التفسير المبسط لسورة المدثر

امصنصف كريم

Active member
إنضم
12/08/2016
المشاركات
162
مستوى التفاعل
34
النقاط
28
العمر
45
الإقامة
المغرب
الموقع الالكتروني
sites.google.com
تفسير سورة المدثر
تفسير مبسط لسورة المدثر. مستمد من تفسير الجلالين، وتفسير التسهيل لابن جزي، وتفسير المحرر الوجيز لابن عطية، وتفسير ابن كثير، وتفسير زاد المسير لابن الجوزي، والتفسير المنير للزحيلي، وصفوة التفاسير للصابوني، وأيسر التفاسير لأبي بكر جابر الجزائري.

  • التعريف بالسورة:
سورة المدثر هي من سور القرآن المكية بإجماع من أهل التأويل، وقال مقاتل فيها من المدني آية وهي قوله :U﴿ وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً ﴾. وهي السورة الرابعة (4) في ترتيب النزول نزلت بعد المزمل وقبل سورة الفاتحة، وترتيبها في المصحف الرابعة والسبعون (74) بعد المزمل وقبل سورة القيامة. وعدد آياتها خمس وخمسون آية (55).

  • تسميتها:
سميت سورة المدّثر لافتتاحها بهذا الوصف الذي وصف به النبي r.

  • ما اشتملت عليه السورة:
تضمنت السورة إرشادات للنبي r في بدء دعوته، وتهديدات لزعيم من زعماء الشرك، وأوصاف جهنم. وقد بدئت السورة بالإنذار، وختمت به في قوله:﴿ فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ ﴾، إلى آخر السورة.
فابتدأت السورة الكريمة بتكليف الرسول بالنهوض بأعباء الدعوة إلى ربه، والقيام بمهمة التبليغ بجد ونشاط، وإنذار الكفار، والصبر على أذى الفجار، حتى يحكم الله بينه وبين أعدائه. ثم توالت السورة تنذر وتهدد أولئك المجرمين، بوصف يوم القيامة الرهيب الشديد، الذي لا راحة لهم فيه، لما فيه من الأهوال والشدائد وبعد ذلك البيان الذي يرتعد له الإنسان. انطلقت تهدد إنسانا في أقوى وأشد صور التهديد، وهو ذلك الشقي الفاجر ( الوليد بن المغيرة ) الذي سمع القرآن، وعرف أنه كلام الله، ولكنه من أجل الزعامة والرياسة، زعم أنه سحر، فاستحق النار .. ثم تحدثت السورة عن تعداد أوصاف النار التي أوعد الله بها الكفار، وعن خزنتها الأشداء، وزبانيتها الذين كلفوا بتعذيب أهلها، وعددهم، والحكمة من تخصيص ذلك العدد وبروزها للناس. وزاد الأمر تهويلا قسم اللّه بالقمر وضيائه، والليل والصبح وبهائه على أن جهنم إحدى الدواهي والبلايا العظام. وأوضحت السورة مسئولية كل نفس بما كسبت وتعلقها بأوزارها، وبشارة المؤمنين بالنجاة، والكفار بالعذاب، وتصوير ما يجري من حوار بين بين المؤمنين والمجرمين، وبينت سبب دخولهم الجحيم. وختمت السورة ببيان سبب إعراض المشركين عن العظة والتذكر والإيمان، ألا وهو إنكارهم للقيامة، وللبعث والنشور.

  • مناسبتها لما قبلها:
1. أنها متواخية مع السورة قبلها في الافتتاح بنداء النبي r.
2. أن صدر كلتيهما نازل في قصة واحدة.
3. أن السابقة بدئت بالأمر بقيام الليل، وهو تكميل لنفسه r بعبادة خاصة، وهذه بدئت بالإنذار لغيره، وهو تكميل لسواه.

  • سبب النزول:
أخرج البخاري عن جابر بن عبد اللّه قال: حدثنا رسول اللّه r، فقال:« جاورت بحراء، فلما قضيت جواري، هبطت، فنوديت، فنظرت عن يميني، فلم أر شيئا، ونظرت عن شمالي فلم أر شيئا، ونظرت أمامي فلم أر شيئا، ونظرت خلفي فلم أر شيئا، فرفعت رأسي، فرأيت شيئا، فأتيت خديجة، فقلت: دثّروني، وصبّوا عليّ ماء باردا، قال: فدثّروني وصبوا علي ماء باردا، فنزلت:﴿ يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، قُمْ فَأَنْذِرْ، وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ ﴾». فأول شيء نزل بعد فترة الوحي هي هذه السورة ثم حمي الوحي وتتابع.

