التفسير العقدي لجزء عم

إنضم
02/02/2009
المشاركات
196
مستوى التفاعل
0
النقاط
16
الإقامة
ليبيا
[align=center] التفسير العقدي لجزء عم

سورة (النبأ)

الحلقة (1)

الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على عبده ونبيه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:

فهذه السورة العظيمة المُسماة بسورة (النبأ) وتُسمى بسورة (عَمَّ) لها مقاصد يُمكن أن نُلخصها في أمور ثلاثة:

المقصد الأول: تعظيم شأن القرآن.

الثاني: تقرير الإيمان باليوم الآخر.

الثالث: الدعوة إلى التفكر في آيات الله الكونية.

قال تعالى : (عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3) كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (5))

استهل الله تعالى هذه السورة بصغية الاستفهام (عَمَّ)؟ وهي اختصار لـ (عن ماذا), ومعناها : عن أيّ شيء يتساءل المشركون. وقد وردت على صيغة الاستفهام الإنكار، للنعيِ على فعلتهم, فكيف يسوغ أن يتساءلوا، وأن يختلفوا في أمر كهذا!

والنبأ المقصود به: الخبر. وليس أيَّ خبر, بل الخبر الذي استطار واشتهر؛ وهو مأخوذ من النّبْوة, وهي : هي ما علا، وارتفع من الأرض. ثم فخّم الله شأن هذا النبأ, فوصفه بأنه عظيم, والأمر كذلك.

وقد وقع الخلاف بين المفسرين؛ هل المقصود بالنبأ: القرآن، وهو قول مجاهد, أم المقصود بالنبأ: البعث بعد الموت، وهو قول قتادة. ويُعزز القول الأول, أنه وقع الاختلاف منهم في القرآن؛ فتارة يقولون: سحر. وتارة يقولون: كَهانة. وتارة يقولون: شعر. فينطبق عليهم أنهم قد اختلفوا فيه. في حين أن البعث لم يقع فيه اختلاف بينهم؛ لأنهم قد أنكروه جملة وتفصيلاً. إلا أن القول الثاني وهو أن النبأ العظيم هو البعث أليق بسياق السورة؛ فإن سياق السورة كما تقدم، يتعلق بأحوال الآخرة، والجنة، والنار، والفَصْل، والحساب.

ولو ذهبنا نُرجح بين القولين, لكان القول الأول أرجح؛ لأنه أعم, فإن القرآن يدخل فيه أمر البعث, فيكون متضمناً له. ويكون اختلافهم في الواقع، في مفردات هذا الأمر, فهذا أولى بالاختيار. واقتبس الشيخ محمد عبد الله دراز كتابه (النبأ العظيم) من هذه السُّورة.

ثم إن الله عز وجل لمّا ذكر تساؤل المشركين, أجاب عنه إجابةً مجملةً لا تفصيل فيها، فقال: (عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3) ), ولم يذكر تفاصيل اختلافهم، والجواب عنهم، بل يعرض عن ذلك. وكأن الأمر من البيان، والوضوح، بمكان لا يستحق أن يُتنازل مع المخالف، ولا يُتحدث معه فيه. ففي هذا الإعراض تفخيم لهذا النبأ العظيم, وترذيل لهؤلاء المنكرين له.

ثم تأتي آيتان فيهما زجرٌ، وقرعٌ لهم: يقول الله تعالى: (كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ(5)). وما أشدَّ وقع هذه الجُمل على القلوب. وكلمة (كلا) أحسن ما يُقال في معناها أي: ليس الأمر كما يزعمون، وما يَدّعون من إنكار البعث، أو الطعن في القرآن. وأتى بالتكرار في قوله: (ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ), للتأكيد. ولم يُبين الله تعالى ماذا سيعلمون, لكنه واضح من السياق، أنهم سيعلمون حقيقة هذا النبأ، وتحققه في الواقع, وذلك حينما يُعاينونه ويبصرونه, يقول الله عز وجل: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ ، قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا ۜ ۗ هَٰذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَٰنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ } يس: ٥١ – ٥٢, فهم سيعلمونه حينما يرونه عِياناً بأبصارهم، ويعلمون أن وعد الله حق.

الفوائد المستنبطة من المقطع الأول :

الفائدة الأولى: عظم شأن القرآن، أو البعث، وأنه من أصول الإيمان.

الفائدة الثانية :سَفَه المُنكرين للأمور اليقينية .

الفائدة الثالثة :أن المُخالفين للرسل مختلفون فيما بينهم, فليسوا على قلب واحد, قال الله تعالى: (الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ), وقال سبحانه:{ ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ ۗ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ } البقرة: ١٧6, فكل من خالف الحق تجدهم فِرقاً وشِيعاً وأحزاباً؛ لأن الحق واحد لا يتعدد, أما الباطل فشعب وظلمات, ولهذا تجد أن الله تعالى دوماً يُوحد الحق فمن ذلك قوله:{ قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ ۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ۖ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ } يوسف: ١٠٨, فالحق واحد, والسبيل واحدة, والباطل أشلاء.

الفائدة الرابعة: استعمال أسلوب التهديد في الموعظة الإيمانية, وهذه من قوله تعالى: (كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (5)), فلا بأس للداعية في بعض المواقف أن يُهدد المدعو بعقاب الله، وبشؤم صنيعه, وأن يُخوفه باليوم الآخر, ويقول له: ويلك. كما قال الله عز وجل: {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتْ الْقُرُونُ مِن قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} الأحقاف : 17

بقلم / د. أحمد بن عبد الرحمن القاضي[/align]
 
سورة (النبأ)

سورة (النبأ)

[align=center] سورة (النبأ)

الحلقة (2)
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على عبده ونبيه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

قال تعالى : (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7) وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا(8) وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11) وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12) وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (13) وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (16) ) هذه الآيات استعراض مدهش لعجيب صُنع الله، وبديع خلقه في الآفاق, مما تخضع له الرقاب، وتُذعن له الجباه, ويُقر هؤلاء المخاطبون بحقيقته. واالاستفهام في قول الله تعالى: (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا), استفهام تقريري؛ لأنهم مُقرون بما فيه.

فابتدأ الله تعالى بالآيات الأرضية, ثم ثنّى بالآيات السماوية, فقال أولاً: (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا), فهذه الأرض التي تدبّون عليها, وتتنقلون في أكنافها, وتسيرون في مناكبها, وتحرثونها وتزرعونها, ألم نجعلها لكم مهاداً ؟ ومعنى مهاداً أي: ممهدة مفروشة. فهم يمتهدونها، ويفترشونها، كما قال تعالى في الآية الأخرى:{ أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا ۗ أَإِلَٰهٌ مَعَ اللَّهِ ۚ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ } النمل: ٦١, فالله تعالى بسط لنا هذه البسيطة, بحيث نطمئنُّ في السير عليها، وفي السُّكنى فوقها، وفي الحرث، والزرع فيها., فهي آية قريبة جداً، نلامسها كل حين. وجواب هذا الاستفهام (بلى)؛ لأنه قد صُدِّر بالهمزة في قوله: (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا).

