ش.م
New member
السلام عليكم ورحمة الله
أخيرا .. بعد وقت طويل استجمعت أطراف شجاعتي الذاهبة وجئت إليكم أحث الخطا نحو هذا الملتقى المبارك بعد أن عنيت بزيارته بين حين وآخر وإن لم أقدر أن أقرأ الدرر التي تتجدد فيه باستمرار، لكني وضعت رابطا لملتقاكم في موقعي والحمد لله على فضله أن أعانني على أن أكون بينكم وأطلب منكم قراءة ما كتبت وتوجيهي بملحوظاتكم وإرشاداتكم الصائبة معبيان أوجه النقص أو الخطأ
هذا موضوع عن التكرار في القصص القرآني، لم أبد فيه رأيي فلست أنا من تضع نفسها وضعا ليس لها، ولكني اهتممت بقراءة بعض ما قاله العلماء عن قضية التكرار، ثم لخصت ذلك فيما سترونه الآن، وسميته
[color=339933]رحلة في الأسفار تتبعا لقضية التكرار[/color]
مقدمة:
ما زالت سهام أعداء هذا الدين مشرعة نحو النور الذي يعمي أبصارهم ويثير غيظ قلوبهم، وما زالت شبهاتهم تتناثر هنا وهناك،على الرغم من كثرة الردود عليها وإبطالها بالأدلة البراهين، ولعل اتساع أرجاء هذه الشبكة كان عونا لهم و مرتعا خصبا لافتراءاتهم
وكثيرا ما يثار سؤال عن التكرار في القرآن الكريم وهدفه، وقد يأخذونه مطعنا على بعض ض عاف النفوس ليمدوا في أنفسهم حبائل الشكوك، ويغرسوا في عقولهم ضلالات الأوهام، ولا تخلو القضية من أصابع المستشرقين العاملة في نشر تلك الشبهات للنيل من كتاب الله عبر هذه القضية، وخاصة في القصص القرآني
الموضوع:
أبتدئ بتوفيق من الله : إن جماعة من المستشرقين وغيرهم قد اشتط بهم الغلو وطغت عليهم روح التحيز والحيف فجاؤوا بشبهات كثيرة، ولكن من يتأمل فيها يرى أن كثيرا منها لاأساس له، وبعضها ينم عن الجهل إن افترضنا حسن النية، ولا نظنهم من الجهال، أو هو يكشف عن روح حقد تتعمد الإضلال بإيراد شبهات يعلمون أنها باطلة، وأنها قد تجد رواجا لضعف النفوس وضعف العلم الحقيقي، خاصة فيما يتعلق باللغة، حيث فسدت السلائق، واضمحلت الذائقة اللغوية، واختفى التمرس بأساليب العرب في كلامهم، وطرائق تصريف الحديث، فاستغل المغرضون ذلك ليحوكوا شبهات واهية كبيت العنكبوت لا تصمد بإذن الله أمام الحق المبين، وكل ما علينا أن نتسلح باليقين الذي يعصمنا من الشك والريب، وبالعلم الذي ينفعنا بإذن الله في رد ادعاءات المغرضين، ثم نتسلح بالتفكر والتدبر الذين أمرنا الله عز وجل بهما على بينة من أساس علمي، والله عز وجل يقول في فضل أهل العلم في مثل هذه المواقف:
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ــ آل عمران:7
أما قضية التكرار فالتأمل فيها أدى إلى قولين:
الأول: أن التكرار ليس ذما أو قدحا إلا إن كان مما يمكن الاستغناء عنه، وكان الذي نكرره خاليا من أي معنى جديد يضاف إلى الأول، فهو حينئذ يكون لغوا لا فائدة منه، وهذا ليس منه في القرآن شيء