  1. تكليف الرسول r بأعباء الدعوة ومهمة التبليغ وإرشادات وتوجيهات له r في بدء الدعوة: الآيات 1 إلى7
﴿ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ {1} قُمْ فَأَنذِرْ {2} وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ {3} وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ {4} وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ {5} وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ {6} وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ {7}﴾

  • المعنى الإجمالي:
يا أيها المتغطي بثيابه، قم مِن مضجعك، فحذِّر الناس من عذاب الله، وخُصَّ ربك وحده بالتعظيم والتوحيد والعبادة، وَطَهِّر ثيابك من النجاسات؛ فإن طهارة الظاهر من تمام طهارة الباطن، ودُمْ على هَجْر الأصنام والأوثان وأعمال الشرك كلها، فلا تقربها، ولا تُعط العطيَّة؛ كي تلتمس أكثر منها، ولمرضاة ربك فاصبر على الأوامر والنواهي.

  • اللغَة:
[ المدثر ] وَأَصْله الْمُتَدَثِّر أُدْغِمَتْ التَّاء فِي الدَّال أي المتغطي بثيابه، تدثر: لبس الدثار وهو الثوب الذي فوق الشعار، والشعار الثوب الذي يلي الجسد، ومنه حديث:« الأنصار شعار، والناس دثار ».

  • القراءات:
قوله U:﴿ وَالرُّجْزَ ﴾ فَاهْجُرْ قرأ الحسن، وأبو جعفر، وشيبة، وعاصم ﴿ والرّجز ﴾ بضمّ الراء. والباقون بكسرها. وقال أبو عليّ: قراءة الحسن بالضمّ، وقال: هو اسم صنم. وقال قتادة: صنمان: إساف، ونائلة. ومن كسر، الرّجز: العذاب. فالمعنى: ذو العذاب فاهجر.

  • التفسِير:
{1}﴿ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ﴾ أَيْ يَا أَيّهَا الْمُتَلَفِّف بِثِيَابِهِ عِنْد نُزُول الْوَحْي عَلَيْهِ وهو النبي r.
{2}﴿ قُمْ فَأَنْذِرْ ﴾ أَيْ انهض وخَوِّفْ أَهْل مَكَّة النَّار إنْ لَمْ يُؤْمِنُوا ويوحدوا.
{3}﴿ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ ﴾ أَيْ عَظِّمْ ربك عَنْ إشْرَاك الْمُشْرِكِينَ.
{4}﴿ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ ﴾ أَيْ طهر ثيابك من النجاسات أَوْ قَصِّرْهَا خِلَاف جَرّ الْعَرَب ثِيَابهمْ خُيَلَاء فَرُبَّمَا أَصَابَتْهَا نَجَاسَة.
{5}﴿ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ﴾ أَيْ دُمْ عَلَى هَجْر الْأَوْثَانِ والأصنام ولا تقربها فهي سبب العذاب.
{6}﴿ وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ ﴾ أَيْ لا تمنن بعملك تستكثره على ربّك، أو لا تعط شيئا من مالك لتعطى أكثر منه. وهذا الأدب للنبيّ r خاصّة، وليس على أحد من أمّته إثم أن يهدي هدية يرجو بها ثوابا أكثر منها.
{7}﴿ وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ ﴾ أَيْ واصبر عَلَى تحمل أَوَامِر وَنَّوَاهِي ربك وعلى ما تلقاه من المكروه من المشركين.

  • ما يستفاد من الآيات (1-7) من معاني وأحكام:
1. قوله I: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ملاطفة في الخطاب ولين في الكلام من اللّه إذ ناداه ربه بحاله وعبّر عنه بصفته. ولم يقل يا محمد أو يا فلان ليستشعر اللين والعطف من ربه.
2. إن العرب يقولون: النذير العريان، للنذير الذي يكون في غاية الجد والتشمير، والنذير بالثياب ضد هذا، فكأنه تنبيه على ما يجب من التشمير والجد في تبليغ الدعوة إلى الله.
3. أمر اللّه نبيه بتخويف أهل مكة وغيرهم من الناس قاطبة، وبتحذيرهم العذاب إن لم يسلموا.
4. ما أمر النبي r بالإنذار إلا لحكمة بالغة، ومهمات عظيمة، لا يجوز له الإخلال بها.
أولها: تعظيم اللّه ووصفه بأنه أكبر من أن يكون له صاحبة أو ولد، كما يقول عبدة الأوثان.
ثانيها: تطهير الثياب من النجاسة المادية أو الحكمية، وتطهير النفس من المعاصي المؤدية إلى العذاب، وتجميلها بمحاسن الأخلاق.
ثالثها: هجر الأوثان والمآثم التي هي سبب العذاب، ويراد بذلك الأمر بالمداومة على ذلك الهجران.
رابعها: عدم الامتنان على اللّه بالأعمال الشاقة كالمستكثر لما يفعل، وإنما الواجب الصبر على ذلك لوجه اللّه I، متقربا إليه، غير ممتنّ به عليه، وعدم الامتنان على الناس بتعليم أمور الدين والوحي كالمستكثر لذلك الإنعام، وبالنبوة لأخذ أجر يستكثر به ماله. وقال أكثر المفسرين: المعنى: ولا تعط مالك لأجل أن تأخذ أكثر منه، حتى تكون عطاياه لأجل اللّه U، لا لأجل طلب الدنيا. وهذا سمة أهل الجود والكرم.
خامسها: الصبر على أداء الفرائض والعبادات وإيذاء الناس بسبب تبليغ الدين.
والخلاصة: أن اللّه I وضع أساسين لنجاح دعوة الرسول r بعد استكمال العقل وتحرره من الشرك، واستكمال النفس بالخلق الكامل، وهما: الجود والصبر.
5. وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ يحتمل أن يريد قول: الله أكبر ويؤيد ذلك ما روي عن أبي هريرة أن المسلمين قالوا: بم نفتتح صلاتنا فنزلت: ﴿ وربك فكبر ﴾.
6. ﴿ وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ ﴾ حقيقة في تطهير الثياب من النجاسة واختلف في هذا هل يحمل على الوجوب، فتكون إزالة النجاسة واجبة أو على الندب فتكون سنة.