ثم قال تعالى: (وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا) انتقل إلى مظهر آخر من مظاهر آياته الأرضية، وهى هذه الجبال الراسيات، التي جعلها الله سبحانه وتعالى بمنزلة الأوتاد, كالأطناب للخيمة, فالخيمة لا تثبت، إلا إذا دُقّت أوتادها في الأرض, فكذلك هذه الأرض، لا تستقرُّ إلا بهذه الجبال قال تعالى:{ وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ } الأنبياء: ٣١, والجبل على هيئة الوتد؛ جزء منه بارزٌ على وجه الأرض, وجزء منه غائر فيها. فدل ذلك على أن هذه الجبال المنظورة، لها في جوف الأرض عُمْق وامتداد. وسبب تسميتها أوتاداً؛ لأنها تمنع الأرض من الحركة، والاضطراب، والزلازل, إلا ما شاء الله. فالله تعالى، بحكمته البالغة، قد وزّع الأثقال في الأرض، بحيث تمنعها من أن تميد وتضطرب. أو أن المراد: أن هذه الأوتاد، والكتل الضخمة من الجبال التي إذا رأى الإنسان بعضها، يندهش من هولها، وعظمتها، لها ما يقابلها في أغوار البحار. بمعنى أن الله سبحانه وتعالى كما جعل هذه المرتفعات الشاهقة فوق الأرض، قابل ذلك بخلق البحار والأودية، والأغوار.

والله تعالى يذكر الأرض، والسماء، والجبال، مقترنةً، في غير ما موضع في كتابه؛ منها قوله عز وجل:{ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا } الأحزاب: ٧٢, وسيأتي إن شاء الله تعالى، في سورة سبح، ذكر هذا الاقتران.

ثم قال تعالى: ( وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا(8)), وهذه نقلة من الآفاق إلى الأنفس. وكلها آيات لله عز وجل قال سبحانه وتعالى:{ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ۗ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ }فصلت: ٥٣.

فقوله تعالى: (وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا)، المراد بالزوجية: الذكورة، والأنوثة. فإن الله سبحانه وتعالى، قد ركّب نظام الخلق، وسر التكاثر، على هذه الزوجية. وهذا ليس عند بني الإنسان فقط, بل حتى عند الحيوانات، والحشرات، والنباتات، وغيرها من المخلوقات. فالتزاوج يحصل به التناسل، والتكاثر، وحفظ النوع. وهو آية عظيمة, فالله تعالى، في الأصل، خلقنا من نفس واحدة؛ وهو آدم عليه السلام. ثم إن الله تعالى، خلق من ضِلْعه الأيسر القصير أُمّنا حواء, فنام آدم نومة في الجنة, فاستيقظ فإذا هي إلى جواره, قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا }النساء: ١, والآن يعمر الأرض من الآدميين، ما يزيد على ست مليارات من البشر, مُختلفو الأجناس، والأعراق، والألوان، واللغات, كلهم يرجعون إلى أب واحد، وأمٍّ واحدة. فهذه آية عظيمة! وإذا تفكر الإنسان في خلق الرجل، وخلق المرأة، وكيف جعل الله تعالى، أحدهما يُكمل الآخر. ولما فتح الله تعالى، على الناس العلوم الحديثة والبحوث المَخْبرية , زاد إيمان المؤمن ببديع صنع الله. وهذا التزاوج ينشأ عن التقاء حيوان مِنويٍّ من الذكر، وبًُويضة من الأنثى. وهاتان خليّتان تختلفان عن سائر الخلايا, فكل خليّة من خلايا البدن، كما يقول المتخصصون في علم وظائف الأحياء، تحمل ستة وأربعين مُورِّثاً، أو (جيناً), المُسمى عندهم بـ (الكروموسومات), إلا الخليّة التناسلية, فإن في الحيوان المنوي ثلاثة وعشرين, وفي البويضة ثلاثةً وعشرين. فإذا حصل التلقيح، والإخصاب، بإذن الله، انضم هذا من الرجل، وهذا من الأنثى، فحصل التخليق. كما أن هذا التزاوج, ليس تزاوجاً حسياً فقط, بل تزاوج نفسي أيضاً؛ فإن الذكر يأنس بالأنثى, والأنثى تأنس بالذكر. ولهذا امتن الله، عز وجل، على عباده بذلك، وجعل ذلك من آياته، فقال في الآية الأخرى:{ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } الروم: ٢١, فهذا جانب روحي, وليس جانباً مادياً, ولا يستغني عنه الإنسان.

ثم قال تعالى: (وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9)), هذا أيضاً، مظهر من مظاهر القدرة الإلهية، والآيات العظيمة في النفس, وهو هذا النوم الذي يُلقيه الله تعالى، على أحدنا، فيدخل في حالة ليست كحالة اليقظة, وليست أيضاً كحالة الموت, بل هي حالة وسيطة، لابد للإنسان منها. وقد وصفها الله سبحانه وتعالى بأنها: سُبات. وأحسن ما قيل في تعريف السُبات: أنه الرَّاحة، والسَكْن. وقيل غير ذلك؛ فقيل: إن معنى سُباتاً أي: موتاً. وقيل: قطْعاً للحركة. وهذه المعاني تؤول في النهاية إلى هذه المِنّة، وهي أنه يحصُل بهذا النوم الراحة، والسَكْن. ولو استرسل الإنسان في اليقظة لأضرّ به ذلك في بدنه, فالبدن يحتاج إلى راحة, ولأضرّ به في نفسه؛ لأن النفس تُنهك، وتُرهق, ولأضرّ به في عقله, فإن العقل لا يُطيق أن يعمل باستمرار, فلذلك ألقى الله تعالى علينا هذا النوم، وحتى لو لم نستدعْه، لاضطررنا إليه، ولألقانا.

وقد جاء في الأثر عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن بني إسرائيل قالوا: يا موسى هل ينام ربك؟ قال: اتقوا الله. فناداه ربه عز وجل: يا موسى سألوك: هل ينام ربك؟, فخذ زجاجتين في يديك, فقم الليل. ففعل موسى, فلمّا ذهب من الليل ثلث, نعس فوقع لركبتيه، ثم انتعش فضبطهما, حتى إذا كان آخر الليل نعس, فسقطت الزجاجتان فانكسرتا. فقال: يا موسى، لو كنت أنام لسقطت السموات والأرض فهلكن كما هلكت الزجاجتان في يديك(1). فسبحانه تعالى وبحمده, هو الحي، القيوم، الغني بنفسه. أما الآدمي، فإنه ضعيف بطبعه يحتاج إلى النوم. والنوم في حق الله نقص، يُنزه عنه، قال تعالى: {اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ .. } البقرة:٢٥٥, لكن النوم في حق الآدمي كمال، ونفع، وفائدة. وهو آية من آيات الله، كما قال تعالى في الآية الأخرى: {وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} الروم: ٢٣, والنوم أخو الموت كما قال النبي صلى الله عليه وسلم(2), لكنه أخوه الأصغر؛ لأنه دون ذلك, قال تعالى : {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} الزمر: ٤٢, وأنت إذا أويت إلى فراشك تقول: (بِاسْمِكَ رَبّي وَضَعْتُ جَنْبِي, وَبِكَ أَرْفَعُهُ, إِنْ أَمْسَكْتَ نَفْسِي فَارْحَمْهَا, وَإِنْ أَرْسَلْتَهَا فَاحْفَظْهَا بِمَا تَحْفَظُ بِهِ عِبَادَكَ الصَّالِحِينَ)(3).

