تم تعطيل الجافا سكربت. للحصول على تجربة أفضل، الرجاء تمكين الجافا سكربت في المتصفح الخاص بك قبل المتابعة.
أنت تستخدم أحد المتصفحات القديمة. قد لا يتم عرض هذا الموقع أو المواقع الأخرى بشكل صحيح.
يجب عليك ترقية متصفحك أو استخدام
أحد المتصفحات البديلة .
التلبية شعار الحج وزينته
التلبية شعار الحج وسنته ، جاءت بذلك الأحاديث والآثار ؛ فقد روى أحمد وابن ماجه عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e : " جَاءَنِي جِبْرِيلُ فَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ ، مُرْ أَصْحَابَكَ فَلْيَرْفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّلْبِيَةِ ؛ فَإِنَّهَا مِنْ شِعَارِ الْحَجِّ " ( [1] ) ؛ أي : من أعلامه وعلاماته وأعماله ؛ وكان الصحابة y أسرع استجابة للعمل ، فقد روى ابن أبي شيبة عن يعقوب بن زيد قال : كان أصحاب رسول الله e لا يبلغون الروحاء حتى تبح أصواتهم من شدة تلبيتهم ( [2] ) .
وروى ابن أبي شيبة عن مجاهد قال : شعار الحج : التلبية ( [3] ) ؛ وروى - أيضًا - عن مكحول – رحمه الله - قال : التلبية شعار الحج ، فأكثروا من التلبية عند كل شرف ، وفي كل حين ، وأكثروا من التلبية وأظهروها ( [4] ) ؛ وعن ابن الزبير t أنه كان يقول : التلبية زينة الحج ( [5] ) ؛ وعن سعيد بن جبير - رحمه الله - أنه كان يوقظ ناسًا من أهل اليمن في المسجد ويقول : قوموا لبوا , فإن زينة الحج : التلبية ( [6] ) .
التلبية من لبَّى بمعنى : أجاب ، فلفظة ( لبيك ) مثناة - على قول سيبويه والجمهور - وتثنيتها للتكثير : أي : إجابة لك بعد إجابة ، أَوْ إِجَابَة لَازِمَة ؛ ولها معان أخرى ذكرها اِبْن الْقَيِّم - رَحِمَهُ اللَّه – في ( تهذيب السنن ) قال : فِي مَعْنَى التَّلْبِيَة ثَمَانِيةِ أَقْوَال :
أَحَدهمَا : إِجَابَة لَك بَعْد إِجَابَة ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى كُرِّرَتْ التَّلْبِيَة ؛ إِيذَانًا بِتَكْرِيرِ الْإِجَابَة .
الثَّانِي : أَنَّهُ اِنْقِيَاد ، مِنْ قَوْلهمْ لَبَّبَ الرَّجُل ، إِذَا قَبَضْت عَلَى تَلَابِيبه ، وَمِنْهُ : لَبَّبْته بِرِدَائِهِ . وَالْمَعْنَى : اِنْقَدْت لَك ، وَسَعَتْ نَفْسِي لَك خَاضِعَة ذَلِيلَة ، كَمَا يُفْعَل بِمَنْ لُبِّبَ بِرِدَائِهِ ، وَقُبِضَ عَلَى تَلَابِيبه .
الثَّالِث : أَنَّهُ مِنْ لَبَّ بِالْمَكَانِ ، إِذَا قَامَ بِهِ وَلَزِمَهُ ؛ وَالْمَعْنَى : أَنَا مُقِيم عَلَى طَاعَتك مُلَازِم لَهَا . اِخْتَارَهُ صَاحِب الصِّحَاح .
الرَّابِع : أَنَّهُ مِنْ قَوْلهمْ : دَارِي تَلِبُّ دَارك ، أَيْ تُوَاجِههَا وَتُقَابِلهَا ، أَيْ : مُوَاجِهَتك بِمَا تُحِبّ مُتَوَجِّه إِلَيْك . حَكَاهُ فِي الصِّحَاح عَنْ الْخَلِيل .
الْخَامِس : مَعْنَاهُ حُبًّا لَك بَعْد حُبٍّ ، مِنْ قَوْلهمْ . اِمْرَأَة لَبَّة ، إِذَا كَانَتْ مُحِبَّة لِوَلَدِهَا .
السَّادِس : أَنَّهُ مَأْخُوذ مِنْ لُبِّ الشَّيْء ، وَهُوَ خَالِصه ، وَمِنْهُ لُبُّ الطَّعَام ، وَلبُّ الرَّجُل عَقْله وَقَلْبه . وَمَعْنَاهُ : أَخْلَصْت لُبِّي وَقَلْبِي لَك ، وَجَعَلْت لَك لُبِّي وَخَالِصَتِي .
السَّابِع : أَنَّهُ مِنْ قَوْلهمْ : فُلَان رَخِيُّ اللَّبَب ، وَفِي لَبَب رَخِيّ ، أَيْ فِي حَال وَاسِعَة مُنْشَرِح الصَّدْر . وَمَعْنَاهُ : إِنِّي مُنْشَرِح الصَّدْر مُتَّسِع الْقَلْب لِقَبُولِ دَعْوَتك وَإِجَابَتهَا ، مُتَوَجِّه إِلَيْك بِلَبَبٍ رَخِيٍّ ، يُوجِد الْمُحِبُّ إِلَى مَحْبُوبه ، لَا بِكُرْهٍ وَلَا تَكَلُّف .
الثَّامِن : أَنَّهُ مِنْ الْإِلْبَاب ، وَهُوَ الِاقْتِرَاب ، أَيْ : اِقْتِرَابًا إِلَيْك بَعْد اِقْتِرَاب ، كَمَا يَتَقَرَّب الْمُحِبّ مِنْ مَحْبُوبه ( [7] ) .
في التلبية ( شعار الحج ) توحيد رب العالمين ؛ فتوحيد الله وإفراده بالعبادة دون ما سواه هو أساس الدين ، وقطب رحاه الذي تدور عليه جميع العبادات والأعمال .
فمن أجل التوحيد خلق الله الخلق فقال سبحانه : ] وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [ [ الذاريات : 56 ] ، قال ابن عباس : أي : ليوحدون ؛ ومن أجله بعث الله الرسل وأنزل الكتب ، قال سبحانه : ] وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [ [ النحل : 36 ] ، ومن أجله جردت سيوف الجهاد ، وانقسم الناس إلى سعيد وشقي ، وبر وفاجر ، ولذلك جاءت نصوص الشرع بتعظيم أمر التوحيد والتحذير من أي شائبة تشوبه أو تخدش جنابه .
ومن أهم القضايا التي جاء الحج ليعمقها في القلوب ويغرسها في النفوس قضية توحيد الله U ، بل ما شرع الحج ، وما أمر الله ببناء البيت إلا من أجله قال Y : ] وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ [ [ الحج : 26 ] ، وحذَّر سبحانه في ثنايا آيات الحج من الشرك ورجسه ، فقال U : ] فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ . حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ [ [ الحج : 30 ، 31 ] .
ولو تأملت أعمال الحج لوجدت العناية بالتوحيد ظاهرة جلية ، فالتلبية - التي هي شعار الحج - تضمنت إعلان التوحيد وإفراد الله وحده بالعبادة والتوجه والقصد ، على خلاف ما كان يفعله أهل الجاهلية حين كانوا يعلنون الشرك ويجاهرون به في تلبيتهم ، فيقولون : ( لبيك لا شريك لك ، إلا شريكًا هو لك ، تملكه وما ملك ) ، ففي صحيح مسلم من حديث جابر t في صفة حجة النبي e : فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ e فِي الْمَسْجِدِ ، ثُمَّ رَكِبَ الْقَصْوَاءَ حَتَّى إِذَا اسْتَوَتْ بِهِ نَاقَتُهُ عَلَى الْبَيْدَاءِ نَظَرْتُ إِلَى مَدِّ بَصَرِى بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ رَاكِبٍ وَمَاشٍ ، وَعَنْ يَمِينِهِ مِثْلَ ذَلِكَ ، وَعَنْ يَسَارِهِ مِثْلَ ذَلِكَ ، وَمِنْ خَلْفِهِ مِثْلَ ذَلِكَ ، وَرَسُولُ اللَّهِ e بَيْنَ أَظْهُرِنَا ، وَعَلَيْهِ يَنْزِلُ الْقُرْآنُ ، وَهُوَ يَعْرِفُ تَأْوِيلَهُ ، وَمَا عَمِلَ بِهِ مِنْ شَيْءٍ عَمِلْنَا بِهِ ، فَأَهَلَّ بِالتَّوْحِيدِ : " لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ ، لَبَّيْكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ ، لاَ شَرِيكَ لَكَ " ( [8] ) .
