محبة القرآن
New member
[align=center]التلاوة
قال رحمه الله -تعالى-: التلاوة، تستحب تلاوة القرآن على أكمل الأحوال، والإكثار منها، وهو أفضل من سائر الذكر، والترتيل أفضل من السرعة مع تبيين الحروف وأشد تأثيرا في القلب، وينبغي إعطاء الحروف حقها وترتيبها، وتلطيف النطق بها، من غير إسراف ولا تعسف، ولا تكلف، ويسن تحسين الصوت والترنم بخشوع وحضور قلب وتفكر وتفهم، ينفذ اللفظ على الأسماع، والمعاني إلى القلوب.
قال الشيخ: في زينوا القرآن بأصواتكم هو التحسين والترنم بخشوع وحضور قلب، لا صرف الهمة إلى ما حجب به أكثر الناس من الوسوسة في خروج الحروف، وترقيقها وتفخيمها وإمالتها، والنطق بالمد الطويل والقصير والمتوسط، وشغله بالوصل والفصل، والإضجاع والإرجاع، والتطريب وغير ذلك مما هو مفض إلى تغيير كتاب الله، والتلاعب به حائل للقلوب، قاطع لها عن فهم مراد الرب من كلامه ومن تأمل هدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وإقراره أهل كل لسان على قراءتهم، تبين له أن التنطع بالوسوسة في إخراج الحروف ليس من سنته.
وقال: يكره التلحين الذي يشبه الغناء، واستحب بعضهم القراءة في المصحف، ويستحب الختم كل أسبوع، والدعاء بعده، وتحسين كتابة المصحف، ولا يخالف خط مصحف عثمان في ياء أو واو أو ألف أو غير ذلك، ويحرم على المحدث مسه، وسفر به لدار حرب، ويجب احترامه.
وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
--------------------------------------------------------------------------------
ذكر المؤلف هنا مبحث التلاوة، والمراد بالتلاوة القراءة: قال المؤلف: تستحب، والمستحب هو ما يثاب العبد عليه عند فعله ولا يعاقب على تركه.
قوله هنا: تلاوة القرآن، يعني من غير الواجبات، أنتم تعلمون أن القراءة في الصلاة واجبة فهذه ليست مرادة هنا، تستحب تلاوة القرآن، ذلك لورود النصوص الشرعية المتكاثرة في بيان الأجر العظيم على قراءة القرآن، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه وقال -صلى الله عليه وسلم-: بكل حرف من القرآن حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: الم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف والنصوص في ذلك متتابعة متكاثرة.
قوله هنا: على أكمل الأحوال، وذلك لأن كلام الله -سبحانه وتعالى- كلام فاضل، فهو خير الكلام وأحسنه، وحينئذ فيستحب لنا أن نكمل أحوالنا عند قراءة القرآن، تقديرا لهذا الكتاب، وتعظيما لكلام الله سبحانه وتعالى.
ومن الأحوال التي يستحب إكمالها عند قراءة القرآن التطهر، ومراعاة سنن التلاوة وآدابها، ومراعاة أفضل الأوقات الذي لا يكون فيه اشتغال للبال واشتغال للذهن، كقراءة الليل وقراءة الفجر، وجمهور أهل العلم على استحباب الطهارة عند قراءة القرآن، وأما بالنسبة للجنب فالجماهير على تحريم قراءة الجنب للقرآن، وقد ورد في مسند أبي يعلى بسند جيد: فأما الجنب فلا ولا آية وكذلك عند الجماهير أن الحائض لا تقرأ القرآن، قياسا على الجنب، ولما في حديث عائشة: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقرأ القرآن في حجرها وهي حائض فيأخذ من هذا الدليل بطريق دلالة الإشارة أن الحائض لا تقرأ القرآن، لأنها بينت أعلى أحوال الحائض بالنسبة للقرآن، وهو أن يُقرأ القرآن في حجرها.
وقد قال طائفة بمنع الكافر من قراءة القرآن، إلحاقا عليهما، وقال طائفة بأن الحائض تقرأ إذا خشيت نسيانها، لكن اليوم مع توفر وسائل إبعاد النسيان، كوجود المسجلات التي تسمع منها القرآن، فيبقى القرآن محفوظا لها بمجرد السماع، يكون خوف النسيان حينئذ بعيدا.
أما بالنسبة للكافر فقد قالت طائفة بأنه يمنع من قراءة القرآن، قياسا على الجنب والحائض، وقال طائفة بجواز قراءته للقرآن ولا يمنع منه، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد أرسل إلى ملوك زمانه آيات قرآنية، وكان الكفار في ذلك العهد يتناقلون آيات من القرآن، ولم يعرف عن أحد من الصحابة أنه نهاهم.
ويؤخذ من هذا مسألة إلحاق بعض النصارى أبنائهم بمدارس المسلمين، فإن بعض النصارى لما رأى ما عليها مدارس أهل الإسلام من سمت، وما تؤدي إليه من أخلاق فاضلة، ومحافظة على مكارم الأخلاق، أدخل أبناءه في مدارس المسلمين، فمثل هذه المدارس يدرس فيها القرآن، وهذا منسوب إلى النصرانية، فهل يمكن من قراءة القرآن ومن تعلمه؟ مبني على المسألة السابقة، والأظهر جوازه.
قال: والإكثار منها، يعني أنه يستحب الإكثار من قراءة القرآن، وقد ورد في الحديث: أن الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة
قال: وهو أفضل من سائر الذكر، يعني أن قراءة القرآن أفضل من باقي أنواع الذكر، فقراءة القرآن نوع من أنواع الذكر لكنها أفضل الذكر، لما في الترمذي: فضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على خلقه وبعض أنواع القرآن أفضل من بعض، فسورة الفاتحة وآية الكرسي لهما فضيلة ومزية.