إن علاقة الروح بالبدن، ليست علاقة متساوية, ولكن بين الروح والبدن أنواع خمسة من التعلقات نُدركها بالتتبع والاستقراء:

النوع الأول: علاقة الروح بالبدن في المرحلة الجنينية: وهى علاقة ضعيفة، إلى حد أننا لا نذكر هذا التعلق, مع أننا نقطع بأن الجنين بعد أربعة أشهر تنفخ فيه الروح, ولكن ما منا أحد يذكر ذلك الحال؛ من وجود روحه في بدنه.

النوع الثاني: تعلق الروح بالبدن في حال اليقظة، في الدنيا: ولا نحتاج إلى وصفه، لأننا نعيشه.

النوع الثالث: تعلق الروح بالبدن في حال النوم في الدنيا: فإنها حال مستقلة، لا تُغادر الروح الجسد مغادرة تامة, ولها فيه نوع تعلق. ولذلك نجد أن النائم أحياناً يظهر عليه التبرم، بسبب الحرّ ، أو بسبب الإزعاج, مع أنه ليس في وعيه, ويظهر عليه أثر البرد، فيقشعر بدنه, ويظهر عليه أثر الراحة والاستغراق. فهناك علاقة وسيطة.

النوع الرابع: تعلق الروح بالبدن في الحياة البرزخية: وهذه حالة عجيبة، لا نُدركها الآن, ولكن الإيمان بالغيب يقتضي أن نؤمن بها؛ فإن روح الميت تُردُّ إلى بدنه، حين يُوضع في قبره, فيأتيه الملكان، فيسألانه الأسئلة الثلاثة المعروفة، ثم يعقبها نعيم أو عذاب. ولكنها حال لا يُدركها إلا المقبور؛ فهو الذي يُحسُّ بنعيم القبر، أو عذابه.

النوع الخامس: وهو أكمل أنواع التعلقات, تعلق الروح بالبدن بعد البعث، إما في الجنة، أو في النار: فهذا التعلق تعلق وثيق، واتصال عميق. ولهذا يجد المؤمن غاية النعيم في الجنة, ويجد الكافر غاية العذاب في النار, لشدة التصاق روحه ببدنه.

ثم قال الله عز وجل: (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11)), لقد جعل الله عز وجل هذه الحياة تتراوح بين ليل ونهار, بين ظلمة وإسفار. وما أحسن هذا التعقيب بعد ذكر النوم, فقد ذكر الله تعالى مَحلّه، وظرفه، وهو الليل. فما أن تسقط الشمس في المغيب، حتى يُقبل جيش الليل. ويأتي هذا الجُند الظلامي، ويُغطي الأرض، ويُكنّها، ويَغشاها، كأنه لباس! أرأيت لو أخذتَ ثوباً أسود، وغشّيْتَ به إنساناً، فإنه لا يُبصر شيئاً. فهذا اللباس الرباني يَكسو الله به الأرض، كل يوم، ويحصل من جَرّاءه هدوء، وسكينة، وآثار حميدة، قد لا نُدرك جميعها. ولهذا امتن الله على عباده فقال: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاء أَفَلَا تَسْمَعُونَ} القصص:٧١, لا أحد, فالله تعالى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ} الزمر: ٥, وقال تعالى: {لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} يس: ٤٠, ولو اختل هذا الميزان، لظهر ذلك على الآدميين.

حدثني بعض الناس، ممن عاش في منطقة قريبة من الدائرة القطبية في شمال إحدى الدول الاسكندنافية, قال: عملتُ في بلد لا نرى فيه الشمس ستة أشهر, تأتي دقائق معدودة, ويرتفع قرص الشمس، ثم يسقط مباشرة, فنعيش في ظلام دامس, إلا ما يحصل بالإضاءة الكهربائية, حتى إن أحدنا يستيقظ من النوم، ويُبصر ساعته، فيجد الساعة مثلاً، السادسة , فيسأل من حوله: الساعة السادسة، صباحاً أو مساءاً؟ لا يدري؛ لأن الزمن كله ليل! والشاهد في هذا, أنه يقول: إن حياة الناس في تلك البلدة، وهو ليس من أهلها, إنما قدم للعمل فيها، حياة كئيبة، يُحس الإنسان فيها بالكآبة، والانقباض، والتجهم في وجوه الناس.

إن من نعمة الله عز وجل، على هذه البلاد, التي أنزل فيها القرآن، وجعلها مهبطاً للرسالة، و منطلقاً للدعوة، أن جعلها بلاداً متوسطة, تتعاقب فيها الفصول, ويتعاقب فيها الليل والنهار, يَزيدان ويَنقصان, فهي سُرّةُ العالم, وقلب الدنيا.

وقوله تعالى: (وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا), معنى معاشاً أي: تتعيّشون فيه، وتطلبون فيه رزقكم؛ تحرِثون، وتتّجرون، وتعملون، لأن هذه الإضاءة الطبيعية تمكننا من ذلك, ولو اجتمع كل من بأقطار الأرض على أن يُضيئوا الدنيا بما عندهم من آلات، ومولدات، لم يبلغوا نزرا يسيراً من هذا الضوء الذي يجلبه الله تعالى لنا في النهار.

وبعد ذكر هذه الأحوال البشرية الأرضية، نقلنا نقلة عُلوية، فقال: (وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12) ), فإذا البصر يشهق إلى أعلى، ليتأمل في هذا البناء المُحكم المتين, وهو السموات. فالسماء مبنية، كما أخبر الله عز وجل: {وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} (الذاريات: ٤٧, وقال تعالى: {وَجَعَلْنَا السَّمَاء سَقْفًا مَّحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ} الأنبياء: ٣٢, فهي سقف حقيقي, وعبّر في موضع آخر عن السموات بأنها: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ} المؤمنون: ١٧, ففوقنا سبع سموات. ومعنى (شِدَاداً) أي: متينة، محكمة، متماسكة, كما قال الله عز وجل: {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ} الملك: ٣, أي: من ثُقوب، وصدوع. {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ } حاول مرة ثانية، وثالثة, {كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِأً وَهُوَ حَسِيرٌ} الملك: ٤, حسر البصر أن يُجد ثُقباً واحداً، في هذا البناء المُحكم.