[1] - أحمد : 5 / 192 ، وابن ماجة ( 2923 ) .
[2] - مصنف ابن أبي شيبة (15051 ) .
[3] - مصنف ابن أبي شيبة ( 15061 ) .
[4] - مصنف ابن أبي شيبة ( 15046 ) .
[5] - مصنف ابن أبي شيبة ( 15060 ) .
[6] - مصنف ابن أبي شيبة ( 15058 ) .
[7] - انظر ( تهذيب السنن ) : 5 / 175، 176 – دار الكتب العلمية .
[8] - مسلم ( 1218 ) .
وجاء في فضل التلبية أحاديث ، فروى الترمذي وابن ماجة وغيرهما عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ t قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e : " مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُلَبِّي إِلَّا لَبَّى مَا عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ مِنْ حَجَرٍ أَوْ مَدَرٍ ، حَتَّى تَنْقَطِعَ الْأَرْضُ مِنْ هَاهُنَا وَهَاهُنَا " ( [1] ) .
وروى الترمذي وابن ماجة وغيرهما عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ t أَنَّ النَّبِيَّ e سُئِلَ : أَيُّ الْحَجِّ أَفْضَلُ ؟ قَالَ : " الْعَجُّ وَالثَّجُّ " ؛ وَالْعَجُّ هُوَ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالتَّلْبِيَةِ ، وَالثَّجُّ هُوَ نَحْرُ الْبُدْنِ ( [2] ) .
من معاني التلبية أنها مأخوذة من لب بالمكان إذا أقام به ، والملبي عند الحج أو العمرة يخبر أنه يقيم على عبادة الله ويلازمها ؛ والمراد تلك العبادة التي دخل فيها سواء كانت حجًّا أو عمرة .
فَإِذَا أَحْرَمَ وأهلَّ لَبَّى بِتَلْبِيَةِ رَسُولِ اللهِ
e : " لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَك لَبَّيْكَ ، إنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَك وَالْمُلْكَ لَا شَرِيكَ لَك " ، ففي الصحيحين عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - أَنَّ تَلْبِيَةَ رَسُولِ اللهِ e : " لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ ، لَا شَرِيكَ لَكَ " قَالَ نافع : وَكَانَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يَزِيدُ فِيهَا : لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ ، وَالْخَيْرُ بِيَدَيْكَ ، لَبَّيْكَ وَالرَّغْبَاءُ إِلَيْكَ وَالْعَمَلُ ( [3] ) .
وفي سنن أبي داود عَنْ جَابِرِ t قَالَ : أَهَلَّ رَسُولُ اللهِ e فَذَكَرَ التَّلْبِيَةَ مِثْلَ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ ، قَالَ : وَالنَّاسُ يَزِيدُونَ : ذَا الْمَعَارِجِ ، وَنَحْوَهُ مِنْ الْكَلَامِ وَالنَّبِيُّ e يَسْمَعُ فَلَا يَقُولُ لَهُمْ شَيْئًا ( [4] ) .
وروى أحمد والنسائي وابن ماجة عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t قَالَ : كَانَ مِنْ تَلْبِيَةِ النَّبِيِّ e : " لَبَّيْكَ إِلَهَ الْحَقِّ " ( [5] ) .
وعند ابن أبي شيبة عن المسور بن مخرمة t قال : كانت تلبية عمر t : لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ، إن الحمد والنعمة لك والملك ، لا شريك لك ، لبيك مرغوبًا أو مرهوبًا ، لبيك ذا النعماء والفضل الحسن ( [6] ) .
قال ابن حجر رحمه الله : الاقتصار على التلبية المرفوعة أفضل ، لمداومته هو e عليها وأنه لا بأس بالزيادة لكونه لم يردَّها عليهم وأقرَّهم عليها ؛ وهو قول الجمهور ( [7] ) .
وروى ابن خزيمة والحاكم عن ابن عباس أن رسول الله e وقف بعرفات ، فلما قال : " لبيك اللهم لبيك " قال : " إنما الخير خير الآخرة " .
قال ابن تيمية - رحمه الله : وَالتَّلْبِيَةُ هِيَ : إجَابَةُ دَعْوَةِ اللَّهِ تَعَالَى لِخَلْقِهِ حِينَ دَعَاهُمْ إلَى حَجِّ بَيْتِهِ عَلَى لِسَانِ خَلِيلِهِ إبْرَاهِيمَ e ، وَالْمُلَبِّي هُوَ الْمُسْتَسْلِمُ الْمُنْقَادُ لِغَيْرِهِ ، كَمَا يَنْقَادُ الَّذِي لَبَّبَ وَأُخَذَ بِلَبَّتِهِ ؛ وَالْمَعْنَى : أَنَّا مُجِيبُوك لِدَعْوَتِك ; مُسْتَسْلِمُونَ لِحِكْمَتِك مُطِيعُونَ لِأَمْرِك مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ ، لَا نَزَالُ عَلَى ذَلِكَ . وَالتَّلْبِيَةُ شِعَارُ الْحَجِّ فَـ " أَفْضَلُ الْحَجِّ الْعَجُّ وَالثَّجُّ " فَالْعَجُّ : رَفْعُ الصَّوْتِ بِالتَّلْبِيَةِ ، وَالثَّجُّ إرَاقَةُ دِمَاءِ الْهَدْيِ . وَلِهَذَا يُسْتَحَبُّ رَفْعُ الصَّوْتِ بِهَا لِلرَّجُلِ بِحَيْثُ لَا يُجْهِدُ نَفْسَهُ ؛ وَالْمَرْأَةُ تَرْفَعُ صَوْتَهَا بِحَيْثُ تَسْمَعُ رَفِيقَتُهَا . وَيُسْتَحَبُّ الْإِكْثَارُ مِنْهَا عِنْدَ اخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ مِثْلَ : أَدْبَارِ الصَّلَوَاتِ ، وَمِثْلَ مَا إذَا صَعِدَ نَشْزًا أَوْ هَبَطَ وَادِيًا ، أَوْ سَمِعَ مُلَبِّيًا ، أَوْ أَقْبَلَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ ، أَوْ الْتَقَتْ الرِّفَاقُ ، وَكَذَلِكَ إذَا فَعَلَ مَا نُهِيَ عَنْهُ . وَإِنْ دَعَا عَقِيبَ التَّلْبِيَةِ ; وَصَلَّى عَلَى النَّبِيِّ e وَسَأَلَ اللهَ رِضْوَانَهُ وَالْجَنَّةَ وَاسْتَعَاذَ بِرَحْمَتِهِ مِنْ سَخَطِهِ وَالنَّارِ ؛ فَحَسَنٌ ( [8] ) .
يبدأ وقت التلبية من حين الإحرام ، فمن نوى أحد النسكين ، يهل بما نوى ثم يلبي ، والمعتمر يلبي حتى يستلم الحجر ، فقد روى ابن أبي شيبة والترمذي وصححه عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ t يَرْفَعُ الْحَدِيثَ : أَنَّهُ ( أي : النبي e ) كَانَ يُمْسِكُ عَنْ التَّلْبِيَةِ فِي الْعُمْرَةِ إِذَا اسْتَلَمَ الْحَجَرَ ( [9] ) ، ورواه أبو داود عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ t عَنْ النَّبِيِّ e قَالَ : " يُلَبِّي الْمُعْتَمِرُ حَتَّى يَسْتَلِمَ الْحَجَرَ " ( [10] ) .
