التقارب الهادف بين الأجيال في ضوء مشاهد في القرآن

إنضم
09/09/2010
المشاركات
178
مستوى التفاعل
0
النقاط
16
الإقامة
الهند
التقارب الهادف بين الأجيال في ضوء مشاهد في القرآن
د. محي الدين غازي
عميد كلية القرآن، الجامعة الإسلامية كيرلا، الهند

قد يسأل سائل: هل اهتم القرآن الكريم بمشكلة الفجوة بين الأجيال؟ وهل أكّد على تضامن الأجيال؟ إن النظرة السريعة في القرآن الكريم ربما لا تكشف للبعض عن عناية التنزيل بهذا الموضوع. ولكن المتأمل في القرآن الكريم يجد أن هذا الموضوع قد نال من التنزيل عناية فائقة، ليس عن طريق توجيهات مباشرة، وإنما عبر نماذج تمثل قمة التقارب بين الأجيال، لتكون بمثابة معالم في الطريق.

فهذا إبراهيم عليه السلام يبني بيت الله الأول ويرفع قواعده، ليس معه أحد يشاركه في هذا المشروع التاريخي العظيم إلا ابنه اسماعيل عليه السلام. إنه مشهد رائع جدا في تقارب جيلين، جيل الشيوخ وجيل الشباب وتعاضدهما، حيث يشترك الجيلان في تنفيذ مشروع واحد. {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)} [البقرة: 127 - 129]

والمتأمل في المشهد يرى عجبا، شيخ كبير وشاب جديد. والاشتراك في النشاط الجسدي من مناولة الأحجار وتشييد البناء يصاحبه الاشتراك في المشاعر والأمنيات والرؤيات المستقبلية. فكلاهما يردد دعاء واحدا معبرا عن أحاسيس ومشاعر مشتركة وأمنيات متوافقة ورؤية موحدة تماما. وهل هناك تقارب أكثر من أن تتفق الأجيال على تخطيط وتنفيذ المشروع الحاضر وتحضير الرؤية المستقبلية؟.

والاشتراك ليس في مشروع بناء البيت فحسب، بل في صيانة ذلك البيت وتطهيره. والمشروع التالي لا يقل أهمية من المشروع السابق. فالبناء عمل مؤقت يطلب مشاركة لزمن محدد وأما الصيانة والتطهير فهو عمل دائم يتطلب مشاركة دائمة مستمرة من غير انقطاع{وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة: 125]

ونلاحظ أنه في المشاركة الأولى الوقتية كان الدور الأساسي لإبراهيم عليه السلام، وابنه كان مساعدا له، فكان فصل بليغ في الكلام، وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ. وأما في المشاركة التالية الدائمة فالدور الأساسي يشترك فيه الاثنان بالتساوي، فذكرا من غير فصل، وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ.

وإذا كان المشهد السابق يصور الاشتراك في النشاط الجسدي، فإن مشهدا آخر يقدم نموذجا رائعا في الاشتراك في النشاط العقلي. فهذا داود عليه السلام يبحث في قضية خصام ليجد حلا يحقق العدل ويرضي الإله والذي يرافقه في عملية البحث والنظر هو ابنه سليمان عليه السلام. {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 78، 79]

ولم يكن صغر سن سليمان مانعا من حضوره مجلس الحكم، بل مشاركته في لجنة الحكم، ولم يكن صغر سنه مانعا من استماع الأب لرأيه وقبوله حين ظهر صوابه. وهكذا ينبغي للجيل الكبير أن يعرف مواهب الجيل الناشئ وقدراته فيحفزها ويرعاها فينميها. إن طاقات الجيل الناشئ تنفجر وتنمو سريعا عندما تجد حافزا من الجيل الكبير. وعندما يقوم الجيل الكبير برعايتها فحينئذ فقط يتسنى له بحكم الرعاية أن يتقدم لتوجيهها توجيها مناسبا وتوظيفها توظيفا حسنا. إن قدرات الجيل الناشئ تنمو وتزدهر حينما تجد من الجيل الكبير صدرا واسعا يرحب بكل إنجاز ويقدر كل إبداع ويفرح لكل نجاح.

