محبة القرآن
New member
[align=center]بسم الله الرحمن الرحيم
التفسير العقدي لجزء عم
سورة عبس
المقطع الأول
عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10)
سورة (عبس) سورة مكية , تتضمن مقاصد عظيمة منها :
المقصد الأول : بيان القيم الحقيقية .
المقصد الثاني: إثبات البعث وأهوال القيامة .
المقصد الثالث : تقرير توحيد الربوبية .
نزلت هذه السورة في حادثة جرت للنبي صلى الله عليه وسلم في مكة، فقد كان يعرض الإسلام على عظماء قريش، وصناديدهم، من أمثال عتبة بن ربيعة , وشيبة بن الربيعة , وأبي جهل , وأمثالهم ؛ رجاء إسلامهم، وطمعاً في استمالتهم، وإعزاز هذا الدين. وفي هذه الأثناء، أقبل عليه رجل أعمى، وهو عبد الله بن عمرو بن أم مكتوم، رضي الله عنه، جاءه مسترشداً, ففي حديث عائشة، رضي الله عنها، أنه كان يقول : أرشدني , فيعرض النبي صلى الله عليه وسلم عنه, فيقول : هل قلت شيئاً فيه بأس , فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: لا. وكلح بوجهه، وقطب، وكره سؤاله، فأنزل الله هذه الآيات، التي لا يوجد لها نظير في القرآن العظيم، في العتب على النبي صلى الله عليه وسلم، وبَّين له القيم الحقيقية التي ينبغي أن ينبني عليها تقويم الإنسان للذوات، مهما كانت المصالح الموهومة .
( عَبَسَ وَتَوَلَّى ) : "عبس " أي كلح بوجهه، وقطب بجبينه, وهذا التعبير كناية عن الكراهة، والامتعاض من قدوم هذا السائل الأعمى، في هذا الحال.
ومعنى " تولى " أي أعرض، وصد عنه. فقد وقع منه صلى الله عليه وسلم حيال هذا الأعمى أمر باطني، وأمر ظاهري, فالأمر الباطني: دل عليه قوله " عبس " لأن هذا العبوس ينبئ عما قام في نفسه من الكراهة، وأما الأمر الظاهري: فهو الإعراض عن ذلك السائل .
( أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى ) : يعني أن الحامل له على ذلك، هو مجيء الأعمى. وقد وصفه الله تعالى بهذا الوصف " الأعمى " من باب حكاية الحال, وفي هذا دليل على أنه لا بأس بوصف الإنسان بما فيه على سبيل التعريف، لا على سبيل التعيير, ولم يزل العلماء يحتملون الألقاب المعرِّفة بأصحابها، كما نجد ذلك كثيراً عند المحدثين، كقولهم: الأعمش, والأعرج, والطويل، وغير ذلك, وذلك مما استثنى من الغيبة.
كما أن في وصفه بهذا الوصف " الأعمى " : فيه نوع إعذار له، بأنه ما دخل على النبي صلى الله عليه وسلم، وهو مشغول بهذا الحال، إلا بسبب كونه أعمى, وربما لو كان بصيراً، ورأى اشتغال النبي صلى الله عليه وسلم، بمن بين يديه، لتريث إلى أن يفرغ .
ونلحظ نوع تلطف من الله عز وجل بنبيه صلى الله عليه وسلم في العتاب، بأن ساق هذه الحادثة على سبيل الخبر، بالفعل الماضي فقال: ( عبس وتولى ) , ولم يقل : " عبست وتوليت " . وهذا يدل على أنه ينبغي لمن أراد المعاتبة، أو النصيحة، أن يتلطف ولا يعنف, فإن التعنيف قد يكون مدعاة لرد الموعظة، والنصيحة, فليتعلم الدعاة من ربهم كيف يعاتبون، وكيف ينبهون على الأخطاء.
( وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى ) : أي ما يعلمك أنه قد يتزكى بسؤاله هذا , ومعنى ( يزكى ) التزكية هي التطهر من الآثام، والذنوب، والكفر، والفسوق، وغير ذلك, وأصله يتزكى. فلعله بسؤاله هذا، وقوله: أرشدني، علمني مما علمك الله، أن يتطهر. وذهب ابن زيد، رحمه الله، إلى أن معنى يزكى: يسلم ! وأن ابن أم مكتوم حين أتى النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن مسلماً، فقصد بالتزكية في الآية، الإسلام. إلا إن سياق الآيات التالية يدل على أنه، رضي الله عنه، كان مسلماً إذ ذاك.
( أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى ) : ومعنى الآية، مع التي قبلها، أنه لم يخله من حالين إحداهما " أن يزكى " والأخرى " أن يتذكر " وفي ذلك توجيهان :
التوجيه الأول: أن ذلك من باب التحلية بعد التخلية , أي أن تكون التزكية دالة على التطهر، والتخلص من الآفات، والذنوب، والعيوب, ثم تكون الذكرى من باب التكميل؛ بفعل الطاعات، والبر، ونحو ذلك. فيكون المقصود الترقي.
التوجيه الثاني : أن التزكية يراد بها الأكمل، الأتم، بأن يتحقق له زكاة النفس؛ إما بالإسلام إن لم يكن قد أسلم, وإما بالتوبة النصوح، إن كان قد ألمَّ بخطأ. فإن لم يتحقق ذلك كله، فلعله أن يتحقق بعضه، وهو أن يحصل تذكر, فيكون هذا انتقال من الأعلى إلى الأدنى. فيكون المقصود التنويع .
ولا يخفى أن الذكرى تنفع المؤمنين، كما قال الله عز وجل: ( وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين ), وذلك أن القلب يتراكم عليه من الغفلات، والشهوات، ما يحجبه عن نور الإلهية، فإذا ذكِّر استنار, ولهذا جاء في الحديث : } إن القلوب لتصدأ كما يصدأ الحديد , فقيل : وما جلائها يا رسول الله ؟ قال ذكر الله { . فتوالي الغفلات، والشهوات يلقي على القلب الران أو الغان, والران أشد من الغان، قال تعالى: ( كلا بل ران على قلوبهم ما كان يكسبون ) فالكسب الحرام والمعاصي غلف القلب فلا تنفذ إليه المواعظ. والغان دون ذلك، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : } إنه ليغان على قلبي حتى أذكر الله { فإذا ذكر الله عز وجل انقشع, فالذكرى نافعة على كل حال؛ إن لم تنفع نفعاً كلياً، نفعت نفعاً جزئياً.
( أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى ) : هذا بداية تقسيم, إما أن يكون المراد باستغنائه أنه استغنى عنك، وزهد فيك، وبدعوتك، وأظهر الإعراض عنك, وإما أن يكون استغنى أي بماله ودنياه، لكونه من أهل الثراء، والجاه. والواقع أنه لا مانع من اجتماع الأمرين، بل الغالب أنهما متلازمان؛ فإن أهل الثراء، والترف، والغنى، غالباً ما يزدرون غيرهم لما يقع في قلوبهم من الاستغناء، والشعور بالترفع عن الآخرين. ولعل هذا هو الواقع , فإن الذين تعرض لهم النبي صلى الله عليه وسلم، كانوا من صناديد قريش، وعظمائها وأغنياءها .
( فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى ) : أي تتعرض، وتبذل له نفسك, ونبينا صلى الله عليه وسلم، إنما فعل ذلك، بأبي هو وأمي، رغبة في إسلامهم، لا يريد منهم نوالاً، ولا عرضاً من الدنيا, ولكن حرصاً على إسلامهم؛ ليسلم بإسلامهم من خلفهم. وكان النبي صلى الله عليه وسلم، يعاني من ذلك حتى إن الله قال له : ( فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آَثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا ) يعني لعلك مهلك نفسك حزناً، على آثارهم ، واتباعهم، إن لم يؤمنوا بهذا الحديث.
( وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى ) : " ما " إما أن تكون استفهامية، يعني أي شيء يلحقك، ويصيبك، إن لم يتزك هذا الذي استغنى. وإما أن تكون نافية، يعني ( وما عليك ألا يزكى) أي ليس عليك ضير، ولا لوم، ولا عتب، ألا يسلم ؛ لأن مهمتك البلاغ. وعلى كلا التقديرين، فإن الأمر يدل على أن مهمة الرسول صلى الله عليه وسلم ، هي البلاغ كما قال تعالى: ( إن عليك إلا البلاغ ). فيجب على الرسول أن يبلغ رسالات ربه، فإن استجيب له فذاك, وإن لم يُستجب له، فلا لوم عليه ولا عتب. قال تعالى: (إنك لا تهدي من أحببت) , وقال : (وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين) وفي هذا، أيضاً، درس للدعاة إلى الله، والواعظين، أن يجعلوا همهم، وجهدهم، في بيان الحق، وإيضاحه، وألا يهتموا كثيراً بالنتائج, فإن النتائج إلى الله تعالى.
( وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى ) : بذاته وبدافعيته، فهو جاء بنفسه بينما الآخر تقصده وتتصدى له . وتأمل قوله " يسعى "، ولم يقل : " يمشي "، بل جاء مسرعاً، كالذي وصف الله في سورة يس : ( وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى ) هكذا يصنع الإيمان بصاحبه. إذا اشتعلت جذوة الإيمان في القلب، انطلقت الجوارح، وزال عنها الكسل، والوهن، وصار الإنسان يخب، ويسعى، ويستحث الخطى.
( وَهُوَ يَخْشَى ) : قام في قلبه من خشية الله ما حمله على قصد نبيه صلى الله عليه وسلم والسؤال عن أمر دينه. والخشية منَّة من الله، عز وجل، فإذا ألهم الله عبده الخشية، ألهمه الخير. والخشية ثمرة العلم, قال الله عز وجل : (إنما يخشى الله من عباده العلماء), فمن كان بالله أعرف، كان لله أخوف. وفي الآية دليل على أن ابن أم مكتوم، رضي الله عنه، كان إذَّاك مسلماً.
( فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى ) : تتلهى وتتشاغل.
فالمعنى الإجمالي لهذه الآيات: أن الله سبحانه وتعالى عاتب نبيه صلى الله عليه وسلم في أمر اجتهد فيه، فأخطأ؛ حينما كان مشتغلاً بدعوة صناديد قريش، رغبة في دخولهم الإسلام، حيث أعرض عمن جاءه مسترشداً، مستهدياً، مقبلاً غير مدبر، راغباً غير معرض, فكلح وجهه، وقطب جبينه, هذا والرجل لا يراه، ولم يفه بكلمة واحدة , ومع ذلك عاتبه ربه هذا العتاب البليغ المؤثر. وهذا دليل على أننا يجب أن ننظر بنور الله عز وجل، وأن نقوِّم الناس، والأشخاص، بحسب منزلتهم في ميزان الله لا في ميزان البشر؛ فنعظم، ونكرم، من يستحق التعظيم والتكريم. فالمؤمن أحق بالكرامة، والإجلال، وإن كان فقيراً ضعيفاً، صعلوكاً, مملوكاً. والكافر، لا كرامة له , وإن كان غنياً، شريفاً, كما قال الله عز وجل : ( ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم ) , وقال: ( إن أكرمكم عند الله اتقاكم ).
