علال بوربيق
New member
- إنضم
- 06/03/2006
- المشاركات
- 253
- مستوى التفاعل
- 0
- النقاط
- 16
بسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله
سمعت الشيخ محمد الغزالي رحمه الله يقول:" ما دامت اليهود جاثمة على أرض فلسطين، فإن المسلمين لم يحسنوا بعد قراءة سورة الاسراء "
[align=right]الآية الأولى من هذه السورة تضمنت قصة الإسراء، ثم عاد التاريخ القهقري ليذكر بنى إسرائيل وما عرض لهم أثناء إقامتهم الأولى في فلسطين.
لقد أوتوا التوراة دينا ودولة، والمرتقب منهم ومن أمثالهم إذا أقاموا حكومة دينية أن تكون صورة للنظام لا للفوضى، وللعدالة لا للجور، لكن بني إسرائيل الذين عانوا كثيراً تحت وطأة الاستبداد الفرعوني لم يلبثوا طويلاً حتى جدّدوا سيرة الفراعنة الأولين، فعاثوا في الأرض فسادا، ولم يكن بدٌّ من تأديبهم. ويشرح القرآن الكريم أن العجز الإداري والخلقي في سلطة بلد ما ينتهي بزوال هذه السلطة، وقدوم آخرين من الخارج ليتولّوا هم الحكم، ويعاقبوا العابثين، قال تعالى: "وَقَضَيْنَآ إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي ٱلْكِتَابِ " يعني سجلات العلم الأبدي " لَتُفْسِدُنَّ فِي ٱلأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ ٱلدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَّفْعُولاً "[4-5]
إن الدولة التي تختلّ أمورها تُحْتَلّ أرضها، وتفقد استقلالها وحريتها... إن الفساد والاستعلاء لا يتصوران في حكم يقوم على الوحي وينتسب إلى السماء، ولذلك فإن عقوبة أهله تكون شديدة، استعمار أجنبي يقوم على الإذلال والاضطهاد، حتى إذا استقام المعوج وعاد إلى أدبه واصطلح مع ربه عادت إليه مكانته وكرامته "ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ ٱلْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً " [6]. وليس ما يقع مكافأة أنهت المأساة. إنه اختبار جديد، وعلى الشعوب أن تعى وترعوى "إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا..."[7]][/color.ويظهر أن اليهود أدمنوا المرض، واستمرأوا العلل، فلا تكاد أحوالهم تستقيم عصراً حتى يحنّوا إلى عبثهم ومظالمهم، ويتجدد العقاب، وتتجدد التوبة " وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً " [8]. يقول التاريخ: إن الإفسادة الأولى أعقبها تدمير الآشوريين لدولة اليهود وهدمهم لهيكل سليمان. ثم قامت الدولة ثانية، وعادت إلى الإفساد فهاجمها الرومان وتكررت العقوبة، وبقى اليهود دهراً طويلاً بلا دولة!!.ثم شاء الله أن يقلد المسلمون اليهود، وأن يفسدوا دولة الوحي بأهوائهم! وكانت عقوبة القدر هذه المرة أن يقيم بنو إسرائيل دولة على أنقاض العرب الذي تخلَّوْا عن القرآن، واخلدوا إلى الأرض.والصراع القائم اليوم غريب، لأنه بين المسلمين تخلَّوا عن مواريث السماء، واستهوتهم نزعات جنسية!! وبين يهود يرفعون راية التوراة، ويعظمون يوم السبت.ونعود إلى سورة الإسراء لنلحظ فيها أمراً تفردت به، وهو أن كلمة "القرآن" تكررت نحو إحدى عشرة مرة.
(1) "إِنَّ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً " [9].
(2) " وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُواْ وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً " [41]
(3) " وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي ٱلْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْاْ عَلَىٰ أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً " [46]
يقول جل شأنه قبل ذلك:
(4) "وَإِذَا قَرَأْتَ ٱلْقُرآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ حِجَاباً مَّسْتُوراً " [45]
(5) " وَمَا جَعَلْنَا ٱلرُّؤيَا ٱلَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ وَٱلشَّجَرَةَ ٱلْمَلْعُونَةَ فِي ٱلقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَاناً كَبِيراً " [60]
(6) و(7) " وَقُرْآنَ ٱلْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ ٱلْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً " [78]
(8) " وَنُنَزِّلُ مِنَ ٱلْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ ٱلظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَاراً " [82]
(9) " قُل لَّئِنِ ٱجْتَمَعَتِ ٱلإِنْسُ وَٱلْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً " [88]
(10) "وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَىٰ أَكْثَرُ ٱلنَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً " [89]
(11) " وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى ٱلنَّاسِ عَلَىٰ مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً " [106]
إن سورة بني إسرائيل انفردت بهذه الخاصة علّ المسلمين يفقهون أن القرآن الذي صنع أمتهم قديما قدير على أن يصبَّهم في قوالب السيادة والقيادة مرة أخرى، وعلى أن ينتزع من نفوسهم حب الدنيا وكراهية الموت، ويهب لهم قلوباً شجاعة تفتدي الحق وتحرص على لقاء الله!!.أحياناً يكون الجهل عذرّاً مخففا، أما التجاهل والاستكبار على الحق وإيثار العمى على الهدى فهو ذريعة غضب هائل.