ثم ذكر المؤلف بعد ذلك المقارنة بين ترتيل القرآن وبين السرعة، أيهما أفضل؟ بالسرعة نقرأ حروفا، أكثر وبالترتيل نتمكن من فهم القرآن وتدبره، قال المؤلف: الترتيل أفضل من السرعة مع تبيين الحروف، أما إذا كان هناك سرعة بدون تبيين للحروف فهذه مخالفة للشريعة، فتدور بين الكراهة والتحريم، فالترتيل أفضل، وكذلك الترتيل أشد تأثيرا في القلب، لأنه يحصل به التفكر والتدبر للقرآن، لكن بعض الناس إذا رتل لم يتمكن من القراءة، لكونه قد حفظ القراءة بطريقة الحدر، وأنتم تعلمون أن قراءة القرآن على ثلاثة أنواع:
قراءة التحقيق: بإعطاء الحروف حقها من المخارج، وكذلك بتكميل مدود القرآن، وقراءة الحدر: المراد به الإسراع بالحروف مما لا يخفى معه حرف ولا يسقط معه حرف، وهنا كقراءة متوسطة، بين هاتين القراءتين، وقد ورد أن الله -عز وجل- قد أمر نبيه -صلى الله عليه وسلم- بترتيل القرآن، فقال: وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا وهكذا كان دأب النبي -صلى الله عليه وسلم- والسلف من بعده.
قال المؤلف: وينبغي -يعني يستحب ويسن- إعطاء الحروف حقها، وإعطاء الحروف يعني إخراج الحرف من مخرجه، وإعطاءه حقه من التفخيم والترقيق والاستعلاء ونحو ذلك، وترتيبها يعني ينبغي ترتيب الحروف حالة النطق بها، بجعل الحرف خارجا من المرتبة التي يستحق الخروج منها، ففرق بين حروف اللسان حروف الحلق.
قال: وتلطيف النطق بها يعني يستحب أن يكون النطق بهذه الحروف لطيفا رقيقا بغير إسراف، ولا تعسف ولا تكلف، فإنه إذا أسرف الإنسان في الحرف جعل الحرف الواحد قائما مقام حرفين، فيكرر الراء مرتين، ولا تعسف في إخراج الحرف، ولا تكلف في إخراج الحرف، فإن المرء إذا تكلف في إخراج الحرف ثقله وشدده، فيكون زائد لشدة ليست موجودة في القرآن، ويسن تحسين الصوت بالقرآن، لحديث: زينوا القرآن بأصواتكم، وما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الترنم بالقرآن "ما أذن" يعني ما استمع الله بشيء، وفي الحديث: ليس منا من لم يتغنى بالقرآن والترنم يعني أنه يستحب كذلك الترنم بقراءة القرآن، فلا يقرأ القرآن بمثل ما يتكلم به الناس في عادة كلامهم، وإنما يقرأ بترنم.
وكذلك يكون بخشوع، فتخشع جوارحه عن الحركة، ويخشع قلبه عن التفكر، فإن ذلك أدعى إلى معرفة معاني القرآن والتدبر فيه، وحضور قلب وتفكر وتفهم، وقد وردت النصوص بالأمر بالتدبر: أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ ، لهذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقرأ قراءة مترسلة، إذا مر بآية رحمة سأل، وإذا مر بآية عذاب تعوذ كما في حديث حذيفة، ولما قرأ ابن مسعود على النبي -صلى الله عليه وسلم- سورة النساء بكى -صلى الله عليه وسلم- وذرفت عيناه، فإن القراءة إذا كانت بتحسين بالصوت بترنم وخشوع وحضور قلب فإن تلفظ المرء بقراءة القرآن، وحينئذ تنفذ إلى الأسماع، وحينئذ تنفذ المعاني إلى القلوب، وتنفذ بمعنى تدخل، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: في تفسير قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: زينوا القرآن بأصواتكم أن تزيين القرآن بالصوت هو تحسين الصوت والترنم بخشوع، وحضور قلب.
وليس المراد بهذا الحديث - زينوا القرآن بأصواتكم - صرف الهمة إلى أمور غير مشروعة تكون سببا في حجب الناس عن التفكر في معاني القرآن، لا صرف الهمة إلى ما حجب عنه أكثر الناس عن تدبر القرآن وتفهمه من الوسوسة في خروج الحروف، من مواضعها وظهورها وتميزها، فيفكر في طريقة إخراج الحرف ولا يفكر في معنى ما يقرأه، ويفكر في الترقيق والتفخيم، والإمالة ولا يفكر في المعاني، والترقيق ضد التفخيم، ويراد به إغلاق الفم قليلا بالحرف، بخلاف التفخيم فهو فتح الفم بالحرف وتحريك وسط الكلمة، وأما الإمالة فأن يجعل الفتحة قريبة من الكسرة، ويجعل الألف قريبا من الياء، فيقول مثلا في "موسى": "موسي".
قال: والنطق بالمد الطويل والقصير والمتوسط، يعني أن بعض الناس يصرف همته في هذه الأمور، ولا يفكر في معاني القرآن، وكذلك يشتغل بالوصل، هل هذا الموطن موطن وصل أو وقوف وفصل؟ ولا يشتغل في معاني القرآن، والأصل الذي نزل له القرآن التفكر في معانيه والعمل بها، وأما أن تلاحظ طريقة النطق بالقرآن ونغفل عن تدبر المعاني فهذا ليس بمستحسن، وإذا تعارض النظر في المعاني والتفكر فيها مع طريقة إخراج الحرف قدم التفكر في المعنى، وإن كان الجمع من الأمرين هو المستحسن، بأن نعطي مخارج الحروف حقها وأن نتفكر في معانيها.