هذه القيمة الأساسية مما أرساه هذا الدين، وكان به إعلاءً لقيمة الإنسان , فالإنسان ليس قدره بماله، وجاهه، وشرفه، ونسبه, وإنما قدره بما يختزن في قلبه من إيمان, وتقوى. وقد فقه نبينا صلى الله عليه وسلم، هذا الدرس البليغ، فاستخلف ابن أم مكتوم على المدينة مرتين في سفراته, ويروى أنه كان إذا لقيه قال: (أهلاً بمن عاتبني فيه ربي). ولما جاء بعض أشراف العرب؛ الأقرع ابن حابس التميمي, وعيينة بن حصن الفزاري, وغيرهما، ورأوا في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم، عمار بن ياسر, وبلال بن رباح، وصهيب الرومي، رضي الله عنهم, أنفوا، واستنكفوا أن تراهم العرب في مجلس يضم هؤلاء الموالي، وقالوا : يا محمد اجعل لنا مجلساً. فلم يجبهم النبي صلى الله عليه وسلم, لكن دار بخلده ذلك، فأنزل الله تعالى قوله: ( وإذا جاءك الذين يؤمنون بآيتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة ) , فحياهم، ورحب بهم, وأبى أن يمتثل لطلب هؤلاء الذين لم يقع الإيمان في قلوبهم بعد.
وهكذا أدب النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه، فلما قال أحدهم لبلال، رضي الله عنه: يا ابن السوداء قال : } إنك امرؤ فيك جاهلية {، فما كان من هذا العربي القح، إلا أن وضع خده في التراب، وقال لبلال: طأ بقدمك على خدي، يريد أن يستخرج هذا الدخن، هذه البقية الجاهلية من نفسه، حتى يرى الأمور بنور الله، وحتى يزن الأشياء بميزان الله. قال عمر رضي الله عنه : " أبو بكر سيدنا، وأعتق سيدنا" يعني بلالاً، رضي الله عنهم، أجمعين.
الفوائد المستنبطة :
الأولى : تلطف الله بنبيه صلى الله عليه وسلم، في المعاتبة.
الثانية : تلطف الله بالأعمى، بما يعذره في فعله .
الثالثة : الحرص على التزكية، والتطهر، من الشرك، والمعصية .
الرابعة : فضل التذكر (أو يذكر فتنفعه الذكرى ) .
الخامسة : ضبط المصالح والمفاسد بالضوابط الشرعية, وتقدير المصلحة والمفسدة بالمعايير الدينية. ويتفرع عن ذلك أن من الناس من يتوسع بما يسمى (مصلحة الدعوة) فربما يتقحم بعض المحظورات باسم مصلحة الدعوة. وهذا ليس إليه , فإن الدعوة ليست ملكاً لأحد، لأن الدعوة لله عز وجل، فلابد أن يدعو العبد إلى ربه، وفق مراده، ووفق شرعه، وألا يقدم، ولا يؤخر، ولا يصطفي، ولا ينحي، بناءا على محض رأيه، وتقديره، بل لابد أن يستنير بنور الله .
السادسة : هوان المستغنين عن الهدى، المعرضين عنه، على الله .
السابعة : أن وظيفة الداعية هي البلاغ، وليس عليه الهدى ( لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ ) .
الثامنة : حرص المؤمن على الهدى، والعلم, وسعيه في تحصيلهما.
التاسعة : أن الخشية ثمرة الإيمان الصادق.
العاشرة : بشرية الرسول صلى الله عليه وسلم، وإمكان صدور الخطأ منه. فهو بشر يلحقه ما يلحق البشر في الأمور البدنية، والعملية (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) إلا أنه لا يقر على الخطأ. وهذا هو معنى (العصمة) الحقيقي. بينما آحاد الناس يخطئون، وقد يشعرون، وقد لا يشعرون أما النبي صلى الله عليه وسلم، فإن من عصمة الله له أنه إذا أخطأ، بين له خطئه .
وهذا يرد به على الذين يغالون في وصف النبي صلى الله عليه وسلم، بغير ما وصفه الله تعالى به، فقد قال تعالى لنبيه : ( وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ) فأثبت له ذنباً، كم أثبت للمؤمنين وللمؤمنات، وأمره أن يستغفر لنفسه، ولهم. وقد استجاب لأمر ربه، فكان يستغفر الله في المجلس مائة مرة, وقال عن نفسه : ( فإني استغفر الله سبعين مرة ) .