وقمة التقارب بين الأب والابن أن يقوم كل منهما بإشراك الآخر في الرؤى التي يراها في منامه والأمنيات التي ينسجها في خياله. فذلك أقوى شاهد على التقارب والتناغم والانسجام بين الجيلين. كما أن ذلك علامة ظاهرة على وجود صداقة حميمة وثقة قوية بينهما. وهناك نموذجان في القرآن، يحملان معاني جميلة من التقارب والتضامن بين الأب والابن، فهذا الأب إبراهيم عليه السلام رأى رؤيا فأخبر بها ابنه اسماعيل عليه السلام، والابن البار المطيع لم يتأخر لحظة واحدة بل بادر وقدّم نفسه لتحقيق رؤيا أبيه.
{فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ } [الصافات: 102]
والحلقة التالية من هذا المشهد يصوّر لنا كيف دخل الاثنان معا في الطاعة والإسلام بخصوص هذا الأمر العظيم.{فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ } [الصافات: 103]

وهذا الابن يوسف عليه السلام رأى رؤيا فأسرع إلى أبيه ليكون أبوه أوّل من يعلم بخبر ما رآه في حلمه. { إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4) } [يوسف: 4]
والأب الحنون الحكيم يجيد الاستماع لابنه، فاستمع وتضامن وقدّم ما لديه من النصح لتتحقق رؤيا ابنه بسلام. فهو قد عرف أنها رؤيا عظيمة، وأن ابنه سوف يبلغ مقام النبوة السامي كما أنه سوف يجبى إليه ملك عظيم.{قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ } [يوسف: 5] إن سجود الكواكب التي يهتدى بها يوحي بمنحة النبوة، وسجود الشمس والقمر يوحي بمنحة الملك العظيم، وقد اجتمعت النعمتان لنبينا يوسف عليه السلام.

إن المشهدين يعبّران عن قمّة التضامن والتناصر ومنتهى الصداقة والتحابب بين أب وابنه. حيث أحدهما يشرك الآخر في رؤيا يراها، والآخر يبذل كل ما لديه ليمهد الطريق إلى تحقيق رؤياه.

ومن التقارب بين الأجيال أن يقوم الجيل الكبير بتفويض المهمات الكبيرة إلى الجيل الناشئ، وهذا ما نراه في قصة موسى عليه السلام، فهذه أم موسى تثق في ابنتها وتفوض إليها مهمة خطيرة جدا، مهمة ترتجف منها الجبال وترتعد منها الرجال، وهي كانت عند حسن ظن أمها بها حيث أنجزت المهمة بكل لباقة ومهارة. {وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (11) وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (12) فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (13) } [القصص: 11 - 13]

والتقارب بين الأجيال يكون واعدا للخير عندما يكون هادفا، وذلك إذا قام الجيل الكبير بإعداد الجيل الناشئ إعدادا قويا وغرس فيه أهدافا سامية ومقاصد عالية، وذلك في الوقت المناسب وبأسلوب حكيم. والنموذج الرائع في الإعداد والتربية شخصية لقمان الحكيم عليه السلام، فهو قد ربى ابنه وأعده لمهمة عظيمة، هي مهمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. والقرآن الكريم يصور لنا ذلك عندما يذكر وصيته لابنه: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19) } [لقمان: 17 - 19]

وهذه الوصية ليست موعظة قولية فحسب، بل هي تحمل في طيها قصة طويلة للتربية والإعداد. ولقمان الحكيم في هذه الوصية يظهر كنموذج للأب الذي ربى ولده ليس على حب التمسك بالمعروف واجتناب المنكر فحسب، بل تجاوزت التربية إلى تنشئته على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ثم الصبر على ما يلحق به من الناس من ردود فعل مؤذية جراء القيام بتلك المهمة المحفوة بالمخاطر، إضافة على التحلي بالأخلاق العظيمة والتي لا غنى عنها للداعية الحكيم والمربي الحنون.

وإذا كان التقارب بين الأجيال يتطلب عناية واهتماما فإنه ينبغي أن يبدأ اهتمام الجيل الكبير بالجيل الصغير في وقت مبكر جدا وأروع مثال على ذلك أم مريم عليها السلام، فقد نذرت الولد لربها قبل أن تلد، وظلت تعيذ ابنتها بل وذريتها معا بالله من الشيطان الرجيم على رغم أن ابنتها وليدة ساعة. {إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36) } [آل عمران: 35 - 37]
وهذا نموذج جميل للتقارب بين الأجيال حيث امتد الاهتمام والإعداد إلى أجيال متعاقبة وليس الجيل الحاضر فقط.