وقديماً سلط الله عبدة الأوثان على بني إسرائيل، لأنهم لم يقدروا كتابهم قدره، فليس عجيباً أن يسلط على المسلمين بعد ما أهملوا القرآن من لا يقيم لهم وزناً أو يعرف لهم حقاً.
وطريق العودة واضح:لابد من عقيدة وشريعة وأخلاق ومعاملات تتفجر من ينابيع القرآن، ويحيا بها المسلمون من جديد،حياة تجعلهم أمة الوحي، وصلة السماء بالأرض.والإنسان لا يشبّ في يوم، والحضارة لا تزدهر في شهر، والنتائج تتحقق وفق قوانين مضبوطة تتم مع كرّ الغداة ومر العشىّ.
ومهما دعا المؤمن فلابد من الصبر على سنن الله الكونية. "وَيَدْعُ ٱلإِنْسَانُ بِٱلشَّرِّ دُعَآءَهُ بِٱلْخَيْرِ وَكَانَ ٱلإِنْسَانُ عَجُولاً " [11].ورعاية للزمان وخضوعاً له جاء الحديث عنه في الآية اللاحقة: "وَجَعَلْنَا ٱلْلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَآ آيَةَ ٱلْلَّيْلِ وَجَعَلْنَآ آيَةَ ٱلنَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ ٱلسِّنِينَ وَٱلْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً " [12].ومع سير الزمن تقوم دول وتنهزم أخرى، ويعلو أمر اليهود ويسفل، كما أبان الوحي أول السورة، وكذلك تتقلب الدنيا بغيرهم من الناس. لكن الإنسان هو المسئول الأول عن نفسه، إذا عقل فقد اتخذ القرار السليم، وإن شرد هوى " مَّنِ ٱهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ..." [15].وهذا قانون للأفراد والشعوب، [color=#497418وإن كشف القرآن الكريم هنا أن الترف أول مظاهر الفساد في الأمة، وأن المترفين هم الجراثيم الحاملة والناقلة للمرض، وأن مطاوعتهم خطوة إلى الهاوية " وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا ٱلْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً " [16[/color] والحضارات القائمة على الدين تظل معتصمة به، وحاملة لواءه ما ظلّت بعيدة عن الترف والمراسم الفارغة، وقسوة القلب.ويتم لها ذلك إذا حدَّدت موقفها من الآخرة تحديداً واضحا " مَّن كَانَ يُرِيدُ ٱلْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ ..." [18].
ما نشاء لمن نريد!! عبارة صارمة، إن الله لا يُغلَب على أمره، ولا يُنال ما عنده إلا بإرادته، وما يملك أحد عليه شيئاً.. والتدين الكاذب لا يروج عند الله، وليست لأهله وجاهة، ويقول سبحانه هنا: " وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ ٱلْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ...." [17]. والحديث عن الأمم السابقة حتى بعثة محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ أما بعد ذلك فقد تحدثت آية أخرى عن مصاير المجرمين " وَإِن مِّن قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَاباً شَدِيداً كَانَ ذٰلِك فِي ٱلْكِتَابِ مَسْطُور"[58].
والكتاب فيما يبدو هو سِجِلُّ العلم الإلهي.. والتحذير لنا وللناس أجمعين. ما النجاة من هذه المصاير؟ تسوق سورة بني إسرائيل خلال صفحتين حافلتين جملة من الوصايا العظيمة تعصم الناس من الزلل، وتقودهم إلى الرشد، وتضمن لهم الرعاية الإلهية في الحاضر والمستقبل.
وتبدأ هذه الوصايا بقوله تعالى: " وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِٱلْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً..." [33].
وتنتهي بقوله: " ذَلِكَ مِمَّآ أَوْحَىٰ إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ ٱلْحِكْمَةِ وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهاً آخَرَ فَتُلْقَىٰ فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَّدْحُوراً " [39]. بدأت هذه النصائح بتوحيد الله وختمت كذلك بتوحيده، لأن القلب الذي يعنو لغير الله لا أمل فيه، والاستقامة الكاملة مربوطة بالتوحيد الكامل.
إن للجماعة المؤمنة شارات، يقول الله في الوالدين: " وَٱخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ ٱلذُّلِّ مِنَ ٱلرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ٱرْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً " [24]ويقول في الأقارب: " وَآتِ ذَا ٱلْقُرْبَىٰ حَقَّهُ وَٱلْمِسْكِينَ وَٱبْنَ ٱلسَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً " [26]. والتفسير الحق عندي أن المرء لا يجوز له التوسّع في النفقة والاستكثار من الكماليات، فإن ذلك تبذير يحصد ما لديه، ولا يبقى عنده فضلاً يعطيه قريباً أو بعيداً...وأكد القرآن الكريم هذا المعنى في قوله تعالى: " وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ ٱلْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً "[29].
وسياسة تقليل النسل لا تغنى عن الشعوب البليدة شيئاً! يجب أن تلتمس المفاتيح لخزائن الخيرات التي بثها الله هنا وهناك، والسماء لا تمطر القاعدين ذهبا ولا فضة.. "وَلاَ تَقْتُلُوۤاْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ " [31].