وأما الحاج فيلبي حتى يرمي جمرة العقبة الكبرى يوم النحر ، ففي الصحيحين عنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْفَضْلَ أَخْبَرَهُ أَنَّ النَّبِيَّ e لَمْ يَزَلْ يُلَبِّي حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ ( [11] ) .
ولذا قال العلماء : يستحب الإكثار من التلبية ، والإتيان بها عند الانتقال من حال إلى حال ، فيلبي عقب صلاة الفريضة ، وكلما ارتفع فوق مكان عال ، أو هبط إلى واد ، أو لقي ركبًا ، أو دخل في وقت السحر ؛ ويجهر بالتلبية كما سبق ولو كان في مسجد ، وإذا أعجبه شيء قال : لبيك إن العيش عيش الآخرة .
[1] - الترمذي ( 828 ) ، وابن ماجة ( 2921 ) واللفظ له ، وصححه الألباني .
[2] - الترمذي ( 827 ) ، وابن ماجة ( 2924 ) ، وصححه الألباني .
[3] - البخاري ( 1549 ) ، ومسلم ( 1184 ) ؛ و ( سَعْدَيْك ) مِنْ الْمُسَاعِدَة ، وَهِيَ الْمُطَاوَعَة ؛ وَمَعْنَاهُ : مُسَاعَدَة فِي طَاعَتك وَمَا تُحِبُّ بَعْد مُسَاعِدَة . و ( الرَّغْبَاء إِلَيْك ) : الطَّلَب وَالْمَسْأَلَة وَالرَّغْبَة .
[4] - أبو داود ( 1813 ) .
[5] - أحمد : 2 / 497 ، والنسائي ( 2752 ) ، وابن ماجة ( 2920 ) ، وصححه ابن خزيمة ( 2623 ، 2624 ) ، وابن حبان ( 3800 ) ، والحاكم ( 1650 ) .
[6] - ابن أبي شيبة ( 13472 ) .
[7] - فتح الباري : 3 / 410 .
[8] - مجموع الفتاوى : 26 / 114 ، 115 .
[9] - رواه ابن أبي شيبة من طرق عنه ( 14001 : 14006 ) مرفوعا وموقوفا ، والترمذي ( 919 ) وقال : حَسَنٌ صَحِيحٌ ، وَالْعَمَلُ عَلَيْهِ عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ قَالُوا : لَا يَقْطَعُ الْمُعْتَمِرُ التَّلْبِيَةَ حَتَّى يَسْتَلِمَ الْحَجَرَ .
[10] - أبو داود ( 1817 ) .
[11] - البخاري ( 1685 ) ، ومسلم ( 1281 ) .
قواعد عظيمة وفوائد جليلة
قال ابن القيم - رحمه الله : وقد اِشْتَمَلَتْ كَلِمَات التَّلْبِيَة عَلَى قَوَاعِد عَظِيمَة وَفَوَائِد جَلِيلَة :
إِحْدَاهَا : أَنَّ قَوْلك : ( لَبَّيْكَ ) يَتَضَمَّن إِجَابَة دَاعٍ دَعَاك وَمُنَادٍ نَادَاك ، وَلَا يَصِحّ فِي لُغَة وَلَا عَقْل إِجَابَة مِنْ لَا يَتَكَلَّم وَلَا يَدْعُو مَنْ أَجَابَهُ .
الثَّانِيَة : أَنَّهَا تَتَضَمَّن الْمَحَبَّة كَمَا تَقَدَّمَ ، وَلَا يُقَال : ( لَبَّيْكَ ) إِلَّا لِمِنْ تُحِبّهُ وَتُعَظِّمهُ ، وَلِهَذَا قِيلَ فِي مَعْنَاهَا : أَنَا مُوَاجِه لَك بِمَا تُحِبّ ، وَأَنَّهَا مِنْ قَوْلهمْ : اِمْرَأَة لَبَّة ، أَيّ : مَحَبَّة لِوَلَدِهَا .
الثَّالِثَة : أَنَّهَا تَتَضَمَّن اِلْتِزَام دَوَام الْعُبُودِيَّة ، وَلِهَذَا قِيلَ : هِيَ مِنْ الْإِقَامَة ، أَيّ : أَنَا مُقِيم عَلَى طَاعَتك .
الرَّابِعَة : أَنَّهَا تَتَضَمَّن الْخُضُوع وَالذُّلّ ، أَيّ : خُضُوعًا بَعْد خُضُوع ، مِنْ قَوْلهمْ : أَنَا مُلَبٍّ بَيْن يَدَيْك ، أَيّ : خَاضِع ذَلِيل .
الْخَامِسَة : أَنَّهَا تَتَضَمَّن الْإِخْلَاص ، وَلِهَذَا قِيلَ : إِنَّهَا مِنْ اللُّبّ ، وَهُوَ الْخَالِص .
السَّادِسَة : أَنَّهَا تَتَضَمَّن الْإِقْرَار بِسَمْعِ الرَّبّ تَعَالَى ، إِذْ يَسْتَحِيل أَنَّ يَقُول الرَّجُل : ( لَبَّيْكَ ) لِمِنْ لَا يَسْمَع دُعَاءَهُ .
السَّابِعَة : أَنَّهَا تَتَضَمَّن التَّقَرُّب مِنْ اللَّه ، وَلِهَذَا قِيلَ : إِنَّهَا مِنْ الْإِلْبَاب ، وَهُوَ التَّقَرُّب .
الثَّامِنَة : أَنَّهَا جَعَلَتْ فِي الْإِحْرَام شِعَارًا لِانْتِقَالِ مِنْ حَال إِلَى حَال ، وَمِنْ مَنْسَك إِلَى مَنْسَك ، كَمَا جَعَلَ التَّكْبِير فِي الصَّلَاة سَبْعًا ، لِلِانْتِقَالِ مِنْ رُكْن إِلَى رُكْن ، وَلِهَذَا كَانَتْ السُّنَّة أَنْ يُلَبِّي حَتَّى يَشْرَع فِي الطَّوَاف ، فَيَقْطَع التَّلْبِيَة ، ثُمَّ إِذَا سَارَ لَبَّى حَتَّى يَقِف بِعَرَفَة فَيَقْطَعهَا ، ثُمَّ يُلَبِّي حَتَّى يَقِف بِمُزْدِلَفَةَ فَيَقْطَعهَا ، ثُمَّ يُلَبِّي حَتَّى يَرْمِي جَمْرَة الْعَقَبَة فَيَقْطَعها ؛ فَالتَّلْبِيَة شِعَار الْحَجّ وَالتَّنَقُّل فِي أَعْمَال الْمَنَاسِك ، فَالْحَاجّ كُلَّمَا اِنْتَقَلَ مِنْ رُكْن إِلَى رُكْن قَالَ : ( لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ ) ، كَمَا أَنَّ الْمُصَلِّي يَقُول فِي اِنْتِقَاله مِنْ رُكْن إِلَى رُكْن : ( اللَّه أَكْبَر ) ، فَإِذَا حَلَّ مِنْ نُسُكه قَطَعَهَا ، كَمَا يَكُون سَلَام الْمُصَلِّي قَاطِعًا لِتَكْبِيرِهِ .
التَّاسِعَة : أَنَّهَا شِعَار لِتَوْحِيدِ مِلَّة إِبْرَاهِيم ، الَّذِي هُوَ رُوح الْحَجّ وَمَقْصِده ، بَلْ رُوح الْعِبَادَات كُلّهَا وَالْمَقْصُود مِنْهَا ؛ وَلِهَذَا كَانَتْ التَّلْبِيَة مِفْتَاح هَذِهِ الْعِبَادَة الَّتِي يَدْخُل فِيهَا بِهَا .