أما ما عدا ذلك فهو علىالعكس، إنه أمر مطلوب مرغوب، وإن فُقِد في الكلام كان ذما أحيانا، والتكرير من الأساليب المعروفة عند العرب، ويكثر وروده في كلامهم وفي أشعارهم خاصة، وتصفحوا دواوين الشعراء كالمهلهل بن ربيعة وعمرو بن كلثوم وستجدون مصداق ذلك
بل إن التكرير واحد من الأغراض البلاغية، ودونكم الكتب البلاغية التي تتحدث عن علم المعاني، وستجدون عنوانا عريضا هو واحد من أسس هذا العلم البلاغي واسمه الإطناب، فإن بحثتم في فروعه وجدتم أفانين من القول تتشابه مع التكرار، وواحد منها يحمل هذا الاسم نفسه: ( التكرير ) والبقية تعتمد على زيادة في الكلام أو تكرير له أو تفصيل كذكر العام بعد الخاص وعكسه، وكالاحتراس والتتميم
والتكرير له أغراض بلاغية كثيرة كالتأكيد والاستلذاذ بالكلام، وتعظيم الأمر وتهويله، وزيادة التنبيه، وطول الكلام الذي قد يسبب نسيانه، وتعدد المتعلق، كأن نكرر عبارة ما ولكن نحدث في كل مرة كلاما جديدا، ونرى مثل هذا في سورة الرحمن التي تكررت فيها آية: فبأي آلاء ربكما تكذبان واحدا وثلاثين مرة، لأنه في كل مرة يذكر نعمة من النعم، ويريد لفت النظر إلى أهمية كل واحدة على حدة
فهذا التكرار وجه من وجوه البلاغة القرآنية، فإن من خصائص البلاغة إبراز المعنى الواحد في صور مختلفة، والقصة المتكررة ترد في كل موضع بأسلوب يتمايز عن الآخر، وتصاغ في قالب غير القالب، ولا يمل الإنسان من تكرارها بل تتجدد في نفسه معان لا تحصل له بقراءتها في المواضع الأخرى
وإن من تنوع طرق عرض الموضوعات في القرآن أنه يعرض القصة ملخصة حينا ثم يفصلها من البداية، وحينا يبين العاقبة والمغزى من مضمونها ثم يبدأ التفصيل، ونراه حينا يبدأ بها مباشرة بلا مقدمات، وحينا يقدمها كمشاهد حية نابضة تحدث أمامنا، وهو يتميز ببراعة الانتقال من موقف لآخر وتجاوز ما لا حاجة إليه وترك الذهن يستوحي منها الأحداث التي جرت بينما نتابع مع الآيات الأحداث المهمة وتفصيلاتها
ومن أغراض التكرير تجزئة الأفكار المراد بيانها حول موضوع واحد لتتكامل النصوص فيما بينها مؤدية غرض التأكيد لأصل الفكرة مع إضافات جديدة
ومن أغراض القرآن الدعوة إلى الله والتربية، وهما مما لا ينتهي المرء منهما بكلمة يلقيها ، ولكنهما بحاجة إلى التذكير الدائم كما قال عز وجل: وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين، فقد تستدعي الحكمة التربوية تكرير التذكير بالتقوى، أو الترغيب والترهيب أو غير ذلك حسب المقتضيات الدعوية والتربوية
يقول الأستاذ صلاح عبد التواب : كانت أهمية التكرار أنه يعاود النفوس الغافلة المرة بعد المرة يزيل عنها غفلتها، كما يعاود النفوس المؤمنة المطمئنة بما يثبت فيها دعائم اليقين… فالتكرار إذن ظاهرة بلاغية لا يفطن إليها إلا كل من له بصر بفنون القول، وهو في القرآن أروع وأجمل من أن تتطاول إليه ألسنة المتقولين