ونهى القرآن عن الزنا، والزنا عملة متداولة في الحضارة الحديثة، وهو أفضل من الكبت في مجال التربية عندهم، ولا يعاقب عليه قانوناً ما دام بالتراضي!! والله يقول: " وَلاَ تَقْرَبُواْ ٱلزِّنَىٰ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَآءَ سَبِيلاً " [32].ومع أن قتل النفس جريمة فالقانون لا يقتل القاتل... وقد حرمت عقوبة الإعدام في دول كثيرة! وأدى ذلك إلى شيوع القتل وسفك الدم الحرام " وَلاَ تَقْتُلُواْ ٱلنَّفْسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلاَّ بِٱلحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فِّي ٱلْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً " [33].وأمر الله الناس باحترام مال اليتيم وبالوفاء بالعهود، وبضبط المكاييل والموازين. ثم ذكر لكل إنسان أنه مسئول عن سمعه وبصره وقلبه، إنه مسئول عن كل شيء فيه، فلا يجوز أن يحيا فوضويا سائبا " وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ ٱلسَّمْعَ وَٱلْبَصَرَ وَٱلْفُؤَادَ كُلُّ أُولـٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً " [36]
ونهى القرآن أخيراً عن الخيلاء وذهاب المرء بنفسه " وَلاَ تَمْشِ فِي ٱلأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ ٱلأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ ٱلْجِبَالَ طُولاً..."[37].
إن هذه الوصايا تقيم الفرد المؤمن والشعب المؤمن، والحضارة الصالحة، ولن يهزم الله أمة تمسكت بهذه الخلال
ونظرت في سورة "سبحان" فإذا الله ـ جل شأنه ـ يخاطب المشركين بحديث عجب: "وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُواْ وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً . قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لاَّبْتَغَوْاْ إِلَىٰ ذِي ٱلْعَرْشِ سَبِيلاً * سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً . تُسَبِّحُ لَهُ ٱلسَّمَاوَاتُ ٱلسَّبْعُ وَٱلأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـٰكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً " [41-44]. ولست أحقِّقُ هنا: هل تسبيح الكائنات بحمد ربها دلالة حال أو دلالة مقال؟.
إن الكون ـ على أية حال ـ لا يقوم بنفسه، وإنما يقوم به الحيُّ القيوم!!.
وإذا صعب على مغفل أن يعرف الله، وأن يُقرّ بوحدانيته فلن يضرّ الله شيئاً، فكل شيء يسبح بحمده!...ومضت السورة تحدث المشركين عن الله الذي هجروه، واتخذوا الأصنام آلهة من دونه، إنهم ذاهلون تائهون، لا يحبون أن يسمعوا حديثاً عنه!..وهم يحسبون الرسول رجلاً مسحوراً، وهم يعتقدون أنه لا حياة إلا في هذه الدنيا، وتلك طبيعة الدواب! إن الدواب لا تشعر بغد قريب أو بعيد، إنها تعيش يومها وحَسْبُ، هي محبوسة وراء محيطه.والغريب أن العالم المعاصر لا يدري إلا هذا المنطق، وهو يشيعه في عالم الفن والغناء، وعالم القانون والفلسفة!! " وَقَالُوۤاْ أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً قُلْ كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً * أَوْ خَلْقاً مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ ٱلَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هُوَ قُلْ عَسَىٰ أَن يَكُونَ قَرِيباً يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً..." [49-52]والإنغاض: تحريك الرأس علوا وسفلاً إنكارا واستهزاء..وفي موضع آخر من السورة تكرر رفض المشركين للبعث والجزاء، فبيّن القرآن الكريم أن الإنسان امتاز على الدواب بعقله. فإذا فقد هذا العقل نظر ولم ير، سمع ولم يع، ونطق بالباطل، وفقد أهليته لهداية الله، وعَالَنَ بإنكاره لوجوده ولقائه:" وَمَن يَهْدِ ٱللَّهُ فَهُوَ ٱلْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً . ذَلِكَ جَزَآؤُهُم بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا وَقَالُواْ أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً * أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ ٱللَّهَ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ قَادِرٌ عَلَىٰ أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لاَّ رَيْبَ فِيهِ فَأَبَىٰ ٱلظَّالِمُونَ إَلاَّ كُفُوراً " [99].
وفي سورة بني إسرائيل لا غرابة أن يوصى الله المسلمين بإحسان القول، فليكن الإحسان في القول والتلطف في الدعوة شيمة الأمة الخاتمة! " وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ ٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ ٱلشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ ٱلشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّاً مُّبِيناً " [53].
وتلت ذلك إشارة إلى أن أمر المسلمين سوف يعلو حتى يرثوا الأرض، وذلك في قوله تعالى: " وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ ٱلنَّبِيِّينَ عَلَىٰ بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً " [55].
والحق أن التوحيد الذي تميزت رسالة الإسلام بتقريره، وتحمست لإشاعته، يربط الناس بربهم ربطاً شديداً، ويجعل عروتهم به وثيقة، ويقرر أن كل ما عدا الله عبدٌ له، مقهور في جلاله: " قُلِ ٱدْعُواْ ٱلَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ ٱلضُّرِّ عَنْكُمْ وَلاَتَحْويلًا. أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَىٰ رَبِّهِمُ ٱلْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً " [56-57]
واقتضى المقام هنا حديثاً عن آدم وبنيه! لقد كان آدم جديراً بأن يكون أفضل حالا ومآلا بعدما اصطفاه الله وأعلى شأنه، وأسجد له ملائكته.وكان بنوه جديرين بأن يكذبوا ظنون إبليس، بعد ما أفاء الله عليهم من نعمائه ما يلهج الألسنة بالشكر " وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ ٱلطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً..." [70]لكن آدم وَهَنَ عزمه، وأبناءه نسوا الجميل الذي يمرحون فيه، فلم يكن من مؤاخذتهم بدٌ، وجاء في هذا القرآن من شأنهم ما يثير الدهشة، فلنتدبره لنعرف كيف نفعل..؟!.إن الله منحنا العقول لنفكر ونحكم، ونميز الحسن من القبيح والطيب من الخبيث، وما قيمة عقولنا إذا لم نفعل ذلك؟.وعندما نقول لرجل: واحد وواحد تساوى اثنين، فيقول لك: لا أصدق حتى تنقل الجبل من مكانه، أفترى أن لهذا القائل منطقاً جديراً باحترام؟.