الْعَاشِرَة : أَنَّهَا مُتَضَمِّنَة لِمِفْتَاحِ الْجَنَّة وَبَاب الْإِسْلَام الَّذِي يَدْخُل مِنْهُ إِلَيْهِ ، وَهُوَ كَلِمَة الْإِخْلَاص وَالشَّهَادَة لِلَّهِ بِأَنَّهُ لَا شَرِيك لَهُ .
الْحَادِيَة عَشَرَة : أَنَّهَا مُشْتَمِلَة عَلَى الْحَمْد لِلَّهِ ، الَّذِي هُوَ مِنْ أَحَبّ مَا يَتَقَرَّب بِهِ الْعَبْد إِلَى اللَّه ، وَأَوَّل مَنْ يُدْعَى إِلَى الْجَنَّة أَهْله ، وَهُوَ فَاتِحَة الصَّلَاة وَخَاتِمَتهَا .
الثَّانِيَة عَشْرَة : أَنَّهَا مُشْتَمِلَة عَلَى الِاعْتِرَاف لِلَّهِ بِالنِّعْمَةِ كُلّهَا ، وَلِهَذَا عَرَّفَهَا بِاللَّامِ الْمُفِيدَة لِلِاسْتِغْرَاقِ ، أَيْ : النِّعَمُ كُلُّهَا لَك ، وَأَنْتَ مُولِيهَا وَالْمُنْعِم بِهَا .
الثَّالِثَة عَشْرَة : أَنَّهَا مُشْتَمِلَة عَلَى الِاعْتِرَاف بِأَنَّ الْملْك كُلّه لِلَّهِ وَحْده ، فَلَا ملْك عَلَى الْحَقِيقَة لِغَيْرِهِ .
الرَّابِعَة عَشْرَة : أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى مُؤَكَّد الثُّبُوت بِإِنَّ الْمُقْتَضِيَة تَحْقِيق الْخَبَر وَتَثْبِيته وَأَنَّهُ مِمَّا لَا يَدْخُلهُ رَيْب وَلَا شَكّ .
الْخَامِسَة عَشْرَة : فِي ( إِنَّ ) وَجْهَانِ : فَتْحهَا وَكَسْرهَا ، فَمَنْ فَتَحَهَا تَضَمَّنَتْ مَعْنَى التَّعْلِيل ، أَيْ : لَبَّيْكَ الْحَمْد وَالنِّعْمَة لَك ، وَمَنْ كَسَرَهَا كَانَتْ جُمْلَة مُسْتَقِلَّة مُسْتَأْنَفَة ، تَتَضَمَّن اِبْتِدَاء الثَّنَاء عَلَى اللَّه ، وَالثَّنَاء إِذَا كَثُرَتْ جُمَله وَتَعَدَّدَتْ كَانَ أَحْسَن مِنْ قِلَّتهَا ، وَأَمَّا إِذَا فُتِحَتْ فَإِنَّهَا بِلَامِ التَّعْلِيل الْمَحْذُوفَة مَعَهَا قِيَاسًا ، وَالْمَعْنَى : لَبَّيْكَ لِأَنَّ الْحَمْد لَك ؛ وَالْفَرْق بَيْن أَنْ تَكُون جُمَل الثَّنَاء عِلَّة لِغَيْرِهَا وَبَيْن أَنْ تَكُون مُسْتَقِلَّة مُرَادَة لِنَفْسِهَا ، وَلِهَذَا قَالَ ثَعْلَب : مَنْ قَالَ : ( إِنَّ ) بِالْكَسْرِ فَقَدْ عَمَّ ، وَمَنْ قَالَ : ( أَنَّ ) بِالْفَتْحِ فَقَدْ خَصَّ .
وَنَظِير هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ وَالتَّعْلِيلَيْنِ وَالتَّرْجِيح سَوَاء قَوْله تَعَالَى حِكَايَة عَنْ الْمُؤْمِنِينَ : ] إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْل نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرّ الرَّحِيم [ كَسْر ( إِنَّ ) وَفَتْحهَا . فَمَنْ فَتَحَ كَانَ الْمَعْنَى : نَدْعُوهُ لِأَنَّهُ هُوَ الْبَرّ الرَّحِيم ؛ وَمَنْ كَسَرَ كَانَ الْكَلَام جُمْلَتَيْنِ ، إِحَدهمَا قَوْله : ( نَدْعُوهُ ) ، ثُمَّ اِسْتَأْنَفَ فَقَالَ : ] إِنَّهُ هُوَ الْبَرّ الرَّحِيم [ ، قَالَ أَبُو عُبَيْد: وَالْكَسْر أَحْسَن ، وَرَجَّحَهُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ .
السَّادِسَة عَشْرَة : أَنَّهَا مُتَضَمِّنَة لِلْإِخْبَارِ عَنْ اِجْتِمَاع الْمُلْك وَالنِّعْمَة وَالْحَمْد لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَهَذَا نَوْع آخَر مِنْ الثَّنَاء عَلَيْهِ ، غَيْر الثَّنَاء بِمُفْرَدَاتِ تِلْكَ الْأَوْصَاف الْعَلِيَّة ، فَلَهُ سُبْحَانه مِنْ أَوْصَافه الْعُلَى نَوْعَا ثَنَاء ، نَوْع مُتَعَلِّق بِكُلِّ صِفَة عَلَى اِنْفِرَادهَا ، وَنَوْع مُتَعَلِّق بِاجْتِمَاعِهَا وَهُوَ كَمَال مَعَ كَمَال وَهُوَ عَامَّة الْكَمَال ، وَاَللَّه سُبْحَانه يُفَرَّق فِي صِفَاته بَيْن الْمُلْك وَالْحَمْد ، وَسَوَّغَ هَذَا الْمَعْنَى أَنَّ اِقْتِرَان أَحَدهمَا بِالْآخَرِ مِنْ أَعْظَم الْكَمَال وَالْمُلْك وَحْده كَمَال ، وَالْحَمْد كَمَال وَاقْتِرَان أَحَدهمَا بِالْآخَرِ كَمَال ، فَإِذَا اِجْتَمَعَ الْمُلْك الْمُتَضَمِّن لِلْقُدْرَةِ مَعَ النِّعْمَة الْمُتَضَمِّنَة لِغَايَةِ النَّفْع وَالْإِحْسَان وَالرَّحْمَة مَعَ الْحَمْد الْمُتَضَمِّن لِعَامَّةِ الْجَلَال وَالْإِكْرَام الدَّاعِي إِلَى مَحَبَّته ، كَانَ فِي ذَلِكَ مِنْ الْعَظَمَة وَالْكَمَال وَالْجَلَال مَا هُوَ أَوْلَى بِهِ وَهُوَ أَهْله ، وَكَانَ فِي ذِكْر الْحَمْد لَهُ وَمَعْرِفَته بِهِ مِنْ اِنْجِذَاب قَلْبه إِلَى اللَّه وَإِقْبَاله عَلَيْهِ ، وَالتَّوَجُّه بِدَوَاعِي الْمَحَبَّة كُلّهَا إِلَيْهِ مَا هُوَ مَقْصُود الْعُبُودِيَّة وَلُبّهَا ، وَذَلِكَ فَضْل اللَّه يُؤْتِيه مَنْ يَشَاء . وَنَظِير هَذَا اِقْتِرَان الْغِنَى بِالْكَرَمِ ، كَقَوْلِهِ : ] فَإِنَّ رَبِّي غَنِيّ كَرِيم [ فَلَهُ كَمَال مِنْ غِنَاهُ وَكَرَمه ، وَمِنْ اِقْتِرَان أَحَدهمَا بِالْآخَرِ .
وَنَظِيره اِقْتِرَان الْعِزَّة بِالرَّحْمَةِ : ] وَإِنَّ رَبّك لَهُوَ الْعَزِيز الرَّحِيم [ .