قال المؤلف: والإضجاع يعني لا نصرف الهمة إلى الإضجاع بحيث نغفل عن التدبر والمعاني، والإضجاع قريب من الإمالة، قال: والإضجاع يعني ترديد الآية مرات عديدة بقراءات مختلفة أو بطرائق وهيئات متنوعة، ثم نغفل عن المعنى، كذلك لا نصرف الهمة إلى التطريب، تطريب الصوت، مما يفضي إلى تغيير كتاب الله، والتطريب مثل التمديد ونحوه، فإن التطريب قد يؤدي إلى تغيير كتاب الله، فتشبع الكسرة فتجعل حرفا جديدا بحرف الياء، ويفخم اللفظ يكون قريبا من الشدة، فيكون فيه إضافة شدة ليست في كتاب الله، وهذه الأمور تؤدي إلى التلاعب في كلام الله، وجعله ملعبة يتلاعب الناس فيها، وحينئذ إذا وجدت هذه الأمور واشتغل بها تكون سببا لعدم تفكر الناس في معاني القرآن، وحائلا للقلوب عن فهم معاني القرآن، ومن ثم لا نفهم مراد الله -سبحانه وتعالى- من كلامه، فحينئذ نعلم من هذا أن تحسين الصوت مطلوب، ولكن التكلف في ذلك مما يجعل المرء يشتغل عن فهم القرآن هذا أمر غير مشروع.
ولا زال الكلام من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية قال: ومن تأمل هدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعني عند قراءته للقرآن وإقراره أهل كل لسان على قراءتهم، فأقر قبائل العرب على قراءتهم للقرآن مع اختلافهم وتباين طريقة إخراجهم للحروف، إذا تأمل الإنسان ذلك تبين له أن التشدد والتنطع والوساوس في إخراج الحرف من مخرجه وطريقته ليس من هدي ولا من سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
قال المؤلف: وقال -يعني شيخ الإسلام ابن تيمية-: يكره التلحين الذي يشبه الغناء، وقد ورد ذلك عن جماعة من السلف -أهل القرون المتقدمة- كراهة التلحين، والمراد بالتلحين هنا القراءة التي تتضمن مد حرف مقصور، أو العكس قصر حرف الممدود، أو التلحين الذي يتضمن تسكين حرف متحرك أو العكس، فإن بعض الناس يفعل ذلك ليوافق نغمات الأغاني المطربة، فإذا حصل مع هذا التلحين تغيير لنظم القرآن كان حراما، وحصل من هذا التلحين قلب الحركات على حروف أو قلب الحروف إلى حركات فإنه يكون حراما، ثم هنا نقارن بين القراءة، هل الأفضل أن تكون في المصحف، أو تكون من الصدر؟ قال المؤلف: واستحب بعضهم القراءة في المصحف، لأن النظر إلى المصحف عبادة، ولأنه حينئذ يتفكر في معاني ما يقرؤه، وجعل كثير من الناس هذا الحكم فيما إذا لم يكن هناك فائدة من القراءة حفظا، فإن القراءة حفظا إذا كانت لبقاء المحفوظ في الصدر، أو لكون المرء يحضر قلبه ويخشع بالقراءة من صدره، فإن هذا أفضل في حقه.
قال المؤلف: يستحب الختم يعني إكمال قراءة القرآن كل أسبوع، يعني في كل أسبوع مرة، وقد ورد في حديث ابن عمرو أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: اقرأ القرآن كل أسبوع ولا تزد على ذلك قال في بعض الروايات: اقرأه في ثلاث واستثنى بعض العلماء من ذلك ما لو كان هناك مكان فاضل كمكة، أو زمان فاضل كرمضان، فإنه لا مانع من ختم القرآن في أقل من ذلك، ولا يجاوز الإنسان بختمه للقرآن للشهر، أقل ما يكون لختم القرآن في شهر، إذا ختمه في أقل من ذلك فهو أولى وأحسن.
قال: والدعاء بعده، يعني يستحب الدعاء بعد ختم القرآن، وقد ورد ذلك عن جماعة من السلف، أنس بن مالك وغيره، وقد قال طائفة بأن دعاء ختم القرآن يكون بعده مباشرة، ولو كان ذلك في صلاة التراويح، وهذا قول جماهير الفقهاء من المذاهب المعروفة، وقد قال الإمام أحمد: بأنني أدركت الناس بمكة والمدينة وغيرهما إذا أنهى القارئ في الصلاة قراءة الناس رفع يديه ودعا، فدل ذلك على أن هذا أمر مشهور مشتهر، وأنه وقع عليه اتفاق الأمة، ولم يوجد من ينكر مثل هذا الفعل في تلك العصور، والإجماع السكوتي مما يستدل به على الأحكام، ومنع منه طائفة، لأنه لم ينقل عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وقد أجيب عن ذلك بأن صلاة التراويح في جميع الشهر لم تنقل عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك لعلة وعذر وهو أنه خشي أن تفرض على الأمة.
قال المؤلف: وتحسين كتابة المصحف، فإنه يستحب أن يحسن المرء خطه بالمصحف، واليوم كفينا هذا بوجود هذه المطابع الحديثة بفضل الله -سبحانه وتعالى- ولا يخالف خط مصحف عثمان في واو أو ياء أو ألف أو غير ذلك، فلا يتبع الإنسان في كتابة المصحف الطريقة الإملائية، وإنما نأخذ بما ورد في مصحف عثمان، لأن الأمة أجمعت على ذلك، ولأن هذا المصحف بهذه الكتابة يجمع القراءات الواردة في الكتاب، فلوا عدلناها بقواعد الإملاء، لكان ذلك مؤديا إلى عدم دخول هذه القراءات في كتابة المصحف، ولكان في ذلك مخالفة لما عليه سلف الأمة.