إن محمدا رسول الله بذل جهده في إثبات أن الله واحد، وأن وجوده الأعلى أصدق من كل وجود، فقيل له: بل أصنامنا أولى بالتقدير! وتحدَّوه أن يأتي بمعجزة تصدقه!.
لقد طلب أهل مكة من محمد أن يجعل الصفا ذهبا، حتى يصدقوا رسالته! فكيف إذا حوّل لهم الجبل إلى ذهب ثم ظلّوا على تكذيبهم؟ إنه مهلكهم يقينا، إن اللعب مع السماء لا يسوغ.
وفي سورة "الإسراء" يقول الله تعالى: " وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بِٱلآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا ٱلأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ ٱلنَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِٱلآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً " [59].على أن قريشا لم تطلب خارقة مَّا، بل حددت بضع خوارق عدَّتها عدّاً " وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ تَفْجُرَ لَنَا مِنَ ٱلأَرْضِ يَنْبُوعاً . أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ ٱلأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً . أَوْ تُسْقِطَ ٱلسَّمَآءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِٱللَّهِ وَٱلْمَلاۤئِكَةِ قَبِيلاً . أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَىٰ فِي ٱلسَّمَآءِ وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَراً رَّسُولاً " [93].
إن العناد ملك قلوبهم، وليس الكفر عَرَضا سريعا يمرّ ببعض الناس، إنه مزيج من الحسد والغباء، والطمع والأثرة، والبعد عن الكفر يتطلب عقلا واعيا، وحكما عادلا، وخلقا زاكيا
ومحمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ إمام أولى العزم الذين جاهدوا الضلال الأزمنة الماضية، وهو في الجزيرة العربية لن ينشغل بمآرب كفارها ومقترحاتهم، فرسالته العامة إصلاح الخلل في كل نفس، في أية قارة، إلى أن تقوم الساعة. ويزيد عبؤه جسامة إلى أنه يعتمد في نجاحه ـ بعد تأييد الله ـ على تحريك العقول وهزّ التقاليد، ومعالجة العوج البشري بالهوينى، حتى يسلس قياده! ويالها من مهمة!!.
إنهم يطلبون من محمد أن يجعل لهم مكانة خاصة إذا أراد أن يؤمنوا له!!.وقد ينفق من وقته واهتمامه الكثير ليعالج زعيما إذا آمن تبعته ألوف من الأنصار! وربما أخذ هذا الوقت من حق آخر فقير..!
وفي هذا يقول الله له: " وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ ٱلَّذِي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً . وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً . إِذاً لأذَقْنَاكَ ضِعْفَ ٱلْحَيَاةِ وَضِعْفَ ٱلْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً " [73-74-75].
إن سياسة الدعوة شيء، والانحرافات الخلقية شيء آخر، وقد عاتب الله نبيه لانشغاله بأحد الكبراء عن أحد الضعفاء. والسياق كله تنبيه إلى كيدهم وتحذير من ملاينتهم...وتلا ذلك كشف عن خباياهم وعما يبيتون لدعوة الإسلام من شرور " وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ ٱلأَرْضِ لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا وَإِذاً لاَّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً " [76]. إنهم أحرجوه في مكة كل الحرج، وكانوا قد رأوا إخراجه، ثم اختاروا قتله.وقد خرج الرسول مهاجرا، ونجاه الله من كيدهم، ولم يلبثوا إلا قليلاً بعده حتى انتصر الإسلام وعاد إلى مكة ظافرا.. وصدق الله وعده.
وبعد جهاد الدعوة جاء جهاد العبادة، فكلِّف الرسول بالصلاة ليلاً ونهاراً " أَقِمِ ٱلصَّلاَةَ لِدُلُوكِ ٱلشَّمْسِ إِلَىٰ غَسَقِ ٱلْلَّيْلِ وَقُرْآنَ ٱلْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ ٱلْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً " [78].
إن محمدا كلمة الله الأخيرة إلى الناس، واللبنة التي تم بها بنيان النبوات الأولى، وقد كان أهل الكتاب يشعرون بأن هناك نبيا قادما، ويجدون فيما لديهم ما يدعوا إلى ارتقابه وتصديقه.
فلما جاء سارع المخلصون إلى اتباعه، قال تعالى: " وَبِٱلْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِٱلْحَقِّ نَزَلَ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى ٱلنَّاسِ عَلَىٰ مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُوۤاْ إِنَّ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَآ إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً " [106-107-108][/align]والتاريخ العالمي يذكر أن نصارى الشام ومصر سارعوا إلى الدخول في الإسلام بعد زوال الاستبداد الروماني، ثم حملوه مع العرب إلى آفاق العالمين، مصداق هذه الآيات الكريمة، وإشارة بصدق هذا الجمهور الكبير من أهل الكتاب الذين أمنوا وأخلصوا.. ..