وهذه السموات السبع، لا ندرك كيفيتها, هل المقصود بها ما يُشير إليه علماء الفلك، أنها المِجرّات, ويقولون: إن كل مجرة يتبعها قريب من مئة مليون نجم, وهذه النجوم أكبر من الشمس بآلاف المرات, أم أنها غير ذلك؟ الله أعلم. لكننا نؤمن بوجود سبع سموات, وأن المباشر لنا منها هي السماء الدنيا.

والبناء يدل على وجود نظام يحكمها, بحيث لا يَحيد جُرم سماوي عن مجراه قِيد أَنْمُلة, هذا هو الشد والإحكام والإتقان في بناءها.

ثم لمّا ذكر الله عز وجل السماء, ذكر بعض آياتها, بل ذكر أعظمها بالنسبة لما تُدركه أبصارنا، وهو: الشمس. ووصفها بهذا الوصف الجميل المُعبّر: (وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (13)), فإن السراج يجمع وصفين: الإضاءة، والحرارة. فهو مَجلبة للنور ومَجلبة للدفء. وزاد ذلك بأن قال: (وَهَّاجًا), فهو يَتوهج. شتان بين الشمس والقمر؛ فالقمر كوكب ذو جُرم بارد، كالمرآة، يعكس نور الشمس. فلذلك لا نجد من القمر دفئاً, وإن كُنّا نجدُ منه نوراً, لكنه دون إضاءة الشمس. أما الشمس فإنها تتوهج، وتبعث بالحرارة, ويترتب على ذلك، أي: الحرارة والإضاءة، أمور حيوية كثيرة جداً، تتعلق بصحة الإنسان، وبنمو النبات، وغير ذلك مما نُدركه، وما لا نُدركه. ولا ريب أن العلوم الحديثة؛ من علوم الفلك، وعلوم الأحياء، وعلوم وظائف الأعضاء, كشفت آفاقاً واسعة في هذا المقام, لكن القَدْر الذي بيّنه الله تعالى لعباده كافٍ في إقامة الحجة, فإن الناس يُدركون ذلك، وهم يَتنعمون بضوء الشمس وبدفئها، وبرؤية أثرها على النبات, والحيوانات.

ثم قال تعالى: (وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (14)), والمعصرات قيل فيها عدة أقوال: قيل إن المراد بها: السحاب. وقيل: الرياح. وقيل: السماء. وأقربها الأول. فهذه السُّحب التي تسافر إلينا من أماكن بعيدة،نشأت عن تسليط الله لضوء الشمس، ووهجها، على المسطحات الهائلة من المحيطات, فتتبخر كميات هائلة من مياه البحار، وترقى في طبقات السماء، ثم تتكثف،بعضها إلى بعض, ثم يُرسل الله الرياح كالقطارات، تقطرها، وتحملها إلى بلد ميت, إلى أرض قاحلة, كالمناطق القارّيّة، البعيدة عن مصادر المياه. يَسوقها الله عز وجل، بهذه الرياح، حتى يُوقفها في المكان الذي أراد أن تُنزل فيه حمولتها, فحينئذ تُعتصر، فتُنزل عُصارتها على هذا المكان الميت, فيُحي الله بهذا الماء أرضاً ميتة! ولو اجتمع مَنْ بأقطار الأرض، على أن ينقلوا عُشْر مِعشار هذا الماء لم يتمكنوا.

وقوله تعالى: (مَاءً ثَجَّاجًا) هو ماء مطلق, ماء نقي, ماء طهور, ومعنى (ثَجَّاجًا) أي: غزيراً، كثيراً. فسبحان من حمل هذه الأطنان من المياه، بين السماء والأرض, ثم صبها حيث شاء.

وعلى القول الآخر، بأن المراد بالمعصرات: الرياح. نجعل (مِنْ) بمعنى (الباء)، فكأن التقدير: وأنزلنا بالرياح ماءاً ثجاجاً. لأن الرياح هي التي تسوق السحاب, لكن القول الأول أولى. وأما من فسرها بالسماء, فإشارة إلى عُلوّها، وكلُّ ما علاك فهو سماء لك.

وهذا السّوْق لحكمة، كما قال تعالى:(لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (16) ), فتبارك الله, أرض قاحلة غبراء، لا ترى فيها أثراً لحياة, يُصب عليها ماء السماء, فإذا بها تُنبت أزاهير، وحُبوباً، وثماراً، وفواكه, فمن أودع الأرض هذه البذور وأنبتها؟ إنه الله سبحانه وتعالى.

وقوله تعالى: (لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا), الحبُّ: اسم جنس يشمل كل ما يخطر ببالك من الحبوب؛ من بُر، وشعير، وأرز، وغير ذلك. وكذلك النبات: يشمل كل نبات مما يأكله الآدمي، وتأكله الحيوانات. وكل هذا من جَرّاء سَوْق الله تعالى لهذه المُعصرات إلى هذه الأرض.

وقوله تعالى: (وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا), الجنات هي: البساتين. وسُميت جنات؛ لأنها تُجِنُّ صاحبها، أي: تستره. ولهذا قال: (أَلْفَافًا) أي: ملتفة, والملتف فيها أغصان الأشجار, فإنها لكثرتها، التفَّ بعضها على بعض, كل ذلك من آثار ماء السماء، الذي سقى الله تعالى به هذه الأرض, فإذا بها تتحول إلى حديقة غَنَّاء, تَصدح فيها الطيور، وترعى فيها السائمة، ويأكل منها الإنسان.

أرأيتَ هذه السلسلة المتلاحقة من الآيات الكونية العظيمة،كيف تُلامس شِغاف القلب؟ ثم ألا تعجب مِن أن هذه المظاهر تُقابلُنا صباح مساء, صيفاً وشتاءً, ثم لا ننتبه لهذا المعاني العظيمة التي أودعها الله تعالى فيها! ثم تأمل ثالثاً، في هؤلاء المخاطبين، من كفار قريش، الذين يُنكرون البعث، ويُنكرون القرآن، ويُنكرون الرسول، ويُنكرون توحيد الله بالعبادة, كيف أن الله سبحانه وتعالى، أيقظهم، ونبّههم، وحَرّك عقولهم البليدة, فهم يرون ذلك دوماً، ويعرفونه, لكنها معرفة باردة؛ لأنها مناظر مُتكررة، رتيبة، لا تُحدث في نفوسهم الأثر المطلوب, فما أشبههم بإنسان ساهٍ، غافل، أتاه مَن أتاه، فأمسكه من منكبيه، وهزّه، وقال له: انتبه, انظر, تَبصّر, تَفكّر, اعتبر, أين أنت؟ فقام مَشدوهاً لِيَنظر, لكن كما قال الله عز وجل: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ }العنكبوت:٤٣, فالآيات موجودة، ومبثوثة، ولكن لا ينتفع بها إلا أهل الإيمان, فلأجل ذلك ساق سبحانه وتعالى، هذه الآيات المتتابعة، لإخراج هؤلاء من غفلتهم، وسدرتهم, لِيصل بهم إلى النتيجة المنطقية؛ وهي: إذا كنتم تُقرون من أول وهلة، ومن أول سؤال: (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا), فتقولون بلى, بلى, بلى, في عشر آيات متلاحقة, إذا كان الله سبحانه وتعالى هو الذي صنع ذلك, فمن المستحق للعبادة إذاً؟ أهو الذي صنع ذلك أم غيره ممن لم يصنع شيئاً؟ لا شك أن المستحق للعبادة هو من صنع ذلك. ولهذا لمّا أبطل الله تعالى آلهة المشركين قال: {وَاتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا} الفرقان: ٣, فلا مُسوِّغ لعبادتهم إيّاهم. وقال إبراهيم، عليه السلام، لأبيه: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا} مريم: ٤٢, فلا يستحق العبادة من لم يكن متصفاً بصفات المعبود.

