عبدالرحمن الشهري
المشرف العام
- إنضم
- 29/03/2003
- المشاركات
- 19,331
- مستوى التفاعل
- 136
- النقاط
- 63
- الإقامة
- الرياض
- الموقع الالكتروني
- www.amshehri.com
هذا البحث من البحوث المنشورة لأستاذنا العزيز الأستاذ الدكتور محمد بن عبدالرحمن الشايع حفظه الله ونفع بعلمه ، نشره عام 1411هـ بمجلة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في العدد الرابع منها . وقد أخذته من الشيخ قديماً لطباعته ونشره في الملتقى . ثم عثرت عليه في موقع رسالة الإسلام الذي يشرف عليه الدكتور عبدالعزيز الفوزان وقد أعيد صفه من جديد ، فآثرت نقله هنا ليطلع عليه من لم يسبق له أن قرأه في مجلة الجامعة .
وهذا نص البحث .
[align=center]الجزء الأول[/align]
[align=center]التفسير بمكتشفات العلم التجريبي بين المؤيدين والمعارضين[/align]
[align=center]للأستاذ الدكتور محمد بن عبدالرحمن الشايع
أستاذ الدراسات العليا بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية[/align]
تفسير القرآن الكريم بمكتشفات العلم التجريبي أو ما اشتهر به التفسير العلمي، موضوع هام شغل بال كثير من القراء والدارسين واختلفت فيه آراء العلماء والباحثين، وكثر فيه التأليف بين مؤيدين ومعارضين.وقبل استعراض هذه الآراء يحسن إِلقاء نظرة على نشأته وتعريفه.
نشأته:
من الصعوبة بمكان تحديد نشوء الأفكار والمذاهب، فهي غالبًا ما تحتاج إِلى زمن تختمر فيه الفكرة وتجتمع لها الأدلة، ويكثر المؤيدون ثم يشتهر أحدهم بإِظهارها وإِبرازها، وليس بالضرورة أن يكون هو صاحبها وأن تكون هي من بنات أفكاره، لكن يكون هو الذي التقطها حين أعجب بها فذكرها ونشرها ودافع عنها، فنسبت إِليه ونقلت عنه.
ومنزع هذا النوع من التفسير للقرآن الكريم قديم.ويشتهر عند الدارسين أن الإِمام الغزالي المتوفى سنة ( 505 هـ) من أوائل المتكلمين في هذا النوع والمستوفين للكلام فيه إِلى عهده حيث بسط القول في هذا الموضوع في كتابه إِحياء علوم الدين، وكتابه الآخر: جواهر القرآن.
فعقد في أولهما بابًا في "فهم القرآن وتفسيره بالرأي من غير نقل " نقل فيه بعض الآثار والأقوال التي استظهر منها ما يريده من أن في القرآن إِشارة إِلى مجامع العلوم كلها، وأن " كل ما أشكل فهمه على النظار واختلف فيه الخلائق في النظريات والمعقولات ففي القرآن إِليه رموز ودلالات عليه يختص أهل الفهم بِدَرْكها"[1]
وفيه ينقل عن بعض العلماء قوله: " إِن القرآن يحوي سبعة وسبعين ألف علم ومائتي علم، إِذ كل كلمة علم ثم يتضاعف ذلك أربعة أضعاف إِذ لكل كلمة ظاهرٌ، وباطنٌ وحدٌّ ومطلع ".
وهذا القول المجمل والإِحصاء العددي - بعيدًا عن صحته من عدمها - دليل على تقدم هذا المنزع وأنه أسبق من الغزالي.
وينقل عن بعض العلماء الآخرين قولهم: " لكل آية ستون ألف فهم وما بقي من فهمها أكثر ".
بل يذهب إِلى أبعد من ذلك حين يرفع هذا المسلك إِلى الصحابة فينسب للإِمام علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بأنه قال: " لو شئت لأوقرت سبعين بعيرًا من تفسير فاتحة الكتاب "[2]
فكم نسب للإِمام علي من قول ؟ ! وما منعه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن يفعل - ؟ ! !.
ويزيد الإِمام الغزالي هذه الفكرة تفصيلا وبيانًا في كتابه جواهر القرآن فيعقد فيه فصلا يبين فيه كيفية انشعاب العلوم من القرآن ويقسم علوم القرآن إِلى قسمين:
الأول: علم الصدف والقشر وجعل من مشتملاته علم اللغة، وعلم النحو، وعلم القراءات وعلم مخارج الحروف وعلم التفسير الظاهر.
الثاني: علم اللباب وجعل من مشتملاته علم قصص الأولين، وعلم الكلام وعلم الفقه وعلم أصول الفقه، والعلم بالله واليوم الآخر والعلم بالصراط المستقيم وطريق السلوك[3]
ويتوسع الغزالي في كلامه بعد ذلك فيعقد فصلا يبين فيه انشعاب سائر العلوم الأخرى من القرآن الكريم وتفرعها عنه، فيذكر علم الطب والنجوم وتشريح أعضاء الحيوان، وعلم السحر.. وغير ذلك.ثم يختم هذا التفصيل بإِجمال يحيط بما ترك فيقول:
"ووراء ما عددته علوم أخرى يعلم تراجمها ولا يخلو العالم عمن يعرفها ولا حاجة إِلى ذكرها.. ".
ثم قال فأطنب في تأييد هذا المسلك والمذهب.
وما ذكره من عبارات ونقول يوحي لنا بوجود صلة بين هذا المنزع في التفسير وبين التفسير الإِشاري القديم.
ثم يتأيد هذا المنهج بالفخر الرازي (ت 606 هـ) بما ذكره من استطرادات في تفسيره حتى قيل عنه نقدًا لهذا المسلك: فيه كل شيء إِلا التفسير.
وجاء بعد ذلك بدر الدين الزركشي ( ت 794 هـ ) فنصره في كتابه البرهان في علوم القرآن بما أورده من نقول وما عقده من فصول، حيث عقد فصلا بعنوان: "في القرآن علم الأولين والآخرين"[4]
ثم جاء الإِمام جلال الدين السيوطي فقرر ذلك وتوسع فيه في كتابه الإِتقان في علوم القرآن، وكتابه الآخر: الإِكليل في استنباط التنزيل.وساق للاستدلال على ذلك بعض الآيات والآثار.ونقل نصًّا عن أبي الفضل المرسي يؤيد به ما ذهب إِليه من احتواء القرآن على سائر العلوم[5]
فنخلص مما سبق إِيجازه بأوجز منه وهو أن منشأ هذا المسلك قديم وأن تحديد البدء عسير غير يسير.
تعريفه:
عرفنا فيما سبق قِدَم جذور وأصول هذا النوع من التفسير، وأنه تحيَّزَ وتميَّزَ في هذا العصر بشكل أكثر وأظهر.
وقد التمس بعض الباحثين تعريفًا لهذا النوع، ومعلوم أن التعريف ينبغي أن يكون جامعًا مانعًا يعرف منه ما يدخل فيه وما يخرج عنه.
وممن التمس لهذا النوع تعريفًا الأستاذ أمين الخولي حيث قال عنه بأنه: "التفسير الذي يحكّم الاصطلاحات العلمية في عبارة القرآن ويجتهد في استخراج مختلف العلوم والآراء الفلسفية منها"[6]
وقد نقل هذا التعريف الشيخ محمد حسين الذهبي في كتابه التفسير والمفسرون[7]
واختصره آخرون وتأثر به غيرهم.فقد عرفه الشيخ محمد الصباغ بـ "أنه تحكيم مصطلحات العلوم في فهم الآية، والربط بين الآيات الكريمة ومكتشفات العلوم التجريبية والفلكية والفلسفية"[8]
والتعريف لهذا النوع من التفسير يتأثر بموقف المعرف له منه تأييدًا أو تفنيدًا.فالخولي والذهبي من المنكرين لهذا النوع فكان هذا التعريف متأثرًا بهذا الموقف.
ومن هنا تتوجه له بعض الانتقادات منها: قصوره، وقسوة لفظه ( التحكّم ) في التعريف.كأن كل تفسير علمي كذلك، مع ما توحي به من أن الآية المراد تفسيرها لها معنى آخر غير العلمي المراد منها أن تدل عليه[9]
وعرفه الدارس عبد الله الأهدل في رسالته: التفسير العلمي دراسة وتقويم - بعد انتقاده للتعريف السابق - بأنه: (تفسير الآيات الكونية الواردة في القرآن على ضوء معطيات العلم الحديث بغض النظر عن صوابه وخطئه" ليشمل التفسير الصحيح والتفسير الخاطئ ")[10].
وقوله: " بغض النظر عن صوابه وخطئه " لا ينبغي أن تكون من التعريف ؛ لأن عموم ما قبلها يشملها.