هذا هو الرأي الأول للعلماء في موضوع التكرار في القرآن، وخلاصته أن ذلك من أساليب العربية التي جاء القرآن بها، التي تحقق بهذا التكرار أهدافا معينة تثري المعنى، وهذا أدعى لبيان إعجاز القرآن الذي يأتي لهم بالمعنى الواحد مقدما في عدة صور، ويتحداهم أن يأتوا بمثله، أو بشيء من مثله، ثم يعجزون عن الإتيان بأي صورة من الصور التي يظهر فيها الكلام
الثاني: وهو رأي ينفي التكرار تماما، لأنه يرى أن التكرار هو تكرار اللفظ نفسه في السياق نفسه للمعنى نفسه بغير فائدة ، أما ما يأتي في سياق آخر ومناسبة أخرى غير التي جاء فيها أولا فإنه لا يعد تكرارا ، وهذا ما يمكن أن نسميه بالتكامل أو يسميه بعض العلماء التنويع
هذا الأستاذ محمد قطب يقول: الظاهرة الحقيقية ليست هي التكرار، وإنما هي التنويع… لا يوجد نصان متماثلان في القرآن كله، إنما يوجد تشابه فقط دون تماثل، تشابه كذلك الذي قد يوجد بين الإخوة والأقارب، لكنه ليس تكرارا بحال من الأحوال، إنه مثل ثمار الجنة: " كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابها"… وإن التنويع ذاته لجمال فوق أنه يذهب عن النفس الملال
ويقول الشيخ عبدالرحمن الميداني : على متدبر كلام الله أن يبحث في كل نص يبدو له أنه من النصوص المكررة في القرآن ليكتشف غرض التكرير إذا كان النص مكررا حرفيا، وليكتشف فوارق المعاني إذا كان النص المكرر مختلفا ولو بعض الشيء، ولو بكلمة أو حرف في كلمة، فكثير من النصوص التي يتوهم فيها التكرار هي ليست في الحقيقة مكررة، ولكنها متكاملة يؤدي بعضها من المعاني المرادة ما لا يؤديه البعض الآخر
فقصص القرآن ـ كمثال للتكرار أو التنويع ـ تأتي في كل مرة في سياق مختلف عن غيره، وله هدف خاص يسوق القصة من أجله لتظهر منها الأجزاء التي تناسب هذا الهدف المحدد، وكل سياق تأتي فيه القصة لا تتشابه ألفاظها وأجزاؤها مع القصة الثانية في السياق الثاني، بل لا يد من تقديم لكلمة وتأخير لأخرى، أو ذكر لشيء في موقف وعدم ذكره في المرة الثانية، وهكذا حسب مقتضيات المعنى والسياق ، ووفق أغراض بلاغية أصيلة
والشهيد سيد قطب رحمه الله يقول في كتابه الشهير في ظلال القرآن: يرد القصص في القرآن في مواضع ومناسبات، وهذه المناسبات التي يساق القصص من أجلها هي التي تحدد مساق القصة والحلقة التي تعرض منها، والصورة التي تأتي عليها، والطريقة التي تؤدى بها تنسيقا للجو … وأنه حيثما تكررت حلقة كان هنالك جديد تؤديه ينفي حقيقة التكرار
والأستاذ فاضل السامرائي يقول: فأنت ترى أن القصة في القرآن كأنها تتكرر في أكثر من موطن،والحقيقة أنها لا تتكرر، ولكن يعرض في كل موطن جانب منها بحسب ما يقتضيه السياق، وبحسب ما يراد من موطن العبرة والاستشهاد
والشيخ محمد سعيد البوطي يقول : وقد يحدث أن يتكرر عرض القصة نفسها، أو عرض الجانب الواحد منها بحسب الظاهر؛ ولكن تلك القصة أو ذلك الجانب منها ينطوي على عبر وعظات متعددة، فيقتضي الغرض الديني أن يعاد ذكرها عندما تأتي مناسبة كل عبرة من عبرها، فتلبس القصة في كل مرة من الأسلوب والإخراج التصويري ما يناسب المعنى الذي سيقت بصدده حتى لكأنك منها أمام قصة جديدة لم تتكرر على مسامعك، ولم تعرض أحداثها على خاطرك من قبل