الفوائد المستنبطة من المقطع الثاني :

الفائدة الأولى: أن توحيد الربوبية أساس لتوحيد الألوهية .

الفائدة الثانية: العناية ببيان أدلة الربوبية، وشواهدها في النفس، والآفاق. وبعض الناس يَطيش عنده الميزان, فيقلل من شأن الحديث في توحيد الربوبية، وربما قال : هذا توحيد أبي جهل! لمّا رأى أن المهم هو توحيد العبادة, ظنَّ أن ذلك يقتضي الغض من توحيد الربوبية ! والحق أن توحيد الربوبية هو الأساس الذي يبنى عليه توحيد العبادة. وتأمل قول الله تعالى، في سورة البقرة: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} البقرة: ٢١, فطالبهم بالعبادة مُحتجاً عليهم بأنه خلقهم، والذين من قبلهم, ثم قال: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} البقرة: ٢٢, فابتدأ بالأمر بالعبادة، وختم بالنهي عن الشرك، و ذكر بينهما توحيد الربوبية.

الفائدة الثالثة: إيقاظ العقول البليدة، للتفكر في المشاهد المتكررة: فكما وُوجه به المشركون، فينبغي أن نعظ أنفسنا به, وألا تتحول هذه المشاهد حولنا إلى جُثث هامدة.

الفائدة الرابعة :الاستدلال بالسهل المشاهد، قبل الصعب الخفي: فهذه الآيات المبثوثة في الكون سهلة، مشاهدة, لا نحتاج إلى المحاضرات لإقامة الدليل عليها, فيُدركها الكبير، والصغير, والعالم، والجاهل, والحضري، والبدوي, وكل أطباق الناس. فلا نذهب لإقامة العقيدة، على الطرق الكلامية، والأدلة الفلسفية الغامضة.

الفائدة الخامسة: استعمال أسلوب الاستفهام، والتنويع، والتكثير، في الأدلة: فأسلوب الاستفهام كما في قوله تعالى: (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا), وأسلوب التنويع لأنه لم يقتصر على نوع واحد؛ لأن القلوب لها مفاتيح، فقد يتأثر الإنسان بمعنى من المعاني، أو مشهد من المشاهد، ويتأثر غيره بغيره، لأسباب وزّعها الله على بني آدم. وأسلوب التكثير في الأدلة؛ لأن توالي الأدلة، وكثرتها تؤثر في النفس, كتتابع الطّرْق, ومن أدمن الطّرْق أوشك أن يُفتح له. فكل هذه الأساليب التربوية، الإيمانية، ينبغي أن يستفيد منها الداعية إلى الله سبحانه وتعالى في إقناع غيره، وفي التأثير، والموعظة.

والله تعالى أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.





--------------------------------------------------------------------------------

(1) ذكره ابن كثير في تفسبره (2/440) بإسناد ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما.

(2) أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط (1/282), والبيهقي في شعب الإيمان ( 7/431), من طريق محمد بن المنكدر عن جابر قال: سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أينام أهل الجنة؟ فقال: ( النوم أخو الموت, ولا يموت أهل الجنة). قال الهيثمي في مجمع الزوائد: (رواه الطبراني في الأوسط والبزار, ورجال البزار رجال الصحيح ), وقال الشيخ الألباني: (وبالجملة فالحديث صحيح من بعض طرقه عن جابر) راجع (الصحيحة) رقم (1087).

(3) أخرجه البخاري برقم (6320)؛ ومسلم برقم (2714) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.[/align]
 
[align=center]بسم الله الرحمن الرحيم

التفسير العقدي لجزء عم

سورة النبأ

المقطع الثالث


(إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا (17) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا (18) وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا (19) وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا (20) إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21) لِلطَّاغِينَ مَآَبًا (22) لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24) إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25) جَزَاءً وِفَاقًا (26) إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا (27) وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا كِذَّابًا (28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (29) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا (30))




هذا القرآن العظيم، نزل قولاً ثقيلاً، محكماً، رصيناً, على قومٍ كانوا يعيشون في جاهلية جهلاء، وضلالة عمياء, على قوم لا يرون موتاً، ولا بعثاً، ولا حياة، ولا نشوراً. قوم يقول قائلهم: إنما هي أرحام تدفع، وأرض تبلع، وما يهلكنا إلا الدهر! يأكلون، ويتمتعون كما تأكل الأنعام، وتتمتع. فلما أراد الله بهم خيراً، بعث فيهم هذا النبي العظيم، وأنزل إليه هذا القول الكريم؛ ليخرجهم من غفلتهم، وسدرتهم, فحركت أذهانهم، وهزت كيانهم، وأيقظتهم من غفلتهم، ورقدتهم، ولفت انتباههم إلى ما في هذا الكون من الآيات البينات، والحجج الباهرات، ليستدلوا بها على توحيد الألوهية، وأن الله وحده، هو المستحق للعبادة، وأنه لا يمكن أن يخلق هذا الكون سدى، ولا عبثاً, بل لحكمة بالغة. فلما قرر الله تعالى ذلك فيما تقدم من الآيات، ختمها بآيتين، هما كالوصلة للآيات التاليات، فقال : (وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا) . وفي هذا ملحظ بديع! كأن الله تعالى يقول: انتبهوا. هذه الجنات الألفاف، أخرجها الله من أرض موات! فالقادر على أن يُحيي الأرض بعد موتها، قادر على أن يخرجكم من قبوركم أحياء, كما قال الله تعالى في سورة (ق)، بعد أن ذكر إنزال المط، وإنبات النخيل، قال بعد ذلك : (كَذَلِكَ الْخُرُوجُ).