بقلم / د. أحمد بن عبد الرحمن القاضي حفظه الله تعالى[/align]
التفسير العقدي لجزء عم
سورة عبس
المقطع الأول
عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10)
سورة (عبس) سورة مكية , تتضمن مقاصد عظيمة منها :
المقصد الأول : بيان القيم الحقيقية .
المقصد الثاني: إثبات البعث وأهوال القيامة .
المقصد الثالث : تقرير توحيد الربوبية .
نزلت هذه السورة في حادثة جرت للنبي صلى الله عليه وسلم في مكة، فقد كان يعرض الإسلام على عظماء قريش، وصناديدهم، من أمثال عتبة بن ربيعة , وشيبة بن الربيعة , وأبي جهل , وأمثالهم ؛ رجاء إسلامهم، وطمعاً في استمالتهم، وإعزاز هذا الدين. وفي هذه الأثناء، أقبل عليه رجل أعمى، وهو عبد الله بن عمرو بن أم مكتوم، رضي الله عنه، جاءه مسترشداً, ففي حديث عائشة، رضي الله عنها، أنه كان يقول : أرشدني , فيعرض النبي صلى الله عليه وسلم عنه, فيقول : هل قلت شيئاً فيه بأس , فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: لا. وكلح بوجهه، وقطب، وكره سؤاله، فأنزل الله هذه الآيات، التي لا يوجد لها نظير في القرآن العظيم، في العتب على النبي صلى الله عليه وسلم، وبَّين له القيم الحقيقية التي ينبغي أن ينبني عليها تقويم الإنسان للذوات، مهما كانت المصالح الموهومة .
( عَبَسَ وَتَوَلَّى ) : "عبس " أي كلح بوجهه، وقطب بجبينه, وهذا التعبير كناية عن الكراهة، والامتعاض من قدوم هذا السائل الأعمى، في هذا الحال.
ومعنى " تولى " أي أعرض، وصد عنه. فقد وقع منه صلى الله عليه وسلم حيال هذا الأعمى أمر باطني، وأمر ظاهري, فالأمر الباطني: دل عليه قوله " عبس " لأن هذا العبوس ينبئ عما قام في نفسه من الكراهة، وأما الأمر الظاهري: فهو الإعراض عن ذلك السائل .
( أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى ) : يعني أن الحامل له على ذلك، هو مجيء الأعمى. وقد وصفه الله تعالى بهذا الوصف " الأعمى " من باب حكاية الحال, وفي هذا دليل على أنه لا بأس بوصف الإنسان بما فيه على سبيل التعريف، لا على سبيل التعيير, ولم يزل العلماء يحتملون الألقاب المعرِّفة بأصحابها، كما نجد ذلك كثيراً عند المحدثين، كقولهم: الأعمش, والأعرج, والطويل، وغير ذلك, وذلك مما استثنى من الغيبة.
كما أن في وصفه بهذا الوصف " الأعمى " : فيه نوع إعذار له، بأنه ما دخل على النبي صلى الله عليه وسلم، وهو مشغول بهذا الحال، إلا بسبب كونه أعمى, وربما لو كان بصيراً، ورأى اشتغال النبي صلى الله عليه وسلم، بمن بين يديه، لتريث إلى أن يفرغ .
ونلحظ نوع تلطف من الله عز وجل بنبيه صلى الله عليه وسلم في العتاب، بأن ساق هذه الحادثة على سبيل الخبر، بالفعل الماضي فقال: ( عبس وتولى ) , ولم يقل : " عبست وتوليت " . وهذا يدل على أنه ينبغي لمن أراد المعاتبة، أو النصيحة، أن يتلطف ولا يعنف, فإن التعنيف قد يكون مدعاة لرد الموعظة، والنصيحة, فليتعلم الدعاة من ربهم كيف يعاتبون، وكيف ينبهون على الأخطاء.
( وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى ) : أي ما يعلمك أنه قد يتزكى بسؤاله هذا , ومعنى ( يزكى ) التزكية هي التطهر من الآثام، والذنوب، والكفر، والفسوق، وغير ذلك, وأصله يتزكى. فلعله بسؤاله هذا، وقوله: أرشدني، علمني مما علمك الله، أن يتطهر. وذهب ابن زيد، رحمه الله، إلى أن معنى يزكى: يسلم ! وأن ابن أم مكتوم حين أتى النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن مسلماً، فقصد بالتزكية في الآية، الإسلام. إلا إن سياق الآيات التالية يدل على أنه، رضي الله عنه، كان مسلماً إذ ذاك.
( أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى ) : ومعنى الآية، مع التي قبلها، أنه لم يخله من حالين إحداهما " أن يزكى " والأخرى " أن يتذكر " وفي ذلك توجيهان :
التوجيه الأول: أن ذلك من باب التحلية بعد التخلية , أي أن تكون التزكية دالة على التطهر، والتخلص من الآفات، والذنوب، والعيوب, ثم تكون الذكرى من باب التكميل؛ بفعل الطاعات، والبر، ونحو ذلك. فيكون المقصود الترقي.
التوجيه الثاني : أن التزكية يراد بها الأكمل، الأتم، بأن يتحقق له زكاة النفس؛ إما بالإسلام إن لم يكن قد أسلم, وإما بالتوبة النصوح، إن كان قد ألمَّ بخطأ. فإن لم يتحقق ذلك كله، فلعله أن يتحقق بعضه، وهو أن يحصل تذكر, فيكون هذا انتقال من الأعلى إلى الأدنى. فيكون المقصود التنويع .
ولا يخفى أن الذكرى تنفع المؤمنين، كما قال الله عز وجل: ( وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين ), وذلك أن القلب يتراكم عليه من الغفلات، والشهوات، ما يحجبه عن نور الإلهية، فإذا ذكِّر استنار, ولهذا جاء في الحديث : } إن القلوب لتصدأ كما يصدأ الحديد , فقيل : وما جلائها يا رسول الله ؟ قال ذكر الله { . فتوالي الغفلات، والشهوات يلقي على القلب الران أو الغان, والران أشد من الغان، قال تعالى: ( كلا بل ران على قلوبهم ما كان يكسبون ) فالكسب الحرام والمعاصي غلف القلب فلا تنفذ إليه المواعظ. والغان دون ذلك، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : } إنه ليغان على قلبي حتى أذكر الله { فإذا ذكر الله عز وجل انقشع, فالذكرى نافعة على كل حال؛ إن لم تنفع نفعاً كلياً، نفعت نفعاً جزئياً.
( أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى ) : هذا بداية تقسيم, إما أن يكون المراد باستغنائه أنه استغنى عنك، وزهد فيك، وبدعوتك، وأظهر الإعراض عنك, وإما أن يكون استغنى أي بماله ودنياه، لكونه من أهل الثراء، والجاه. والواقع أنه لا مانع من اجتماع الأمرين، بل الغالب أنهما متلازمان؛ فإن أهل الثراء، والترف، والغنى، غالباً ما يزدرون غيرهم لما يقع في قلوبهم من الاستغناء، والشعور بالترفع عن الآخرين. ولعل هذا هو الواقع , فإن الذين تعرض لهم النبي صلى الله عليه وسلم، كانوا من صناديد قريش، وعظمائها وأغنياءها .
( فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى ) : أي تتعرض، وتبذل له نفسك, ونبينا صلى الله عليه وسلم، إنما فعل ذلك، بأبي هو وأمي، رغبة في إسلامهم، لا يريد منهم نوالاً، ولا عرضاً من الدنيا, ولكن حرصاً على إسلامهم؛ ليسلم بإسلامهم من خلفهم. وكان النبي صلى الله عليه وسلم، يعاني من ذلك حتى إن الله قال له : ( فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آَثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا ) يعني لعلك مهلك نفسك حزناً، على آثارهم ، واتباعهم، إن لم يؤمنوا بهذا الحديث.
( وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى ) : " ما " إما أن تكون استفهامية، يعني أي شيء يلحقك، ويصيبك، إن لم يتزك هذا الذي استغنى. وإما أن تكون نافية، يعني ( وما عليك ألا يزكى) أي ليس عليك ضير، ولا لوم، ولا عتب، ألا يسلم ؛ لأن مهمتك البلاغ. وعلى كلا التقديرين، فإن الأمر يدل على أن مهمة الرسول صلى الله عليه وسلم ، هي البلاغ كما قال تعالى: ( إن عليك إلا البلاغ ). فيجب على الرسول أن يبلغ رسالات ربه، فإن استجيب له فذاك, وإن لم يُستجب له، فلا لوم عليه ولا عتب. قال تعالى: (إنك لا تهدي من أحببت) , وقال : (وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين) وفي هذا، أيضاً، درس للدعاة إلى الله، والواعظين، أن يجعلوا همهم، وجهدهم، في بيان الحق، وإيضاحه، وألا يهتموا كثيراً بالنتائج, فإن النتائج إلى الله تعالى.
( وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى ) : بذاته وبدافعيته، فهو جاء بنفسه بينما الآخر تقصده وتتصدى له . وتأمل قوله " يسعى "، ولم يقل : " يمشي "، بل جاء مسرعاً، كالذي وصف الله في سورة يس : ( وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى ) هكذا يصنع الإيمان بصاحبه. إذا اشتعلت جذوة الإيمان في القلب، انطلقت الجوارح، وزال عنها الكسل، والوهن، وصار الإنسان يخب، ويسعى، ويستحث الخطى.
( وَهُوَ يَخْشَى ) : قام في قلبه من خشية الله ما حمله على قصد نبيه صلى الله عليه وسلم والسؤال عن أمر دينه. والخشية منَّة من الله، عز وجل، فإذا ألهم الله عبده الخشية، ألهمه الخير. والخشية ثمرة العلم, قال الله عز وجل : (إنما يخشى الله من عباده العلماء), فمن كان بالله أعرف، كان لله أخوف. وفي الآية دليل على أن ابن أم مكتوم، رضي الله عنه، كان إذَّاك مسلماً.
( فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى ) : تتلهى وتتشاغل.
فالمعنى الإجمالي لهذه الآيات: أن الله سبحانه وتعالى عاتب نبيه صلى الله عليه وسلم في أمر اجتهد فيه، فأخطأ؛ حينما كان مشتغلاً بدعوة صناديد قريش، رغبة في دخولهم الإسلام، حيث أعرض عمن جاءه مسترشداً، مستهدياً، مقبلاً غير مدبر، راغباً غير معرض, فكلح وجهه، وقطب جبينه, هذا والرجل لا يراه، ولم يفه بكلمة واحدة , ومع ذلك عاتبه ربه هذا العتاب البليغ المؤثر. وهذا دليل على أننا يجب أن ننظر بنور الله عز وجل، وأن نقوِّم الناس، والأشخاص، بحسب منزلتهم في ميزان الله لا في ميزان البشر؛ فنعظم، ونكرم، من يستحق التعظيم والتكريم. فالمؤمن أحق بالكرامة، والإجلال، وإن كان فقيراً ضعيفاً، صعلوكاً, مملوكاً. والكافر، لا كرامة له , وإن كان غنياً، شريفاً, كما قال الله عز وجل : ( ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم ) , وقال: ( إن أكرمكم عند الله اتقاكم ).