قال المؤلف: ويحرم على المحدث مسه، يعني أن من كان محدثا -على غير طهارة- سواء كان محدثا حدثا أصغر بانتقاض الوضوء، أو كان محدثا حدثا أكبر بجنابة ونحوها، فإنه حينئذ يحرم عليه مس المصحف، وهذا مذهب الأئمة الأربعة يستدلون عليه مما ورد في حديث عمرو بن حزم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كتب: لا يمس القرآن إلا طاهر وقد قيل في قوله: لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ هو خبر بمعنى الأمر، وقيل بأن الكتاب الذي في اللوح المحفوظ لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ وهو أصل هذا الكتاب الذي بين أيدينا، فيكون الفرع مماثلا له، ويستثنى من ذلك ما لو كتب مع القرآن تفسير فإن حينئذ لا يتمحض أن يكون مصحفا، ويستثنى من ذلك ما لو كان المصحف والقرآن في أشرطة، سواء أشرطة مسجل أو فيديو أو كومبيوتر، فإنه لا مانع من مسها، ولا يقال لها مصحفا، وهل يدخل في هذا مس المصحف بعلاقة ونحوها؟ مذهب أحمد أن المصحف إذا كان في علاقة منفصلة عن المصحف فإنه لا مانع من حمل العلاقة ومس هذه العلاقة، ولا يكون ماسا للمصحف، خلافا لطائفة من الفقهاء.
قال المؤلف: وسفر به لدار الحرب، يعني يحرم أن يسافر المسلم به لدار الحرب، لما ورد أن النبي -صلى الله عليه وسلم-: نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو ، وعلة ذلك الخوف من تمكن العدو من تحريف القرآن وتبديله واستهانته، فحينئذ إذا كان سفر الإنسان بالقرآن لن يؤدي إلى هذه الأمور فهل ينتفي هذا المنع والتحريم؟ هذا مبني على قاعدة عند الأصوليين وهي أن العلة إذا عادت على أصلها بالتخصيص هل تعتبر، ويخصص بها اللفظ العام؟ والصواب في هذا التفريق بين العلة المنصوصة والعلة المستنبطة العلة، المنصوصة تخصص اللفظ العام، بخلاف المستنبطة.
قال: ويجب احترامه، يعني ويجب احترام المصحف وصيانته عن كل أذى، فلا يدخل به بالقرآن، ولا يوضع في أماكن القاذورات والنجاسات، ولا يوضع في أمكنة الجلوس خشية من أن يجلس عليه، ولا يهان، ومن هنا قالت طائفة بأن القرآن لا يكتب على الجدران، لأن في ذلك امتهان له، وكذلك يصان القرآن عن الاستناد إليه أو جعله وسادة يستند عليه الإنسان، ويصان أيضا من الجلوس عليه والوقوف عليه، ومما يتعلق بهذا مد الرجلين إلى المصحف، فإنه مكروه إذا لم يقصد إهانة المصحف، أما إذا قصد إهانته فلا شك بأنه من العظائم، وقد قالت طائفة بأنه يكفر بذلك، وكذلك من عدم احترام القرآن إلقاؤه على الأرض بقوة، لأن هذا يؤدي إلى تمزقه.
هذا شيء مما يتعلق بأحكام المصحف، والمؤلف -غفر الله له ورحمه ورفع درجته- حاول استقصاء أحكام مقدمة التفسير، وقد استفاد من مقدمة تفسير شيخ الإسلام ابن تيمية كثيرا، وذكر مباحث ومواطن ذكرها غيره، وقد اختصر مقدمة التفسير اختصارا غير مخل، فجمع ووعى من جهة، وقلل اللفظ وسهله من جهة أخرى، وهناك علوم كثيرة متعلقة بالتفسير، علوم القرآن لم يذكرها المؤلف، وذلك لأنه يعتبر أن هذه المقدمة بمثابة الأمر المسهل اليسير، وحينئذ فعلينا بمعرفة ما يتعلق بعلوم القرآن وطرق التفسير وطرق الدلالات، دلالات الألفاظ من أجل أن نفهم كلام الله -عز وجل- وأن نعرف المراد به، لنتمكن من العمل به، ولنتمكن من إرضاء الله -سبحانه وتعالى- لتعلمه وتعليمه، وقد ورد في الصحيح من حديث عثمان -رضي الله عنه-: خيركم من تعلم القرآن وعلمه تعلم القرآن يدخل فيه تعليم حروفه، ويدخل فيه أيضا تعليم معانيه وتعلمها.
وحينئذ فأوصي الجميع بالتوجه لكتاب الله -سبحانه وتعالى- حفظا وتلاوة وتدبرا وعملا ودعوة، وأن نفهم هذا القرآن من خلال القواعد التي توضح مراد الله -سبحانه وتعالى- وتبينه، نسأل الله -عز وجل- أن يرزقنا وإياكم فهم القرآن والعمل به، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، ويغفر لنا ولكم ولوالدينا ولجميع المسلمين، كما أسأله -سبحانه- أن يصلح أحوال الأمة، وأن يكفيهم شر أعدائهم، وأن يردهم إلى دينه ردا جميلا، كما أسأله -سبحانه- أن يوفق علماء الشريعة لبيان أحكامها، ولإرشاد جاهلها وتعليم كل فرد فيها، وأسأله أن يصلح ولاة أمور المسلمين، وأن يجعلهم محكمين لكتابه، عاملين بسنة نبيه -صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا- نسأل الله -عز وجل- أن يتقبل منا ومنكم. [/align]
كتاب: أصول التفسير
شرح: الشيخ سعد بن ناصر الشثري
قال رحمه الله -تعالى-: التلاوة، تستحب تلاوة القرآن على أكمل الأحوال، والإكثار منها، وهو أفضل من سائر الذكر، والترتيل أفضل من السرعة مع تبيين الحروف وأشد تأثيرا في القلب، وينبغي إعطاء الحروف حقها وترتيبها، وتلطيف النطق بها، من غير إسراف ولا تعسف، ولا تكلف، ويسن تحسين الصوت والترنم بخشوع وحضور قلب وتفكر وتفهم، ينفذ اللفظ على الأسماع، والمعاني إلى القلوب.