وقد عرض الدكتور فهد الرومي لهذه التعاريف وتعرض لها بالنقد في كتابه: اتجاهات التفسير في القرن الرابع عشر الهجري: وخرج بتعريف آخر فقال: "والذي يظهر لي - والله أعلم - أن التعريف الأقرب إِلى أن يكون جامعًا مانعًا أن يقال: المراد بالتفسير العلمي: هو اجتهاد المفسر في كشف الصلة بين آيات القرآن الكريم الكونية ومكتشفات العلم التجريبي على وجه يظهر به إِعجاز للقرآن يدل على مصدره وصلاحيته لكل زمان ومكان".
- ثم شرح عبارات تعريفه بقوله:
( ولا شك أن وصفه بـ " اجتهاد المفسر" يدخل في التفسير العلمي المقبول والمرفوض ؛ لأن المجتهد قد يخطئ وقد يصيب.وقولنا " الربط " ليشمل ما هو تفسير وما هو من قبيله كالاستئناس بالآية في قضية من قضاياه ونحو ذلك..
وقولنا " العلم التجريبي " يخرج بقية العلوم الكلامية والفلسفية ونحوها، وقولنا " على وجه " لبيان ثمرته.وقولنا " يدل على مصدره " نقصد به أنه إِذا ما ثبت هذا التوافق بين نصوص القرآن الكريم وحقائق العلوم ولم يقع أي تعارض بين نص قرآني وحقيقة علمية مهما كانت جدتها وحداثتها، فإِنه لا يمكن أن يقول مثل هذه النصوص بشر قبل اكتشافها بقرون، ولا بد من أن يكون المتكلم بها هو موجد هذه الحقائق ومكونها وهو الله سبحانه وتعالى.وقولنا " وصلاحيته لكل زمان ومكان " نقصد به أنه صالح لكل عصر لا تأتي عليه الأيام ولا الحدثان بما يبطل شيئًا منه فهو صالح لكل عصر وأوان.
هذا ما ظهر لي الآن من المعنى المراد به.( والله أعلم ).أ.هـ [11]
ولا يخلو هذا التعريف الذي ذكره الدكتور الفاضل فهد الرومي من وجهة نظر ففيه طول، وفي وصف الآيات القرآنية بالكونية تضييق لمجاله.كما أن لفظة " الربط " الواردة في شرح التعريف لم ترد في عبارات التعريف نفسه ولعل المراد لفظة " الصلة".
ولعل التعريف الأيسر والأخصر والذي ينبغي أن يكون عليه الحال.أن يقال عنه بأنه (تفسير القرآن الكريم بحقائق العلم التجريبي).
لكن ربما أراد المعرفون الآخرون له تعريفه على ما هو عليه لا تعريفه بما ينبغي أن يكون عليه.
مذاهب الناس في هذا النوع من التفسير:
تنوعت مذاهب العلماء والدارسين في هذا النوع من التفسير واختلفت مواقفهم منه بين مؤيدين ومعارضين على وجه الإِطلاق أو التقييد، حتى إِنه ليكاد يكون لكل واحد رأيه الخاص به بما يضيفه من شروط ويذكره من قيود.
وقد قسمت الدكتورة هند شلبي مواقف العلماء تجاه هذا الموضوع إِلى أربعة أصناف:
1 - المعارضون مطلقًا مع عدم التحيز إِلى العلم.
2 - المعارضون مطلقًا مع التحيز إِلى العلم.
3 - المؤيدون مطلقًا.
4 - المؤيدون المحترزون[12]
وبعيدًا عن كثرة التشعيب والتقسيم سوف أعرض لآراء العلماء مقسمًا لها إِلى نوعين: المعارضين لهذا التوجه، والمؤيدين له: -
1 - المعارضون:
المعارضون لهذا التوجه في التفسير كثيرون قدماء ومحدثين منهم:
1 - أبو حيان الأندلسي ( ت 745 هـ ) في البحر المحيط.
2 - أبو إِسحاق: إِبراهيم بن موسى الشاطبي ( ت 790 هـ ) في الموافقات.
3 - محمود شلتوت في: تفسير القرآن الكريم، ومجلة الرسالة.
4 - أمين الخولي.في: التفسير نشأته، تدرجه، تطوره، وفي دائرة المعارف الإِسلامية.
5 - محمد حسين الذهبي.في: التفسير والمفسرون.
6 - محمد عزة دروزة.في: التفسير الحديث.
7 - شوقي ضيف.في: تفسير سورة الرحمن وسور قصار.
8 - محمد رشيد رضا[13] في: تفسير المنار.
9 - عباس محمود العقاد.في: الفلسفة القرآنية.
10 - عائشة عبد الرحمن ( بنت الشاطئ ).في: القرآن وقضايا الإِنسان.
11 - محمد كامل حسين.في: الذكر الحكيم.
12 - صبحي الصالح.في: معالم الشريعة الإِسلامية.
13 - أحمد محمد جمال.في كتابه: على مائدة القرآن مع المفسرين والكتاب.
14 - عبد المجيد المحتسب.في: اتجاهات التفسير في العصر الراهن.
15 - أحمد الشرباصي.في: قصة التفسير.
16 - إِسماعيل مظهر.في: عدة مقالات له في جريدة الأخبار[14]
17 - سيد قطب.في: ظلال القرآن[15]
وهؤلاء المعارضون تختلف عباراتهم في قسوة انتقادها لهذا التوجه بين متشدد ومعتدل.ويجمعها كلها الرفض له.والاعتراض عليه وعدم القبول به.
فقد عد أبو حيان - في معرض نقده للفخر الرازي - توسع العلماء في مباحث العلوم الأخرى عند تفسير القرآن الكريم، فضولا في العلم.وقسا فجعله: "من التخليط والتخبيط في أقصى الدرجة "[16]
وأعلن أمين الخولي معارضته لهذا التوجه في رسالته الصغيرة عن التفسير بمبحث عَنْوَنَهُ بـ " إِنكار التفسير العلمي " نبه فيه على قدم هذا الاتجاه، وقدم معارضته والاعتراض عليه.
ومثله فعل الشيخ محمد حسين الذهبي [17]
وعد الأستاذ عباس محمود العقاد مؤيدي هذا الصنف من التفسير: "من الصديق الجاهل لأنهم يسيئون من حيث يقدرون الإِحسان، ويحملون على عقيدة إِسلامية وزر أنفسهم وهم لا يشعرون"[18]
وقالت الدكتورة عائشة عبد الرحمن بأن هذا المسلك ضحك على العقول ببدع من التأويلات تقدم للناس من القرآن كل علوم الدنيا وعصريات التكنولوجيا[19]
ويقول د.شوقي ضيف: "وقد تلت الشيخ الإِمام [محمد عبده] تفاسير كثيرة منها ما اهتدى بهديه ومنها ما خاض في مباحث علمية كنت ولا أزال أراها تجنح عن الجادة إِذ القرآن فوق كل علم.ومن الخطأ أن يتخذ ذريعة لإِثبات نظريات علمية في الطبيعة والعلوم الكونية والفلكية وهو لم ينزل لبيان قواعد العلوم ولا لتفسير ظواهر الكون وما ذكر فيه من خلق السماوات والأرض والأفلاك والكواكب إِنما يراد به بيان حكمة الله وأن للوجود خالقًا أعلى يدبره وينظم قوانينه ولا ريب في أن القرآن يدعو أتباعه دعوة عامة إِلى العلم والتعلم للعلوم الرياضية والطبيعية والكونية.ولكن هذا شيء والتحول بالقرآن إِلى كتاب تستنبط منه النظريات العلمية شيء آخر لا يتصل برسالته ولا بدعوته.إِنه دين لهداية البشرية يزخر بما لا يحصى من قيم روحية واجتماعية وإِنسانية وحسب المفسر أن يعنى ببيان ما فيه من هذه القيم ومن أصول الدين الحنيف وتعاليمه التي أضاءت المشارق والمغارب أضواء غامرة "[20]
وقد وصف محمد كامل حسين هذا النوع من التفسير بأنه " بدعة حمقاء " بل جعل هذا الوصف وسما لفصل هو " التفسير العلمي بدعة حمقاء " وقال عنه مرة أخرى بأنه " التفسير الحرباوي " إِشارة إِلى تغيره بتغير العلوم كما تغير الحرباء جلدها.
بل قسا وبالغ فجعله دليلا على ضعف إِيمان الذاهبين إِليه والقائلين به حين قال:
".. والذين يفسرون الآيات الكونية تفسيرًا علميًّا يدلون بذلك على ضعف إِيمانهم ولو كانوا مؤمنين حقًّا ما كانت بهم حاجة إِلى شيء من ذلك يقوي به إِيمانهم فليس مقصودًا بالآيات الكونية غير الوعظ والتفسير الحق الذي هو يقربها من أذهاننا تقريبًا يؤدي إِلى الموعظة والعبرة وكل تعمق في تصويرها تصويرًا واقعيًّا هو بدعة حمقاء "[21].
أدلة المعارضين وأسباب المعارضة:
يقدم المعارضون بعض الاستدلالات، ويوردون بعض التخوفات والاعتراضات لمنع هذا النوع من التفسير، يمكن جمع أظهرها وأشهرها بالآتي:
أولا: إِن للتفسير شروطًا وقيودًا وضوابط يسير عليها قررها العلماء ينبغي لمن يتصدى لتفسير القرآن الكريم أن يكون قد عرفها وأحاط بها ليأتي الأمور من أبوابها.فلا يكون القرآن الكريم حمى مباحًا لكل من حصّل علمًا وحفظ شيئًا فنسي أنه قد غابت عنه أشياء.