وَنَظِيره اِقْتِرَان الْعَفْو بِالْقُدْرَةِ : ] وَكَانَ اللَّه عَفُوًّا قَدِيرًا [ .
وَنَظِيره اِقْتِرَان الْعِلْم بِالْحِلْمِ : ] وَاَللَّه عَلِيم حَلِيم [ .
وَنَظِيره اِقْتِرَان الرَّحْمَة بِالْقُدْرَةِ : ] وَاَللَّه قَدِير وَاَللَّه غَفُور رَحِيم [ .
وَهَذَا يُطْلِع ذَا اللُّبّ عَلَى رِيَاض مِنْ الْعِلْم أَنِيقَات ، وَيَفْتَح لَهُ بَاب مَحَبَّة اللَّه وَمَعْرِفَته ، وَاَللَّه الْمُسْتَعَان وَعَلَيْهِ التُّكْلَان .
السَّابِعَة عَشْرَة : أَنَّ النَّبِيّ e قَالَ : " أَفْضَل مَا قُلْت أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي : لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وَحْده لَا شَرِيك لَهُ ، لَهُ الْمُلْك وَلَهُ الْحَمْد وَهُوَ عَلَى كُلّ شَيْء قَدِير " ؛ وَقَدْ اِشْتَمَلَتْ بِالتَّلْبِيَةِ عَلَى هَذِهِ الْكَلِمَات بِعَيْنِهَا ، وَتَضَمَّنَتْ مَعَانِيهَا ، وَقَوْله e : " وَهُوَ عَلَى كُلّ شَيْء قَدِير [ ، لَك أَنْ تُدْخِلهَا تَحْت قَوْلك فِي التَّلْبِيَة : " لَا شَرِيك لَك " ؛ وَلَك أَنْ تُدْخِلهَا تَحْت قَوْلك : " إِنَّ الْحَمْد وَالنِّعْمَة لَك " ، وَلَك أَنْ تُدْخِلهَا تَحْت إِثْبَات الْمُلْك لَهُ تَعَالَى ، إِذْ لَوْ كَانَ بَعْض الْمَوْجُودَات خَارِجًا عَنْ قُدْرَته وَمُلْكه ، وَاقِعًا بِخَلْقِ غَيْره ، لَمْ يَكُنْ نَفْي الشَّرِيك عَامًّا ، وَلَمْ يَكُنْ إِثْبَات الْمُلْك وَالْحَمْد لَهُ عَامًّا ، وَهَذَا مِنْ أَعْظَم الْمُحَال ، وَالْمُلْك كُلّه لَهُ ، وَالْحَمْد كُلّه لَهُ ، وَلَيْسَ لَهُ شَرِيك بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوه .
الثَّامِنَة عَشْرَة : أَنَّ كَلِمَات التَّلْبِيَة مُتَضَمِّنَة لِلرَّدِّ عَلَى كُلّ مُبْطِل فِي صِفَات اللَّه وَتَوْحِيده ، فَإِنَّهَا مُبْطِلَة لِقَوْلِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى اِخْتِلَاف طَوَائِفهمْ وَمَقَالَاتهمْ . وَلِقَوْلِ الْفَلَاسِفَة وَإِخْوَانهمْ مِنْ الْجَهْمِيَّةِ الْمُعَطِّلِينَ لِصِفَاتِ الْكَمَال الَّتِي هِيَ مُتَعَلَّق الْحَمْد ، فَهُوَ سُبْحَانه مَحْمُود لِذَاتِهِ وَلِصِفَاتِهِ وَلِأَفْعَالِهِ ، فَمَنْ جَحَدَ صِفَاته وَأَفْعَاله فَقَدْ جَحَدَ حَمْده ، وَمُبْطِلَة لِقَوْلِ مَجُوس الْأُمَّة الْقَدَرِيَّة الَّذِينَ أَخْرَجُوا مِنْ مِلْك الرَّبّ وَقُدْرَته أَفْعَال عِبَاده مِنْ الْمَلَائِكَة وَالْجِنِّ وَالْإِنْس ، فَلَمْ يُثْبِتُوا لَهُ عَلَيْهَا قُدْرَة وَلَا جَعَلُوهُ خَالِقًا لَهَا . فَعَلَى قَوْلهمْ لَا تَكُون دَاخِلَة تَحْت مُلْكه ، إِذْ مَنْ لَا قُدْرَة لَهُ عَلَى الشَّيْء كَيْفَ يَكُون هَذَا الشَّيْء دَاخِلًا تَحْت مُلْكه ؟ فَلَمْ يَجْعَلُوا الْمُلْك كُلّه لِلَّهِ ، وَلَمْ يَجْعَلُوهُ عَلَى كُلّ شَيْء قَدِير ، وَأَمَّا الْفَلَاسِفَة فَعِنْدهمْ لَا قُدْرَة لَهُ عَلَى شَيْء الْبَتَّة ، فَمَنْ عَلِمَ مَعْنَى هَذِهِ الْكَلِمَات وَشَهِدَهَا وَأَيْقَنَ بِهَا بَايَنَ جَمِيع الطَّوَائِف الْمُعَطِّلَة .
التَّاسِعَة عَشْرَة : فِي عَطْف الْمُلْك عَلَى الْحَمْد وَالنِّعْمَة بَعْد كَمَالِ الْخَبَر ، وَهُوَ قَوْله : " إِنَّ الْحَمْد وَالنِّعْمَة لَك وَالْمُلْك " ، وَلَمْ يَقُلْ : ( إِنَّ الْحَمْد وَالنِّعْمَة وَالْمُلْك ) لَطِيفَة بَدِيعَة ، وَهِيَ أَنَّ الْكَلَام يَصِير بِذَلِكَ جُمْلَتَيْنِ مُسْتَقِلَّتَيْنِ ، فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ إِنَّ الْحَمْد وَالنِّعْمَة وَالْمُلْك لَك ، كَانَ عَطْف الْمُلْك عَلَى مَا قَبْله عَطْف مُفْرَد ، فَلَمَّا تَمَّتْ الْجُمْلَة الْأُولَى بِقَوْلِهِ : " لَك " ثُمَّ عَطَفَ الْمُلْك ، كَانَ تَقْدِيره : وَالْمُلْك لَك ، فَيَكُون مُسَاوِيًا لِقَوْلِهِ : " لَهُ الْمُلْك وَلَهُ الْحَمْد " ، وَلَمْ يَقُلْ : ( لَهُ الْمُلْك وَالْحَمْد ) ، وَفَائِدَته تَكْرَار الْحَمْد فِي الثَّنَاء .
الْعِشْرُونَ : لَمَّا عَطَفَ النِّعْمَة عَلَى الْحَمْد وَلَمْ يَفْصِل بَيْنهمَا بِالْخَبَرِ ، كَانَ فِيهِ إِشْعَار بِاقْتِرَانِهِمَا وَتَلَازُمهمَا ، وَعَدَم مُفَارَقَة أَحَدهمَا لِلْآخَرِ ، فَالْإِنْعَام وَالْحَمْد قَرِينَانِ .
الْحَادِيَة وَالْعِشْرُونَ : فِي إِعَادَة الشَّهَادَة لَهُ بِأَنَّهُ لَا شَرِيك لَهُ لَطِيفَة ، وَهِيَ أَنَّهُ أَخْبَرَ لَا شَرِيك لَهُ عَقِب إِجَابَته بِقَوْلِهِ : لَبَّيْكَ ، ثُمَّ أَعَادَهَا عَقِب قَوْله : " إِنَّ الْحَمْد وَالنِّعْمَة لَك وَالْمُلْك لَا شَرِيك لَك " .