  1. تهديد الكاذبين بأهوال يوم القيامة: الآيات 8 إلى 10
﴿ فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ {8} فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ {9} عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ {10}﴾

  • المعنى الإجمالي:
فإذا نُفخ في "القرن" نفخة البعث والنشور، فذلك الوقت يومئذ شديد على الكافرين، غير سهل أن يخلصوا مما هم فيه من مناقشة الحساب وغيره من الأهوال.

  • اللغَة:
[ الناقور ] الصور الذي ينفخ فيه، والنقر في كلام العرب الصوت، سمي ناقورا لأنه يخرج منه صوت عظيم رهيب، يفزع الناس منه ويموتون.

  • التفسِير:
{8}﴿ فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ ﴾ أَيْ نُفِخَ فِي الصُّور وَهُوَ الْقَرْن النَّفْخَة الثَّانِيَة لبعث الناس من القبور.
{9}﴿ فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ ﴾ أَيْ يوم النقر شديد على الكفار، غير سهل عليهم.
{10}﴿ عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ ﴾ على الكفار، غير سهل عليهم.

  • ما يستفاد من الآيات (8-10) من معاني وأحكام:
1. فهم ابن عباس من قوله I:﴿ عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ ﴾ كون ذلك اليوم يسيرا على المؤمن، وهذا حجة لمن قال بدليل الخطاب أنه حجّة.

  1. قصة الوليد بن المغيرة والتشنيع عليه ووعيده وتهديد زعماء الشرك: الآيات 11 إلى 26
﴿ ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً {11} وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُوداً {12} وَبَنِينَ شُهُوداً {13} وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً {14} ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ {15} كَلاَّ إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيداً {16} سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً {17} إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ {18} فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ {19} ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ {20} ثُمَّ نَظَرَ {21} ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ {22} ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ {23} فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ {24} إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ {25} سَأُصْلِيهِ سَقَرَ {26}﴾

  • المعنى الإجمالي:
دعني - أيها الرسول - أنا والذي خلقته في بطن أمه وحيدًا فريدًا لا مال له ولا ولد، وجعلت له مالا مبسوطًا واسعًا وأولادًا حضورًا معه في "مكة" لا يغيبون عنه، ويسَّرت له سبل العيش تيسيرًا، ثم يأمُل بعد هذا العطاء أن أزيد له في ماله وولده، وقد كفر بي. ليس الأمر كما يزعم هذا الفاجر الأثيم، لا أزيده على ذلك؛ إنه كان للقرآن وحجج الله على خلقه معاندًا مكذبًا، سأكلفه مشقة من العذاب والإرهاق لا راحة له منها. ( والمراد به الوليد بن المغيرة المعاند للحق المبارز لله ولرسوله بالمحاربة، وهذا جزاء كلِّ من عاند الحق ونابذه ).
إنه فكَّر في نفسه، وهيَّأ ما يقوله من الطعن في محمد والقرآن، فَلُعِن، واستحق بذلك الهلاك، كيف أعدَّ في نفسه هذا الطعن؟ ثم لُعِن كذلك، ثم تأمَّل فيما قدَّر وهيَّأ من الطعن في القرآن، ثم قطَّب وجهه، واشتدَّ في العبوس والكُلُوح لـمَّا ضاقت عليه الحيل، ولم يجد مطعنًا يطعن به في القرآن، ثم رجع معرضًا عن الحق، وتعاظم أن يعترف به، فقال عن القرآن: ما هذا الذي يقوله محمد إلا سحر يُنْقل عن الأولين، ما هذا إلا كلام المخلوقين تعلَّمه محمد منهم، ثم ادَّعى أنه من عند الله. سأدخله جهنم؛ كي يصلى حرَّها ويحترق بنارها.