ومن شروط ذلك: التمكن من العربية فتفسر ألفاظ القرآن الكريم بما تدل عليه لغة العرب، دون تزيّد في تحميل الألفاظ ما لا تحتمله فيستنبط منها ما لا تدل عليه ولا ترشد إِليه فللألفاظ معانيها المحددة ودلالاتها الخاصة التي وضعت لها وهذا يمنع التوسع العجيب في فهم ألفاظ القرآن وجعلها تدل على معانٍ وإِطلاقات لم تعرف لها ولم تستعمل فيها.أو إِن كانت تلك الألفاظ قد استعملت في شيء منها فباصطلاح حادث في الملة بعد نزول القرآن بأجيال[22]
ثم إِن هذا التفصيل العلمي المستقى من العلوم في عهودها المتأخرة هل هو من مدلولات ألفاظ الآيات أو لا ؟
إِن كان من مدلولات ألفاظ الآيات فكيف لم يفهمه العرب الخُلَّصُ الذين نزل عليهم وبلغتهم.وإِن كانوا فهموه فلماذا لم تقم نهضتهم العلمية التجريبية على هذه الآيات الشارحة والمفصلة لهذه الحقائق والنظريات العلمية المفهمة لدقائقها.
وإِن كانت لم تفهم منها ولم تدل عليها ولم يدركها أصحاب اللغة الخلص في زمن نزولها - كما واقع الحال - فكيف تكون هي معاني القرآن المرادة له والمقصودة منه ؟ ! وكيف يصح تفسيره بها.
وأين بلاغة القرآن حينئذ والبلاغة كما يقولون: هي مطابقة الكلام لمقتضى الحال[23]
" والقرآن الكريم قد نزل بلسان العرب على قوم يفهمونه وأمر الله نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بشرحه وتبيانه والنظريات الحديثة لم تكن معلومة ولا مكشوفة ولا يصح
لمسلم مهما حسنت نيته أن يدعي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يكن يعرف جميع ما تضمنته آيات القرآن "[24]
وليس فيما ورد عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا فيما ورد عن أصحابه ما يؤيد هذا الاتجاه أو يدل عليه [25]
ثانيًا: إِن القرآن الكريم إِنما هو كتاب هداية للبشرية كما قال جل وعلا:
{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ}[26]
وليس بكتاب تفصيل لنظريات العلوم ودقائق الفنون وأنواع المعارف من فلك وطب وهندسة وخلافها وأن تطلّب تفصيل ذلك في القرآن الكريم إِنما هو سوء فهم لطبيعة هذا القرآن ووظيفته.
" فلا حاجة بالقرآن الكريم إِلى مثل هذا الادعاء لأنه كتاب عقيدة يخاطب الضمير وخير ما يطلب من كتاب العقيدة في مجال العلم أن يحث على التفكير ولا يتضمن حكمًا من الأحكام يشل حركة العقل أو يحول بينه وبين الاستزادة من العلوم ما استطاع حيثما استطاع.وكل ذلك مكفول للمسلم في كتابه كما لم يكفل قط في كتاب من كتب الأديان "[27]
ثالثًا: إِن هذا اللون من التفسير يعرِّض القرآن للدوران مع أنواع المعارف ونظريات العلوم وهي أمور لا يقر للكثير منها قرار فقد يهدم العلم في الغد ما يراه اليوم من المسلمات فالعلوم الإِنسانية تتجدد مع الزمن على ما هو مقتضى سنة التقدم.
" فلا تزال بين ناقص يتم، وغامض يتضح، وموزع يتجمع، وخطأ يقترب من الصواب، وتخمين يترقى إِلى اليقين.ولا يندر في القواعد العلمية أن تتقوض بعد رسوخ، أو تتزعزع بعد ثبوت.. ويستأنف الباحثون تجاربهم فيها بعد أن حسبوها من الحقائق المفروغ منها عدة قرون " [28]
فلو طبقنا القرآن على هذه المسائل العلمية المتقلبة لعرضناه للتقلب معها وتحمل تبعات الخطأ فيها، وأوقفنا القرآن وأنفسنا مواقف الحرج[29]
رابعًا: إِن هذا المسلك ينطوي على معانٍ عدة لا تليق بجلال القرآن الكريم وكماله، أستأذنك في أن أنقلها لك بعبارة سيد قطب الأدبية الندية.وإِن كان في بعض ما ذكره تكرار لما سبق تقريره.
أولى تلك الأمور فيما قال: "هي الهزيمة الداخلية التي تخيل لبعض الناس أن العلم هو المهيمن والقرآن تابع ومن هنا يحاولون تثبيت القرآن بالعلم.أو الاستدلال له من العلم.على حين أن القرآن كتاب كامل في موضوعه ونهائي في حقائقه.والعلم ما يزال في موضوعه ينقض اليوم ما أثبته بالأمس.وكل ما يصل إِليه غير نهائي ولا مطلق ؛ لأنه مقيد بوسط الإِنسان وعقله وأدواته وكلها ليس من طبيعتها أن تعطي حقيقة واحدة نهائية مطلقة.
والثانية: سوء فهم طبيعة القرآن ووظيفته، وهي أنه حقيقة نهائية مطلقة تعالج بناء الإِنسان.
والثالثة: هي التأويل المستمر - مع التمحل والتكلف لنصوص القرآن كي نحملها ونلهث بها وراء الفروض والنظريات التي لا تثبت ولا تستقر وكل يوم يجد فيها جديد "[30]
ويبين الشيخ محمود شلتوت جوانب الخطأ في هذا الاتجاه فيقول:
"هذه النظرة للقرآن خاطئة من غير شك لأن الله لم ينزل القرآن ليكون كتابًا يتحدث فيه إِلى الناس عن نظريات العلوم، ودقائق الفنون وأنواع المعارف وهي خاطئة من غير شك لأنها تحمل أصحابها والمغرمين بها على تأويل القرآن تأويلا متكلفًا يتنافى مع الإِعجاز ولا يسيغه الذوق السليم.
وهي خاطئة، لأنها تعرض القرآن للدوران مع مسائل العلوم في كل زمان ومكان
والعلوم لا تعرف الثبات ولا القرار الأخير، فقد يصح اليوم في نظر العلم ما يصح غدًا من الخرافات..."[31]
خامسًا: إِن في هذا المسلك خطأ منهجيًّا لأن حقائق القرآن الكريم قطيعة نهائية بخلاف ما يصل إِليه الإِنسان من حقائق فإِنها غير قطعية ولا نهائية ففيها النقص والخطأ، فلا يصح تعليق تلك بهذه تعليق تطابق وتصديق[32].
سادسًا: إِن إِدخال التفسيرات العلمية على الإِشارات القرآنية وبالصورة التي جرى عليها بعض الكتاب والعلماء لا بد أن يفضي عما قريب أو بعيد إِلى صراع بين الدين والعلم [33]
يضاف لما سبق الرد على المجيزين لهذا المنهج والمؤيدين له في تمسكهم بظواهر بعض النصوص ك قَوْله تَعَالَى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ}[34]
وقَوْله تَعَالَى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ}[35]
ومثل فواتح السور الواردة في القرآن الكريم فهي مما لم يعهده العرب.
فقد أجاب عن هذه الاستدلالات الشاطبي في الموافقات بقوله: " فأما الآيات فالمراد بها عند المفسرين ما يتعلق بحال التكليف والتعبد أو المراد بالكتاب في قوله {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ}[36] اللوح المحفوظ ولم يذكروا فيها ما يقتضي تضمنه لجميع العلوم النقلية والعقلية.
ثم قال: وأما فواتح السور فقد تكلم الناس فيها بما يقتضي أن للعرب بها عهدًا كعدد الجُمّل [37] الذي تعرّفوه من أهل الكتاب حسبما ذكره أصحاب السير.
أو هي من المتشابهات التي لا يعلم تأويلها إِلا الله تعالى.وغير ذلك.
وأما تفسيرها بما لا عهد به فلا يكون ولا يدعيه أحد ممن تقدم فلا دليل فيها على ما ادعوا.
ثم قال: فليس بجائز أن يضاف إِلى القرآن ما لا يقتضيه كما أنه لا يصح أن ينكر منه ما يقتضيه، ويجب الاقتصار في الاستعانة على فهمه على كل ما يضاف علمه إِلى العرب خاصة فبه يوصل إِلى علم ما أودع من الأحكام الشرعية، فمن طلبه بغير ما هو أداة له ضل عن فهمه وتقول على الله ورسوله فيه.والله أعلم وبه التوفيق.
بهذه العبارات ينقض الشاطبي تلك الاستدلالات ويوجهها مبينًا رأيه فيها.