قال الشيخ: في زينوا القرآن بأصواتكم هو التحسين والترنم بخشوع وحضور قلب، لا صرف الهمة إلى ما حجب به أكثر الناس من الوسوسة في خروج الحروف، وترقيقها وتفخيمها وإمالتها، والنطق بالمد الطويل والقصير والمتوسط، وشغله بالوصل والفصل، والإضجاع والإرجاع، والتطريب وغير ذلك مما هو مفض إلى تغيير كتاب الله، والتلاعب به حائل للقلوب، قاطع لها عن فهم مراد الرب من كلامه ومن تأمل هدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وإقراره أهل كل لسان على قراءتهم، تبين له أن التنطع بالوسوسة في إخراج الحروف ليس من سنته.
وقال: يكره التلحين الذي يشبه الغناء، واستحب بعضهم القراءة في المصحف، ويستحب الختم كل أسبوع، والدعاء بعده، وتحسين كتابة المصحف، ولا يخالف خط مصحف عثمان في ياء أو واو أو ألف أو غير ذلك، ويحرم على المحدث مسه، وسفر به لدار حرب، ويجب احترامه.
وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
--------------------------------------------------------------------------------
ذكر المؤلف هنا مبحث التلاوة، والمراد بالتلاوة القراءة: قال المؤلف: تستحب، والمستحب هو ما يثاب العبد عليه عند فعله ولا يعاقب على تركه.
قوله هنا: تلاوة القرآن، يعني من غير الواجبات، أنتم تعلمون أن القراءة في الصلاة واجبة فهذه ليست مرادة هنا، تستحب تلاوة القرآن، ذلك لورود النصوص الشرعية المتكاثرة في بيان الأجر العظيم على قراءة القرآن، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه وقال -صلى الله عليه وسلم-: بكل حرف من القرآن حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: الم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف والنصوص في ذلك متتابعة متكاثرة.
قوله هنا: على أكمل الأحوال، وذلك لأن كلام الله -سبحانه وتعالى- كلام فاضل، فهو خير الكلام وأحسنه، وحينئذ فيستحب لنا أن نكمل أحوالنا عند قراءة القرآن، تقديرا لهذا الكتاب، وتعظيما لكلام الله سبحانه وتعالى.
ومن الأحوال التي يستحب إكمالها عند قراءة القرآن التطهر، ومراعاة سنن التلاوة وآدابها، ومراعاة أفضل الأوقات الذي لا يكون فيه اشتغال للبال واشتغال للذهن، كقراءة الليل وقراءة الفجر، وجمهور أهل العلم على استحباب الطهارة عند قراءة القرآن، وأما بالنسبة للجنب فالجماهير على تحريم قراءة الجنب للقرآن، وقد ورد في مسند أبي يعلى بسند جيد: فأما الجنب فلا ولا آية وكذلك عند الجماهير أن الحائض لا تقرأ القرآن، قياسا على الجنب، ولما في حديث عائشة: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقرأ القرآن في حجرها وهي حائض فيأخذ من هذا الدليل بطريق دلالة الإشارة أن الحائض لا تقرأ القرآن، لأنها بينت أعلى أحوال الحائض بالنسبة للقرآن، وهو أن يُقرأ القرآن في حجرها.
وقد قال طائفة بمنع الكافر من قراءة القرآن، إلحاقا عليهما، وقال طائفة بأن الحائض تقرأ إذا خشيت نسيانها، لكن اليوم مع توفر وسائل إبعاد النسيان، كوجود المسجلات التي تسمع منها القرآن، فيبقى القرآن محفوظا لها بمجرد السماع، يكون خوف النسيان حينئذ بعيدا.
أما بالنسبة للكافر فقد قالت طائفة بأنه يمنع من قراءة القرآن، قياسا على الجنب والحائض، وقال طائفة بجواز قراءته للقرآن ولا يمنع منه، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد أرسل إلى ملوك زمانه آيات قرآنية، وكان الكفار في ذلك العهد يتناقلون آيات من القرآن، ولم يعرف عن أحد من الصحابة أنه نهاهم.
ويؤخذ من هذا مسألة إلحاق بعض النصارى أبنائهم بمدارس المسلمين، فإن بعض النصارى لما رأى ما عليها مدارس أهل الإسلام من سمت، وما تؤدي إليه من أخلاق فاضلة، ومحافظة على مكارم الأخلاق، أدخل أبناءه في مدارس المسلمين، فمثل هذه المدارس يدرس فيها القرآن، وهذا منسوب إلى النصرانية، فهل يمكن من قراءة القرآن ومن تعلمه؟ مبني على المسألة السابقة، والأظهر جوازه.
قال: والإكثار منها، يعني أنه يستحب الإكثار من قراءة القرآن، وقد ورد في الحديث: أن الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة
قال: وهو أفضل من سائر الذكر، يعني أن قراءة القرآن أفضل من باقي أنواع الذكر، فقراءة القرآن نوع من أنواع الذكر لكنها أفضل الذكر، لما في الترمذي: فضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على خلقه وبعض أنواع القرآن أفضل من بعض، فسورة الفاتحة وآية الكرسي لهما فضيلة ومزية.