  • سبب النزول:
عن عكرمة: أن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبي r فقرأ عليه القرآن، فكأنه رق له. فبلغ ذلك أبا جهل بن هشام، فأتاه فقال: أي عم، إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالا. قال: لم؟ قال: يعطونكه، فإنك أتيت محمدًا تَتَعَرض لما قبله. قال: قد علمت قريش أني أكثرها مالا. قال: فقل فيه قولا يعلم قومك أنك منكر لما قال، وأنك كاره له. قال: فماذا أقول فيه؟ فوالله ما منكم رجل أعلم بالأشعار مني، ولا أعلم برجزه ولا بقصيده ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذي يقوله شيئًا من ذلك. والله إن لقوله الذي يقول لحلاوة، وإنه ليحطم ما تحته، وإنه ليعلو وما يعلى. وقال: والله لا يرضى قومك حتى تقول فيه. قال: فدعني حتى أفكر فيه. فلما فكر قال: إن هذا سحر يأثره عن غيره. فنزلت:﴿ ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا ﴾ حتى بلغ:﴿ تِسْعَةَ عَشَرَ ﴾.

  • اللغَة:
[ عبس ] قطب بين عينيه وحاجبيه.
[ بسر ] كلح وجهه وتغير لونه، قال الليث: عبس: إذا قطب ما بين عينيه، فإن أبدى عن أسنانه في عبوسه قيل: كلح، فإن اهتم في الأمر وفكر فيه قيل: بسر.

  • التفسِير:
{11}﴿ ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا ﴾ أَيْ اُتْرُكْنِي ومِنْ خَلَقْته وحيداً مُنْفَرِدًا بِلَا أَهْل ولا ولد وَلَا مَال فأنا أكفيكه وهُوَ الْوَلِيد ابْن المغيرة المخزومي.
{12}﴿ وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا ﴾ أَيْ وجعلت له مالا كثيرا عددا أو مساحتا. والمعنى رزقته مَالًا وَاسِعًا مُتَّصِلًا مِنْ الزُّرُوع وَالضُّرُوع وَالتِّجَارَة.
{13}﴿ وَبَنِينَ شُهُودًا ﴾ أَيْ عَشَرَة أَوْ أَكْثَر يَشْهَدُونَ الْمَحَافِل بمكة وأغلب الوقت حاضرون ولا يغيبون لطلب الرزق. وقد أسلم منهم ثلاثة وهم: خالد وهشام وعمار.
{14}﴿ وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا ﴾ أَيْ بَسَطْت لَهُ فِي الْعَيْش وَالْعُمُر وَالْوَلَد والجاه حتى كان يلقب بريحانة قريش.
{15}﴿ ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ ﴾ أَيْ ثم يطمع في الزيادة بالمال والولد على ما أعطيته.
{16}﴿ كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا ﴾ أَيْ لَا أَزِيدهُ عَلَى ذَلِكَ زجرا له عن هذا الطمع فليس ذلك كما يأمل ويرجو إِنَّهُ كَانَ للْقُرْآن - وهو الحق الذي أتى به الرسول - مُعَانِدًا ومكابرا ومكذبا وهو الوليد بن المغيرة المخزومي.
{17}﴿ سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا ﴾ أَيْ سأكلفه وأحمله يوم القيامة عذابا شاقا صعبا لا راحة له منه وفي الحديث:« الصعود جبل من نار، يصعد فيه الكافر سبعين خريفا، ثم يهوي فيه كذلك أبدا »[أخرجه الترمذي والحاكم وصححه].
{18}﴿ إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ ﴾ أَيْ إِنَّهُ فَكَّرَ فِيمَا يَقُول فِي الْقُرْآن الَّذِي سَمِعَهُ مِنْ النَّبِيّ r وَقَدَّرَ فِي نَفْسه ما يمكن أن يكون طعنا فيه.
{19}﴿ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ﴾ أَيْ فلُعِنَ كيف فكر وتوصل إلى ما هو قائل في القرآن مما تريده قريش.
{20}﴿ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ﴾ أَيْ ثم لعن كيف فكر القول فيه وتكرر الدعاء عليه للمبالغة وتأكيد الذم وتقبيح ما فكر به.
{21}﴿ ثُمَّ نَظَرَ ﴾ أَيْ تروًى فِيمَا يَقْدَح بِهِ فِي القرآن ويرد الحق.
{22}﴿ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ﴾ أَيْ قطَّب وجهه وقبض ما بين حاجبيه ثم زَادَ فِي الْقَبْض وَالْكُلُوح – السواد - وجهه ضِيقًا بِمَا يَقُول.
{23}﴿ ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ ﴾ أَيْ نكص على عقبيه معرضا عَنْ الْإِيمَان وَتَكَبَّرَ عَنْ الإقرار بالحق واتِّبَاع الرسول r.
{24}﴿ فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ ﴾ أَيْ فَقَالَ مَا هَذَا القرآن إلَّا سِحْر يروى ويُنْقَل عَنْ السَّحَرَة.
{25}﴿ إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ ﴾ أَيْ ما هذا إلا كلام بني آدم كَمَا قَالُوا إنَّمَا يُعَلِّمهُ بشر وليس وحيا وكلاما من الله.
{26}﴿ سَأُصْلِيهِ سَقَرَ ﴾ أَيْ سأدخله جهنم لإحراقه بنارها.