تلخيص:
يمكن أن نلخص تلك الأدلة والأسباب بما يلي:
1 - التقيد بفهم معاني الألفاظ بدلالة اللغة وحدود استعمالها وقت نزول القرآن وعدم التوسع في ذلك.ولذا لم يرد هذا النوع من التفسير عن السلف.
2 - أن توسيع دلالة الألفاظ إِلى أوسع مما يعرفه العرب قديمًا يؤدي إِلى عدم بلاغة القرآن لعدم مراعاة مقتضى الحال حينئذ.
3 - أن مهمة القرآن الكريم دينية اعتقادية وليست علمية.
4 - أن هذا المسلك عما قريب أو بعيد سوف يؤدي إِلى الصراع بين الدين والعلم.
5 - ما يؤدي إِليه هذا المسلك من التأويل المتكلف الذي لا يسيغه الذوق السليم ويتنافى مع إِعجاز القرآن.
6 - أن في هذا المسلك تعريضًا للقرآن الكريم لكثرة التأويلات وتغيرها بتغير العلوم وتطورها نظرًا لعدم استقرار المسائل العلمية.
7 - أن التفسير العلمي بدعة حمقاء ودفاع فاسد عن القرآن الكريم من كل وجه.
8 - أن هذا النوع من التفسير يعارض اليسر الذي ينبغي أن تتصف به الشريعة الإِسلامية [38].
9 - عدم فهم الآيات والآثار التي قد يفهم منها هذا المنحى على وجهها الصحيح.
ــــــــ الحواشي : -----------
[1] إِحياء علوم الدين لأبي حامد الغزالي ( 1 / 290 ).
[2] المصدر السابق.
[3] جواهر القرآن ص ( 21 )، وانظر التفسير والمفسرون للذهبي ( 2 / 475 ).
[4] انظر: البرهان في علوم القرآن للزركشي ( 2 / 181 ).
[5] انظر الإِتقان في علوم القرآن للسيوطي ( 4 / 30 ).
[6] التفسير، نشأته، تدرجه، تطوره: أمين الخولي ص ( 49 )، دائرة المعارف الإِسلامية ( 9 / 420 ).
[7] انظر التفسير والمفسرون ( 3 / 140 ).
[8] انظر: لمحات في علوم القرآن واتجاهات التفسير، محمد الصباغ ص ( 203 ).
[9] انظر اتجاهات التفسير في القرن الرابع عشر الهجري، د.فهد الرومي ( 2 / 548 )، ورسالة التفسير العلمي للقرآن الكريم، دراسة وتقويم عبد الله الأهدل.
[10] التفسير العلمي للقرآن الكريم، دراسة وتقويم عبد الله الأهدل ص ( 15 ).
[11] اتجاهات التفسير في القرن الرابع عشر الهجري للدكتور فهد الرومي ( 2 / 549 ).
[12] انظر: التفسير العلمي للقرآن الكريم بين النظريات والتطبيق د.هند شلبي ص ( 16 ).
[13] عده الدكتور فهد الرومي في كتابه القيم اتجاهات التفسير في القرن الرابع عشر ( 2 / 567 ) من المؤيدين لهذا التوجه في التفسير .
وعده الدكتور عبد المجيد المحتسب في كتابه اتجاهات التفسير في العصر الراهن ص ( 302 ) من المنكرين لذلك.وبتأمل ما ساقه كل منهما من نصوص استشهد بها على مراده يظهر أن الشيخ رشيد رضا وإِن كان تلميذًا للشيخ محمد عبده أنه أقرب إِلى الإِنكار منه إِلى التأييد، ومن عبارة الدكتور فهد أن رشيد رضا يجعل هذا نوعًا من أنواع إِعجاز القرآن.وقد سبق وأن فرق لنا الدكتور فهد بين التفسير العلمي والإِعجاز العلمي للقرآن، وأن الثاني مسلم به دون نكير.بخلاف الأول .
ثم إِن الشيخ رشيد رضا قد نعى على المتوسعين في مباحث الإِعراب وقواعد النحو ونكت المعاني وجدل المتكلمين وتخريجات الأصوليين واستنباطات الفقهاء المقلدين وتأويلات المتصوفين بحيث حجب هذا التوسع أثر القرآن وصد عن قصده .
وانتقد الفخر الرازي في مسلكه ثم قال: " وقلده بعض المعاصرين بإِيراد مثل ذلك من علوم هذا العصر وفنونه الكثيرة الواسعة، فهو يذكر فيما يسميه تفسير الآية فصولا طويلة بمناسبة كلمة مفردة كالسماء والأرض من علوم الفلك والنبات والحيوان تصد قارئها عما أنزل الله لأجله القرآن، نعم إِن أكثر ما ذكر من وسائل فهم القرآن: فنون العربية لا بد منها، واصطلاحات الأصول وقواعده الخاصة بالقرآن ضرورية كقواعد النحو والمعاني وكذلك معرفة الكون وسنن الله تعالى فيه كل ذلك يعين على فهم القرآن ".تفسير المنار ( 1 / 7، ط 4 ).
[14] جريدة الأخبار في ( 17 / 11 / 1961م ) وانظر: الفكر الديني في مواجهة العصر د.عفت محمد الشرقاوي ص ( 425 ) .
وانظر: -
1 - اتجاهات التفسير في القرن الرابع عشر الهجري د.فهد الرومي ( 2 / 578 - 600 ) .
2 - اتجاهات التفسير في العصر الراهن د.عبد المجيد المحتسب ص ( 295 ).
[15] أفاض سيد قطب - رحمه الله - في الحديث عن هذا.فقد وصف حقائق القرآن الكريم بأنها نهائية ووصف ما يصل إِليه الإِنسان ببحثه وجده بأنها حقائق غير نهائية ولا قطعية وجعل تعليق الحقائق القرآنية النهائية بحقائق غير نهائية ولا قطعية خاصة تعليق تطابق وتصديق خطأ منهجي هذا إِذا كانت حقائق.وأما إِذا كانت فرضيات ونظريات فإِضافة إِلى خطئها المنهجي فإِنها تنطوي وتوحي بمعان غير مقبولة فهي توحي بـ:
1 - الهزيمة الداخلية التي تخيل لبعض الناس أن العلم هو المهيمن والقرآن تابع .
2 - سوء فهم طبيعة القرآن ووظيفته .
3 - التأويل المستمر مع التمحل والتكلف لنصوص القرآن كي تحمل، ويلهث بها وراء الفروض والنظريات المتعددة والمتغيرة لكنه مع هذا الرأي أيد الانتفاع بالكشوف العلمية في توسيع مدلول الآيات القرآنية وتعميقها.
[16] البحر المحيط ( 1 / 341 ).
[17] التفسير والمفسرون ( 3 / 140 ).
[18] الفلسفة القرآنية ص ( 16 ).
[19] القرآن وقضايا الإِنسان د.عائشة عبد الرحمن ص ( 426 ).
[20] سورة الرحمن وسور قصار د.شوقي ضيف ص ( 10 ).
[21] الذكر الحكيم، محمد كامل حسين ص ( 59 ).واتجاهات التفسير في القرن الرابع عشر، د.فهد الرومي ( 2 / 588 ).
[22] التفسير : نشأته ، تدرجه ، تطوره ، أمين الخولي ص (60).
[23] التفسير : نشأته ، تدرجه ، تطوره ، أمين الخولي ص (60).
[24] التفسير الحديث، محمد عزة دروزة ( 2 / 7 ).
[25] اتجاهات التفسير في العصر الراهن د.عبد المجيد المحتسب ص ( 317 ).
[26] سورة الإسراء / 9
[27] الفلسفة القرآنية، عباس محمود العقاد ص ( 15 ).
[28] المصدر السابق.
[29] تفسير القرآن الكريم، الشيخ محمود شلتوت ص ( 11 ) . وانظر: التفسير الحديث، محمد عزة دروزة 2 / 7.ومعالم الشريعة الإِسلامية د.صبحي الصالح ص ( 291 ).
[30] في ظلال القرآن، سيد قطب 1 / 176.
[31] تفسير القرآن الكريم، الشيخ محمود شلتوت ص11
[32] في ظل القرآن، سيد قطب 1 / 176.
[33] الفكر الديني في مواجهة العصر، د.عفت الشرقاوي ص ( 426 ) في مقام عرضه لرأي إِسماعيل مظهر عن جريدة الأخبار بتاريخ 17 / 11 / 1961 م.
[34] سورة الأنعام / 38
[35] سورة النحل / 89
[36] سورة الأنعام / 38
[37] بضم الجيم وتشديد الميم، وهو اسم حساب مخصوص مبناه على كلمات أبجد هوز حطي كلمن سعفص قرشت ثخذ ضظغ.كل حرف منها يدل على رقم فالحرف من الألف إِلى الطاء للآحاد ومن الياء إِلى الصاد للعشرات ومن القاف إِلى الظاء للمئات وحرف الغين آخرها يمثل ألف ( 1000 ) وهو قول مردود ورد فيه حديث ضعيف من رواية الكلبي.قال ابن كثير من زعم ذلك فقد أدعى ما ليس له وطار في غير مطاره .
