مساعد الطيار
مستشار
- إنضم
- 15/04/2003
- المشاركات
- 1,698
- مستوى التفاعل
- 5
- النقاط
- 38
إن الشيخ محمد حسين الذهبي قد ألف كتابه النافع المفيد ( التفسير والمفسرون ) ، ولطول خطة البحث التي انتهجها ـ رحمه الله ـ وقع عنده بعض الأخطاء لذلك السبب ، فتميز بحثه بالجمع والترتيب ، لكن نقصه تحرير بعض المواطن ، ولما كان هذا الكتاب من الكتب المعتمدة في الدراسات القرآنية المعاصرة أحببت أن أسدد بعض ما رأيته من الخلل في بعض فصول هذا الكتاب ، ومن ذلك ما وقع له من تصور وتنظير لمراحل التفسير ، وقد رأيت من ينقل عنه هذه الأفكار دون النظر إلى ما فيها من أخطاء مجانبة لواقع تاريخ التفسير ، فأحببت أن ألقي في هذا المقال تعليقات على بعض النقاط التي ذكرها في كتابه فيما يتعلق بمراحل التفسير وتدوينه ، ولن اخرج إلى غيرها مما طرحه في هذه المراحل ، لكي تكون الفائدة المرجوة محددةً ، فيصل المراد من التعليق .
هذا وقد سبق الحديث عن كتاب ( التفسير والمفسرون ) على هذا الرابط ، لمن شاء أن يرجع إليه ( http://www.tafsir.org/vb/showthread.php?s=&threadid=300 )
وآتي الآن إلى ذكر كلام الشيخ محمد حسين الذهبي رحمه الله تعالى :
أولاً : تقسيم الذهبي لمراحل التفسير :
المرحلة الأولى : التفسير في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه (1 : 35 ـ 98 ) .
وقد ذكر من مميزات هذه المرحلة :
أنه اتخذ شكل الحديث ، بل كان جزءًا منه ، وفرعًا من فروعه ، ولم يتخذ التفسير له شكلاً منظمًا ، بل كانت هذه التفسيرات تُروى منثورةً لآيات متفرقة ، كما كان الشأن في رواية الحديث ، فحديث صلاة بجانب حديث جهاد ، بجانب حديث ميراث ، وبجانب حديث في تفسير آية ( 1 : 98 ) .
أقول :
لا يظهر مراد الشيخ محمد حسين الذهبي ـ رحمه الله ـ في هذا الكلام ، فهو يحتمل أنه يريد الرواية الشفهية ، فالصحابي يروي على هذه الصورة ، وهذا لا يدل عليه الدليل من آثارهم ، فليس لهم مجالس إملاء للحديث كي تتم هذه الصورة ، وإنما كانوا يذكرون من الأحاديث حسب الحاجة ، وليس فيها هذه التقسيمات التي يذكرها ( حديث . فرائض . تفسير ) بل كانت روايتهم لحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم على أنها أقواله التي تُتلقَّى بالقبول فحسب .
والتصنيف إنما جاء متاخِّرًا ، وقد ورد في ترجمة ابن عباس ما يشير إلى اختلاف اهتمامات المتلقين عنه ، ومن ذلك ما رواه ابن سعد في الطبقات الكبرى ( 2 : 368 ) بسنده عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ، قال : كان ابن عباس قد فات الناس بخصال : بعلم ما سبقه ، وفقه فيما احتيج إليه من رأيه ، وحلم ، وسيب ، ونائل ، وما رأيت أحدا كان أعلم بما سبقه من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم منه ، ولا أعلم بقضاء أبي بكر وعمر وعثمان منه ، ولا أفقه في رأي منه ، ولا أعلم بشعر ولا عربية ولا بتفسير القرآن ولا بحساب ولا بفريضة منه ، ولا أعلم بما مضى ، ولا أثقف رأيا فيما احتيج إليه منه.
ولقد كان يجلس يوما ما يذكر فيه إلا الفقه ، ويوما التأويل ، ويوما المغازي ، ويوما الشعر ، ويوما أيام العرب ، وما رأيت عالما قط جلس إليه إلا خضع له ، وما رأيت سائلا قط سأله إلا وجد عنده علما )) .
وإن كان يريد التدوين ، فقد سبق عبارته هذه قوله : (( لم يدوَّن شيء في التفسير في هذا العصر ؛ لأن التدوين لم يكن إلا في القرن الثاني . نعم أثبت بعض الصحابة بعض التفسير في مصاحفهم ، فظنها بعض المتاخرين من وجوه القرآن التي نزل بها من عند الله تعالى )) ( 1 : 98 ) .
فإذا كان لم يُدوَّن ، ولا يُعرف لهم مجالس خاصة لإلقاء الحديث النبوي ، فالقول بأنه التفسير فرع من فروع الحديث لا يصلح ؛ لأن الحديث كعلم مستقل لم يبرز بَعْدُ .
فائدة :
يلاحظ أنَّه ذكر ما يسميه بعض العلماء بالقراءة التفسيرية ، وهذه القضية تحتاج إلى تجلية ، من جهة صحة هذا الاطلاق ، فمن ذا يستطيع الجزم بأن ما أدخلوه إنما هو تفسير وليس بقراءة ؟ إن موضوع القراءت التفسيرية يحتاج إلىإعادة نظر ، ألفت إليه هنا ، فهي تروى عن الصحابي قراءةً لا تفسيرًا .