وَذَلِكَ يَتَضَمَّن أَنَّهُ لَا شَرِيك لَهُ فِي الْحَمْد وَالنِّعْمَة وَالْمُلْك ، وَالْأَوَّل يَتَضَمَّن أَنَّهُ لَا شَرِيك لَك فِي إِجَابَة هَذِهِ الدَّعْوَة ، وَهَذَا نَظِير قَوْله تَعَالَى : ] شَهِدَ اللَّه أَنَّهُ لَا إِلَه إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَة وَأُولُو الْعِلْم قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَه إِلَّا هُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم [ ؛ فَأَخْبَرَ بِأَنَّهُ لَا إِلَه إِلَّا هُوَ فِي أَوَّل الْآيَة ، وَذَلِكَ دَاخِل تَحْت شَهَادَته وَشَهَادَة مَلَائِكَته وَأُولِي الْعِلْم ، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُود بِهِ ، ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْ قِيَامه بِالْقِسْطِ وَهُوَ الْعَدْل ، فَأَعَادَ الشَّهَادَة بِأَنَّهُ لَا إِلَه إِلَّا هُوَ مَعَ قِيَامه بِالْقِسْطِ ( [1] ) .
انتهى كلامه – رحمه الله – وهو كلام نفيس في بابه ، لا أعلم أحدا جمع كل هذه الفوائد في التلبية غيره ؛ وبه أختم هذه الرسالة سائلا المولى جل وعلا أن يتقبلها مني وأن يجعل لها القبول في الأرض ، إنه نعم المولى ونعم النصير ، وصلى الله وسلم وبارك على النبي محمد وعلى آله وصحبه .
[1] - انظر ( تهذيب السنن ) : 5 / 177- 182 – دار الكتب العلمية .
قواعد عظيمة وفوائد جليلة
قال ابن القيم - رحمه الله : وقد اِشْتَمَلَتْ كَلِمَات التَّلْبِيَة عَلَى قَوَاعِد عَظِيمَة وَفَوَائِد جَلِيلَة :
إِحْدَاهَا : أَنَّ قَوْلك : ( لَبَّيْكَ ) يَتَضَمَّن إِجَابَة دَاعٍ دَعَاك وَمُنَادٍ نَادَاك ، وَلَا يَصِحّ فِي لُغَة وَلَا عَقْل إِجَابَة مِنْ لَا يَتَكَلَّم وَلَا يَدْعُو مَنْ أَجَابَهُ .
الثَّانِيَة : أَنَّهَا تَتَضَمَّن الْمَحَبَّة كَمَا تَقَدَّمَ ، وَلَا يُقَال : ( لَبَّيْكَ ) إِلَّا لِمِنْ تُحِبّهُ وَتُعَظِّمهُ ، وَلِهَذَا قِيلَ فِي مَعْنَاهَا : أَنَا مُوَاجِه لَك بِمَا تُحِبّ ، وَأَنَّهَا مِنْ قَوْلهمْ : اِمْرَأَة لَبَّة ، أَيّ : مَحَبَّة لِوَلَدِهَا .
الثَّالِثَة : أَنَّهَا تَتَضَمَّن اِلْتِزَام دَوَام الْعُبُودِيَّة ، وَلِهَذَا قِيلَ : هِيَ مِنْ الْإِقَامَة ، أَيّ : أَنَا مُقِيم عَلَى طَاعَتك .
الرَّابِعَة : أَنَّهَا تَتَضَمَّن الْخُضُوع وَالذُّلّ ، أَيّ : خُضُوعًا بَعْد خُضُوع ، مِنْ قَوْلهمْ : أَنَا مُلَبٍّ بَيْن يَدَيْك ، أَيّ : خَاضِع ذَلِيل .
الْخَامِسَة : أَنَّهَا تَتَضَمَّن الْإِخْلَاص ، وَلِهَذَا قِيلَ : إِنَّهَا مِنْ اللُّبّ ، وَهُوَ الْخَالِص .
السَّادِسَة : أَنَّهَا تَتَضَمَّن الْإِقْرَار بِسَمْعِ الرَّبّ تَعَالَى ، إِذْ يَسْتَحِيل أَنَّ يَقُول الرَّجُل : ( لَبَّيْكَ ) لِمِنْ لَا يَسْمَع دُعَاءَهُ .
السَّابِعَة : أَنَّهَا تَتَضَمَّن التَّقَرُّب مِنْ اللَّه ، وَلِهَذَا قِيلَ : إِنَّهَا مِنْ الْإِلْبَاب ، وَهُوَ التَّقَرُّب .
الثَّامِنَة : أَنَّهَا جَعَلَتْ فِي الْإِحْرَام شِعَارًا لِانْتِقَالِ مِنْ حَال إِلَى حَال ، وَمِنْ مَنْسَك إِلَى مَنْسَك ، كَمَا جَعَلَ التَّكْبِير فِي الصَّلَاة سَبْعًا ، لِلِانْتِقَالِ مِنْ رُكْن إِلَى رُكْن ، وَلِهَذَا كَانَتْ السُّنَّة أَنْ يُلَبِّي حَتَّى يَشْرَع فِي الطَّوَاف ، فَيَقْطَع التَّلْبِيَة ، ثُمَّ إِذَا سَارَ لَبَّى حَتَّى يَقِف بِعَرَفَة فَيَقْطَعهَا ، ثُمَّ يُلَبِّي حَتَّى يَقِف بِمُزْدِلَفَةَ فَيَقْطَعهَا ، ثُمَّ يُلَبِّي حَتَّى يَرْمِي جَمْرَة الْعَقَبَة فَيَقْطَعها ؛ فَالتَّلْبِيَة شِعَار الْحَجّ وَالتَّنَقُّل فِي أَعْمَال الْمَنَاسِك ، فَالْحَاجّ كُلَّمَا اِنْتَقَلَ مِنْ رُكْن إِلَى رُكْن قَالَ : ( لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ ) ، كَمَا أَنَّ الْمُصَلِّي يَقُول فِي اِنْتِقَاله مِنْ رُكْن إِلَى رُكْن : ( اللَّه أَكْبَر ) ، فَإِذَا حَلَّ مِنْ نُسُكه قَطَعَهَا ، كَمَا يَكُون سَلَام الْمُصَلِّي قَاطِعًا لِتَكْبِيرِهِ .
التَّاسِعَة : أَنَّهَا شِعَار لِتَوْحِيدِ مِلَّة إِبْرَاهِيم ، الَّذِي هُوَ رُوح الْحَجّ وَمَقْصِده ، بَلْ رُوح الْعِبَادَات كُلّهَا وَالْمَقْصُود مِنْهَا ؛ وَلِهَذَا كَانَتْ التَّلْبِيَة مِفْتَاح هَذِهِ الْعِبَادَة الَّتِي يَدْخُل فِيهَا بِهَا .
الْعَاشِرَة : أَنَّهَا مُتَضَمِّنَة لِمِفْتَاحِ الْجَنَّة وَبَاب الْإِسْلَام الَّذِي يَدْخُل مِنْهُ إِلَيْهِ ، وَهُوَ كَلِمَة الْإِخْلَاص وَالشَّهَادَة لِلَّهِ بِأَنَّهُ لَا شَرِيك لَهُ .
الْحَادِيَة عَشَرَة : أَنَّهَا مُشْتَمِلَة عَلَى الْحَمْد لِلَّهِ ، الَّذِي هُوَ مِنْ أَحَبّ مَا يَتَقَرَّب بِهِ الْعَبْد إِلَى اللَّه ، وَأَوَّل مَنْ يُدْعَى إِلَى الْجَنَّة أَهْله ، وَهُوَ فَاتِحَة الصَّلَاة وَخَاتِمَتهَا .
الثَّانِيَة عَشْرَة : أَنَّهَا مُشْتَمِلَة عَلَى الِاعْتِرَاف لِلَّهِ بِالنِّعْمَةِ كُلّهَا ، وَلِهَذَا عَرَّفَهَا بِاللَّامِ الْمُفِيدَة لِلِاسْتِغْرَاقِ ، أَيْ : النِّعَمُ كُلُّهَا لَك ، وَأَنْتَ مُولِيهَا وَالْمُنْعِم بِهَا .