ثم ذكر المؤلف بعد ذلك المقارنة بين ترتيل القرآن وبين السرعة، أيهما أفضل؟ بالسرعة نقرأ حروفا، أكثر وبالترتيل نتمكن من فهم القرآن وتدبره، قال المؤلف: الترتيل أفضل من السرعة مع تبيين الحروف، أما إذا كان هناك سرعة بدون تبيين للحروف فهذه مخالفة للشريعة، فتدور بين الكراهة والتحريم، فالترتيل أفضل، وكذلك الترتيل أشد تأثيرا في القلب، لأنه يحصل به التفكر والتدبر للقرآن، لكن بعض الناس إذا رتل لم يتمكن من القراءة، لكونه قد حفظ القراءة بطريقة الحدر، وأنتم تعلمون أن قراءة القرآن على ثلاثة أنواع:
قراءة التحقيق: بإعطاء الحروف حقها من المخارج، وكذلك بتكميل مدود القرآن، وقراءة الحدر: المراد به الإسراع بالحروف مما لا يخفى معه حرف ولا يسقط معه حرف، وهنا كقراءة متوسطة، بين هاتين القراءتين، وقد ورد أن الله -عز وجل- قد أمر نبيه -صلى الله عليه وسلم- بترتيل القرآن، فقال: وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا وهكذا كان دأب النبي -صلى الله عليه وسلم- والسلف من بعده.
قال المؤلف: وينبغي -يعني يستحب ويسن- إعطاء الحروف حقها، وإعطاء الحروف يعني إخراج الحرف من مخرجه، وإعطاءه حقه من التفخيم والترقيق والاستعلاء ونحو ذلك، وترتيبها يعني ينبغي ترتيب الحروف حالة النطق بها، بجعل الحرف خارجا من المرتبة التي يستحق الخروج منها، ففرق بين حروف اللسان حروف الحلق.
قال: وتلطيف النطق بها يعني يستحب أن يكون النطق بهذه الحروف لطيفا رقيقا بغير إسراف، ولا تعسف ولا تكلف، فإنه إذا أسرف الإنسان في الحرف جعل الحرف الواحد قائما مقام حرفين، فيكرر الراء مرتين، ولا تعسف في إخراج الحرف، ولا تكلف في إخراج الحرف، فإن المرء إذا تكلف في إخراج الحرف ثقله وشدده، فيكون زائد لشدة ليست موجودة في القرآن، ويسن تحسين الصوت بالقرآن، لحديث: زينوا القرآن بأصواتكم، وما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الترنم بالقرآن "ما أذن" يعني ما استمع الله بشيء، وفي الحديث: ليس منا من لم يتغنى بالقرآن والترنم يعني أنه يستحب كذلك الترنم بقراءة القرآن، فلا يقرأ القرآن بمثل ما يتكلم به الناس في عادة كلامهم، وإنما يقرأ بترنم.
وكذلك يكون بخشوع، فتخشع جوارحه عن الحركة، ويخشع قلبه عن التفكر، فإن ذلك أدعى إلى معرفة معاني القرآن والتدبر فيه، وحضور قلب وتفكر وتفهم، وقد وردت النصوص بالأمر بالتدبر: أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ ، لهذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقرأ قراءة مترسلة، إذا مر بآية رحمة سأل، وإذا مر بآية عذاب تعوذ كما في حديث حذيفة، ولما قرأ ابن مسعود على النبي -صلى الله عليه وسلم- سورة النساء بكى -صلى الله عليه وسلم- وذرفت عيناه، فإن القراءة إذا كانت بتحسين بالصوت بترنم وخشوع وحضور قلب فإن تلفظ المرء بقراءة القرآن، وحينئذ تنفذ إلى الأسماع، وحينئذ تنفذ المعاني إلى القلوب، وتنفذ بمعنى تدخل، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: في تفسير قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: زينوا القرآن بأصواتكم أن تزيين القرآن بالصوت هو تحسين الصوت والترنم بخشوع، وحضور قلب.
وليس المراد بهذا الحديث - زينوا القرآن بأصواتكم - صرف الهمة إلى أمور غير مشروعة تكون سببا في حجب الناس عن التفكر في معاني القرآن، لا صرف الهمة إلى ما حجب عنه أكثر الناس عن تدبر القرآن وتفهمه من الوسوسة في خروج الحروف، من مواضعها وظهورها وتميزها، فيفكر في طريقة إخراج الحرف ولا يفكر في معنى ما يقرأه، ويفكر في الترقيق والتفخيم، والإمالة ولا يفكر في المعاني، والترقيق ضد التفخيم، ويراد به إغلاق الفم قليلا بالحرف، بخلاف التفخيم فهو فتح الفم بالحرف وتحريك وسط الكلمة، وأما الإمالة فأن يجعل الفتحة قريبة من الكسرة، ويجعل الألف قريبا من الياء، فيقول مثلا في "موسى": "موسي".
قال: والنطق بالمد الطويل والقصير والمتوسط، يعني أن بعض الناس يصرف همته في هذه الأمور، ولا يفكر في معاني القرآن، وكذلك يشتغل بالوصل، هل هذا الموطن موطن وصل أو وقوف وفصل؟ ولا يشتغل في معاني القرآن، والأصل الذي نزل له القرآن التفكر في معانيه والعمل بها، وأما أن تلاحظ طريقة النطق بالقرآن ونغفل عن تدبر المعاني فهذا ليس بمستحسن، وإذا تعارض النظر في المعاني والتفكر فيها مع طريقة إخراج الحرف قدم التفكر في المعنى، وإن كان الجمع من الأمرين هو المستحسن، بأن نعطي مخارج الحروف حقها وأن نتفكر في معانيها.