وهذا مثال لشرح الشيخ البوطي وهو قصة موسى عليه السلام فإنها تحوي عبرا كثيرا وأهدافا متعددة، فإن كان غرض السياق تطمين قلب المصطفى وأصحابه جاء جانب النبي المنتصر على فرعون وجنوده بتأييد الله، ولبيان استعلاء الناس واستكبارهم في الأرض يأتي جانب المواجهة بين موسى وفرعون، وما جرى بينهم من محاورات .. وهكذا
وإن قصة موسى عليه السلام بحاجة لوقفة خاصة لعلنا نتمكن منها قريبا بإذن الله
والخلاصة أنه مع اختلاف العلماء في إطلاق اسم التكرار على ذلك الأسلوب القرآني أو عدمه فإن النظر في أقوالهم يوضح لنا أنهم لا يختلفون في أن كل موقف يختص بحالة أخرى غير التي جاء بها الأول، وله موقف خاص، وجو خاص، وأهداف خاصة، ويعطينا معاني جديدة إما تكون واضحة من إضافات نراها في الكلام، أو من خلال ما نستنتجه من فروق بين نصوص متشابهة، وذلك كله يصب في محيط إعجاز القرآن
المراجع:
دراسات قرآنية: محمد قطب ــ التصوير الفني في القرآن: سيد قطب ــ إعجاز القرآن الكريم: فضل عباس وسناء فضل ــ التعبير القرآني: فاضل السامرائي ــ قواعد التدبر الأمثل لكتاب الله عز وجل: عبدالرحمن الميداني ــ النقد الأدبي ونظرية الإعجاز : صلاح الدين محمد عبدالتواب ــ مباحث في علوم القرآن : مناع القطان ــ البلاغة العربية ( علم المعاني ) : وليد قصاب
نشر في : مجلة الفتح
أخيرا .. بعد وقت طويل استجمعت أطراف شجاعتي الذاهبة وجئت إليكم أحث الخطا نحو هذا الملتقى المبارك بعد أن عنيت بزيارته بين حين وآخر وإن لم أقدر أن أقرأ الدرر التي تتجدد فيه باستمرار، لكني وضعت رابطا لملتقاكم في موقعي والحمد لله على فضله أن أعانني على أن أكون بينكم وأطلب منكم قراءة ما كتبت وتوجيهي بملحوظاتكم وإرشاداتكم الصائبة معبيان أوجه النقص أو الخطأ
هذا موضوع عن التكرار في القصص القرآني، لم أبد فيه رأيي فلست أنا من تضع نفسها وضعا ليس لها، ولكني اهتممت بقراءة بعض ما قاله العلماء عن قضية التكرار، ثم لخصت ذلك فيما سترونه الآن، وسميته
[color=339933]رحلة في الأسفار تتبعا لقضية التكرار[/color]
مقدمة:
ما زالت سهام أعداء هذا الدين مشرعة نحو النور الذي يعمي أبصارهم ويثير غيظ قلوبهم، وما زالت شبهاتهم تتناثر هنا وهناك،على الرغم من كثرة الردود عليها وإبطالها بالأدلة البراهين، ولعل اتساع أرجاء هذه الشبكة كان عونا لهم و مرتعا خصبا لافتراءاتهم
وكثيرا ما يثار سؤال عن التكرار في القرآن الكريم وهدفه، وقد يأخذونه مطعنا على بعض ض عاف النفوس ليمدوا في أنفسهم حبائل الشكوك، ويغرسوا في عقولهم ضلالات الأوهام، ولا تخلو القضية من أصابع المستشرقين العاملة في نشر تلك الشبهات للنيل من كتاب الله عبر هذه القضية، وخاصة في القصص القرآني
الموضوع:
أبتدئ بتوفيق من الله : إن جماعة من المستشرقين وغيرهم قد اشتط بهم الغلو وطغت عليهم روح التحيز والحيف فجاؤوا بشبهات كثيرة، ولكن من يتأمل فيها يرى أن كثيرا منها لاأساس له، وبعضها ينم عن الجهل إن افترضنا حسن النية، ولا نظنهم من الجهال، أو هو يكشف عن روح حقد تتعمد الإضلال بإيراد شبهات يعلمون أنها باطلة، وأنها قد تجد رواجا لضعف النفوس وضعف العلم الحقيقي، خاصة فيما يتعلق باللغة، حيث فسدت السلائق، واضمحلت الذائقة اللغوية، واختفى التمرس بأساليب العرب في كلامهم، وطرائق تصريف الحديث، فاستغل المغرضون ذلك ليحوكوا شبهات واهية كبيت العنكبوت لا تصمد بإذن الله أمام الحق المبين، وكل ما علينا أن نتسلح باليقين الذي يعصمنا من الشك والريب، وبالعلم الذي ينفعنا بإذن الله في رد ادعاءات المغرضين، ثم نتسلح بالتفكر والتدبر الذين أمرنا الله عز وجل بهما على بينة من أساس علمي، والله عز وجل يقول في فضل أهل العلم في مثل هذه المواقف:
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ــ آل عمران:7
أما قضية التكرار فالتأمل فيها أدى إلى قولين:
الأول: أن التكرار ليس ذما أو قدحا إلا إن كان مما يمكن الاستغناء عنه، وكان الذي نكرره خاليا من أي معنى جديد يضاف إلى الأول، فهو حينئذ يكون لغوا لا فائدة منه، وهذا ليس منه في القرآن شيء
أما ما عدا ذلك فهو علىالعكس، إنه أمر مطلوب مرغوب، وإن فُقِد في الكلام كان ذما أحيانا، والتكرير من الأساليب المعروفة عند العرب، ويكثر وروده في كلامهم وفي أشعارهم خاصة، وتصفحوا دواوين الشعراء كالمهلهل بن ربيعة وعمرو بن كلثوم وستجدون مصداق ذلك
بل إن التكرير واحد من الأغراض البلاغية، ودونكم الكتب البلاغية التي تتحدث عن علم المعاني، وستجدون عنوانا عريضا هو واحد من أسس هذا العلم البلاغي واسمه الإطناب، فإن بحثتم في فروعه وجدتم أفانين من القول تتشابه مع التكرار، وواحد منها يحمل هذا الاسم نفسه: ( التكرير ) والبقية تعتمد على زيادة في الكلام أو تكرير له أو تفصيل كذكر العام بعد الخاص وعكسه، وكالاحتراس والتتميم
والتكرير له أغراض بلاغية كثيرة كالتأكيد والاستلذاذ بالكلام، وتعظيم الأمر وتهويله، وزيادة التنبيه، وطول الكلام الذي قد يسبب نسيانه، وتعدد المتعلق، كأن نكرر عبارة ما ولكن نحدث في كل مرة كلاما جديدا، ونرى مثل هذا في سورة الرحمن التي تكررت فيها آية: فبأي آلاء ربكما تكذبان واحدا وثلاثين مرة، لأنه في كل مرة يذكر نعمة من النعم، ويريد لفت النظر إلى أهمية كل واحدة على حدة
فهذا التكرار وجه من وجوه البلاغة القرآنية، فإن من خصائص البلاغة إبراز المعنى الواحد في صور مختلفة، والقصة المتكررة ترد في كل موضع بأسلوب يتمايز عن الآخر، وتصاغ في قالب غير القالب، ولا يمل الإنسان من تكرارها بل تتجدد في نفسه معان لا تحصل له بقراءتها في المواضع الأخرى