سمعت الشيخ محمد الغزالي رحمه الله يقول:" ما دامت اليهود جاثمة على أرض فلسطين، فإن المسلمين لم يحسنوا بعد قراءة سورة الاسراء "
[align=right]الآية الأولى من هذه السورة تضمنت قصة الإسراء، ثم عاد التاريخ القهقري ليذكر بنى إسرائيل وما عرض لهم أثناء إقامتهم الأولى في فلسطين.
لقد أوتوا التوراة دينا ودولة، والمرتقب منهم ومن أمثالهم إذا أقاموا حكومة دينية أن تكون صورة للنظام لا للفوضى، وللعدالة لا للجور، لكن بني إسرائيل الذين عانوا كثيراً تحت وطأة الاستبداد الفرعوني لم يلبثوا طويلاً حتى جدّدوا سيرة الفراعنة الأولين، فعاثوا في الأرض فسادا، ولم يكن بدٌّ من تأديبهم. ويشرح القرآن الكريم أن العجز الإداري والخلقي في سلطة بلد ما ينتهي بزوال هذه السلطة، وقدوم آخرين من الخارج ليتولّوا هم الحكم، ويعاقبوا العابثين، قال تعالى: "وَقَضَيْنَآ إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي ٱلْكِتَابِ " يعني سجلات العلم الأبدي " لَتُفْسِدُنَّ فِي ٱلأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ ٱلدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَّفْعُولاً "[4-5]
إن الدولة التي تختلّ أمورها تُحْتَلّ أرضها، وتفقد استقلالها وحريتها... إن الفساد والاستعلاء لا يتصوران في حكم يقوم على الوحي وينتسب إلى السماء، ولذلك فإن عقوبة أهله تكون شديدة، استعمار أجنبي يقوم على الإذلال والاضطهاد، حتى إذا استقام المعوج وعاد إلى أدبه واصطلح مع ربه عادت إليه مكانته وكرامته "ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ ٱلْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً " [6]. وليس ما يقع مكافأة أنهت المأساة. إنه اختبار جديد، وعلى الشعوب أن تعى وترعوى "إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا..."[7]][/color.ويظهر أن اليهود أدمنوا المرض، واستمرأوا العلل، فلا تكاد أحوالهم تستقيم عصراً حتى يحنّوا إلى عبثهم ومظالمهم، ويتجدد العقاب، وتتجدد التوبة " وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً " [8]. يقول التاريخ: إن الإفسادة الأولى أعقبها تدمير الآشوريين لدولة اليهود وهدمهم لهيكل سليمان. ثم قامت الدولة ثانية، وعادت إلى الإفساد فهاجمها الرومان وتكررت العقوبة، وبقى اليهود دهراً طويلاً بلا دولة!!.ثم شاء الله أن يقلد المسلمون اليهود، وأن يفسدوا دولة الوحي بأهوائهم! وكانت عقوبة القدر هذه المرة أن يقيم بنو إسرائيل دولة على أنقاض العرب الذي تخلَّوْا عن القرآن، واخلدوا إلى الأرض.والصراع القائم اليوم غريب، لأنه بين المسلمين تخلَّوا عن مواريث السماء، واستهوتهم نزعات جنسية!! وبين يهود يرفعون راية التوراة، ويعظمون يوم السبت.ونعود إلى سورة الإسراء لنلحظ فيها أمراً تفردت به، وهو أن كلمة "القرآن" تكررت نحو إحدى عشرة مرة.
(1) "إِنَّ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً " [9].
(2) " وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُواْ وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً " [41]
(3) " وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي ٱلْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْاْ عَلَىٰ أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً " [46]
يقول جل شأنه قبل ذلك:
(4) "وَإِذَا قَرَأْتَ ٱلْقُرآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ حِجَاباً مَّسْتُوراً " [45]
(5) " وَمَا جَعَلْنَا ٱلرُّؤيَا ٱلَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ وَٱلشَّجَرَةَ ٱلْمَلْعُونَةَ فِي ٱلقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَاناً كَبِيراً " [60]
(6) و(7) " وَقُرْآنَ ٱلْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ ٱلْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً " [78]
(8) " وَنُنَزِّلُ مِنَ ٱلْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ ٱلظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَاراً " [82]
(9) " قُل لَّئِنِ ٱجْتَمَعَتِ ٱلإِنْسُ وَٱلْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً " [88]
(10) "وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَىٰ أَكْثَرُ ٱلنَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً " [89]
(11) " وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى ٱلنَّاسِ عَلَىٰ مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً " [106]
إن سورة بني إسرائيل انفردت بهذه الخاصة علّ المسلمين يفقهون أن القرآن الذي صنع أمتهم قديما قدير على أن يصبَّهم في قوالب السيادة والقيادة مرة أخرى، وعلى أن ينتزع من نفوسهم حب الدنيا وكراهية الموت، ويهب لهم قلوباً شجاعة تفتدي الحق وتحرص على لقاء الله!!.أحياناً يكون الجهل عذرّاً مخففا، أما التجاهل والاستكبار على الحق وإيثار العمى على الهدى فهو ذريعة غضب هائل.
وقديماً سلط الله عبدة الأوثان على بني إسرائيل، لأنهم لم يقدروا كتابهم قدره، فليس عجيباً أن يسلط على المسلمين بعد ما أهملوا القرآن من لا يقيم لهم وزناً أو يعرف لهم حقاً.