  • ما يستفاد من الآيات (11-26) من معاني وأحكام:
1. المال والبنون والجاه من عوامل الطغيان إلا أن يسلم الله عبده من فتنتها.
2. من أكفر الناس من يعاند في آيات الله يريد صرف الناس عنها وإبطال هدايتها.
3. بيان ما ظفر به طاغية قريش الوليد بن المغيرة من لعنة وعذاب شديد.
4. تقرير الوحي وإثبات النبوة المحمدية.
5. تقرير البعث والجزاء.

  1. وصف جهنم والحكمة في اختيار عدد خزنة جهنم التسعة عشر: الآيات 27 إلى 37
﴿ وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ {27} لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ {28} لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ {29} عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ {30} وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً وَلا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَمَا هِيَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْبَشَرِ {31} كَلاَّ وَالْقَمَرِ {32} وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ {33} وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ {34} إِنَّهَا لإٍحْدَى الْكُبَرِ {35} نَذِيراً لِلْبَشَرِ {36} لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ {37}﴾

  • المعنى الإجمالي:
وما أعلمك أيُّ شيء جهنم؟ لا تبقي لحمًا ولا تترك عظمًا إلا أحرقته، مغيِّرة للبشرة، مسوِّدة للجلود، محرقة لها، يلي أمرها ويتسلط على أهلها بالعذاب تسعة عشر ملكًا من الزبانية الأشداء.
وما جعلنا خزنة النار إلا من الملائكة الغلاظ، وما جعلنا ذلك العدد إلا اختبارًا للذين كفروا بالله؛ وليحصل اليقين للذين أُعطوا الكتاب من اليهود والنصارى بأنَّ ما جاء في القرآن عن خزنة جهنم إنما هو حق من الله I، حيث وافق ذلك كتبهم، ويزداد المؤمنون تصديقًا بالله ورسوله وعملا بشرعه، ولا يشك في ذلك الذين أُعطوا الكتاب من اليهود والنصارى ولا المؤمنون بالله ورسوله؛ وليقول الذين في قلوبهم نفاق والكافرون: ما الذي أراده الله بهذا العدد المستغرب؟ بمثل ذلك الذي ذُكر يضلُّ الله من أراد إضلاله، ويهدي مَن أراد هدايته، وما يعلم عدد جنود ربك - ومنهم الملائكة - إلا الله وحده. وما النار إلا تذكرة وموعظة للناس.
ليس الأمر كما ذكروا من التكذيب للرسول فيما جاء به، أقسم الله I بالقمر، وبالليل إذ ولى وذهب، وبالصبح إذا أضاء وانكشف. إن النار لإحدى العظائم؛ إنذارًا وتخويفًا للناس، لمن أراد منكم أن يتقرَّب إلى ربه بفعل الطاعات، أو يتأخر بفعل المعاصي.

  • اللغَة:
[ أسفر ] أضاء وانكشف.
[ الكبر ] الدواهي وعظائم المصائب والعقوبات.

  • القراءات:
﴿ والليل إذا ﴾ بفتح الذال ﴿ دبر ﴾ جاء بعد النهار خلف وفي قراءة نافع وحفص وآخرين ﴿ إذ أَدْبَرَ ﴾ بِسُكُونِ الذَّال بَعْدهَا هَمْزَة أَيْ ولى مَضَى.

  • التفسِير:
{27}﴿ وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ ﴾ أَيْ وما أعلمك يا محمد أي نار هي تعظيم لشأنها.
{28}﴿ لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ ﴾ أَيْ لا تترك شَيْئًا مِنْ لَحْم وَلَا عَصَب إلَّا أَهْلَكَتْهُ ثُمَّ يَعُود كما كان لإدامة العذاب.
{29}﴿ لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ ﴾ أَيْ مغيرة مسودة ومُحَرِّقَة لِظَاهِرِ جلد الإنسان وهو بشرته والجمع بشر.
{30}﴿ عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ ﴾ أَيْ ملكاً وهم خزنتها.