وإن من تنوع طرق عرض الموضوعات في القرآن أنه يعرض القصة ملخصة حينا ثم يفصلها من البداية، وحينا يبين العاقبة والمغزى من مضمونها ثم يبدأ التفصيل، ونراه حينا يبدأ بها مباشرة بلا مقدمات، وحينا يقدمها كمشاهد حية نابضة تحدث أمامنا، وهو يتميز ببراعة الانتقال من موقف لآخر وتجاوز ما لا حاجة إليه وترك الذهن يستوحي منها الأحداث التي جرت بينما نتابع مع الآيات الأحداث المهمة وتفصيلاتها
ومن أغراض التكرير تجزئة الأفكار المراد بيانها حول موضوع واحد لتتكامل النصوص فيما بينها مؤدية غرض التأكيد لأصل الفكرة مع إضافات جديدة
ومن أغراض القرآن الدعوة إلى الله والتربية، وهما مما لا ينتهي المرء منهما بكلمة يلقيها ، ولكنهما بحاجة إلى التذكير الدائم كما قال عز وجل: وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين، فقد تستدعي الحكمة التربوية تكرير التذكير بالتقوى، أو الترغيب والترهيب أو غير ذلك حسب المقتضيات الدعوية والتربوية
يقول الأستاذ صلاح عبد التواب : كانت أهمية التكرار أنه يعاود النفوس الغافلة المرة بعد المرة يزيل عنها غفلتها، كما يعاود النفوس المؤمنة المطمئنة بما يثبت فيها دعائم اليقين… فالتكرار إذن ظاهرة بلاغية لا يفطن إليها إلا كل من له بصر بفنون القول، وهو في القرآن أروع وأجمل من أن تتطاول إليه ألسنة المتقولين
هذا هو الرأي الأول للعلماء في موضوع التكرار في القرآن، وخلاصته أن ذلك من أساليب العربية التي جاء القرآن بها، التي تحقق بهذا التكرار أهدافا معينة تثري المعنى، وهذا أدعى لبيان إعجاز القرآن الذي يأتي لهم بالمعنى الواحد مقدما في عدة صور، ويتحداهم أن يأتوا بمثله، أو بشيء من مثله، ثم يعجزون عن الإتيان بأي صورة من الصور التي يظهر فيها الكلام
الثاني: وهو رأي ينفي التكرار تماما، لأنه يرى أن التكرار هو تكرار اللفظ نفسه في السياق نفسه للمعنى نفسه بغير فائدة ، أما ما يأتي في سياق آخر ومناسبة أخرى غير التي جاء فيها أولا فإنه لا يعد تكرارا ، وهذا ما يمكن أن نسميه بالتكامل أو يسميه بعض العلماء التنويع
هذا الأستاذ محمد قطب يقول: الظاهرة الحقيقية ليست هي التكرار، وإنما هي التنويع… لا يوجد نصان متماثلان في القرآن كله، إنما يوجد تشابه فقط دون تماثل، تشابه كذلك الذي قد يوجد بين الإخوة والأقارب، لكنه ليس تكرارا بحال من الأحوال، إنه مثل ثمار الجنة: " كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابها"… وإن التنويع ذاته لجمال فوق أنه يذهب عن النفس الملال
ويقول الشيخ عبدالرحمن الميداني : على متدبر كلام الله أن يبحث في كل نص يبدو له أنه من النصوص المكررة في القرآن ليكتشف غرض التكرير إذا كان النص مكررا حرفيا، وليكتشف فوارق المعاني إذا كان النص المكرر مختلفا ولو بعض الشيء، ولو بكلمة أو حرف في كلمة، فكثير من النصوص التي يتوهم فيها التكرار هي ليست في الحقيقة مكررة، ولكنها متكاملة يؤدي بعضها من المعاني المرادة ما لا يؤديه البعض الآخر