قال الله عز وجل: (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا) (إن): حرف توكيد, فهذه جملة مؤكَّدَة, جملة تامة، ذات دلالة قوية. ويوم الفصل هو: يوم القيامة. وهذا أحد أسمائه. وأسماء يوم القيامة كثيرة جداً, وقد عدَّ القرطبي، رحمه الله، منها خمسين اسماً، وعدَّ ابن كثير، رحمه الله، ثمانين اسماً. وهذه الأسماء بعضها مبثوث في كتاب الله, وبعضها في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم, وبعضها أوصاف أطلقها بعض العلماء. فمما جاء في كتاب الله تعالى: (يوم الدين), (يوم التغابن), (الطامة), (الصاخة), (يوم التلاق), (الحاقة), (الغاشية), (القارعة), (يوم الحساب), (يوم التغابن), (يوم الحشر), (يوم الآزفة),و(يوم الفصل) كما هاهنا. فهي كثيرة جداً, وهذه الكثرة ليست فقط كثرة في الأسماء, لكن لها دلالتها, فإن كل اسم من هذه الأسماء يُعطي دلالة معينة, فـ(القارعة)؛ لأنها تقرع القلوب. و(الصاخة)؛ لأنها تصخ الآذان. و(الآزفة)؛ لقربها. وهكذا في كل اسم من هذه الأسماء. وهذه الكثرة في الأسماء، تدل على عظيم العناية بالإيمان باليوم الآخر.

فقوله: ( إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ) أي: الفصل بين الخلائق؛ فريق في الجنة، وفريق في السعير, والفصل في المظالم, فينال الظالم جزاء ظلمه، ويُعوض المظلوم عن مظلمته. فالفصل يتناول كل ملتبس. وقوله: (كَانَ مِيقَاتًا) أي: أنه موعد مؤقت, قد وقته الله تعالى، وعلم زمن حصوله, ولكنه أخفاه. ولهذا اعتذر النبي صلى الله عليه وسلم من جبريل، حين سأله عن الساعة, فقال: "مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنْ السَّائِلِ "(1), فأعظم رسول بشري، وأعظم رسول ملكي، كلاهما لا يعلمان متى الساعة, كما قال الله عز وجل: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا . فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا . إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا) [النازعات/42-44], وفي الآية الأخرى:( يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) [الأعراف/187]. ولما سأل أعرابي النبي صلى الله عليه وسلم عن الساعة, متى الساعة؟ قال: "وماذا أعددت لها؟"(1), فلم يقل في يوم كذا، وكذا. فالله تعالى قد أخفى عنا الساعة، إلا أنا نعلم أنها تأتي بغتة، وأنها مجهولة الموعد، وأنها شديدة الوقع. فالساعة يخاف منها المؤمنون، لتعظيمهم لله سبحانه وتعالى قال عز وجل: (وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ . يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ) [الشورى/17، 18]. والساعة كما سبق، لا تأتي إلا بغتة، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَقَدْ نَشَرَ الرَّجُلَانِ ثَوْبَهُمَا بَيْنَهُمَا، فَلَا يَتَبَايَعَانِهِ، وَلَا يَطْوِيَانِهِ. وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَقَدْ انْصَرَفَ الرَّجُلُ بِلَبَنِ لِقْحَتِهِ، فَلَا يَطْعَمُهُ . وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ، وَهُوَ يَلِيطُ حَوْضَهُ، فَلَا يَسْقِي فِيهِ. وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ، وَقَدْ رَفَعَ أَحَدُكُمْ أُكْلَتَهُ إِلَى فِيهِ فَلَا يَطْعَمُهَا"(2). فأمرها يقع فجأة، وسرعة. وقد جاء في صحيح البخاري، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَا بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ أَرْبَعُونَ. قَالَ: أَرْبَعُونَ يَوْمًا؟ قَالَ: أَبَيْتُ. قَالَ: أَرْبَعُونَ شَهْرًا؟ قَالَ: أَبَيْتُ. قَالَ: أَرْبَعُونَ سَنَةً؟ قَالَ: أَبَيْتُ. قَالَ: ثُمَّ يُنْزِلُ اللَّهُ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَيَنْبُتُونَ كَمَا يَنْبُتُ الْبَقْلُ، لَيْسَ مِنْ الْإِنْسَانِ شَيْءٌ إِلَّا يَبْلَى إِلَّا عَظْمًا وَاحِدًا، وَهُوَ عَجْبُ الذَّنَبِ، وَمِنْهُ يُرَكَّبُ الْخَلْقُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"(3). فابن آدم يتحلل، ويفنى، ويعود تراباً، ولا يبقى منه إلا عجب الذنب؛ وهو العصعص, فيحفظ الله تعالى في هذا المتبقي منه، الصفات الوراثية التي منه يركب الخلق.

وقوله تعالى: ( يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا) هذا بيان وتوضيح, أي: أن يوم الفصل هو يوم ينفخ في الصور, وأتى بصيغة الفعل الذي لم يُسمَّ فاعله، لتفخيمه وتعظيمه. و(الصُّورِ) : هو البوق الذي ينفخ فيه إسرافيل، عليه السلام، النفخة الأولى، التي يكون بها الصعق، والنفخة الثانية، التي يكون بها النشر. وقد جاء في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال: "كَيْفَ أَنْعَمُ! وَقَدْ الْتَقَمَ صَاحِبُ الْقَرْنِ الْقَرْنَ، وَحَنَى جَبْهَتَهُ، وَأَصْغَى سَمْعَهُ، يَنْظُرُ مَتَى يُؤْمَرُ"(1) أي: كيف أتنعم، وأهنأ بالعيش، وصاحب القرن، إسرافيل عليه السلام، قد التقم قرنه، أي: وضعه في فيه، استعداداً للنفخ، ينتظر أن يؤمر. فالذي يذكر هذا، لا يطيب له عيش, لأنه يخشى موعود الله عز وجل.

ففي قوله تعالى: (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا) مشهد مهيب، رهيب, فإن البعث أمره عجيب: كل من دب على وجه الأرض، ثم مات، وتحلل فيها، يجمع الله خلقه يوم القيامة, فيُبعث الناس حفاةً، عراةً، غرلاً، بهماً، ويقومون لرب العالمين، يساقون على هيئة أفواج؛ زمراً زمراً! وتخيل هذا الحشد العظيم؛ من لدن آدم، عليه السلام، طوله ستون ذراعاً في السماء, ثم لم يزل الخلق ينقص بعد ذلك، إلى أن آل إلى ما نحن عليه، ولا ندرى إلى ما يؤول أيضاً بعدنا، في موكبٍ واحد، على صعيد واحد، على تفاوت أحجامه، وأطواله، وألوانه! وقوله تعالى: (أَفْوَاجًا) أي: فوجاً إثر فوج، والفوج: هم الجماعة من الناس. وقارن بين تلك الصورة التي ذكرها سابقاً، من حال الدنيا واستقرارها، بقوله: (وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا) وهذا الانقلاب الكوني الهائل .