قال المؤلف: والإضجاع يعني لا نصرف الهمة إلى الإضجاع بحيث نغفل عن التدبر والمعاني، والإضجاع قريب من الإمالة، قال: والإضجاع يعني ترديد الآية مرات عديدة بقراءات مختلفة أو بطرائق وهيئات متنوعة، ثم نغفل عن المعنى، كذلك لا نصرف الهمة إلى التطريب، تطريب الصوت، مما يفضي إلى تغيير كتاب الله، والتطريب مثل التمديد ونحوه، فإن التطريب قد يؤدي إلى تغيير كتاب الله، فتشبع الكسرة فتجعل حرفا جديدا بحرف الياء، ويفخم اللفظ يكون قريبا من الشدة، فيكون فيه إضافة شدة ليست في كتاب الله، وهذه الأمور تؤدي إلى التلاعب في كلام الله، وجعله ملعبة يتلاعب الناس فيها، وحينئذ إذا وجدت هذه الأمور واشتغل بها تكون سببا لعدم تفكر الناس في معاني القرآن، وحائلا للقلوب عن فهم معاني القرآن، ومن ثم لا نفهم مراد الله -سبحانه وتعالى- من كلامه، فحينئذ نعلم من هذا أن تحسين الصوت مطلوب، ولكن التكلف في ذلك مما يجعل المرء يشتغل عن فهم القرآن هذا أمر غير مشروع.
ولا زال الكلام من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية قال: ومن تأمل هدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعني عند قراءته للقرآن وإقراره أهل كل لسان على قراءتهم، فأقر قبائل العرب على قراءتهم للقرآن مع اختلافهم وتباين طريقة إخراجهم للحروف، إذا تأمل الإنسان ذلك تبين له أن التشدد والتنطع والوساوس في إخراج الحرف من مخرجه وطريقته ليس من هدي ولا من سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
قال المؤلف: وقال -يعني شيخ الإسلام ابن تيمية-: يكره التلحين الذي يشبه الغناء، وقد ورد ذلك عن جماعة من السلف -أهل القرون المتقدمة- كراهة التلحين، والمراد بالتلحين هنا القراءة التي تتضمن مد حرف مقصور، أو العكس قصر حرف الممدود، أو التلحين الذي يتضمن تسكين حرف متحرك أو العكس، فإن بعض الناس يفعل ذلك ليوافق نغمات الأغاني المطربة، فإذا حصل مع هذا التلحين تغيير لنظم القرآن كان حراما، وحصل من هذا التلحين قلب الحركات على حروف أو قلب الحروف إلى حركات فإنه يكون حراما، ثم هنا نقارن بين القراءة، هل الأفضل أن تكون في المصحف، أو تكون من الصدر؟ قال المؤلف: واستحب بعضهم القراءة في المصحف، لأن النظر إلى المصحف عبادة، ولأنه حينئذ يتفكر في معاني ما يقرؤه، وجعل كثير من الناس هذا الحكم فيما إذا لم يكن هناك فائدة من القراءة حفظا، فإن القراءة حفظا إذا كانت لبقاء المحفوظ في الصدر، أو لكون المرء يحضر قلبه ويخشع بالقراءة من صدره، فإن هذا أفضل في حقه.
قال المؤلف: يستحب الختم يعني إكمال قراءة القرآن كل أسبوع، يعني في كل أسبوع مرة، وقد ورد في حديث ابن عمرو أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: اقرأ القرآن كل أسبوع ولا تزد على ذلك قال في بعض الروايات: اقرأه في ثلاث واستثنى بعض العلماء من ذلك ما لو كان هناك مكان فاضل كمكة، أو زمان فاضل كرمضان، فإنه لا مانع من ختم القرآن في أقل من ذلك، ولا يجاوز الإنسان بختمه للقرآن للشهر، أقل ما يكون لختم القرآن في شهر، إذا ختمه في أقل من ذلك فهو أولى وأحسن.
قال: والدعاء بعده، يعني يستحب الدعاء بعد ختم القرآن، وقد ورد ذلك عن جماعة من السلف، أنس بن مالك وغيره، وقد قال طائفة بأن دعاء ختم القرآن يكون بعده مباشرة، ولو كان ذلك في صلاة التراويح، وهذا قول جماهير الفقهاء من المذاهب المعروفة، وقد قال الإمام أحمد: بأنني أدركت الناس بمكة والمدينة وغيرهما إذا أنهى القارئ في الصلاة قراءة الناس رفع يديه ودعا، فدل ذلك على أن هذا أمر مشهور مشتهر، وأنه وقع عليه اتفاق الأمة، ولم يوجد من ينكر مثل هذا الفعل في تلك العصور، والإجماع السكوتي مما يستدل به على الأحكام، ومنع منه طائفة، لأنه لم ينقل عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وقد أجيب عن ذلك بأن صلاة التراويح في جميع الشهر لم تنقل عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك لعلة وعذر وهو أنه خشي أن تفرض على الأمة.
قال المؤلف: وتحسين كتابة المصحف، فإنه يستحب أن يحسن المرء خطه بالمصحف، واليوم كفينا هذا بوجود هذه المطابع الحديثة بفضل الله -سبحانه وتعالى- ولا يخالف خط مصحف عثمان في واو أو ياء أو ألف أو غير ذلك، فلا يتبع الإنسان في كتابة المصحف الطريقة الإملائية، وإنما نأخذ بما ورد في مصحف عثمان، لأن الأمة أجمعت على ذلك، ولأن هذا المصحف بهذه الكتابة يجمع القراءات الواردة في الكتاب، فلوا عدلناها بقواعد الإملاء، لكان ذلك مؤديا إلى عدم دخول هذه القراءات في كتابة المصحف، ولكان في ذلك مخالفة لما عليه سلف الأمة.