فقصص القرآن ـ كمثال للتكرار أو التنويع ـ تأتي في كل مرة في سياق مختلف عن غيره، وله هدف خاص يسوق القصة من أجله لتظهر منها الأجزاء التي تناسب هذا الهدف المحدد، وكل سياق تأتي فيه القصة لا تتشابه ألفاظها وأجزاؤها مع القصة الثانية في السياق الثاني، بل لا يد من تقديم لكلمة وتأخير لأخرى، أو ذكر لشيء في موقف وعدم ذكره في المرة الثانية، وهكذا حسب مقتضيات المعنى والسياق ، ووفق أغراض بلاغية أصيلة
والشهيد سيد قطب رحمه الله يقول في كتابه الشهير في ظلال القرآن: يرد القصص في القرآن في مواضع ومناسبات، وهذه المناسبات التي يساق القصص من أجلها هي التي تحدد مساق القصة والحلقة التي تعرض منها، والصورة التي تأتي عليها، والطريقة التي تؤدى بها تنسيقا للجو … وأنه حيثما تكررت حلقة كان هنالك جديد تؤديه ينفي حقيقة التكرار
والأستاذ فاضل السامرائي يقول: فأنت ترى أن القصة في القرآن كأنها تتكرر في أكثر من موطن،والحقيقة أنها لا تتكرر، ولكن يعرض في كل موطن جانب منها بحسب ما يقتضيه السياق، وبحسب ما يراد من موطن العبرة والاستشهاد
والشيخ محمد سعيد البوطي يقول : وقد يحدث أن يتكرر عرض القصة نفسها، أو عرض الجانب الواحد منها بحسب الظاهر؛ ولكن تلك القصة أو ذلك الجانب منها ينطوي على عبر وعظات متعددة، فيقتضي الغرض الديني أن يعاد ذكرها عندما تأتي مناسبة كل عبرة من عبرها، فتلبس القصة في كل مرة من الأسلوب والإخراج التصويري ما يناسب المعنى الذي سيقت بصدده حتى لكأنك منها أمام قصة جديدة لم تتكرر على مسامعك، ولم تعرض أحداثها على خاطرك من قبل
وهذا مثال لشرح الشيخ البوطي وهو قصة موسى عليه السلام فإنها تحوي عبرا كثيرا وأهدافا متعددة، فإن كان غرض السياق تطمين قلب المصطفى وأصحابه جاء جانب النبي المنتصر على فرعون وجنوده بتأييد الله، ولبيان استعلاء الناس واستكبارهم في الأرض يأتي جانب المواجهة بين موسى وفرعون، وما جرى بينهم من محاورات .. وهكذا
وإن قصة موسى عليه السلام بحاجة لوقفة خاصة لعلنا نتمكن منها قريبا بإذن الله
والخلاصة أنه مع اختلاف العلماء في إطلاق اسم التكرار على ذلك الأسلوب القرآني أو عدمه فإن النظر في أقوالهم يوضح لنا أنهم لا يختلفون في أن كل موقف يختص بحالة أخرى غير التي جاء بها الأول، وله موقف خاص، وجو خاص، وأهداف خاصة، ويعطينا معاني جديدة إما تكون واضحة من إضافات نراها في الكلام، أو من خلال ما نستنتجه من فروق بين نصوص متشابهة، وذلك كله يصب في محيط إعجاز القرآن
المراجع:
دراسات قرآنية: محمد قطب ــ التصوير الفني في القرآن: سيد قطب ــ إعجاز القرآن الكريم: فضل عباس وسناء فضل ــ التعبير القرآني: فاضل السامرائي ــ قواعد التدبر الأمثل لكتاب الله عز وجل: عبدالرحمن الميداني ــ النقد الأدبي ونظرية الإعجاز : صلاح الدين محمد عبدالتواب ــ مباحث في علوم القرآن : مناع القطان ــ البلاغة العربية ( علم المعاني ) : وليد قصاب
نشر في : مجلة الفتح