ثم قال تعالى: (وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا): فهذه السماء التي لا ترى فيها الآن ثقباً، ولا قدر رأس الإبرة، كما قال تعالى: (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ . ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ) [الملك/3، 4], فإذا بهذه السماء المحكمة، المتماسكة، المبنية، تنشق يوم القيامة، وتنفتح فيها فرج، وطرائق؛ ليهبط منها الملائكة, قال تعالى: (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا) [الفرقان/25]، فتنشق كل سماء، ويهبط ملائكتها، فيحيطون بأهل الأرض إحاطة السوار بالمعصم. ولاحظ في قوله تعالى: (وفتحت)، و(ينفخ)، وما بعدهما،كلها بصيغة الفعل الذي لم يُسمَّ فاعله, وذلك من باب التفخيم والتعظيم.

قال تعالى: (وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا)، فهذه الجبال الذي قال عنها قبل بضع آيات: (وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا), هذه الجبال الراسيات، تسيَّر بعد أن كانت تحفظ توازن الأرض، وتضبط استقرارها. والسراب إما أن يكون المراد به الهباء، أو هو تشبيه له بالماء, وليس بماء، كالذي يراه المسافر في شدة الحر، يزول أمامه يظنه ماء, يحسبه الظمآن ماء، حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً. فهذه الجبال تتراءى لأهل الموقف على هذه الصورة؛ كالسراب. وهذا حال من أحوال الجبال يوم القيامة, ذلك أن الجبال يمر بها يوم القيامة أحوال متعددة؛ منها التسيير، كما في هذه الآية، وفي قوله تعالى: (وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) [النمل/88], ويمر بها أيضاً حال الدك، والنسف, قال تعالى: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا . فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا . لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا) [طه/105-107] وقال في آية أخرى: (وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا) [الواقعة/5]، أي: نثرت، ودكت، حتى تصبح كالرماد. فالجبال تعتريها يوم القيامة هذه الأحوال, إلى أن يتحول وجه البسيطة قاعاً صفصفاً, ليس فيه معلم لأحد؛ ليس فيه مرتفع، ولا منخفض، بل تصبح الأرض كالقرصة .

ثم قال الله عز وجل: (إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا) جهنم: اسم من أسماء النار, وللنار أسماء كثيرة، وكل اسم من أسمائها يدل على وصف، وحال. ومن أشنع أسمائها (جهنم)، وهي من الجهومة، والسواد. ومعنى (مِرْصَادًا) أي: مكان رصد، وترقب. فهي مترصد لا يجاوزها أهلها حتى يقعوا فيها, والترصد. وذلك أن ما من أحد، إلا ويُعرض على النار, يقول الله عز وجل: (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا)[مريم/71] أي: إلا مار فوقها, وذلك حين يؤمر الناس بالجواز على الصراط، وهو من أصعب مواقف يوم القيامة، حتى إن دعاء الرسل في ذلك الموطن: اللهم سلّم، سلّم! فحين يعرض الناس على النار، ويمرون فوقها، يتضح كيف تكون (مِرْصَادًا).

أما أهل النار، الذين هم أهلها، فقد دلت النصوص على أنهم يلقون فيها؛ تجمع أيديهم إلى أعناقهم، ثم يقذفون فيها. وإنما يمر فوق الصراط، الموحدون. فمن سبقت له من الله الحسنى، فإنه يجوزه، دون أن يصيبه شيء. فمنهم من يمر كلمح البصر، ومنهم من يمر كالبرق، ومنهم من يمر كالريح المرسلة، ومنهم من دون ذلك، ومنهم من تخطفه كلاليب على جنبتي الصراط، فتهوي به في النار. فلهذا كانت (مِرْصَادًا)، فهي مرصد للطاغين الذين هم أهلها، وكذلك لمن أراد الله، عز وجل، أن يعاقبه بقدر ذنبه، من عصاة الموحدين.

وقوله تعالى: (لِلطَّاغِينَ مَآَبا) الطغيان هو مجاوزة الحد, فإذا تجاوز العبد حده كان حقيقاً بالعذاب, إلا أن يتجاوز الله تعالى عنه. والله يمكن أن يتجاوز عن كل شيء إلا عن ذنب واحد، هو الشرك, قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا) [النساء/48]. لكن لا ريب أن مرتكب الكبيرة مجازف، مخاطر. ومعنى (مَآَبا) أي: مرجعاً، ومصيراً. فالأوب: بمعنى الرجوع، والمصير.

وقوله تعالى: (لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا): معنى (لَابِثِينَ) أي: ماكثين, و(أَحْقَابًا) جمع حقب. والمقصود بالأحقاب: المُدد الطويلة. وقد ورد تقديرها في أحاديث مرفوعة، وموقوفة، وآثار عن بعض التابعين؛ فمنهم من قال: الحقب: ثمانون سنة، كل سنة فيها اثني عشر شهراً, كل شهر فيه ثلاثون يوماً، وكل يوم بألف سنة. ومنهم من قال: سبعون سنة، على التقسيم السابق. ومنهم من قال: أربعون. ومنهم من قال أكثر، ومنهم من قال أقل. وعلى أي حال، فالأحقاب تدل على مدد طويلة، لكن ها هنا قد يثور إشكال، فربما قال قائل: وماذا بعد الأحقاب؟ أيخرج أهل النار، الذين هم أهلها، منها، أم لا؟ فالذين فسروا الأحقاب بالمدد الطويلة، خرجوا من هذا الإشكال، بأن قالوا: المراد بأنهم (لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا) أي: حقباً إثر حقب, بحيث لا يتناهى, فهذا خلود مستمر، لا انقطاع فيه. وأما من قال: إن أهل النار، الذين هم أهلها، يخرجون منها بعد مدد طويلة, فربما استدل بهذه الآية على خروجهم. لكن الذي عليه جمهور أهل السنة والجماعة، أن أهل النار، الذين هم أهلها, دعك عن عصاة الموحدين, أي: الكفرة، والمشركون, لا يخرجون منها أبداً؛ لأن الله عز وجل ذكر التأبيد في خلودهم، في كتابه، في ثلاثة مواضع. وذهب ابن جرير الطبري، رحمه الله، إلى توجيه آخر، فقال: إن متعلق قوله (لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا) بما بعدها، وهو قوله: (لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا) أي: أنهم في نوع، ولون، من أنواع، وألوان الجحيم, يمكثون فيه هذه الأحقاب, ثم ينتقلون إلى لون آخر. فيكون هذا التحديد، في هذه المدة، تختص بلون، ونوع، من أنواع العذاب.