الثَّالِثَة عَشْرَة : أَنَّهَا مُشْتَمِلَة عَلَى الِاعْتِرَاف بِأَنَّ الْملْك كُلّه لِلَّهِ وَحْده ، فَلَا ملْك عَلَى الْحَقِيقَة لِغَيْرِهِ .
الرَّابِعَة عَشْرَة : أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى مُؤَكَّد الثُّبُوت بِإِنَّ الْمُقْتَضِيَة تَحْقِيق الْخَبَر وَتَثْبِيته وَأَنَّهُ مِمَّا لَا يَدْخُلهُ رَيْب وَلَا شَكّ .
الْخَامِسَة عَشْرَة : فِي ( إِنَّ ) وَجْهَانِ : فَتْحهَا وَكَسْرهَا ، فَمَنْ فَتَحَهَا تَضَمَّنَتْ مَعْنَى التَّعْلِيل ، أَيْ : لَبَّيْكَ الْحَمْد وَالنِّعْمَة لَك ، وَمَنْ كَسَرَهَا كَانَتْ جُمْلَة مُسْتَقِلَّة مُسْتَأْنَفَة ، تَتَضَمَّن اِبْتِدَاء الثَّنَاء عَلَى اللَّه ، وَالثَّنَاء إِذَا كَثُرَتْ جُمَله وَتَعَدَّدَتْ كَانَ أَحْسَن مِنْ قِلَّتهَا ، وَأَمَّا إِذَا فُتِحَتْ فَإِنَّهَا بِلَامِ التَّعْلِيل الْمَحْذُوفَة مَعَهَا قِيَاسًا ، وَالْمَعْنَى : لَبَّيْكَ لِأَنَّ الْحَمْد لَك ؛ وَالْفَرْق بَيْن أَنْ تَكُون جُمَل الثَّنَاء عِلَّة لِغَيْرِهَا وَبَيْن أَنْ تَكُون مُسْتَقِلَّة مُرَادَة لِنَفْسِهَا ، وَلِهَذَا قَالَ ثَعْلَب : مَنْ قَالَ : ( إِنَّ ) بِالْكَسْرِ فَقَدْ عَمَّ ، وَمَنْ قَالَ : ( أَنَّ ) بِالْفَتْحِ فَقَدْ خَصَّ .
وَنَظِير هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ وَالتَّعْلِيلَيْنِ وَالتَّرْجِيح سَوَاء قَوْله تَعَالَى حِكَايَة عَنْ الْمُؤْمِنِينَ : ] إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْل نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرّ الرَّحِيم [ كَسْر ( إِنَّ ) وَفَتْحهَا . فَمَنْ فَتَحَ كَانَ الْمَعْنَى : نَدْعُوهُ لِأَنَّهُ هُوَ الْبَرّ الرَّحِيم ؛ وَمَنْ كَسَرَ كَانَ الْكَلَام جُمْلَتَيْنِ ، إِحَدهمَا قَوْله : ( نَدْعُوهُ ) ، ثُمَّ اِسْتَأْنَفَ فَقَالَ : ] إِنَّهُ هُوَ الْبَرّ الرَّحِيم [ ، قَالَ أَبُو عُبَيْد: وَالْكَسْر أَحْسَن ، وَرَجَّحَهُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ .
السَّادِسَة عَشْرَة : أَنَّهَا مُتَضَمِّنَة لِلْإِخْبَارِ عَنْ اِجْتِمَاع الْمُلْك وَالنِّعْمَة وَالْحَمْد لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَهَذَا نَوْع آخَر مِنْ الثَّنَاء عَلَيْهِ ، غَيْر الثَّنَاء بِمُفْرَدَاتِ تِلْكَ الْأَوْصَاف الْعَلِيَّة ، فَلَهُ سُبْحَانه مِنْ أَوْصَافه الْعُلَى نَوْعَا ثَنَاء ، نَوْع مُتَعَلِّق بِكُلِّ صِفَة عَلَى اِنْفِرَادهَا ، وَنَوْع مُتَعَلِّق بِاجْتِمَاعِهَا وَهُوَ كَمَال مَعَ كَمَال وَهُوَ عَامَّة الْكَمَال ، وَاَللَّه سُبْحَانه يُفَرَّق فِي صِفَاته بَيْن الْمُلْك وَالْحَمْد ، وَسَوَّغَ هَذَا الْمَعْنَى أَنَّ اِقْتِرَان أَحَدهمَا بِالْآخَرِ مِنْ أَعْظَم الْكَمَال وَالْمُلْك وَحْده كَمَال ، وَالْحَمْد كَمَال وَاقْتِرَان أَحَدهمَا بِالْآخَرِ كَمَال ، فَإِذَا اِجْتَمَعَ الْمُلْك الْمُتَضَمِّن لِلْقُدْرَةِ مَعَ النِّعْمَة الْمُتَضَمِّنَة لِغَايَةِ النَّفْع وَالْإِحْسَان وَالرَّحْمَة مَعَ الْحَمْد الْمُتَضَمِّن لِعَامَّةِ الْجَلَال وَالْإِكْرَام الدَّاعِي إِلَى مَحَبَّته ، كَانَ فِي ذَلِكَ مِنْ الْعَظَمَة وَالْكَمَال وَالْجَلَال مَا هُوَ أَوْلَى بِهِ وَهُوَ أَهْله ، وَكَانَ فِي ذِكْر الْحَمْد لَهُ وَمَعْرِفَته بِهِ مِنْ اِنْجِذَاب قَلْبه إِلَى اللَّه وَإِقْبَاله عَلَيْهِ ، وَالتَّوَجُّه بِدَوَاعِي الْمَحَبَّة كُلّهَا إِلَيْهِ مَا هُوَ مَقْصُود الْعُبُودِيَّة وَلُبّهَا ، وَذَلِكَ فَضْل اللَّه يُؤْتِيه مَنْ يَشَاء . وَنَظِير هَذَا اِقْتِرَان الْغِنَى بِالْكَرَمِ ، كَقَوْلِهِ : ] فَإِنَّ رَبِّي غَنِيّ كَرِيم [ فَلَهُ كَمَال مِنْ غِنَاهُ وَكَرَمه ، وَمِنْ اِقْتِرَان أَحَدهمَا بِالْآخَرِ .
وَنَظِيره اِقْتِرَان الْعِزَّة بِالرَّحْمَةِ : ] وَإِنَّ رَبّك لَهُوَ الْعَزِيز الرَّحِيم [ .
وَنَظِيره اِقْتِرَان الْعَفْو بِالْقُدْرَةِ : ] وَكَانَ اللَّه عَفُوًّا قَدِيرًا [ .
وَنَظِيره اِقْتِرَان الْعِلْم بِالْحِلْمِ : ] وَاَللَّه عَلِيم حَلِيم [ .
وَنَظِيره اِقْتِرَان الرَّحْمَة بِالْقُدْرَةِ : ] وَاَللَّه قَدِير وَاَللَّه غَفُور رَحِيم [ .
وَهَذَا يُطْلِع ذَا اللُّبّ عَلَى رِيَاض مِنْ الْعِلْم أَنِيقَات ، وَيَفْتَح لَهُ بَاب مَحَبَّة اللَّه وَمَعْرِفَته ، وَاَللَّه الْمُسْتَعَان وَعَلَيْهِ التُّكْلَان .