انظر: تفسير ابن كثير 1 / 38، وتاج العروس مادة جمل 7 / 364، وكشاف اصطلاحات الفنون للتهانوي2 / 11.
[38] انظر: التفسير العلمي للقرآن الكريم، دراسة وتقويم عبد الله الأهدل، رسالة ماجستير - كلية أصول ( ص 194 ) والتفسير العلمي للقرآن الكريم بين النظريات والتطبيق د.هند شلبي ص ( 63 - 69 ).
وهذا نص البحث .
[align=center]الجزء الأول[/align]
[align=center]التفسير بمكتشفات العلم التجريبي بين المؤيدين والمعارضين[/align]
[align=center]للأستاذ الدكتور محمد بن عبدالرحمن الشايع
أستاذ الدراسات العليا بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية[/align]
تفسير القرآن الكريم بمكتشفات العلم التجريبي أو ما اشتهر به التفسير العلمي، موضوع هام شغل بال كثير من القراء والدارسين واختلفت فيه آراء العلماء والباحثين، وكثر فيه التأليف بين مؤيدين ومعارضين.وقبل استعراض هذه الآراء يحسن إِلقاء نظرة على نشأته وتعريفه.
نشأته:
من الصعوبة بمكان تحديد نشوء الأفكار والمذاهب، فهي غالبًا ما تحتاج إِلى زمن تختمر فيه الفكرة وتجتمع لها الأدلة، ويكثر المؤيدون ثم يشتهر أحدهم بإِظهارها وإِبرازها، وليس بالضرورة أن يكون هو صاحبها وأن تكون هي من بنات أفكاره، لكن يكون هو الذي التقطها حين أعجب بها فذكرها ونشرها ودافع عنها، فنسبت إِليه ونقلت عنه.
ومنزع هذا النوع من التفسير للقرآن الكريم قديم.ويشتهر عند الدارسين أن الإِمام الغزالي المتوفى سنة ( 505 هـ) من أوائل المتكلمين في هذا النوع والمستوفين للكلام فيه إِلى عهده حيث بسط القول في هذا الموضوع في كتابه إِحياء علوم الدين، وكتابه الآخر: جواهر القرآن.
فعقد في أولهما بابًا في "فهم القرآن وتفسيره بالرأي من غير نقل " نقل فيه بعض الآثار والأقوال التي استظهر منها ما يريده من أن في القرآن إِشارة إِلى مجامع العلوم كلها، وأن " كل ما أشكل فهمه على النظار واختلف فيه الخلائق في النظريات والمعقولات ففي القرآن إِليه رموز ودلالات عليه يختص أهل الفهم بِدَرْكها"[1]
وفيه ينقل عن بعض العلماء قوله: " إِن القرآن يحوي سبعة وسبعين ألف علم ومائتي علم، إِذ كل كلمة علم ثم يتضاعف ذلك أربعة أضعاف إِذ لكل كلمة ظاهرٌ، وباطنٌ وحدٌّ ومطلع ".
وهذا القول المجمل والإِحصاء العددي - بعيدًا عن صحته من عدمها - دليل على تقدم هذا المنزع وأنه أسبق من الغزالي.
وينقل عن بعض العلماء الآخرين قولهم: " لكل آية ستون ألف فهم وما بقي من فهمها أكثر ".
بل يذهب إِلى أبعد من ذلك حين يرفع هذا المسلك إِلى الصحابة فينسب للإِمام علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بأنه قال: " لو شئت لأوقرت سبعين بعيرًا من تفسير فاتحة الكتاب "[2]
فكم نسب للإِمام علي من قول ؟ ! وما منعه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن يفعل - ؟ ! !.
ويزيد الإِمام الغزالي هذه الفكرة تفصيلا وبيانًا في كتابه جواهر القرآن فيعقد فيه فصلا يبين فيه كيفية انشعاب العلوم من القرآن ويقسم علوم القرآن إِلى قسمين:
الأول: علم الصدف والقشر وجعل من مشتملاته علم اللغة، وعلم النحو، وعلم القراءات وعلم مخارج الحروف وعلم التفسير الظاهر.
الثاني: علم اللباب وجعل من مشتملاته علم قصص الأولين، وعلم الكلام وعلم الفقه وعلم أصول الفقه، والعلم بالله واليوم الآخر والعلم بالصراط المستقيم وطريق السلوك[3]
ويتوسع الغزالي في كلامه بعد ذلك فيعقد فصلا يبين فيه انشعاب سائر العلوم الأخرى من القرآن الكريم وتفرعها عنه، فيذكر علم الطب والنجوم وتشريح أعضاء الحيوان، وعلم السحر.. وغير ذلك.ثم يختم هذا التفصيل بإِجمال يحيط بما ترك فيقول:
"ووراء ما عددته علوم أخرى يعلم تراجمها ولا يخلو العالم عمن يعرفها ولا حاجة إِلى ذكرها.. ".
ثم قال فأطنب في تأييد هذا المسلك والمذهب.
وما ذكره من عبارات ونقول يوحي لنا بوجود صلة بين هذا المنزع في التفسير وبين التفسير الإِشاري القديم.
ثم يتأيد هذا المنهج بالفخر الرازي (ت 606 هـ) بما ذكره من استطرادات في تفسيره حتى قيل عنه نقدًا لهذا المسلك: فيه كل شيء إِلا التفسير.
وجاء بعد ذلك بدر الدين الزركشي ( ت 794 هـ ) فنصره في كتابه البرهان في علوم القرآن بما أورده من نقول وما عقده من فصول، حيث عقد فصلا بعنوان: "في القرآن علم الأولين والآخرين"[4]
ثم جاء الإِمام جلال الدين السيوطي فقرر ذلك وتوسع فيه في كتابه الإِتقان في علوم القرآن، وكتابه الآخر: الإِكليل في استنباط التنزيل.وساق للاستدلال على ذلك بعض الآيات والآثار.ونقل نصًّا عن أبي الفضل المرسي يؤيد به ما ذهب إِليه من احتواء القرآن على سائر العلوم[5]
فنخلص مما سبق إِيجازه بأوجز منه وهو أن منشأ هذا المسلك قديم وأن تحديد البدء عسير غير يسير.
تعريفه:
عرفنا فيما سبق قِدَم جذور وأصول هذا النوع من التفسير، وأنه تحيَّزَ وتميَّزَ في هذا العصر بشكل أكثر وأظهر.
وقد التمس بعض الباحثين تعريفًا لهذا النوع، ومعلوم أن التعريف ينبغي أن يكون جامعًا مانعًا يعرف منه ما يدخل فيه وما يخرج عنه.
وممن التمس لهذا النوع تعريفًا الأستاذ أمين الخولي حيث قال عنه بأنه: "التفسير الذي يحكّم الاصطلاحات العلمية في عبارة القرآن ويجتهد في استخراج مختلف العلوم والآراء الفلسفية منها"[6]
وقد نقل هذا التعريف الشيخ محمد حسين الذهبي في كتابه التفسير والمفسرون[7]
واختصره آخرون وتأثر به غيرهم.فقد عرفه الشيخ محمد الصباغ بـ "أنه تحكيم مصطلحات العلوم في فهم الآية، والربط بين الآيات الكريمة ومكتشفات العلوم التجريبية والفلكية والفلسفية"[8]
والتعريف لهذا النوع من التفسير يتأثر بموقف المعرف له منه تأييدًا أو تفنيدًا.فالخولي والذهبي من المنكرين لهذا النوع فكان هذا التعريف متأثرًا بهذا الموقف.
ومن هنا تتوجه له بعض الانتقادات منها: قصوره، وقسوة لفظه ( التحكّم ) في التعريف.كأن كل تفسير علمي كذلك، مع ما توحي به من أن الآية المراد تفسيرها لها معنى آخر غير العلمي المراد منها أن تدل عليه[9]
وعرفه الدارس عبد الله الأهدل في رسالته: التفسير العلمي دراسة وتقويم - بعد انتقاده للتعريف السابق - بأنه: (تفسير الآيات الكونية الواردة في القرآن على ضوء معطيات العلم الحديث بغض النظر عن صوابه وخطئه" ليشمل التفسير الصحيح والتفسير الخاطئ ")[10].
وقوله: " بغض النظر عن صوابه وخطئه " لا ينبغي أن تكون من التعريف ؛ لأن عموم ما قبلها يشملها.
وقد عرض الدكتور فهد الرومي لهذه التعاريف وتعرض لها بالنقد في كتابه: اتجاهات التفسير في القرن الرابع عشر الهجري: وخرج بتعريف آخر فقال: "والذي يظهر لي - والله أعلم - أن التعريف الأقرب إِلى أن يكون جامعًا مانعًا أن يقال: المراد بالتفسير العلمي: هو اجتهاد المفسر في كشف الصلة بين آيات القرآن الكريم الكونية ومكتشفات العلم التجريبي على وجه يظهر به إِعجاز للقرآن يدل على مصدره وصلاحيته لكل زمان ومكان".