ولا يبعد القول أنَّ قَصْدَ تَعَلُّم التفسير وتدوينه كان في عصر الصحابة ، وشواهد هذا كثيرة ، أذكر منها ـ على سبيل المثال ـ :
1 ـ روى الطبري في تفسيره (ط : الحلبي 1 : 65 / 2 : 404 ) بسنده عن مجاهد قال : (( عرضت المصحف على ابن عباس ثلاث عرضات من فاتحته إلى خاتمته أوقفه عند كل آية منه وأسأله عنها )) .
فلو لم يكن التفسير متميِّزًا ، لما كان مثل هذا الموقف من مجاهد .
2 ـ وروى ابن سعد في الطبقات الكبرى ( 7 : 224 ) بسنده عن أبي الجوزاء ، قال : (( جاورت بن عباس في داره اثنتي عشرة سنة ما في القرآن آية الا وقد سألته عنها )) .
انظر كيف خصَّ مجاورته هذه للاستفادة من ابن عباس ، وخصوصًا في التفسير .
وقد يقول قائل : لم ابن عباس ؟
فالجواب : لأن النبي صلى الله عليه وسلم دعاه له بعلم الكتاب ، ومنه التفسير ، قال ابن عباس : (( ضمني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال : اللهم علمه الكتاب )) رواه البخاري ( رقم : 75 ، 143 ، 3546 ، 6842 ) .
وشهرة ابن عباس في التفسير لا تحتاج إلى تدليل ، لذا يمكن أن يقلب السؤال فيقال : هل كان علم الحديث علمًا قائمًا بذاته في هذه الفترة ؟
المرحلة الثانية :للتفسير ( التفسير في عهد التابعين ) .
مما ذكر من مميزات هذه المرحلة ما يأتي :
ظل التفسير محتفظًا بطابع التلقي والرواية ، إلا إنه لم يكن تلقيًا ورواية بالمعنى الشامل ، كما هو الشأن في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، بل كان تلقيًّا ورواية يغلب عليهما طابع الاختصاص ، فأهل كل مصر يُعنون بوجه خاص بالتلقي والرواية عن إمام مصرهم ، فالمكيون عن ابن عباس ، والمدنيون عن أبي ، والعراقيون عن ابن مسعود ، وهكذا . ( 1 : 131 ـ 132 ) .
وقد علق في الحاشية على قوله : ( التلقي والرواية ) ، فقال : (( وما سبق من أن مجاهد بن جبر كتب التفسير كله عن ابن عباس ، وما يأتي بعد من ان سعيد بن جبير كتب تفسير القرآن لا يخرج بالتفسير في هذه المرحلة عن طابع التلقي والرواية ؛ لأن هذا عمل فردي لا يؤثر على الطابع العام )) . ( 1 : 131 )
في هذا المقطع عدد من الأمور ، لكن أكتفي بأمر واحد ، وهو أن التحديد الزمني بطبقة التابعين لا يصلح في مناقشة التدوين في التفسير ، والسبب أنَّ بعض أتباع التابعين كتب التفسير عن التابعين ، والتابعون متوافرون ، فهل ستُعدُّ كتابتهم في عهد التابعين ، أو في عهد اتباع التابعين ؟
وهذه القضية تجعل الباحث يتريث في تقسيم الفترة بين التابعين وأتباعهم ، ولو دُمجت الفترتان لكان أولى ، وهي تعطي تصورًا واضحًا لحجم الكتابة في التفسير ، بل إنها كثيرة جدًّا .
وإذا اعتبرت التدوين في عهد التابعين ـ ولو كان الكاتب من أتباع التابعين ـ فإنه مما سيظهر لك من كتبهم ـ غير ما استدرك به الذهبي ـ ما يأتي :
1 ـ التفسير عن سعيد بن جبير ( ت : 94 ) كتبه عنه عزرة بن عبد الرحمن ، قال وقاء بن إياس : (( رأيت عزرة يختلف إلى سعيد بن جبير ، ومعه التفسير في كتاب ، ومعه الدواء يغيِّر )) ( المعرفة والتاريخ للفسوي 3 : 212 ـ 213 / طبقات ابن سعد 6 : 266 ) .
وما دام يكتبه أمام سعيد بن جبير ، فالكتابة في عهد التابعين .
2 ـ أملى مجاهد التفسير على القاسم بن أبي بزَّة . ( المعرفة والتاريخ للفسوي 2 : 154 ) .
3 ـ أملى الحسن البصري التفسير على تلاميذه ( جامع بيان العلم وفضله 1 : 89 ) .
4 ـ قال ابن أبي حاتم في ( الجرح والتعديل 3 : 319 ) : (( حم بن نوح البلخي روى عن أبي معاذ خالد بن سليمان الحراني عن أبي مصلح عن الضحاك تفسير القرآن سورة سورة )) .
وقال ماكولا في ( الإكمال 6 : 241 ـ 242 ) : (( وحسين بن عقيل يروي عن الضحاك بن مزاحم كتاب التفسير )) .
