام ، فيفدي كل واحد منهما عن كل يوم إطعام مسكين .
ومن مات في رمضان ، فلا يلزمه بقية الأيام ، لأنه بموته قد سقط عنه التكليف . المسألة الثالثة : من كان مريضًا أو على سفر فله أن يترخص بالإفطار ، ويصوم بعد رمضان عدد الأيام التي أفطرها ، ويجوز الصيام في حال المرض أو السفر لمن استطاع ذلك .
المريض مرضًا مزمنًا ، لا يرجى برؤه ، ولا يقوى على الصيام ، له أن يفطر ، ويطعم عن كل يوم مسكينًا .
السفر الذي يبيح الإفطار ، هو السفر الذي يبيح القصر للصلاة ، والجمهور على أن مسافته ( 80 كم ) تقريبًا ؛ ولا عبرة براحة المواصلات ونحوها . المسألة الرابعة : لا يصح الصوم من حائض ولا نفساء ؛ ويلزمها الفطر ، ومن كانت حائضًا أو نفساء ، وارتفع عنها الدم قبل الفجر تنوي الصيام ، وإن أخرت التطهر إلى ما بعد دخول وقت الصيام ( الفجر ) ، وعليها أن تسارع بالتطهر لأجل الصلاة .
ومن كانت صائمة ، ونزل الحيض ولو قبل المغرب بلحظات ، بطل صومها ، وتقضي هذا اليوم بعد رمضان ؛ ولن يضيع أجرها عند ربها الكريم والمنان .
أما الحامل والمرضع ، فلهما أن يصوما ، إن قدرا على ذلك ، ولم يتضرر الجنين أو الرضيع ، فإن تحقق التضرر ، فلهما أن يفطرا ، ويقضيا بعد رمضان .
ووقت القضاء يبدأ من بعد عيد الفطر وإلى انتهاء شعبان ، والأولى أن يسارع مَنْ عليه صيام بقضائه ، فهو دين ، ولا يدري متى تنفلت نفسه .
هذا ، والعلم عند الله تعالى ، وصلى الله وسلم وبارك على النبي محمد وعلى آله .
اللهم ربنا بلغنا رمضان ، ووفقنا للصيام والقيام والطاعة على الوجه الذي يرضيك .. آمييين ، إنك سميع الدعاء .