والتقارب بين الأجيال يتحقق في أكمل صورة عندما يتم وبكل جدية وإتقان توريث الأمانة الكبرى وهي أمانة الإسلام، عقيدة وسلوكا وفكرا ومنهجا. توريث من قبل جيل المغادرين إلى جيل القادمين، لتظل مصابيح الإيمان تنير الدروب عبر الأجيال والأزمان. ونموذج رائع في ذلك وصية إبراهيم عليه السلام لبنيه، ثم وصية يعقوب عليه السلام لبنيه.{وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132) أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133)} [البقرة: 133]

إن هاتين الوصيتين تمثلان عملية توريث استغرقت فترة الحياة كلها وحتى لحظات الموت والاحتظار.
يقول سيد قطب: إن هذا المشهد بين يعقوب وبنيه في لحظة الموت والاحتضار لمشهد عظيم الدلالة، قوي الإيحاء، عميق التأثير.. ميت يحتضر. فما هي القضية التي تشغل باله في ساعة الاحتضار؟ ما هو الشاغل الذي يعني خاطره وهو في سكرات الموت؟ ما هو الأمر الجلل الذي يريد أن يطمئن عليه ويستوثق منه؟ ما هي التركة التي يريد أن يخلفها لأبنائه ويحرص على سلامة وصولها إليهم فيسلمها لهم في محضر، يسجل فيه كل التفصيلات؟ ..
إنها العقيدة.. هي التركة. وهي الذخر. وهي القضية الكبرى، وهي الشغل الشاغل، وهي الأمر الجلل، الذي لا تشغل عنه سكرات الموت وصرعاته: «ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي؟» ..
هذا هو الأمر الذي جمعتكم من أجله. وهذه هي القضية التي أردت الاطمئنان عليها. وهذه هي الأمانة والذخر والتراث..
«قالُوا: نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ. إِلهاً واحِداً. وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ» ..
إنهم يعرفون دينهم ويذكرونه. إنهم يتسلمون التراث ويصونونه. إنهم يطمئنون الوالد المحتضر ويريحونه.
وكذلك ظلت وصية إبراهيم لبنيه مرعية في أبناء يعقوب. وكذلك هم ينصون نصاً صريحاً على أنهم «مُسْلِمُونَ» .(في ظلال القرآن)

والتقارب بين الأجيال كلما يزداد شمولا يزداد جمالا، فبنو يعقوب عليه السلام، حسب التعبير القرآني البليغ، لم يفرقوا بين الأب والجد ولا بين الجد وأبي الجد وكذلك لم يفرقوا بين الجد إسحاق وبين أخي الجد إسماعيل عليهما السلام. إنهم عبروا عن تقارب شامل صاف لم تعكر صفوه أية عصبية. و لماّ دخل الفساد في بني إسرائيل انتشرت داء العصبية فيهم وعكرت كل صفو، وشر مظاهر العصبية فيهم أن فرّقوا بين إسحاق وإسماعيل عليهما السلام، فكان جزاؤهم الحرمان والإبعاد عن تلك السلسلة المباركة التي حظي بها بنو يعقوب ومن سار على نهجهم.

إن تقارب الأجيال وإن كانت أهميته معروفة ومسلّمة لدى جميع الأمم، إلا أن له أهمية خاصة بالنسبة للأمة الإسلامية نظرا لمكانتها ودورها المنوط بها بين سائر الأمم. ويظهر ذلك في دعاء إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام حين بناء الكعبة المشرفة، قبلة الأمة الإسلامية. يقول سيد قطب: "ثم هو طابع الأمة المسلمة.. التضامن.. تضامن الأجيال في العقيدة: «وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ» .." (في ظلال القرآن )

إن الأمة الإسلامية التي كان طابعها المميز لها تضامن الأجيال في العقيدة والسلوك، تمر بمرحلة خطيرة من انفصام عرى التضامن بين الأجيال، وحدوث فجوة كبيرة متزايدة في شتى الجوانب وعلى جميع المستويات، عقديا وفكريا وسلوكيا، على مستوى الأسرة والمجتمع والجماعات والحركات. هناك غياب ملحوظ للثقة المتبادلة بين جيل الشيوخ وجيل الناشئين، وفقدان ظاهر للاشتراك في المواقف والرؤى، وربما في الأرضيات المشتركة. وقد وصل الأمر في بعض الأحيان إلى تنافر في الرؤى والنظريات، وذلك لاختلاف في المصادر التي يستمد كل جيل منها رؤيته ونظرته. وقد ظهر اختلاف كبير ليس في السلوك فحسب بل في القيم التي يصدر منها السلوك.