5 ـ قال ابن حجر في ( العجاب في بيان الأسباب 1 : 217 ) : ((تفسير زيد بن أسلم من رواية ابنه عبد الرحمن عنه وهي نسخة كبيرة يرويها ابن وهب وغيره عن عبد الرحمن عن أبيه و عن غير أبيه وفيها أشياء كثيرة لا يسندها لأحد وعبد الرحمن من الضعفاء و أبوه من الثقات )) ، وهو من مرويات الثعلبي في مقدمة تفسيره .
وإذا أدخل جيل أتباع التابعين ، فإنه سيظهر لك أكثر من ذلك ، ومن الكتب التي تنسب إلى هذا الجيل :
1 ـ قال ابن سعد في الطبقات ( 7 : 273 ) : ((قال قريش بن أنس حلف لي سعيد بن أبي عروبة أنه ما كتب عن قتادة شيئا قط إلا أن أبا معشر كتب إلي أن أكتب له تفسير قتادة قال فقال تريد أن تكتب عني قال فلم أزل به أخبرنا عفان بن مسلم قال قال لي همام جاءني سعيد بن أبي عروبة فطلب مني عواشر القرآن عن قتادة فقلت له أنا أنسخه لك وأرفعه إليك فقال لا إلا كتابك فأبيت عليه واختلف إلي فلم أعره )) .
وقال المزي في ( تهذيب الكمال 11 : 8 ) : ((قال أبو حاتم سمعت أحمد بن حنبل يقول لم يكن لسعيد بن أبي عروبة كتاب إنما كان يحفظ ذلك كله وزعموا أن سعيدا قال لم أكتب إلا تفسير قتادة وذلك أن أبا معشر كتب إلي أن أكتبه ))
2 ـ وقال المزي في ( تهذيب الكمال 30 : 435 ) (( قال علي بن المديني عن يحيى بن سعيد قال معاذ قال ورقاء كتاب التفسير قرأت نصفه على بن أبي نجيح وقرأ علي نصفه وقال بن أبي نجيح هذا تفسير مجاهد )) .
3 ـ قال الخطيب البغداي في تاريخ بغداد ( 11 : 135 ) : (( عبدان بن محمد بن عيسى أبو محمد المروزي سمع قتيبة بن سعيد وإسحاق بن راهويه وعلي بن حجر وعمار بن الحسن الرازي وأبا كريب محمد بن العلاء وحوثرة بن محمد المنقري وعبد الجبار بن العلاء وعبد الله بن محمد الزهري المكيين ومحمد بن بشار ومحمد بن المثنى روى عنه أبو العباس الدغولي وغير واحد من الخراسانيين وقدم بغداد وروى بها كتاب التفسير لمقاتل بن حيان وغيره )) .
4 ـ تفسير مقاتل بن سليمان ( ت : 150 ) ، وهو مطبوع بتحقيق عبد الله شحاته ، وحققه مؤخرًا أحمد فريد .
5 ـ تفسير يحيى بن سلام البصري ( ت : 200 ) ، وقد طبع جزء منه بتحقيق هند شلبي .
6 ـ تفسير سفيان الثوري ( ت : 161 ) ، وهو مطبوع بتحقيق امتياز عرشي .
7 ـ تفسير عبد الرزاق الصنعاني ( ت : 211 ) ، وهو من طبقة صغار أتباع التابعين ، وقد روى أكثر تفسيره عن شيخه معمر عن قتادة .
8 ـ ألف ابن جريج ( ت : 150 ) كتبًا في التفسير . ( تاريخ بغداد 8 : 237 ) .
9 ـ وكيع بن الجراح ( ت : 197 ) ألف كتابًا في التفسير ، قال إبراهيم الحربي : (( لما قرأ وكيع التفسير ، قال للناس : خذوه ، فليس فيه عن الكلبي ولا ورقاء شيء )) . تهذيب التهذيب ( 11 : 114 ) .
10 ـ كتب علي بن أبي طلحة الوالبي ( ت : 143 ) كتاب التفسير عن ابن عباس ، وهي صحيفة مشهورة .
11 ـ تفسير الكلبي ( ت : 149 ) ، وكان مشهورًا بين العلماء ، وقد اتهموه بالكذب ، وبأنه لا تحل روايته ، لكن المقصود هنا انه كان مما دوِّن في هذه الفترة ، قال إبراهيم الحربي : (( لم أدخل في تفسيري منه شيئا قال إبراهيم تفسير الكلبي مثل تفسير مقاتل )) تاريخ بغداد ( 13 : 163 ).
وفي تاريخ الإسلام للذهبي ( ص : 1089 ) : ((قال ابن عدي : ليس لأحد تفسير أطول من تفسير الكلبي . قلت : يعني من الذين فسروا القرآن في المائة الثانية ومن الذين ليس في تفسيرهم سوى قولهم )) .
وقد ذكر ابن النديم في الفهرست جمعًا من كتب أهل هذا العصر ، منها : تفسير أبي روق ، وتفسير الحسن بن واقد ، وتفسير سفيان بن عيينة ، وتفسير مالك بن أنس ، وتفسير مقاتل بن حيان ، وغيرها من التفاسير .