  • سبب النزول: روى ابن أبي حاتم: عن البراء في قوله:﴿ عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ ﴾ قال إن رهطا من اليهود سألوا رجلا من أصحاب رسول الله r عن خزنة جهنم. فقال: الله ورسوله أعلم. فجاء رجل فأخبر النبي r فنزل عليه ساعتئذ:﴿ عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ ﴾.
{31}﴿ وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ﴾ أَيْ وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَاب النَّار إلَّا مَلَائِكَة فَلَا يُطَاقُونَ كَمَا يَتَوَهَّمُونَ وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتهمْ أي كونهم تسعة عشر. إلَّا ضَلَالًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنْ يَقُولُوا لِمَ كَانُوا تِسْعَة عَشَر وليستخفوا بهم كما قال أبو الأشدين الجمحي فيزدادوا ضلالا. ولِيَسْتَبِينَ الَّذِينَ الْيَهُود والنصارى صِدْق النَّبِيّ r فِي كَوْنهمْ تِسْعَة عَشَر الْمُوَافِق لِمَا فِي لكتابيهما التوراة والإنجيل. وَيَزْدَاد الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ أَهْل الْكِتَاب إيمَانًا وتَصْدِيقًا لِمُوَافَقَتِهِ مَا أَتَى بِهِ النَّبِيّ r لِمَا فِي لكتابيهما ولا يشك أهل الكتاب والمؤمنون فِي عَدَد الْمَلَائِكَة وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبهمْ شَكّ ونفاق بِالْمَدِينَةِ وَالْكَافِرُونَ بِمَكَّة مَاذَا أَرَادَ اللَّه بِهَذَا الْعَدَد مَثَلًا - سَمَّوْهُ لِغَرَابَتِهِ بِذَلِكَ - فأي شيء أراد الله بهذا العدد الغريب - استنكاراً منهم -. يُضِلّ اللَّه مَنْ يَشَاء وَيَهْدِي مَنْ يَشَاء وَمَا يَعْلَم جُنُود رَبّك من الْمَلَائِكَة فِي قُوَّتهمْ وَأَعْوَانهمْ إلَّا هُوَ وَمَا سقر إلا ذكرى للبشر يتذكرون بها.

  • سبب النزول: قال أبو جهل: يا معشر قريش، أما يستطيع كل عشرة منكم لواحد منهم فتغلبونهم؟ فقال الله:﴿ وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلا مَلائِكَةً ﴾. وقد قيل: إن أبا الأشدين - واسمه: كَلَدَة بن أسيد بن خلف - قال: يا معشر قريش، اكفوني منهم اثنين وأنا أكفيكم منهم سبعة عشر.
{32}﴿ كَلَّا وَالْقَمَرِ ﴾ أَيْ كلا ردعا وزجرا ليس الأمر كما يقول من زعم أنه يكفي أصحابه خزنة جهنم، وأقسم الله بالقمر المنير.
{33}﴿ وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ ﴾ أَيْ وأقسم الله بالليل المظلم إذا مضى وولى ذاهبا.
{34}﴿ وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ ﴾ أَيْ وأقسم الله بالصبح إذا أضاء وظَهَرَ.
{35}﴿ إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ ﴾ أَيْ جواب القسم إن سَقَر إحدى الدواهي والْبَلَايَا الْعِظَام.
{36}﴿ نَذِيرًا لِلْبَشَرِ ﴾ أَيْ عذاب جهنم نذير لبني آدم.
{37}﴿ لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ ﴾ أَيْ لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أيها الناس أَنْ يَتَقَدَّم بالطاعة إلَى الْخَيْر والْجَنَّة بِالْإِيمَانِ أَوْ يَتَأَخَّر بالمعصية إلَى الشَّرّ والنَّار بِالْكُفْرِ.

  • ما يستفاد من الآيات (27-37) من معاني وأحكام:
1. بيان الحكمة من جعل عدد الزبانية تسعة عشر والإخبار عنهم بذلك.
2. موافقة التوراة والإنجيل للقرآن من شأنها أن تزيد إيمان المؤمنين من الفريقين.
3. قوله U: وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً دليل على أن الإيمان يزيد وينقص، أي يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وهو رأي الأكثرين.
4. قوله I: كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فيه تقرير سنة من سنن اللّه I في عباده وهي ربط الأسباب التي خلقها بالمسببات، فمن ضل فإنما يضل بنفسه واختياره، ومن اهتدى فإنما يهتدي بنفسه وإرادته واختياره، ثم يزيد اللّه الضالين ضلالا، فيبعدهم عن معالم الهداية، لسوء اختيارهم واستعدادهم وعنادهم، ويزيد المؤمنين إيمانا بتوفيقهم إلى سبل الهداية والرشاد، لحسن اختيارهم. ولا يقع شيء في الكون قهرا عن اللّه I، وإنما بإرادته ومشيئته، وإن كان مخالفا لمأموره ومحبوبه.
5. في النار من الزبانية ما لا يعلم عددهم إلا الله I خالقهم.
6. جهنم نذير للبشر أي عذابها نذير للبشر لمن شاء أن يتقدم بالطاعة أو يتأخر بالمعصية.