- ثم شرح عبارات تعريفه بقوله:
( ولا شك أن وصفه بـ " اجتهاد المفسر" يدخل في التفسير العلمي المقبول والمرفوض ؛ لأن المجتهد قد يخطئ وقد يصيب.وقولنا " الربط " ليشمل ما هو تفسير وما هو من قبيله كالاستئناس بالآية في قضية من قضاياه ونحو ذلك..
وقولنا " العلم التجريبي " يخرج بقية العلوم الكلامية والفلسفية ونحوها، وقولنا " على وجه " لبيان ثمرته.وقولنا " يدل على مصدره " نقصد به أنه إِذا ما ثبت هذا التوافق بين نصوص القرآن الكريم وحقائق العلوم ولم يقع أي تعارض بين نص قرآني وحقيقة علمية مهما كانت جدتها وحداثتها، فإِنه لا يمكن أن يقول مثل هذه النصوص بشر قبل اكتشافها بقرون، ولا بد من أن يكون المتكلم بها هو موجد هذه الحقائق ومكونها وهو الله سبحانه وتعالى.وقولنا " وصلاحيته لكل زمان ومكان " نقصد به أنه صالح لكل عصر لا تأتي عليه الأيام ولا الحدثان بما يبطل شيئًا منه فهو صالح لكل عصر وأوان.
هذا ما ظهر لي الآن من المعنى المراد به.( والله أعلم ).أ.هـ [11]
ولا يخلو هذا التعريف الذي ذكره الدكتور الفاضل فهد الرومي من وجهة نظر ففيه طول، وفي وصف الآيات القرآنية بالكونية تضييق لمجاله.كما أن لفظة " الربط " الواردة في شرح التعريف لم ترد في عبارات التعريف نفسه ولعل المراد لفظة " الصلة".
ولعل التعريف الأيسر والأخصر والذي ينبغي أن يكون عليه الحال.أن يقال عنه بأنه (تفسير القرآن الكريم بحقائق العلم التجريبي).
لكن ربما أراد المعرفون الآخرون له تعريفه على ما هو عليه لا تعريفه بما ينبغي أن يكون عليه.
مذاهب الناس في هذا النوع من التفسير:
تنوعت مذاهب العلماء والدارسين في هذا النوع من التفسير واختلفت مواقفهم منه بين مؤيدين ومعارضين على وجه الإِطلاق أو التقييد، حتى إِنه ليكاد يكون لكل واحد رأيه الخاص به بما يضيفه من شروط ويذكره من قيود.
وقد قسمت الدكتورة هند شلبي مواقف العلماء تجاه هذا الموضوع إِلى أربعة أصناف:
1 - المعارضون مطلقًا مع عدم التحيز إِلى العلم.
2 - المعارضون مطلقًا مع التحيز إِلى العلم.
3 - المؤيدون مطلقًا.
4 - المؤيدون المحترزون[12]
وبعيدًا عن كثرة التشعيب والتقسيم سوف أعرض لآراء العلماء مقسمًا لها إِلى نوعين: المعارضين لهذا التوجه، والمؤيدين له: -
1 - المعارضون:
المعارضون لهذا التوجه في التفسير كثيرون قدماء ومحدثين منهم:
1 - أبو حيان الأندلسي ( ت 745 هـ ) في البحر المحيط.
2 - أبو إِسحاق: إِبراهيم بن موسى الشاطبي ( ت 790 هـ ) في الموافقات.
3 - محمود شلتوت في: تفسير القرآن الكريم، ومجلة الرسالة.
4 - أمين الخولي.في: التفسير نشأته، تدرجه، تطوره، وفي دائرة المعارف الإِسلامية.
5 - محمد حسين الذهبي.في: التفسير والمفسرون.
6 - محمد عزة دروزة.في: التفسير الحديث.
7 - شوقي ضيف.في: تفسير سورة الرحمن وسور قصار.
8 - محمد رشيد رضا[13] في: تفسير المنار.
9 - عباس محمود العقاد.في: الفلسفة القرآنية.
10 - عائشة عبد الرحمن ( بنت الشاطئ ).في: القرآن وقضايا الإِنسان.
11 - محمد كامل حسين.في: الذكر الحكيم.
12 - صبحي الصالح.في: معالم الشريعة الإِسلامية.
13 - أحمد محمد جمال.في كتابه: على مائدة القرآن مع المفسرين والكتاب.
14 - عبد المجيد المحتسب.في: اتجاهات التفسير في العصر الراهن.
15 - أحمد الشرباصي.في: قصة التفسير.
16 - إِسماعيل مظهر.في: عدة مقالات له في جريدة الأخبار[14]
17 - سيد قطب.في: ظلال القرآن[15]
وهؤلاء المعارضون تختلف عباراتهم في قسوة انتقادها لهذا التوجه بين متشدد ومعتدل.ويجمعها كلها الرفض له.والاعتراض عليه وعدم القبول به.
فقد عد أبو حيان - في معرض نقده للفخر الرازي - توسع العلماء في مباحث العلوم الأخرى عند تفسير القرآن الكريم، فضولا في العلم.وقسا فجعله: "من التخليط والتخبيط في أقصى الدرجة "[16]
وأعلن أمين الخولي معارضته لهذا التوجه في رسالته الصغيرة عن التفسير بمبحث عَنْوَنَهُ بـ " إِنكار التفسير العلمي " نبه فيه على قدم هذا الاتجاه، وقدم معارضته والاعتراض عليه.
ومثله فعل الشيخ محمد حسين الذهبي [17]
وعد الأستاذ عباس محمود العقاد مؤيدي هذا الصنف من التفسير: "من الصديق الجاهل لأنهم يسيئون من حيث يقدرون الإِحسان، ويحملون على عقيدة إِسلامية وزر أنفسهم وهم لا يشعرون"[18]
وقالت الدكتورة عائشة عبد الرحمن بأن هذا المسلك ضحك على العقول ببدع من التأويلات تقدم للناس من القرآن كل علوم الدنيا وعصريات التكنولوجيا[19]
ويقول د.شوقي ضيف: "وقد تلت الشيخ الإِمام [محمد عبده] تفاسير كثيرة منها ما اهتدى بهديه ومنها ما خاض في مباحث علمية كنت ولا أزال أراها تجنح عن الجادة إِذ القرآن فوق كل علم.ومن الخطأ أن يتخذ ذريعة لإِثبات نظريات علمية في الطبيعة والعلوم الكونية والفلكية وهو لم ينزل لبيان قواعد العلوم ولا لتفسير ظواهر الكون وما ذكر فيه من خلق السماوات والأرض والأفلاك والكواكب إِنما يراد به بيان حكمة الله وأن للوجود خالقًا أعلى يدبره وينظم قوانينه ولا ريب في أن القرآن يدعو أتباعه دعوة عامة إِلى العلم والتعلم للعلوم الرياضية والطبيعية والكونية.ولكن هذا شيء والتحول بالقرآن إِلى كتاب تستنبط منه النظريات العلمية شيء آخر لا يتصل برسالته ولا بدعوته.إِنه دين لهداية البشرية يزخر بما لا يحصى من قيم روحية واجتماعية وإِنسانية وحسب المفسر أن يعنى ببيان ما فيه من هذه القيم ومن أصول الدين الحنيف وتعاليمه التي أضاءت المشارق والمغارب أضواء غامرة "[20]
وقد وصف محمد كامل حسين هذا النوع من التفسير بأنه " بدعة حمقاء " بل جعل هذا الوصف وسما لفصل هو " التفسير العلمي بدعة حمقاء " وقال عنه مرة أخرى بأنه " التفسير الحرباوي " إِشارة إِلى تغيره بتغير العلوم كما تغير الحرباء جلدها.
بل قسا وبالغ فجعله دليلا على ضعف إِيمان الذاهبين إِليه والقائلين به حين قال:
".. والذين يفسرون الآيات الكونية تفسيرًا علميًّا يدلون بذلك على ضعف إِيمانهم ولو كانوا مؤمنين حقًّا ما كانت بهم حاجة إِلى شيء من ذلك يقوي به إِيمانهم فليس مقصودًا بالآيات الكونية غير الوعظ والتفسير الحق الذي هو يقربها من أذهاننا تقريبًا يؤدي إِلى الموعظة والعبرة وكل تعمق في تصويرها تصويرًا واقعيًّا هو بدعة حمقاء "[21].
أدلة المعارضين وأسباب المعارضة:
يقدم المعارضون بعض الاستدلالات، ويوردون بعض التخوفات والاعتراضات لمنع هذا النوع من التفسير، يمكن جمع أظهرها وأشهرها بالآتي:
أولا: إِن للتفسير شروطًا وقيودًا وضوابط يسير عليها قررها العلماء ينبغي لمن يتصدى لتفسير القرآن الكريم أن يكون قد عرفها وأحاط بها ليأتي الأمور من أبوابها.فلا يكون القرآن الكريم حمى مباحًا لكل من حصّل علمًا وحفظ شيئًا فنسي أنه قد غابت عنه أشياء.