والبحث في كتب الطبقات والتراجم والتواريخ كفيل بإظهار أكثر من هذه القائمة من كتب التفسير التي كُتِبت في عصر أتباع التابعين .
المرحلة الثالثة : تبدأ من مبدأ ظهور التدوين في اواخر عهد بني أمية وأول عهد العباسيين .
وقد قسم هذا المبحث إلى خطوات :
الخطوة الأولى : كان يتناقل بالرواية من عهد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى عهد التابعين .
قلت قد سبق التنبيه على هذه النقطة .
الخطوة الثانية : بعد عهد الصحابة والتابعين خطا خطوة ثانية ، وذلك حيث ابتداء التدوين ، فكان التفسير بابًا من الأبواب التي اشتمل عليها الحديث ، فلم يفرد تأليف خاص يفسر القرآن سورة سورة وآية آية من مبدئه إلى منتهاه ، بل وجد من العلماء من طوف في الأمصار المختلقة ليجمع الحديث ، فجمع بجوار الحديث ما روي في الأمصار من تفسير منسوب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى الصحابة والتابعين , من هؤلاء : يزيد بن هارون السلمي ( ت : 117 ) ، وشعبة بن الحجاج ( ت : 160 ) ، ووكيع بن الجراح ( ت : 197 ) ، وسفيان بن عيينة ( ت : 198 ) ، وروح بن عبادة البصري ( ت : 205 ) ، وعبد الرزاق الصنعاني ( ت : 211 ) ، وآدم بن أبي إياس ( ت : 220 ) ، وعبد بن حميد ( ت : 249 ) ، فكان جمعهم للتفسير جمعا لباب من أبواب الحديث ، ولم يكن جمعًا للتفسير على استقلال وانفراد .... الخ .
أقول : رحم الله الشيخ محمد حسين الذهبي ، لقد غفل في هذه الجزئية أيما غفلة ، فلو كان نظر في كتب التراجم وفهارس الكتب لوجد ما يجعله يعدِّل ما قال في هذه الفكرة ، لكن هكذا قدَّر الله سبحانه .
فهو يذكر هذه الفرضية ، وان التفسير كان بابًا من أبواب الحديث ، واواقع تاريخ التفسير يشهد بخلاف ذلك تمامًا ، لقد كان منفصلاً بذاته منذ زمن مبكر ، وكون بعض المحدثين يدخلونه في مجاميعهم وكتبهم لا يعني انه كان جزءً ـ فقط ـ من ابواب الحديث !
بل قد لا يبعد القائل لو قال : إن الاهتمام بالتفسير كان موازيًا للاهتمام بسنة المصطفى ، فقد كان هناك رجال من الصحابة والتابعين وأتباعهم قد عُرِفوا بالتفسير ، فكيف يكون جزءًا من ابواب الحديث ، ولولا خشية الإطالة لسردت لك أمثلة من ذلك ، ولك ان تنظر في تراجم ابن مسعود وتلاميذه ، وابن عباس وتلاميذه ، وأهل المدينة ، واهل البصرة ، وأهل الشام ، وانظر بم تميز الضحاك والحسن وقتادة وأبو العالية ومجاهد وسعيد بن جبير ومحمد بن كعب القرظي وغيرهم من جيل التابعين ، ثم انظر في جيل أتباع التابعين ، في عطية بن سعيد العوفي وأبي مالك غزوان الغفاري وابن زيد ومقاتل بن حيان ومقاتل بن سليمان والكلبي وأربدة التميمي ، والربيع بن انس ، والسدي وغيرهم كثير ، ثم انزل إى الطبقة التي تلتهم وهم في الزمن الذي وقف عنده ( 249 ) وبعيده بقليل ، وانظر كم من الكتب التي كتبت في التفسير ، اطلع على ثبتهم في كتب التراجم تجد كثيرين جدَّا .
ثم لاحظ ان بعض من ذكرهم كانت لهم كتب مستقلة في التفسير ، فبين يديك تفسير عبد الرزاق مطبوع ، وليس جزءًا من كتاب من كتب الحديث ، ووكيع سبقت الإشارة إلى تفسيره ، وآدم ابن أبي إياس له تفسير مشهور ، وعبد بن حميد له تفسير موجود في الدر المنثور وفي تفسيرابن كثير ، وكتبهم هذه مستقلة في التفسير ، وليست ضمن كتاب لهم من كتب الحديث .
وفي أهل هذه الفترة مقاتل بن سليمان ( ت : 150 ) وتفسيره مطبوع ، ويحيى بن سلام ( ت : 200 ) وتفسيره قد طبع جزء منه ، وسفيان الثوري ، وقد طبع تفسيره برواية النهدي عنه .
الخطوة الثالثة : انفصل بها التفسير عن الحديث ، وصار علمًا قائمًا بنفسه ، ووضع تفسير لكل آية من القرآن ، وصدر هذه المرحلة بابن ماجة ( ت : 273 ) ثم ابن جرير ( ت : 310 ) ، وابن المنذر ( ت : 318 ) ، وابن أبي حاتم ( ت : 327 ) ، وأبي الشيخ ( ت : 369 ) ، والحاكم ( ت : 405 ) ، وابن مردوية ( ت : 410 ) .