ومن مظاهر الفجوة أن الشيوخ يشتكون من الشباب أنهم لا يصغون إليهم ولا يعرفون لهم أي فضل بل ولا يدلون لهم أي اهتمام، وجيل الشباب يتهم الشيوخ بأنهم إما غير قادرين على تفهمهم وتقدير معطيات ظروفهم أو لا تسمح لهم أنفسهم بذلك. وقد اتسعت الفجوة بين الأجيال وزاد التنافر حتى اضطر البعض أن يطلق على تلك الظاهرة مصطلح الصراع بين الأجيال. وحقا فإنه قد تجاوز الأمر من التباعد والتجافي إلى الصراع.

إن الفجوة بين الأجيال مشكلة قديمة، ولكنها تفاقمت كثيرا وتجاوزت مرحلة الخطورة في الواقع الراهن، حيث إن الفجوة الآن تبدو آثارها في سن مبكر جدا مقارنة بما كان الأمر عليه في الزمن الماضي القريب، وتتسع بسرعة غير مسبوقة.

إن الجيل الناشئ إلى زمن قريب كان ينشأ تحت تأثير البيت أو البيئة القريبة لفترة غير قصيرة من عمره قد تمتد إلى عقدين أو ثلاثة عقود، أما الآن فإن وسائل الإعلام والتعليم والترفيه تجعل الطفل يتأثر من البيئة البعيدة في سن مبكر جدا. فالطفل الذي يلعب في أحضان أبويه، ويعيش بجسده في بيته، ربما يعيش بتفكيره في عالم آخر وينشأ فكره وسلوكه ومعتقداته تحت مظلة أخرى غير مظلة الأسرة والبيت. إن هناك أياد خفية تسلب منا أطفالنا في سن مبكر جدا من حيث لا نشعر. وهي تختطفهم نفسيا وعقليا وتبقيهم يلعبون بأجسادهم بين أيدينا. نحن نغذي أجسادهم وغيرنا يشبعهم فكريا ونفسيا وعاطفيا. فلسان الفتى وفؤاده يذهبان بعيدا عنا وتبقى صورة اللحم والدم بين أيدينا.

وهناك فارق آخر مهم بين الزمن الغابر والزمن الحاضر وهو أن الطفل كان يعيش فترة طويلة من طفولته وشبابه متأثرا بمعلومات وخبرات كباره، يثق برأيهم ويحترم خبراتهم. وأما الآن وبسبب ثورة المعلومات فقد نجد الطفل الناشئ سرعان ما يشعر بأن رصيد معلوماته يفوق على ما يجده لدى ذويه الكبار في البيت. وهذا الشعور يجعله لا يثق برأي ذويه الكبار ولا يستشيرهم ولا يستمع إليهم ولا سيما إذا كان ما يرونه يخالف ما ارتآى له، وهو يغفل في غروره عن حقيقة أن معرفة الأجهزة والأحداث غير معرفة الحياة والوجود. ويزيد الطين بلة ما يصيب الناشئين من اغترار بالمادية الحديثة وحب الاستهلاك والركض وراء الدعايات والمنافسة في حقائر الأمور.

وعلى أية حال، فقد غدا من اللازم جدا أن تشيد جسور قوية و تقام روابط وثيقة بين الناشئين والكبار لكي يمكن توريثهم الأسس والمعايير و العقائد والقيم التي توجه فكرهم وسلوكياتهم، ويبنغي أن تكون مبادرة إقامة الجسور هذه من قبل كبار السن. فعليهم أن يقتربوا من الجيل الجديد بأساليب حكيمة بدلا من التشكي منهم. لأن الفجوة بين الأجيال تشكل في الأصل عائقا لهم في سبيل أداء رسالتهم والقيام بواجبهم نحو توريث الأمانة التي ورثوها عن أسلافهم. إن إزالة ذلك العائق من واجب الكبار ليتم لهم أداء واجب التوريث بأكمل وجه. والرجوع إلى النماذج القرآنية تساعدنا في رسم الطريق وبناء المنهج وإيجاد الحلول، والله ولي التوفيق.
 
عودة
أعلى