ومن شروط ذلك: التمكن من العربية فتفسر ألفاظ القرآن الكريم بما تدل عليه لغة العرب، دون تزيّد في تحميل الألفاظ ما لا تحتمله فيستنبط منها ما لا تدل عليه ولا ترشد إِليه فللألفاظ معانيها المحددة ودلالاتها الخاصة التي وضعت لها وهذا يمنع التوسع العجيب في فهم ألفاظ القرآن وجعلها تدل على معانٍ وإِطلاقات لم تعرف لها ولم تستعمل فيها.أو إِن كانت تلك الألفاظ قد استعملت في شيء منها فباصطلاح حادث في الملة بعد نزول القرآن بأجيال[22]
ثم إِن هذا التفصيل العلمي المستقى من العلوم في عهودها المتأخرة هل هو من مدلولات ألفاظ الآيات أو لا ؟
إِن كان من مدلولات ألفاظ الآيات فكيف لم يفهمه العرب الخُلَّصُ الذين نزل عليهم وبلغتهم.وإِن كانوا فهموه فلماذا لم تقم نهضتهم العلمية التجريبية على هذه الآيات الشارحة والمفصلة لهذه الحقائق والنظريات العلمية المفهمة لدقائقها.
وإِن كانت لم تفهم منها ولم تدل عليها ولم يدركها أصحاب اللغة الخلص في زمن نزولها - كما واقع الحال - فكيف تكون هي معاني القرآن المرادة له والمقصودة منه ؟ ! وكيف يصح تفسيره بها.
وأين بلاغة القرآن حينئذ والبلاغة كما يقولون: هي مطابقة الكلام لمقتضى الحال[23]
" والقرآن الكريم قد نزل بلسان العرب على قوم يفهمونه وأمر الله نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بشرحه وتبيانه والنظريات الحديثة لم تكن معلومة ولا مكشوفة ولا يصح
لمسلم مهما حسنت نيته أن يدعي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يكن يعرف جميع ما تضمنته آيات القرآن "[24]
وليس فيما ورد عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا فيما ورد عن أصحابه ما يؤيد هذا الاتجاه أو يدل عليه [25]
ثانيًا: إِن القرآن الكريم إِنما هو كتاب هداية للبشرية كما قال جل وعلا:
{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ}[26]
وليس بكتاب تفصيل لنظريات العلوم ودقائق الفنون وأنواع المعارف من فلك وطب وهندسة وخلافها وأن تطلّب تفصيل ذلك في القرآن الكريم إِنما هو سوء فهم لطبيعة هذا القرآن ووظيفته.
" فلا حاجة بالقرآن الكريم إِلى مثل هذا الادعاء لأنه كتاب عقيدة يخاطب الضمير وخير ما يطلب من كتاب العقيدة في مجال العلم أن يحث على التفكير ولا يتضمن حكمًا من الأحكام يشل حركة العقل أو يحول بينه وبين الاستزادة من العلوم ما استطاع حيثما استطاع.وكل ذلك مكفول للمسلم في كتابه كما لم يكفل قط في كتاب من كتب الأديان "[27]
ثالثًا: إِن هذا اللون من التفسير يعرِّض القرآن للدوران مع أنواع المعارف ونظريات العلوم وهي أمور لا يقر للكثير منها قرار فقد يهدم العلم في الغد ما يراه اليوم من المسلمات فالعلوم الإِنسانية تتجدد مع الزمن على ما هو مقتضى سنة التقدم.
" فلا تزال بين ناقص يتم، وغامض يتضح، وموزع يتجمع، وخطأ يقترب من الصواب، وتخمين يترقى إِلى اليقين.ولا يندر في القواعد العلمية أن تتقوض بعد رسوخ، أو تتزعزع بعد ثبوت.. ويستأنف الباحثون تجاربهم فيها بعد أن حسبوها من الحقائق المفروغ منها عدة قرون " [28]
فلو طبقنا القرآن على هذه المسائل العلمية المتقلبة لعرضناه للتقلب معها وتحمل تبعات الخطأ فيها، وأوقفنا القرآن وأنفسنا مواقف الحرج[29]
رابعًا: إِن هذا المسلك ينطوي على معانٍ عدة لا تليق بجلال القرآن الكريم وكماله، أستأذنك في أن أنقلها لك بعبارة سيد قطب الأدبية الندية.وإِن كان في بعض ما ذكره تكرار لما سبق تقريره.
أولى تلك الأمور فيما قال: "هي الهزيمة الداخلية التي تخيل لبعض الناس أن العلم هو المهيمن والقرآن تابع ومن هنا يحاولون تثبيت القرآن بالعلم.أو الاستدلال له من العلم.على حين أن القرآن كتاب كامل في موضوعه ونهائي في حقائقه.والعلم ما يزال في موضوعه ينقض اليوم ما أثبته بالأمس.وكل ما يصل إِليه غير نهائي ولا مطلق ؛ لأنه مقيد بوسط الإِنسان وعقله وأدواته وكلها ليس من طبيعتها أن تعطي حقيقة واحدة نهائية مطلقة.
والثانية: سوء فهم طبيعة القرآن ووظيفته، وهي أنه حقيقة نهائية مطلقة تعالج بناء الإِنسان.
والثالثة: هي التأويل المستمر - مع التمحل والتكلف لنصوص القرآن كي نحملها ونلهث بها وراء الفروض والنظريات التي لا تثبت ولا تستقر وكل يوم يجد فيها جديد "[30]
ويبين الشيخ محمود شلتوت جوانب الخطأ في هذا الاتجاه فيقول:
"هذه النظرة للقرآن خاطئة من غير شك لأن الله لم ينزل القرآن ليكون كتابًا يتحدث فيه إِلى الناس عن نظريات العلوم، ودقائق الفنون وأنواع المعارف وهي خاطئة من غير شك لأنها تحمل أصحابها والمغرمين بها على تأويل القرآن تأويلا متكلفًا يتنافى مع الإِعجاز ولا يسيغه الذوق السليم.
وهي خاطئة، لأنها تعرض القرآن للدوران مع مسائل العلوم في كل زمان ومكان
والعلوم لا تعرف الثبات ولا القرار الأخير، فقد يصح اليوم في نظر العلم ما يصح غدًا من الخرافات..."[31]
خامسًا: إِن في هذا المسلك خطأ منهجيًّا لأن حقائق القرآن الكريم قطيعة نهائية بخلاف ما يصل إِليه الإِنسان من حقائق فإِنها غير قطعية ولا نهائية ففيها النقص والخطأ، فلا يصح تعليق تلك بهذه تعليق تطابق وتصديق[32].
سادسًا: إِن إِدخال التفسيرات العلمية على الإِشارات القرآنية وبالصورة التي جرى عليها بعض الكتاب والعلماء لا بد أن يفضي عما قريب أو بعيد إِلى صراع بين الدين والعلم [33]
يضاف لما سبق الرد على المجيزين لهذا المنهج والمؤيدين له في تمسكهم بظواهر بعض النصوص ك قَوْله تَعَالَى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ}[34]
وقَوْله تَعَالَى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ}[35]
ومثل فواتح السور الواردة في القرآن الكريم فهي مما لم يعهده العرب.
فقد أجاب عن هذه الاستدلالات الشاطبي في الموافقات بقوله: " فأما الآيات فالمراد بها عند المفسرين ما يتعلق بحال التكليف والتعبد أو المراد بالكتاب في قوله {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ}[36] اللوح المحفوظ ولم يذكروا فيها ما يقتضي تضمنه لجميع العلوم النقلية والعقلية.
ثم قال: وأما فواتح السور فقد تكلم الناس فيها بما يقتضي أن للعرب بها عهدًا كعدد الجُمّل [37] الذي تعرّفوه من أهل الكتاب حسبما ذكره أصحاب السير.
أو هي من المتشابهات التي لا يعلم تأويلها إِلا الله تعالى.وغير ذلك.
وأما تفسيرها بما لا عهد به فلا يكون ولا يدعيه أحد ممن تقدم فلا دليل فيها على ما ادعوا.
ثم قال: فليس بجائز أن يضاف إِلى القرآن ما لا يقتضيه كما أنه لا يصح أن ينكر منه ما يقتضيه، ويجب الاقتصار في الاستعانة على فهمه على كل ما يضاف علمه إِلى العرب خاصة فبه يوصل إِلى علم ما أودع من الأحكام الشرعية، فمن طلبه بغير ما هو أداة له ضل عن فهمه وتقول على الله ورسوله فيه.والله أعلم وبه التوفيق.
بهذه العبارات ينقض الشاطبي تلك الاستدلالات ويوجهها مبينًا رأيه فيها.
تلخيص:
يمكن أن نلخص تلك الأدلة والأسباب بما يلي:
1 - التقيد بفهم معاني الألفاظ بدلالة اللغة وحدود استعمالها وقت نزول القرآن وعدم التوسع في ذلك.ولذا لم يرد هذا النوع من التفسير عن السلف.
2 - أن توسيع دلالة الألفاظ إِلى أوسع مما يعرفه العرب قديمًا يؤدي إِلى عدم بلاغة القرآن لعدم مراعاة مقتضى الحال حينئذ.