وهذه الخطوت التي ذكرها منتقضة بما ذكرت لك سابقًا ، فالتفسير كان علما قائمًا بنفسه منذ عهد الصحابة ، وهل اشتهر ابن عباس بغير التفسير ، وكذا من عددت عليك في الفقرة السابقة ، ثم إن التدوينات في التفسير كثيرة جدًّا ، وقد ابتدأت في عهد التابعين وتنامت في عهد أتباع التابعين ، وأتباع الاتباع قبل أن يصل الأمر إلى ابن ماجه .
هذا وقد سبق الحديث عن كتاب ( التفسير والمفسرون ) على هذا الرابط ، لمن شاء أن يرجع إليه ( http://www.tafsir.org/vb/showthread.php?s=&threadid=300 )
وآتي الآن إلى ذكر كلام الشيخ محمد حسين الذهبي رحمه الله تعالى :
أولاً : تقسيم الذهبي لمراحل التفسير :
المرحلة الأولى : التفسير في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه (1 : 35 ـ 98 ) .
وقد ذكر من مميزات هذه المرحلة :
أنه اتخذ شكل الحديث ، بل كان جزءًا منه ، وفرعًا من فروعه ، ولم يتخذ التفسير له شكلاً منظمًا ، بل كانت هذه التفسيرات تُروى منثورةً لآيات متفرقة ، كما كان الشأن في رواية الحديث ، فحديث صلاة بجانب حديث جهاد ، بجانب حديث ميراث ، وبجانب حديث في تفسير آية ( 1 : 98 ) .
أقول :
لا يظهر مراد الشيخ محمد حسين الذهبي ـ رحمه الله ـ في هذا الكلام ، فهو يحتمل أنه يريد الرواية الشفهية ، فالصحابي يروي على هذه الصورة ، وهذا لا يدل عليه الدليل من آثارهم ، فليس لهم مجالس إملاء للحديث كي تتم هذه الصورة ، وإنما كانوا يذكرون من الأحاديث حسب الحاجة ، وليس فيها هذه التقسيمات التي يذكرها ( حديث . فرائض . تفسير ) بل كانت روايتهم لحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم على أنها أقواله التي تُتلقَّى بالقبول فحسب .
والتصنيف إنما جاء متاخِّرًا ، وقد ورد في ترجمة ابن عباس ما يشير إلى اختلاف اهتمامات المتلقين عنه ، ومن ذلك ما رواه ابن سعد في الطبقات الكبرى ( 2 : 368 ) بسنده عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ، قال : كان ابن عباس قد فات الناس بخصال : بعلم ما سبقه ، وفقه فيما احتيج إليه من رأيه ، وحلم ، وسيب ، ونائل ، وما رأيت أحدا كان أعلم بما سبقه من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم منه ، ولا أعلم بقضاء أبي بكر وعمر وعثمان منه ، ولا أفقه في رأي منه ، ولا أعلم بشعر ولا عربية ولا بتفسير القرآن ولا بحساب ولا بفريضة منه ، ولا أعلم بما مضى ، ولا أثقف رأيا فيما احتيج إليه منه.
ولقد كان يجلس يوما ما يذكر فيه إلا الفقه ، ويوما التأويل ، ويوما المغازي ، ويوما الشعر ، ويوما أيام العرب ، وما رأيت عالما قط جلس إليه إلا خضع له ، وما رأيت سائلا قط سأله إلا وجد عنده علما )) .
وإن كان يريد التدوين ، فقد سبق عبارته هذه قوله : (( لم يدوَّن شيء في التفسير في هذا العصر ؛ لأن التدوين لم يكن إلا في القرن الثاني . نعم أثبت بعض الصحابة بعض التفسير في مصاحفهم ، فظنها بعض المتاخرين من وجوه القرآن التي نزل بها من عند الله تعالى )) ( 1 : 98 ) .
فإذا كان لم يُدوَّن ، ولا يُعرف لهم مجالس خاصة لإلقاء الحديث النبوي ، فالقول بأنه التفسير فرع من فروع الحديث لا يصلح ؛ لأن الحديث كعلم مستقل لم يبرز بَعْدُ .
فائدة :
يلاحظ أنَّه ذكر ما يسميه بعض العلماء بالقراءة التفسيرية ، وهذه القضية تحتاج إلى تجلية ، من جهة صحة هذا الاطلاق ، فمن ذا يستطيع الجزم بأن ما أدخلوه إنما هو تفسير وليس بقراءة ؟ إن موضوع القراءت التفسيرية يحتاج إلىإعادة نظر ، ألفت إليه هنا ، فهي تروى عن الصحابي قراءةً لا تفسيرًا .
ولا يبعد القول أنَّ قَصْدَ تَعَلُّم التفسير وتدوينه كان في عصر الصحابة ، وشواهد هذا كثيرة ، أذكر منها ـ على سبيل المثال ـ :
1 ـ روى الطبري في تفسيره (ط : الحلبي 1 : 65 / 2 : 404 ) بسنده عن مجاهد قال : (( عرضت المصحف على ابن عباس ثلاث عرضات من فاتحته إلى خاتمته أوقفه عند كل آية منه وأسأله عنها )) .