هذه القيمة الأساسية مما أرساه هذا الدين، وكان به إعلاءً لقيمة الإنسان , فالإنسان ليس قدره بماله، وجاهه، وشرفه، ونسبه, وإنما قدره بما يختزن في قلبه من إيمان, وتقوى. وقد فقه نبينا صلى الله عليه وسلم، هذا الدرس البليغ، فاستخلف ابن أم مكتوم على المدينة مرتين في سفراته, ويروى أنه كان إذا لقيه قال: (أهلاً بمن عاتبني فيه ربي). ولما جاء بعض أشراف العرب؛ الأقرع ابن حابس التميمي, وعيينة بن حصن الفزاري, وغيرهما، ورأوا في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم، عمار بن ياسر, وبلال بن رباح، وصهيب الرومي، رضي الله عنهم, أنفوا، واستنكفوا أن تراهم العرب في مجلس يضم هؤلاء الموالي، وقالوا : يا محمد اجعل لنا مجلساً. فلم يجبهم النبي صلى الله عليه وسلم, لكن دار بخلده ذلك، فأنزل الله تعالى قوله: ( وإذا جاءك الذين يؤمنون بآيتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة ) , فحياهم، ورحب بهم, وأبى أن يمتثل لطلب هؤلاء الذين لم يقع الإيمان في قلوبهم بعد.
وهكذا أدب النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه، فلما قال أحدهم لبلال، رضي الله عنه: يا ابن السوداء قال : } إنك امرؤ فيك جاهلية {، فما كان من هذا العربي القح، إلا أن وضع خده في التراب، وقال لبلال: طأ بقدمك على خدي، يريد أن يستخرج هذا الدخن، هذه البقية الجاهلية من نفسه، حتى يرى الأمور بنور الله، وحتى يزن الأشياء بميزان الله. قال عمر رضي الله عنه : " أبو بكر سيدنا، وأعتق سيدنا" يعني بلالاً، رضي الله عنهم، أجمعين.
الفوائد المستنبطة :
الأولى : تلطف الله بنبيه صلى الله عليه وسلم، في المعاتبة.
الثانية : تلطف الله بالأعمى، بما يعذره في فعله .
الثالثة : الحرص على التزكية، والتطهر، من الشرك، والمعصية .
الرابعة : فضل التذكر (أو يذكر فتنفعه الذكرى ) .
الخامسة : ضبط المصالح والمفاسد بالضوابط الشرعية, وتقدير المصلحة والمفسدة بالمعايير الدينية. ويتفرع عن ذلك أن من الناس من يتوسع بما يسمى (مصلحة الدعوة) فربما يتقحم بعض المحظورات باسم مصلحة الدعوة. وهذا ليس إليه , فإن الدعوة ليست ملكاً لأحد، لأن الدعوة لله عز وجل، فلابد أن يدعو العبد إلى ربه، وفق مراده، ووفق شرعه، وألا يقدم، ولا يؤخر، ولا يصطفي، ولا ينحي، بناءا على محض رأيه، وتقديره، بل لابد أن يستنير بنور الله .
السادسة : هوان المستغنين عن الهدى، المعرضين عنه، على الله .
السابعة : أن وظيفة الداعية هي البلاغ، وليس عليه الهدى ( لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ ) .
الثامنة : حرص المؤمن على الهدى، والعلم, وسعيه في تحصيلهما.
التاسعة : أن الخشية ثمرة الإيمان الصادق.
العاشرة : بشرية الرسول صلى الله عليه وسلم، وإمكان صدور الخطأ منه. فهو بشر يلحقه ما يلحق البشر في الأمور البدنية، والعملية (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) إلا أنه لا يقر على الخطأ. وهذا هو معنى (العصمة) الحقيقي. بينما آحاد الناس يخطئون، وقد يشعرون، وقد لا يشعرون أما النبي صلى الله عليه وسلم، فإن من عصمة الله له أنه إذا أخطأ، بين له خطئه .
وهذا يرد به على الذين يغالون في وصف النبي صلى الله عليه وسلم، بغير ما وصفه الله تعالى به، فقد قال تعالى لنبيه : ( وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ) فأثبت له ذنباً، كم أثبت للمؤمنين وللمؤمنات، وأمره أن يستغفر لنفسه، ولهم. وقد استجاب لأمر ربه، فكان يستغفر الله في المجلس مائة مرة, وقال عن نفسه : ( فإني استغفر الله سبعين مرة ) .
بقلم / د. أحمد بن عبد الرحمن القاضي حفظه الله تعالى[/align]