قال المؤلف: ويحرم على المحدث مسه، يعني أن من كان محدثا -على غير طهارة- سواء كان محدثا حدثا أصغر بانتقاض الوضوء، أو كان محدثا حدثا أكبر بجنابة ونحوها، فإنه حينئذ يحرم عليه مس المصحف، وهذا مذهب الأئمة الأربعة يستدلون عليه مما ورد في حديث عمرو بن حزم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كتب: لا يمس القرآن إلا طاهر وقد قيل في قوله: لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ هو خبر بمعنى الأمر، وقيل بأن الكتاب الذي في اللوح المحفوظ لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ وهو أصل هذا الكتاب الذي بين أيدينا، فيكون الفرع مماثلا له، ويستثنى من ذلك ما لو كتب مع القرآن تفسير فإن حينئذ لا يتمحض أن يكون مصحفا، ويستثنى من ذلك ما لو كان المصحف والقرآن في أشرطة، سواء أشرطة مسجل أو فيديو أو كومبيوتر، فإنه لا مانع من مسها، ولا يقال لها مصحفا، وهل يدخل في هذا مس المصحف بعلاقة ونحوها؟ مذهب أحمد أن المصحف إذا كان في علاقة منفصلة عن المصحف فإنه لا مانع من حمل العلاقة ومس هذه العلاقة، ولا يكون ماسا للمصحف، خلافا لطائفة من الفقهاء.
قال المؤلف: وسفر به لدار الحرب، يعني يحرم أن يسافر المسلم به لدار الحرب، لما ورد أن النبي -صلى الله عليه وسلم-: نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو ، وعلة ذلك الخوف من تمكن العدو من تحريف القرآن وتبديله واستهانته، فحينئذ إذا كان سفر الإنسان بالقرآن لن يؤدي إلى هذه الأمور فهل ينتفي هذا المنع والتحريم؟ هذا مبني على قاعدة عند الأصوليين وهي أن العلة إذا عادت على أصلها بالتخصيص هل تعتبر، ويخصص بها اللفظ العام؟ والصواب في هذا التفريق بين العلة المنصوصة والعلة المستنبطة العلة، المنصوصة تخصص اللفظ العام، بخلاف المستنبطة.
قال: ويجب احترامه، يعني ويجب احترام المصحف وصيانته عن كل أذى، فلا يدخل به بالقرآن، ولا يوضع في أماكن القاذورات والنجاسات، ولا يوضع في أمكنة الجلوس خشية من أن يجلس عليه، ولا يهان، ومن هنا قالت طائفة بأن القرآن لا يكتب على الجدران، لأن في ذلك امتهان له، وكذلك يصان القرآن عن الاستناد إليه أو جعله وسادة يستند عليه الإنسان، ويصان أيضا من الجلوس عليه والوقوف عليه، ومما يتعلق بهذا مد الرجلين إلى المصحف، فإنه مكروه إذا لم يقصد إهانة المصحف، أما إذا قصد إهانته فلا شك بأنه من العظائم، وقد قالت طائفة بأنه يكفر بذلك، وكذلك من عدم احترام القرآن إلقاؤه على الأرض بقوة، لأن هذا يؤدي إلى تمزقه.
هذا شيء مما يتعلق بأحكام المصحف، والمؤلف -غفر الله له ورحمه ورفع درجته- حاول استقصاء أحكام مقدمة التفسير، وقد استفاد من مقدمة تفسير شيخ الإسلام ابن تيمية كثيرا، وذكر مباحث ومواطن ذكرها غيره، وقد اختصر مقدمة التفسير اختصارا غير مخل، فجمع ووعى من جهة، وقلل اللفظ وسهله من جهة أخرى، وهناك علوم كثيرة متعلقة بالتفسير، علوم القرآن لم يذكرها المؤلف، وذلك لأنه يعتبر أن هذه المقدمة بمثابة الأمر المسهل اليسير، وحينئذ فعلينا بمعرفة ما يتعلق بعلوم القرآن وطرق التفسير وطرق الدلالات، دلالات الألفاظ من أجل أن نفهم كلام الله -عز وجل- وأن نعرف المراد به، لنتمكن من العمل به، ولنتمكن من إرضاء الله -سبحانه وتعالى- لتعلمه وتعليمه، وقد ورد في الصحيح من حديث عثمان -رضي الله عنه-: خيركم من تعلم القرآن وعلمه تعلم القرآن يدخل فيه تعليم حروفه، ويدخل فيه أيضا تعليم معانيه وتعلمها.
وحينئذ فأوصي الجميع بالتوجه لكتاب الله -سبحانه وتعالى- حفظا وتلاوة وتدبرا وعملا ودعوة، وأن نفهم هذا القرآن من خلال القواعد التي توضح مراد الله -سبحانه وتعالى- وتبينه، نسأل الله -عز وجل- أن يرزقنا وإياكم فهم القرآن والعمل به، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، ويغفر لنا ولكم ولوالدينا ولجميع المسلمين، كما أسأله -سبحانه- أن يصلح أحوال الأمة، وأن يكفيهم شر أعدائهم، وأن يردهم إلى دينه ردا جميلا، كما أسأله -سبحانه- أن يوفق علماء الشريعة لبيان أحكامها، ولإرشاد جاهلها وتعليم كل فرد فيها، وأسأله أن يصلح ولاة أمور المسلمين، وأن يجعلهم محكمين لكتابه، عاملين بسنة نبيه -صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا- نسأل الله -عز وجل- أن يتقبل منا ومنكم. [/align]
كتاب: أصول التفسير
شرح: الشيخ سعد بن ناصر الشثري