فلو لم يكن التفسير متميِّزًا ، لما كان مثل هذا الموقف من مجاهد .
2 ـ وروى ابن سعد في الطبقات الكبرى ( 7 : 224 ) بسنده عن أبي الجوزاء ، قال : (( جاورت بن عباس في داره اثنتي عشرة سنة ما في القرآن آية الا وقد سألته عنها )) .
انظر كيف خصَّ مجاورته هذه للاستفادة من ابن عباس ، وخصوصًا في التفسير .
وقد يقول قائل : لم ابن عباس ؟
فالجواب : لأن النبي صلى الله عليه وسلم دعاه له بعلم الكتاب ، ومنه التفسير ، قال ابن عباس : (( ضمني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال : اللهم علمه الكتاب )) رواه البخاري ( رقم : 75 ، 143 ، 3546 ، 6842 ) .
وشهرة ابن عباس في التفسير لا تحتاج إلى تدليل ، لذا يمكن أن يقلب السؤال فيقال : هل كان علم الحديث علمًا قائمًا بذاته في هذه الفترة ؟
المرحلة الثانية :للتفسير ( التفسير في عهد التابعين ) .
مما ذكر من مميزات هذه المرحلة ما يأتي :
ظل التفسير محتفظًا بطابع التلقي والرواية ، إلا إنه لم يكن تلقيًا ورواية بالمعنى الشامل ، كما هو الشأن في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، بل كان تلقيًّا ورواية يغلب عليهما طابع الاختصاص ، فأهل كل مصر يُعنون بوجه خاص بالتلقي والرواية عن إمام مصرهم ، فالمكيون عن ابن عباس ، والمدنيون عن أبي ، والعراقيون عن ابن مسعود ، وهكذا . ( 1 : 131 ـ 132 ) .
وقد علق في الحاشية على قوله : ( التلقي والرواية ) ، فقال : (( وما سبق من أن مجاهد بن جبر كتب التفسير كله عن ابن عباس ، وما يأتي بعد من ان سعيد بن جبير كتب تفسير القرآن لا يخرج بالتفسير في هذه المرحلة عن طابع التلقي والرواية ؛ لأن هذا عمل فردي لا يؤثر على الطابع العام )) . ( 1 : 131 )
في هذا المقطع عدد من الأمور ، لكن أكتفي بأمر واحد ، وهو أن التحديد الزمني بطبقة التابعين لا يصلح في مناقشة التدوين في التفسير ، والسبب أنَّ بعض أتباع التابعين كتب التفسير عن التابعين ، والتابعون متوافرون ، فهل ستُعدُّ كتابتهم في عهد التابعين ، أو في عهد اتباع التابعين ؟
وهذه القضية تجعل الباحث يتريث في تقسيم الفترة بين التابعين وأتباعهم ، ولو دُمجت الفترتان لكان أولى ، وهي تعطي تصورًا واضحًا لحجم الكتابة في التفسير ، بل إنها كثيرة جدًّا .
وإذا اعتبرت التدوين في عهد التابعين ـ ولو كان الكاتب من أتباع التابعين ـ فإنه مما سيظهر لك من كتبهم ـ غير ما استدرك به الذهبي ـ ما يأتي :
1 ـ التفسير عن سعيد بن جبير ( ت : 94 ) كتبه عنه عزرة بن عبد الرحمن ، قال وقاء بن إياس : (( رأيت عزرة يختلف إلى سعيد بن جبير ، ومعه التفسير في كتاب ، ومعه الدواء يغيِّر )) ( المعرفة والتاريخ للفسوي 3 : 212 ـ 213 / طبقات ابن سعد 6 : 266 ) .
وما دام يكتبه أمام سعيد بن جبير ، فالكتابة في عهد التابعين .
2 ـ أملى مجاهد التفسير على القاسم بن أبي بزَّة . ( المعرفة والتاريخ للفسوي 2 : 154 ) .
3 ـ أملى الحسن البصري التفسير على تلاميذه ( جامع بيان العلم وفضله 1 : 89 ) .
4 ـ قال ابن أبي حاتم في ( الجرح والتعديل 3 : 319 ) : (( حم بن نوح البلخي روى عن أبي معاذ خالد بن سليمان الحراني عن أبي مصلح عن الضحاك تفسير القرآن سورة سورة )) .
وقال ماكولا في ( الإكمال 6 : 241 ـ 242 ) : (( وحسين بن عقيل يروي عن الضحاك بن مزاحم كتاب التفسير )) .
5 ـ قال ابن حجر في ( العجاب في بيان الأسباب 1 : 217 ) : ((تفسير زيد بن أسلم من رواية ابنه عبد الرحمن عنه وهي نسخة كبيرة يرويها ابن وهب وغيره عن عبد الرحمن عن أبيه و عن غير أبيه وفيها أشياء كثيرة لا يسندها لأحد وعبد الرحمن من الضعفاء و أبوه من الثقات )) ، وهو من مرويات الثعلبي في مقدمة تفسيره .