وطريق العودة واضح:لابد من عقيدة وشريعة وأخلاق ومعاملات تتفجر من ينابيع القرآن، ويحيا بها المسلمون من جديد،حياة تجعلهم أمة الوحي، وصلة السماء بالأرض.والإنسان لا يشبّ في يوم، والحضارة لا تزدهر في شهر، والنتائج تتحقق وفق قوانين مضبوطة تتم مع كرّ الغداة ومر العشىّ.
ومهما دعا المؤمن فلابد من الصبر على سنن الله الكونية. "وَيَدْعُ ٱلإِنْسَانُ بِٱلشَّرِّ دُعَآءَهُ بِٱلْخَيْرِ وَكَانَ ٱلإِنْسَانُ عَجُولاً " [11].ورعاية للزمان وخضوعاً له جاء الحديث عنه في الآية اللاحقة: "وَجَعَلْنَا ٱلْلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَآ آيَةَ ٱلْلَّيْلِ وَجَعَلْنَآ آيَةَ ٱلنَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ ٱلسِّنِينَ وَٱلْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً " [12].ومع سير الزمن تقوم دول وتنهزم أخرى، ويعلو أمر اليهود ويسفل، كما أبان الوحي أول السورة، وكذلك تتقلب الدنيا بغيرهم من الناس. لكن الإنسان هو المسئول الأول عن نفسه، إذا عقل فقد اتخذ القرار السليم، وإن شرد هوى " مَّنِ ٱهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ..." [15].وهذا قانون للأفراد والشعوب، [color=#497418وإن كشف القرآن الكريم هنا أن الترف أول مظاهر الفساد في الأمة، وأن المترفين هم الجراثيم الحاملة والناقلة للمرض، وأن مطاوعتهم خطوة إلى الهاوية " وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا ٱلْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً " [16[/color] والحضارات القائمة على الدين تظل معتصمة به، وحاملة لواءه ما ظلّت بعيدة عن الترف والمراسم الفارغة، وقسوة القلب.ويتم لها ذلك إذا حدَّدت موقفها من الآخرة تحديداً واضحا " مَّن كَانَ يُرِيدُ ٱلْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ ..." [18].
ما نشاء لمن نريد!! عبارة صارمة، إن الله لا يُغلَب على أمره، ولا يُنال ما عنده إلا بإرادته، وما يملك أحد عليه شيئاً.. والتدين الكاذب لا يروج عند الله، وليست لأهله وجاهة، ويقول سبحانه هنا: " وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ ٱلْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ...." [17]. والحديث عن الأمم السابقة حتى بعثة محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ أما بعد ذلك فقد تحدثت آية أخرى عن مصاير المجرمين " وَإِن مِّن قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَاباً شَدِيداً كَانَ ذٰلِك فِي ٱلْكِتَابِ مَسْطُور"[58].
والكتاب فيما يبدو هو سِجِلُّ العلم الإلهي.. والتحذير لنا وللناس أجمعين. ما النجاة من هذه المصاير؟ تسوق سورة بني إسرائيل خلال صفحتين حافلتين جملة من الوصايا العظيمة تعصم الناس من الزلل، وتقودهم إلى الرشد، وتضمن لهم الرعاية الإلهية في الحاضر والمستقبل.
وتبدأ هذه الوصايا بقوله تعالى: " وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِٱلْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً..." [33].
وتنتهي بقوله: " ذَلِكَ مِمَّآ أَوْحَىٰ إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ ٱلْحِكْمَةِ وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهاً آخَرَ فَتُلْقَىٰ فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَّدْحُوراً " [39]. بدأت هذه النصائح بتوحيد الله وختمت كذلك بتوحيده، لأن القلب الذي يعنو لغير الله لا أمل فيه، والاستقامة الكاملة مربوطة بالتوحيد الكامل.
إن للجماعة المؤمنة شارات، يقول الله في الوالدين: " وَٱخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ ٱلذُّلِّ مِنَ ٱلرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ٱرْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً " [24]ويقول في الأقارب: " وَآتِ ذَا ٱلْقُرْبَىٰ حَقَّهُ وَٱلْمِسْكِينَ وَٱبْنَ ٱلسَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً " [26]. والتفسير الحق عندي أن المرء لا يجوز له التوسّع في النفقة والاستكثار من الكماليات، فإن ذلك تبذير يحصد ما لديه، ولا يبقى عنده فضلاً يعطيه قريباً أو بعيداً...وأكد القرآن الكريم هذا المعنى في قوله تعالى: " وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ ٱلْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً "[29].
وسياسة تقليل النسل لا تغنى عن الشعوب البليدة شيئاً! يجب أن تلتمس المفاتيح لخزائن الخيرات التي بثها الله هنا وهناك، والسماء لا تمطر القاعدين ذهبا ولا فضة.. "وَلاَ تَقْتُلُوۤاْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ " [31].