ومعنى(برداً): الهواء البارد، أو الماء البارد. وقيل: إن المقصود بالبرد: النوم, فإن العرب تسمي النوم برداً. وقوله: (إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا) هذا الاستثناء استثناء منقطع، لأنك لو رفعت (إِلَّا) ووضعت بدلاً منها (بل) صح المعنى, أي: (لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا) بل يذقون (حَمِيمًا وَغَسَّاقًا). والحميم: هو الماء المتناهي في الحرارة, شديد الغليان, حتى أنهم، والعياذ بالله، إذا استسقوا، أتوا بالحميم ليشربوه، فتسقط جلدة وجهه فيه، كما أخبر الله، عز وجل، عن ذلك في سورة الكهف، و غيرها، قال تعالى : (وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ) [الكهف/29]، وقال: (وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ) [محمد/15] فهذه سقيا أهل النار، والعياذ بالله، الحميم، وبئس الشراب. وأما الغساق، فقد ورد ذكره في القرآن في غير هذا الموضع, قال تعالى: (هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ . وَآَخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ)[ص/57، 58]. فالغساق، المراد به صديد أهل النار، وما يخرج من قيحهم، وجروحهم، ودموعهم، وغير ذلك من أذاهم، الذي يساق إليهم. وقيل: إن الغساق معناه: المنتن. ولا تنافي بين المعنيين, فإنه يكون من صديد أهل النار، وقروحهم، وجروحهم، ويكون أيضاً منتناً. ووصف أيضاً بأنه بارد, فهو يأتيهم على هذه الصفة ويكون بارداً، متنناً، والعياذ بالله.

قال تعالى: (جَزَاءً وِفَاقًا) أي أن هذا الذي نالوه، إنما هو بسبب كفرهم بالله، عز وجل، (وِفَاقًا) على ما قدموا من سالف أعمالهم السيئة، والجزاء من جنس العمل. ثم علل الله تعالى، استحقاقهم لهذا العذاب الشنيع، فقال سبحانه: (إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا) أي: كانوا في الدنيا لا يخافون, فيرجون هنا، بمعنى يخافون. وإنما فسرت (يَرْجُونَ) بمعنى يخافون, لأن الرجاء جاء هنا منفياً, فإذا جاء الرجاء منفياً، فإنه بمعنى الخوف, لأنه رجاءٌ يُخاف ألا يتم. ليس المقصود يرجون أي: يتمنون ويبغون ويطلبون, كلا, بل المقصود ضد ذلك, وهذه قاعدة مطردة في القرآن العظيم. فقوله: (إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا) أي أنهم كانوا ينكرون البعث، حتى إن أحدهم، وهو أبي ابن خلف، أتى النبي صلى الله عليه وسلم، ومعه عظم بالٍ، ففته أمامه وقال: يا محمد! أتزعم أن ربك يحيي هذا بعد أن صار رميماً ؟ قال: نعم، يبعثك ويدخلك النار. وأنزل الله في شأنه: (وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) [يس/78]

قال تعالى: (وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا كِذَّابًا) أي: إن آياتنا قد جاءتهم تلوح كالشمس؛ ظاهرةً، مبهرة، لكنهم كذبوا بها! فلا عذر لهم. وقوله: (كِذَّابًا) تأكيد, وإن كان من غير فعله، لأن (كذب) مصدره تكذيباً, لكن يصح أن يأتي المصدر من غير فعله, فقوله: (وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا كِذَّابًا) كناية عن شدة تكذيبهم. وقد كانوا كذلك؛ فإنه يأتيهم الحق البين، يسمعون القرآن ينزل على نبينا صلى الله عليه وسلم، ويفلق لهم القمر فلقتين، يأتيهم بالآيات الواضحات، فلا يزيدهم ذلك إلا كفراً، وتكذيباً.

قال تعالى: ( وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا) فلم يخرج عنه شيء أبداً, فكل شيء أحصاه الله عز وجل, ومعنى (أَحْصَيْنَاهُ) أي: ضبطناه، وعددناه، وحفظناه؛ لأن أحصى تأتي بمعنى العد، كقول الله عز وجل: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا) [إبراهيم/34], ويأتي بمعنى الضبط، كتسمية العرب للعقل حصاة، فهو يدل على التعقل، والحفظ, وقوله: (كِتَابًا) أي: مكتوباً, وهذا من تمام عدله سبحانه وتعالى. ولو شاء الله سبحانه وتعالى، لما كتب ذلك, لكن من باب إقامة العدل، وإظهار الحجة, قال تعالى: (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق/18]. فقد وكل الله تعالى بكل إنسان، ملكين، يكتبان ما يبدر منه، من قول، أو فعل، فلا يضيع شيء, قال تعالى: (وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا) [الإسراء/13]. فهذه حجة بالغة، لا يثبت لأحد اعتراض عليها، حتى أنه إذا اعترض الكافر، يريد أن يتشبث بأي شيء, كالغريق الذي يتشبث بالقشة, يقول ظلمني الكتبة, قال الله تعالى: ألا يرضيك أن نبعث عليك شاهداً من نفسك؟ فيقول بلى يا ربي! فيختم الله تعالى على فيه، ويُنطق الله جميع جوارحه، فيكون أول من يشهد عليه فخذه، وتشهد عليه جوارحه، ثم بعد ذلك يخلّى بينه وبين الكلام, فيقول: بُعداً وسحقاً فعنكن كنت أناضل(1), قال تعالى: (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [يس/65]

قال تعالى: (فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا) يُقال إن هذه الآية هي أشد آية على أهل النار. وقد روي في ذلك حديث مرفوع، لكنه لا يصح, وروي حديث موقوف عن ابن عمر، رضي الله عنهما, وعن بعض السلف، أن هذه الآية أشد آية على أهل النار, ذلك أنهم يدعون الملائكة، ويقول قائلهم: ( يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ) [الزخرف/77]، فتقول لهم الملائكة: (فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ) [غافر/50]، ثم يأتيهم الجواب الشديد، الذي وقعه عليهم أشد من وقع العذاب الذي هم فيه: (فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا) أي: ليس هذا فقط، بل إن عذابكم سيزداد.

ومما يؤخذ من الفوائد من هذا المقطع:

الفائدة الأولى: إثبات البعث، وأهوال القيامة الكبرى.

الفائدة الثانية : إثبات الحساب، والفصل في الحقوق،والله تعالى سماه يوم الفصل.

الفائدة الثالثة :إثبات النار, وذكر أنواع العذاب فيها؛ من عذاب حسي وعذاب معنوي.

الفائدة الرابعة: العدل الإلهي؛ فالجزاء من جنس العمل. ويؤخذ من قوله تعالى: (جَزَاءً وِفَاقًا).




--------------------------------------------------------------------------------

(1) أخرجه البخاري برقم (50)؛ ومسلم برقم (9) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه, وأخرجه مسلم برقم (8) من حديث عمر رضي الله عنه.

(1) أخرجه البخاري برقم (3688) ؛ ومسلم برقم (2639) من حديث أنس رضي الله عنه.

(2) أخرجه البخاري برقم (6506) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(3) أخرجه البخاري برقم (4814)؛ ومسلم برقم ( 2955) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(1) أخرجه النسائي في الكبرى برقم ( 11016)؛ والترمذي برقم (3243) . وصححه الألباني " الصحيحة (1078 ,1079) ".

(1) أخرجه مسلم برقم ( 2968) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه, وبرقم ( 2969) من حديث أنس رضي الله عنه بمعناه.[/align]
 
عودة
أعلى