وإذا أدخل جيل أتباع التابعين ، فإنه سيظهر لك أكثر من ذلك ، ومن الكتب التي تنسب إلى هذا الجيل :
1 ـ قال ابن سعد في الطبقات ( 7 : 273 ) : ((قال قريش بن أنس حلف لي سعيد بن أبي عروبة أنه ما كتب عن قتادة شيئا قط إلا أن أبا معشر كتب إلي أن أكتب له تفسير قتادة قال فقال تريد أن تكتب عني قال فلم أزل به أخبرنا عفان بن مسلم قال قال لي همام جاءني سعيد بن أبي عروبة فطلب مني عواشر القرآن عن قتادة فقلت له أنا أنسخه لك وأرفعه إليك فقال لا إلا كتابك فأبيت عليه واختلف إلي فلم أعره )) .
وقال المزي في ( تهذيب الكمال 11 : 8 ) : ((قال أبو حاتم سمعت أحمد بن حنبل يقول لم يكن لسعيد بن أبي عروبة كتاب إنما كان يحفظ ذلك كله وزعموا أن سعيدا قال لم أكتب إلا تفسير قتادة وذلك أن أبا معشر كتب إلي أن أكتبه ))
2 ـ وقال المزي في ( تهذيب الكمال 30 : 435 ) (( قال علي بن المديني عن يحيى بن سعيد قال معاذ قال ورقاء كتاب التفسير قرأت نصفه على بن أبي نجيح وقرأ علي نصفه وقال بن أبي نجيح هذا تفسير مجاهد )) .
3 ـ قال الخطيب البغداي في تاريخ بغداد ( 11 : 135 ) : (( عبدان بن محمد بن عيسى أبو محمد المروزي سمع قتيبة بن سعيد وإسحاق بن راهويه وعلي بن حجر وعمار بن الحسن الرازي وأبا كريب محمد بن العلاء وحوثرة بن محمد المنقري وعبد الجبار بن العلاء وعبد الله بن محمد الزهري المكيين ومحمد بن بشار ومحمد بن المثنى روى عنه أبو العباس الدغولي وغير واحد من الخراسانيين وقدم بغداد وروى بها كتاب التفسير لمقاتل بن حيان وغيره )) .
4 ـ تفسير مقاتل بن سليمان ( ت : 150 ) ، وهو مطبوع بتحقيق عبد الله شحاته ، وحققه مؤخرًا أحمد فريد .
5 ـ تفسير يحيى بن سلام البصري ( ت : 200 ) ، وقد طبع جزء منه بتحقيق هند شلبي .
6 ـ تفسير سفيان الثوري ( ت : 161 ) ، وهو مطبوع بتحقيق امتياز عرشي .
7 ـ تفسير عبد الرزاق الصنعاني ( ت : 211 ) ، وهو من طبقة صغار أتباع التابعين ، وقد روى أكثر تفسيره عن شيخه معمر عن قتادة .
8 ـ ألف ابن جريج ( ت : 150 ) كتبًا في التفسير . ( تاريخ بغداد 8 : 237 ) .
9 ـ وكيع بن الجراح ( ت : 197 ) ألف كتابًا في التفسير ، قال إبراهيم الحربي : (( لما قرأ وكيع التفسير ، قال للناس : خذوه ، فليس فيه عن الكلبي ولا ورقاء شيء )) . تهذيب التهذيب ( 11 : 114 ) .
10 ـ كتب علي بن أبي طلحة الوالبي ( ت : 143 ) كتاب التفسير عن ابن عباس ، وهي صحيفة مشهورة .
11 ـ تفسير الكلبي ( ت : 149 ) ، وكان مشهورًا بين العلماء ، وقد اتهموه بالكذب ، وبأنه لا تحل روايته ، لكن المقصود هنا انه كان مما دوِّن في هذه الفترة ، قال إبراهيم الحربي : (( لم أدخل في تفسيري منه شيئا قال إبراهيم تفسير الكلبي مثل تفسير مقاتل )) تاريخ بغداد ( 13 : 163 ).
وفي تاريخ الإسلام للذهبي ( ص : 1089 ) : ((قال ابن عدي : ليس لأحد تفسير أطول من تفسير الكلبي . قلت : يعني من الذين فسروا القرآن في المائة الثانية ومن الذين ليس في تفسيرهم سوى قولهم )) .
وقد ذكر ابن النديم في الفهرست جمعًا من كتب أهل هذا العصر ، منها : تفسير أبي روق ، وتفسير الحسن بن واقد ، وتفسير سفيان بن عيينة ، وتفسير مالك بن أنس ، وتفسير مقاتل بن حيان ، وغيرها من التفاسير .
والبحث في كتب الطبقات والتراجم والتواريخ كفيل بإظهار أكثر من هذه القائمة من كتب التفسير التي كُتِبت في عصر أتباع التابعين .
المرحلة الثالثة : تبدأ من مبدأ ظهور التدوين في اواخر عهد بني أمية وأول عهد العباسيين .
وقد قسم هذا المبحث إلى خطوات :
الخطوة الأولى : كان يتناقل بالرواية من عهد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى عهد التابعين .
قلت قد سبق التنبيه على هذه النقطة .