ونهى القرآن عن الزنا، والزنا عملة متداولة في الحضارة الحديثة، وهو أفضل من الكبت في مجال التربية عندهم، ولا يعاقب عليه قانوناً ما دام بالتراضي!! والله يقول: " وَلاَ تَقْرَبُواْ ٱلزِّنَىٰ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَآءَ سَبِيلاً " [32].ومع أن قتل النفس جريمة فالقانون لا يقتل القاتل... وقد حرمت عقوبة الإعدام في دول كثيرة! وأدى ذلك إلى شيوع القتل وسفك الدم الحرام " وَلاَ تَقْتُلُواْ ٱلنَّفْسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلاَّ بِٱلحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فِّي ٱلْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً " [33].وأمر الله الناس باحترام مال اليتيم وبالوفاء بالعهود، وبضبط المكاييل والموازين. ثم ذكر لكل إنسان أنه مسئول عن سمعه وبصره وقلبه، إنه مسئول عن كل شيء فيه، فلا يجوز أن يحيا فوضويا سائبا " وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ ٱلسَّمْعَ وَٱلْبَصَرَ وَٱلْفُؤَادَ كُلُّ أُولـٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً " [36]
ونهى القرآن أخيراً عن الخيلاء وذهاب المرء بنفسه " وَلاَ تَمْشِ فِي ٱلأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ ٱلأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ ٱلْجِبَالَ طُولاً..."[37].
إن هذه الوصايا تقيم الفرد المؤمن والشعب المؤمن، والحضارة الصالحة، ولن يهزم الله أمة تمسكت بهذه الخلال
ونظرت في سورة "سبحان" فإذا الله ـ جل شأنه ـ يخاطب المشركين بحديث عجب: "وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُواْ وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً . قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لاَّبْتَغَوْاْ إِلَىٰ ذِي ٱلْعَرْشِ سَبِيلاً * سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً . تُسَبِّحُ لَهُ ٱلسَّمَاوَاتُ ٱلسَّبْعُ وَٱلأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـٰكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً " [41-44]. ولست أحقِّقُ هنا: هل تسبيح الكائنات بحمد ربها دلالة حال أو دلالة مقال؟.
إن الكون ـ على أية حال ـ لا يقوم بنفسه، وإنما يقوم به الحيُّ القيوم!!.
وإذا صعب على مغفل أن يعرف الله، وأن يُقرّ بوحدانيته فلن يضرّ الله شيئاً، فكل شيء يسبح بحمده!...ومضت السورة تحدث المشركين عن الله الذي هجروه، واتخذوا الأصنام آلهة من دونه، إنهم ذاهلون تائهون، لا يحبون أن يسمعوا حديثاً عنه!..وهم يحسبون الرسول رجلاً مسحوراً، وهم يعتقدون أنه لا حياة إلا في هذه الدنيا، وتلك طبيعة الدواب! إن الدواب لا تشعر بغد قريب أو بعيد، إنها تعيش يومها وحَسْبُ، هي محبوسة وراء محيطه.والغريب أن العالم المعاصر لا يدري إلا هذا المنطق، وهو يشيعه في عالم الفن والغناء، وعالم القانون والفلسفة!! " وَقَالُوۤاْ أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً قُلْ كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً * أَوْ خَلْقاً مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ ٱلَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هُوَ قُلْ عَسَىٰ أَن يَكُونَ قَرِيباً يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً..." [49-52]والإنغاض: تحريك الرأس علوا وسفلاً إنكارا واستهزاء..وفي موضع آخر من السورة تكرر رفض المشركين للبعث والجزاء، فبيّن القرآن الكريم أن الإنسان امتاز على الدواب بعقله. فإذا فقد هذا العقل نظر ولم ير، سمع ولم يع، ونطق بالباطل، وفقد أهليته لهداية الله، وعَالَنَ بإنكاره لوجوده ولقائه:" وَمَن يَهْدِ ٱللَّهُ فَهُوَ ٱلْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً . ذَلِكَ جَزَآؤُهُم بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا وَقَالُواْ أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً * أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ ٱللَّهَ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ قَادِرٌ عَلَىٰ أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لاَّ رَيْبَ فِيهِ فَأَبَىٰ ٱلظَّالِمُونَ إَلاَّ كُفُوراً " [99].
وفي سورة بني إسرائيل لا غرابة أن يوصى الله المسلمين بإحسان القول، فليكن الإحسان في القول والتلطف في الدعوة شيمة الأمة الخاتمة! " وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ ٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ ٱلشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ ٱلشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّاً مُّبِيناً " [53].
وتلت ذلك إشارة إلى أن أمر المسلمين سوف يعلو حتى يرثوا الأرض، وذلك في قوله تعالى: " وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ ٱلنَّبِيِّينَ عَلَىٰ بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً " [55].
والحق أن التوحيد الذي تميزت رسالة الإسلام بتقريره، وتحمست لإشاعته، يربط الناس بربهم ربطاً شديداً، ويجعل عروتهم به وثيقة، ويقرر أن كل ما عدا الله عبدٌ له، مقهور في جلاله: " قُلِ ٱدْعُواْ ٱلَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ ٱلضُّرِّ عَنْكُمْ وَلاَتَحْويلًا. أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَىٰ رَبِّهِمُ ٱلْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً " [56-57]
واقتضى المقام هنا حديثاً عن آدم وبنيه! لقد كان آدم جديراً بأن يكون أفضل حالا ومآلا بعدما اصطفاه الله وأعلى شأنه، وأسجد له ملائكته.وكان بنوه جديرين بأن يكذبوا ظنون إبليس، بعد ما أفاء الله عليهم من نعمائه ما يلهج الألسنة بالشكر " وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ ٱلطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً..." [70]لكن آدم وَهَنَ عزمه، وأبناءه نسوا الجميل الذي يمرحون فيه، فلم يكن من مؤاخذتهم بدٌ، وجاء في هذا القرآن من شأنهم ما يثير الدهشة، فلنتدبره لنعرف كيف نفعل..؟!.إن الله منحنا العقول لنفكر ونحكم، ونميز الحسن من القبيح والطيب من الخبيث، وما قيمة عقولنا إذا لم نفعل ذلك؟.وعندما نقول لرجل: واحد وواحد تساوى اثنين، فيقول لك: لا أصدق حتى تنقل الجبل من مكانه، أفترى أن لهذا القائل منطقاً جديراً باحترام؟.