السَّابِعَة عَشْرَة : أَنَّ النَّبِيّ e قَالَ : " أَفْضَل مَا قُلْت أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي : لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وَحْده لَا شَرِيك لَهُ ، لَهُ الْمُلْك وَلَهُ الْحَمْد وَهُوَ عَلَى كُلّ شَيْء قَدِير " ؛ وَقَدْ اِشْتَمَلَتْ بِالتَّلْبِيَةِ عَلَى هَذِهِ الْكَلِمَات بِعَيْنِهَا ، وَتَضَمَّنَتْ مَعَانِيهَا ، وَقَوْله e : " وَهُوَ عَلَى كُلّ شَيْء قَدِير [ ، لَك أَنْ تُدْخِلهَا تَحْت قَوْلك فِي التَّلْبِيَة : " لَا شَرِيك لَك " ؛ وَلَك أَنْ تُدْخِلهَا تَحْت قَوْلك : " إِنَّ الْحَمْد وَالنِّعْمَة لَك " ، وَلَك أَنْ تُدْخِلهَا تَحْت إِثْبَات الْمُلْك لَهُ تَعَالَى ، إِذْ لَوْ كَانَ بَعْض الْمَوْجُودَات خَارِجًا عَنْ قُدْرَته وَمُلْكه ، وَاقِعًا بِخَلْقِ غَيْره ، لَمْ يَكُنْ نَفْي الشَّرِيك عَامًّا ، وَلَمْ يَكُنْ إِثْبَات الْمُلْك وَالْحَمْد لَهُ عَامًّا ، وَهَذَا مِنْ أَعْظَم الْمُحَال ، وَالْمُلْك كُلّه لَهُ ، وَالْحَمْد كُلّه لَهُ ، وَلَيْسَ لَهُ شَرِيك بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوه .
الثَّامِنَة عَشْرَة : أَنَّ كَلِمَات التَّلْبِيَة مُتَضَمِّنَة لِلرَّدِّ عَلَى كُلّ مُبْطِل فِي صِفَات اللَّه وَتَوْحِيده ، فَإِنَّهَا مُبْطِلَة لِقَوْلِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى اِخْتِلَاف طَوَائِفهمْ وَمَقَالَاتهمْ . وَلِقَوْلِ الْفَلَاسِفَة وَإِخْوَانهمْ مِنْ الْجَهْمِيَّةِ الْمُعَطِّلِينَ لِصِفَاتِ الْكَمَال الَّتِي هِيَ مُتَعَلَّق الْحَمْد ، فَهُوَ سُبْحَانه مَحْمُود لِذَاتِهِ وَلِصِفَاتِهِ وَلِأَفْعَالِهِ ، فَمَنْ جَحَدَ صِفَاته وَأَفْعَاله فَقَدْ جَحَدَ حَمْده ، وَمُبْطِلَة لِقَوْلِ مَجُوس الْأُمَّة الْقَدَرِيَّة الَّذِينَ أَخْرَجُوا مِنْ مِلْك الرَّبّ وَقُدْرَته أَفْعَال عِبَاده مِنْ الْمَلَائِكَة وَالْجِنِّ وَالْإِنْس ، فَلَمْ يُثْبِتُوا لَهُ عَلَيْهَا قُدْرَة وَلَا جَعَلُوهُ خَالِقًا لَهَا . فَعَلَى قَوْلهمْ لَا تَكُون دَاخِلَة تَحْت مُلْكه ، إِذْ مَنْ لَا قُدْرَة لَهُ عَلَى الشَّيْء كَيْفَ يَكُون هَذَا الشَّيْء دَاخِلًا تَحْت مُلْكه ؟ فَلَمْ يَجْعَلُوا الْمُلْك كُلّه لِلَّهِ ، وَلَمْ يَجْعَلُوهُ عَلَى كُلّ شَيْء قَدِير ، وَأَمَّا الْفَلَاسِفَة فَعِنْدهمْ لَا قُدْرَة لَهُ عَلَى شَيْء الْبَتَّة ، فَمَنْ عَلِمَ مَعْنَى هَذِهِ الْكَلِمَات وَشَهِدَهَا وَأَيْقَنَ بِهَا بَايَنَ جَمِيع الطَّوَائِف الْمُعَطِّلَة .
التَّاسِعَة عَشْرَة : فِي عَطْف الْمُلْك عَلَى الْحَمْد وَالنِّعْمَة بَعْد كَمَالِ الْخَبَر ، وَهُوَ قَوْله : " إِنَّ الْحَمْد وَالنِّعْمَة لَك وَالْمُلْك " ، وَلَمْ يَقُلْ : ( إِنَّ الْحَمْد وَالنِّعْمَة وَالْمُلْك ) لَطِيفَة بَدِيعَة ، وَهِيَ أَنَّ الْكَلَام يَصِير بِذَلِكَ جُمْلَتَيْنِ مُسْتَقِلَّتَيْنِ ، فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ إِنَّ الْحَمْد وَالنِّعْمَة وَالْمُلْك لَك ، كَانَ عَطْف الْمُلْك عَلَى مَا قَبْله عَطْف مُفْرَد ، فَلَمَّا تَمَّتْ الْجُمْلَة الْأُولَى بِقَوْلِهِ : " لَك " ثُمَّ عَطَفَ الْمُلْك ، كَانَ تَقْدِيره : وَالْمُلْك لَك ، فَيَكُون مُسَاوِيًا لِقَوْلِهِ : " لَهُ الْمُلْك وَلَهُ الْحَمْد " ، وَلَمْ يَقُلْ : ( لَهُ الْمُلْك وَالْحَمْد ) ، وَفَائِدَته تَكْرَار الْحَمْد فِي الثَّنَاء .
الْعِشْرُونَ : لَمَّا عَطَفَ النِّعْمَة عَلَى الْحَمْد وَلَمْ يَفْصِل بَيْنهمَا بِالْخَبَرِ ، كَانَ فِيهِ إِشْعَار بِاقْتِرَانِهِمَا وَتَلَازُمهمَا ، وَعَدَم مُفَارَقَة أَحَدهمَا لِلْآخَرِ ، فَالْإِنْعَام وَالْحَمْد قَرِينَانِ .
الْحَادِيَة وَالْعِشْرُونَ : فِي إِعَادَة الشَّهَادَة لَهُ بِأَنَّهُ لَا شَرِيك لَهُ لَطِيفَة ، وَهِيَ أَنَّهُ أَخْبَرَ لَا شَرِيك لَهُ عَقِب إِجَابَته بِقَوْلِهِ : لَبَّيْكَ ، ثُمَّ أَعَادَهَا عَقِب قَوْله : " إِنَّ الْحَمْد وَالنِّعْمَة لَك وَالْمُلْك لَا شَرِيك لَك " .
وَذَلِكَ يَتَضَمَّن أَنَّهُ لَا شَرِيك لَهُ فِي الْحَمْد وَالنِّعْمَة وَالْمُلْك ، وَالْأَوَّل يَتَضَمَّن أَنَّهُ لَا شَرِيك لَك فِي إِجَابَة هَذِهِ الدَّعْوَة ، وَهَذَا نَظِير قَوْله تَعَالَى : ] شَهِدَ اللَّه أَنَّهُ لَا إِلَه إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَة وَأُولُو الْعِلْم قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَه إِلَّا هُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم [ ؛ فَأَخْبَرَ بِأَنَّهُ لَا إِلَه إِلَّا هُوَ فِي أَوَّل الْآيَة ، وَذَلِكَ دَاخِل تَحْت شَهَادَته وَشَهَادَة مَلَائِكَته وَأُولِي الْعِلْم ، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُود بِهِ ، ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْ قِيَامه بِالْقِسْطِ وَهُوَ الْعَدْل ، فَأَعَادَ الشَّهَادَة بِأَنَّهُ لَا إِلَه إِلَّا هُوَ مَعَ قِيَامه بِالْقِسْطِ ( [1] ) .
انتهى كلامه – رحمه الله – وهو كلام نفيس في بابه ، لا أعلم أحدا جمع كل هذه الفوائد في التلبية غيره ؛ وبه أختم هذه الرسالة سائلا المولى جل وعلا أن يتقبلها مني وأن يجعل لها القبول في الأرض ، إنه نعم المولى ونعم النصير ، وصلى الله وسلم وبارك على النبي محمد وعلى آله وصحبه .
وكتبه أفقر العباد إلى عفو رب البرية
محمد بن محمود بن إبراهيم عطية
[1] - انظر ( تهذيب السنن ) : 5 / 177- 182 – دار الكتب العلمية .