  1. الحوار بين أصحاب اليمين وبين المجرمين وأسباب عذابهم: الآيات 38 إلى 52
﴿ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ {38} إِلاَّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ {39} فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ عَنْ الْمُجْرِمِينَ {40} مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ {41} قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ {42} وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ {43} وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ {44} وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ {45} حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ {46} فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ {47} فَمَا لَهُمْ عَنْ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ {48} كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ {49} فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ {50} بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفاً مُنَشَّرَةً {51} كَلاَّ بَلْ لا يَخَافُونَ الآخِرَةَ {52}﴾

  • المعنى الإجمالي:
كل نفس بما كسبت من أعمال الشر والسوء محبوسة مرهونة بكسبها، لا تُفَكُّ حتى تؤدي ما عليها من الحقوق والعقوبات، إلا المسلمين المخلصين أصحاب اليمين الذين فكُّوا رقابهم بالطاعة، هم في جنات لا يُدْرَك وصفها، يسأل بعضهم بعضًا عن الكافرين الذين أجرموا في حق أنفسهم: ما الذي أدخلكم جهنم، وجعلكم تذوقون سعيرها؟ قال المجرمون: لم نكن من المصلِّين في الدنيا، ولم نكن نتصدق ونحسن للفقراء والمساكين، وكنا نتحدث بالباطل مع أهل الغَواية والضلالة، وكنا نكذب بيوم الحساب والجزاء، حتى جاءنا الموت، ونحن في تلك الضلالات والمنكرات.
فما تنفعهم شفاعة الشافعين جميعًا من الملائكة والنبيين وغيرهم; لأن الشفاعة إنما تكون لمن ارتضاه الله، وأذن لشفيعه.
فما لهؤلاء المشركين عن القرآن وما فيه من المواعظ منصرفين؟ كأنهم حمر وحشية شديدة النِّفار، فرَّت من أسد كاسر.
بل يطمع كل واحد من هؤلاء المشركين أن يُنزل الله عليه كتابًا من السماء منشورًا، كما أنزل على محمد r. ليس الأمر كما زعموا، بل الحقيقة أنهم لا يخافون الآخرة، ولا يصدِّقون بالبعث والجزاء.

  • اللغَة:
[ قسورة ] أسد، من القسر وهو القهر، سمي بذلك لأنه يقهر السباع، وقيل هو جماعة الرماة الذين يتصيدون، قال الأزهري: هو اسم جامع للرماة لا واحد له من جنسه.

  • القراءات:
﴿ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ ﴾ قرأ أبو جعفر، ونافع، وابن عامر، والمفضّل عن عاصم بفتح الفاء. والباقون بكسرها. قال أبو عبيدة، وابن قتيبة: من قرأ بفتح الفاء أراد: مذعورة، استنفرت فنفرت، ومن قرأ بكسر الفاء أراد: نافرة: قال الفرّاء: أهل الحجاز يقولون: حمر مستنفرة. وناس من العرب يكسرون الفاء. والفتح أكثر في كلام العرب.