إن محمدا رسول الله بذل جهده في إثبات أن الله واحد، وأن وجوده الأعلى أصدق من كل وجود، فقيل له: بل أصنامنا أولى بالتقدير! وتحدَّوه أن يأتي بمعجزة تصدقه!.
لقد طلب أهل مكة من محمد أن يجعل الصفا ذهبا، حتى يصدقوا رسالته! فكيف إذا حوّل لهم الجبل إلى ذهب ثم ظلّوا على تكذيبهم؟ إنه مهلكهم يقينا، إن اللعب مع السماء لا يسوغ.
وفي سورة "الإسراء" يقول الله تعالى: " وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بِٱلآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا ٱلأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ ٱلنَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِٱلآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً " [59].على أن قريشا لم تطلب خارقة مَّا، بل حددت بضع خوارق عدَّتها عدّاً " وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ تَفْجُرَ لَنَا مِنَ ٱلأَرْضِ يَنْبُوعاً . أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ ٱلأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً . أَوْ تُسْقِطَ ٱلسَّمَآءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِٱللَّهِ وَٱلْمَلاۤئِكَةِ قَبِيلاً . أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَىٰ فِي ٱلسَّمَآءِ وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَراً رَّسُولاً " [93].
إن العناد ملك قلوبهم، وليس الكفر عَرَضا سريعا يمرّ ببعض الناس، إنه مزيج من الحسد والغباء، والطمع والأثرة، والبعد عن الكفر يتطلب عقلا واعيا، وحكما عادلا، وخلقا زاكيا
ومحمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ إمام أولى العزم الذين جاهدوا الضلال الأزمنة الماضية، وهو في الجزيرة العربية لن ينشغل بمآرب كفارها ومقترحاتهم، فرسالته العامة إصلاح الخلل في كل نفس، في أية قارة، إلى أن تقوم الساعة. ويزيد عبؤه جسامة إلى أنه يعتمد في نجاحه ـ بعد تأييد الله ـ على تحريك العقول وهزّ التقاليد، ومعالجة العوج البشري بالهوينى، حتى يسلس قياده! ويالها من مهمة!!.
إنهم يطلبون من محمد أن يجعل لهم مكانة خاصة إذا أراد أن يؤمنوا له!!.وقد ينفق من وقته واهتمامه الكثير ليعالج زعيما إذا آمن تبعته ألوف من الأنصار! وربما أخذ هذا الوقت من حق آخر فقير..!
وفي هذا يقول الله له: " وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ ٱلَّذِي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً . وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً . إِذاً لأذَقْنَاكَ ضِعْفَ ٱلْحَيَاةِ وَضِعْفَ ٱلْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً " [73-74-75].
إن سياسة الدعوة شيء، والانحرافات الخلقية شيء آخر، وقد عاتب الله نبيه لانشغاله بأحد الكبراء عن أحد الضعفاء. والسياق كله تنبيه إلى كيدهم وتحذير من ملاينتهم...وتلا ذلك كشف عن خباياهم وعما يبيتون لدعوة الإسلام من شرور " وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ ٱلأَرْضِ لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا وَإِذاً لاَّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً " [76]. إنهم أحرجوه في مكة كل الحرج، وكانوا قد رأوا إخراجه، ثم اختاروا قتله.وقد خرج الرسول مهاجرا، ونجاه الله من كيدهم، ولم يلبثوا إلا قليلاً بعده حتى انتصر الإسلام وعاد إلى مكة ظافرا.. وصدق الله وعده.
وبعد جهاد الدعوة جاء جهاد العبادة، فكلِّف الرسول بالصلاة ليلاً ونهاراً " أَقِمِ ٱلصَّلاَةَ لِدُلُوكِ ٱلشَّمْسِ إِلَىٰ غَسَقِ ٱلْلَّيْلِ وَقُرْآنَ ٱلْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ ٱلْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً " [78].
إن محمدا كلمة الله الأخيرة إلى الناس، واللبنة التي تم بها بنيان النبوات الأولى، وقد كان أهل الكتاب يشعرون بأن هناك نبيا قادما، ويجدون فيما لديهم ما يدعوا إلى ارتقابه وتصديقه.
فلما جاء سارع المخلصون إلى اتباعه، قال تعالى: " وَبِٱلْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِٱلْحَقِّ نَزَلَ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى ٱلنَّاسِ عَلَىٰ مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُوۤاْ إِنَّ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَآ إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً " [106-107-108][/align]والتاريخ العالمي يذكر أن نصارى الشام ومصر سارعوا إلى الدخول في الإسلام بعد زوال الاستبداد الروماني، ثم حملوه مع العرب إلى آفاق العالمين، مصداق هذه الآيات الكريمة، وإشارة بصدق هذا الجمهور الكبير من أهل الكتاب الذين أمنوا وأخلصوا.. ..