3 - أن مهمة القرآن الكريم دينية اعتقادية وليست علمية.
4 - أن هذا المسلك عما قريب أو بعيد سوف يؤدي إِلى الصراع بين الدين والعلم.
5 - ما يؤدي إِليه هذا المسلك من التأويل المتكلف الذي لا يسيغه الذوق السليم ويتنافى مع إِعجاز القرآن.
6 - أن في هذا المسلك تعريضًا للقرآن الكريم لكثرة التأويلات وتغيرها بتغير العلوم وتطورها نظرًا لعدم استقرار المسائل العلمية.
7 - أن التفسير العلمي بدعة حمقاء ودفاع فاسد عن القرآن الكريم من كل وجه.
8 - أن هذا النوع من التفسير يعارض اليسر الذي ينبغي أن تتصف به الشريعة الإِسلامية [38].
9 - عدم فهم الآيات والآثار التي قد يفهم منها هذا المنحى على وجهها الصحيح.
ــــــــ الحواشي : -----------
[1] إِحياء علوم الدين لأبي حامد الغزالي ( 1 / 290 ).
[2] المصدر السابق.
[3] جواهر القرآن ص ( 21 )، وانظر التفسير والمفسرون للذهبي ( 2 / 475 ).
[4] انظر: البرهان في علوم القرآن للزركشي ( 2 / 181 ).
[5] انظر الإِتقان في علوم القرآن للسيوطي ( 4 / 30 ).
[6] التفسير، نشأته، تدرجه، تطوره: أمين الخولي ص ( 49 )، دائرة المعارف الإِسلامية ( 9 / 420 ).
[7] انظر التفسير والمفسرون ( 3 / 140 ).
[8] انظر: لمحات في علوم القرآن واتجاهات التفسير، محمد الصباغ ص ( 203 ).
[9] انظر اتجاهات التفسير في القرن الرابع عشر الهجري، د.فهد الرومي ( 2 / 548 )، ورسالة التفسير العلمي للقرآن الكريم، دراسة وتقويم عبد الله الأهدل.
[10] التفسير العلمي للقرآن الكريم، دراسة وتقويم عبد الله الأهدل ص ( 15 ).
[11] اتجاهات التفسير في القرن الرابع عشر الهجري للدكتور فهد الرومي ( 2 / 549 ).
[12] انظر: التفسير العلمي للقرآن الكريم بين النظريات والتطبيق د.هند شلبي ص ( 16 ).
[13] عده الدكتور فهد الرومي في كتابه القيم اتجاهات التفسير في القرن الرابع عشر ( 2 / 567 ) من المؤيدين لهذا التوجه في التفسير .
وعده الدكتور عبد المجيد المحتسب في كتابه اتجاهات التفسير في العصر الراهن ص ( 302 ) من المنكرين لذلك.وبتأمل ما ساقه كل منهما من نصوص استشهد بها على مراده يظهر أن الشيخ رشيد رضا وإِن كان تلميذًا للشيخ محمد عبده أنه أقرب إِلى الإِنكار منه إِلى التأييد، ومن عبارة الدكتور فهد أن رشيد رضا يجعل هذا نوعًا من أنواع إِعجاز القرآن.وقد سبق وأن فرق لنا الدكتور فهد بين التفسير العلمي والإِعجاز العلمي للقرآن، وأن الثاني مسلم به دون نكير.بخلاف الأول .
ثم إِن الشيخ رشيد رضا قد نعى على المتوسعين في مباحث الإِعراب وقواعد النحو ونكت المعاني وجدل المتكلمين وتخريجات الأصوليين واستنباطات الفقهاء المقلدين وتأويلات المتصوفين بحيث حجب هذا التوسع أثر القرآن وصد عن قصده .
وانتقد الفخر الرازي في مسلكه ثم قال: " وقلده بعض المعاصرين بإِيراد مثل ذلك من علوم هذا العصر وفنونه الكثيرة الواسعة، فهو يذكر فيما يسميه تفسير الآية فصولا طويلة بمناسبة كلمة مفردة كالسماء والأرض من علوم الفلك والنبات والحيوان تصد قارئها عما أنزل الله لأجله القرآن، نعم إِن أكثر ما ذكر من وسائل فهم القرآن: فنون العربية لا بد منها، واصطلاحات الأصول وقواعده الخاصة بالقرآن ضرورية كقواعد النحو والمعاني وكذلك معرفة الكون وسنن الله تعالى فيه كل ذلك يعين على فهم القرآن ".تفسير المنار ( 1 / 7، ط 4 ).
[14] جريدة الأخبار في ( 17 / 11 / 1961م ) وانظر: الفكر الديني في مواجهة العصر د.عفت محمد الشرقاوي ص ( 425 ) .
وانظر: -
1 - اتجاهات التفسير في القرن الرابع عشر الهجري د.فهد الرومي ( 2 / 578 - 600 ) .
2 - اتجاهات التفسير في العصر الراهن د.عبد المجيد المحتسب ص ( 295 ).
[15] أفاض سيد قطب - رحمه الله - في الحديث عن هذا.فقد وصف حقائق القرآن الكريم بأنها نهائية ووصف ما يصل إِليه الإِنسان ببحثه وجده بأنها حقائق غير نهائية ولا قطعية وجعل تعليق الحقائق القرآنية النهائية بحقائق غير نهائية ولا قطعية خاصة تعليق تطابق وتصديق خطأ منهجي هذا إِذا كانت حقائق.وأما إِذا كانت فرضيات ونظريات فإِضافة إِلى خطئها المنهجي فإِنها تنطوي وتوحي بمعان غير مقبولة فهي توحي بـ:
1 - الهزيمة الداخلية التي تخيل لبعض الناس أن العلم هو المهيمن والقرآن تابع .
2 - سوء فهم طبيعة القرآن ووظيفته .
3 - التأويل المستمر مع التمحل والتكلف لنصوص القرآن كي تحمل، ويلهث بها وراء الفروض والنظريات المتعددة والمتغيرة لكنه مع هذا الرأي أيد الانتفاع بالكشوف العلمية في توسيع مدلول الآيات القرآنية وتعميقها.
[16] البحر المحيط ( 1 / 341 ).
[17] التفسير والمفسرون ( 3 / 140 ).
[18] الفلسفة القرآنية ص ( 16 ).
[19] القرآن وقضايا الإِنسان د.عائشة عبد الرحمن ص ( 426 ).
[20] سورة الرحمن وسور قصار د.شوقي ضيف ص ( 10 ).
[21] الذكر الحكيم، محمد كامل حسين ص ( 59 ).واتجاهات التفسير في القرن الرابع عشر، د.فهد الرومي ( 2 / 588 ).
[22] التفسير : نشأته ، تدرجه ، تطوره ، أمين الخولي ص (60).
[23] التفسير : نشأته ، تدرجه ، تطوره ، أمين الخولي ص (60).
[24] التفسير الحديث، محمد عزة دروزة ( 2 / 7 ).
[25] اتجاهات التفسير في العصر الراهن د.عبد المجيد المحتسب ص ( 317 ).
[26] سورة الإسراء / 9
[27] الفلسفة القرآنية، عباس محمود العقاد ص ( 15 ).
[28] المصدر السابق.
[29] تفسير القرآن الكريم، الشيخ محمود شلتوت ص ( 11 ) . وانظر: التفسير الحديث، محمد عزة دروزة 2 / 7.ومعالم الشريعة الإِسلامية د.صبحي الصالح ص ( 291 ).
[30] في ظلال القرآن، سيد قطب 1 / 176.
[31] تفسير القرآن الكريم، الشيخ محمود شلتوت ص11
[32] في ظل القرآن، سيد قطب 1 / 176.
[33] الفكر الديني في مواجهة العصر، د.عفت الشرقاوي ص ( 426 ) في مقام عرضه لرأي إِسماعيل مظهر عن جريدة الأخبار بتاريخ 17 / 11 / 1961 م.
[34] سورة الأنعام / 38
[35] سورة النحل / 89
[36] سورة الأنعام / 38
[37] بضم الجيم وتشديد الميم، وهو اسم حساب مخصوص مبناه على كلمات أبجد هوز حطي كلمن سعفص قرشت ثخذ ضظغ.كل حرف منها يدل على رقم فالحرف من الألف إِلى الطاء للآحاد ومن الياء إِلى الصاد للعشرات ومن القاف إِلى الظاء للمئات وحرف الغين آخرها يمثل ألف ( 1000 ) وهو قول مردود ورد فيه حديث ضعيف من رواية الكلبي.قال ابن كثير من زعم ذلك فقد أدعى ما ليس له وطار في غير مطاره .
انظر: تفسير ابن كثير 1 / 38، وتاج العروس مادة جمل 7 / 364، وكشاف اصطلاحات الفنون للتهانوي2 / 11.
[38] انظر: التفسير العلمي للقرآن الكريم، دراسة وتقويم عبد الله الأهدل، رسالة ماجستير - كلية أصول ( ص 194 ) والتفسير العلمي للقرآن الكريم بين النظريات والتطبيق د.هند شلبي ص ( 63 - 69 ).