الخطوة الثانية : بعد عهد الصحابة والتابعين خطا خطوة ثانية ، وذلك حيث ابتداء التدوين ، فكان التفسير بابًا من الأبواب التي اشتمل عليها الحديث ، فلم يفرد تأليف خاص يفسر القرآن سورة سورة وآية آية من مبدئه إلى منتهاه ، بل وجد من العلماء من طوف في الأمصار المختلقة ليجمع الحديث ، فجمع بجوار الحديث ما روي في الأمصار من تفسير منسوب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى الصحابة والتابعين , من هؤلاء : يزيد بن هارون السلمي ( ت : 117 ) ، وشعبة بن الحجاج ( ت : 160 ) ، ووكيع بن الجراح ( ت : 197 ) ، وسفيان بن عيينة ( ت : 198 ) ، وروح بن عبادة البصري ( ت : 205 ) ، وعبد الرزاق الصنعاني ( ت : 211 ) ، وآدم بن أبي إياس ( ت : 220 ) ، وعبد بن حميد ( ت : 249 ) ، فكان جمعهم للتفسير جمعا لباب من أبواب الحديث ، ولم يكن جمعًا للتفسير على استقلال وانفراد .... الخ .
أقول : رحم الله الشيخ محمد حسين الذهبي ، لقد غفل في هذه الجزئية أيما غفلة ، فلو كان نظر في كتب التراجم وفهارس الكتب لوجد ما يجعله يعدِّل ما قال في هذه الفكرة ، لكن هكذا قدَّر الله سبحانه .
فهو يذكر هذه الفرضية ، وان التفسير كان بابًا من أبواب الحديث ، واواقع تاريخ التفسير يشهد بخلاف ذلك تمامًا ، لقد كان منفصلاً بذاته منذ زمن مبكر ، وكون بعض المحدثين يدخلونه في مجاميعهم وكتبهم لا يعني انه كان جزءً ـ فقط ـ من ابواب الحديث !
بل قد لا يبعد القائل لو قال : إن الاهتمام بالتفسير كان موازيًا للاهتمام بسنة المصطفى ، فقد كان هناك رجال من الصحابة والتابعين وأتباعهم قد عُرِفوا بالتفسير ، فكيف يكون جزءًا من ابواب الحديث ، ولولا خشية الإطالة لسردت لك أمثلة من ذلك ، ولك ان تنظر في تراجم ابن مسعود وتلاميذه ، وابن عباس وتلاميذه ، وأهل المدينة ، واهل البصرة ، وأهل الشام ، وانظر بم تميز الضحاك والحسن وقتادة وأبو العالية ومجاهد وسعيد بن جبير ومحمد بن كعب القرظي وغيرهم من جيل التابعين ، ثم انظر في جيل أتباع التابعين ، في عطية بن سعيد العوفي وأبي مالك غزوان الغفاري وابن زيد ومقاتل بن حيان ومقاتل بن سليمان والكلبي وأربدة التميمي ، والربيع بن انس ، والسدي وغيرهم كثير ، ثم انزل إى الطبقة التي تلتهم وهم في الزمن الذي وقف عنده ( 249 ) وبعيده بقليل ، وانظر كم من الكتب التي كتبت في التفسير ، اطلع على ثبتهم في كتب التراجم تجد كثيرين جدَّا .
ثم لاحظ ان بعض من ذكرهم كانت لهم كتب مستقلة في التفسير ، فبين يديك تفسير عبد الرزاق مطبوع ، وليس جزءًا من كتاب من كتب الحديث ، ووكيع سبقت الإشارة إلى تفسيره ، وآدم ابن أبي إياس له تفسير مشهور ، وعبد بن حميد له تفسير موجود في الدر المنثور وفي تفسيرابن كثير ، وكتبهم هذه مستقلة في التفسير ، وليست ضمن كتاب لهم من كتب الحديث .
وفي أهل هذه الفترة مقاتل بن سليمان ( ت : 150 ) وتفسيره مطبوع ، ويحيى بن سلام ( ت : 200 ) وتفسيره قد طبع جزء منه ، وسفيان الثوري ، وقد طبع تفسيره برواية النهدي عنه .
الخطوة الثالثة : انفصل بها التفسير عن الحديث ، وصار علمًا قائمًا بنفسه ، ووضع تفسير لكل آية من القرآن ، وصدر هذه المرحلة بابن ماجة ( ت : 273 ) ثم ابن جرير ( ت : 310 ) ، وابن المنذر ( ت : 318 ) ، وابن أبي حاتم ( ت : 327 ) ، وأبي الشيخ ( ت : 369 ) ، والحاكم ( ت : 405 ) ، وابن مردوية ( ت : 410 ) .
وهذه الخطوت التي ذكرها منتقضة بما ذكرت لك سابقًا ، فالتفسير كان علما قائمًا بنفسه منذ عهد الصحابة ، وهل اشتهر ابن عباس بغير التفسير ، وكذا من عددت عليك في الفقرة السابقة ، ثم إن التدوينات في التفسير كثيرة جدًّا ، وقد ابتدأت في عهد التابعين وتنامت في عهد أتباع التابعين ، وأتباع الاتباع قبل أن يصل الأمر إلى ابن ماجه .