  • التفسِير:
{38}﴿ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ﴾ أَيْ كل نفس مأمورة منهية ومحبوسة بِعَمَلِهَا فِي النَّار.
{39}﴿ إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ ﴾ أَيْ وَهُمْ الْمُؤْمِنُونَ فَنَاجُونَ من النار.
{40}﴿ فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ ﴾ أَيْ وهم في جنات النعيم يتساءلون بَيْنهمْ عن المجرمين وَحَالهمْ وَيَقُولُونَ لَهُمْ بَعْد إخْرَاج الموحدين من النار.
{41}﴿ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ ﴾ أَيْ وَحَال المؤمنين يَقُولُ لَهُمْ بَعْد إخْرَاج الموحدين من النار ما أدخلكم في جهنم.
{42}﴿ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ ﴾ أَيْ فقالوا لم نكن في الدنيا من المصلين الصلاة المفروضة لله I.
{43}﴿ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ ﴾ أَيْ ولم نكن نطعم المحتاج بخلا بما أتاهم الله ومنعا له من حقه في الصدقة.
{44}﴿ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ ﴾ أَيْ وكنا ندخل في الباطل وفيما يكره الله I مع أهل الباطل.
{45}﴿ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ ﴾ أَيْ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الْبَعْث والحساب وَالْجَزَاء ولا نصدق بثواب ولا عقاب.
{46}﴿ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ ﴾ أَيْ حتى جاءنا الْمَوْت.
{47}﴿ فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ ﴾ أَيْ لَا شَفَاعَة لَهُمْ من الذين يشفعهم الله مِنْ الْمَلَائِكَة وَالْأَنْبِيَاء وَالصَّالِحِينَ في أهل الذنوب من أهل التوحيد.
{48}﴿ فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ ﴾ أَيْ فما لهؤلاء المشركين عن الموعظة بالقرآن منصرفين لا يسمعونها ولا يقبلون عليهاّ؟! وهو استفهام استنكاري.
{49}﴿ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ ﴾ أَيْ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ وَحْشِيَّة مذعورة خائفة.
{50}﴿ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ ﴾ أَيْ هَرَبَتْ مِنْ أَسَد أشد الهرب.
{51}﴿ بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً ﴾ والمعنى أنهم قالوا للنبيّ r: إن سرّك أن نتّبعك، فليصبح عند رأس كلّ رجل منّا كتاب منشور من اللّه I إلى فلان بن فلان يؤمر فيه باتّباعك.

  • سبب النزول: أنهم قالوا: كان الرجل إذا أذنب في بني إسرائيل وجده مكتوبا إذا أصبح في رقعة. فما بالنا لا نرى ذلك؟ فنزلت هذه الآية ﴿ بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً ﴾، قاله الفرّاء.
{52}﴿ كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ ﴾ كَلَّا رَدْع عَمَّا أَرَادُوهُ من الآيات والمعجزات تعنتا وسبب ذلك أنهم لَا يَخَافُونَ عذاب الْآخِرَة.

  • ما يستفاد من الآيات (38-52) من معاني وأحكام:
1. قول اللّه I:﴿ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ ﴾ يحمل هذان الأمران على الصلاة والصدقة الواجبتين، وإلا لم يجز العذاب على تركهما. وقد يستدل بالآية على أن الكفار معذبون بفروع الشريعة، كما يعذبون بأصولها، كالتكذيب بيوم الدين.
2. قول اللّه I:﴿ فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ ﴾ هذا يدلّ على أنّ نفع الشفاعة لمن آمن.

  1. حقيقة القرآن: الآيات 53 إلى 55
﴿ كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ {53} فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ {54} وَمَا يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ {55}﴾

  • المعنى الإجمالي:
حقًّا أنَّ القرآن موعظة بليغة كافية لاتِّعاظهم، فمن أراد الاتعاظ اتعظ بما فيه وانتفع بهداه، وما يتعظون به إلا أن يشاء الله لهم الهدى. هو I أهلٌ لأن يُتقى ويطاع، وأهلٌ لأن يغفر لمن آمن به وأطاعه.

  • القراءات:
﴿ وَمَا يَذْكُرُونَ ﴾ قرأ نافع وما تذكرون بالتاء على الالتفاف، وقرأ حفص وما يذكرون بالياء على الغيبة.

  • التفسِير:
{53}﴿ كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ ﴾ أَيْ كَلَّا زجرا لهم عن إنكار الآخرة إنَّ الْقُرْآن تَذْكِرَة وعِظَة وعبرة كافية للناس.
{54}﴿ فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ ﴾ أَيْ فمن شاء الاتعاظ قَرَأَهُ واتَّعَظَ بِهِ.
{55}﴿ وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ ﴾ وفي الحديث عن أنس أن رسول الله r قرأ هذه الآية ﴿ هو أهل التقوى وأهل المغفرة ﴾ ثم قال:« قال ربكم: أنا أهل أن أتقى، فمن اتقانى فلم يجعل معي إلها، فأنا أهل أن أغفر له »[رواه أحمد والترمذي وحسنه وصححه الحاكم ووافقه الذهبي].

  • ما يستفاد من الآيات (53-55) من معاني وأحكام:
1. فكاك كل نفس مرهونة بكسبها وهو الإيمان والتقوى.
2. بيان أكبر الجرائم وهي ترك الصلاة ومنع الزكاة والخوض في الباطل وعدم التصديق بالحساب والجزاء.
3. لا شفاعة يوم القيامة لمن مات وهو يشرك بالله شيئا.
4. مرد الانحراف في الإنسان إلى ضعف إيمانه بالبعث والجزاء.
5. الله ﷻ هو ذو الأهلية الحقة لأمرين عظيمين التقوى فلا يتقى على الحقيقة إلا هو والمغفرة فلا يغفر الذنوب إلا هو اللهم اغفر ذنوبنا فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت.
B
 
عودة
أعلى