التفسير العقدي لجزء عم (سورة التكوير)

إنضم
02/02/2009
المشاركات
196
مستوى التفاعل
0
النقاط
16
الإقامة
ليبيا
[align=center]بسم اله الرحمن الرحيم
التفسير العقدي لجزء عم
سورة التكوير
(المقطع الأول)
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم . بسم الله الرحمن الرحيم.
( إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (14) فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآَهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)) هذه السورة العظيمة تهدف إلى ثلاثة أمور :
الأمر الأول : تقرير عقيدة اليوم الآخر .
الأمر الثاني : تقرير أن القرآن كلام الله .
الأمر الثالث : تقرير المسؤولية البشرية .
يسمي العلماء هذه السورة (سورة التكوير) , وقد سماها النبي صلى الله عليه وسلم، بأول جملة فيها ( إذا الشمس كورت ), فقد جاء في الحديث الذي رواه الترمذي : } من سره أن ينظر إلى القيامة رأي العين فليقرأ : (إذا الشمس كورت ) ، و ( إذا السماء انفطرت ) ، و ( إذا السماء انشقت) { . وهذه السور الثلاث متشابهة في مقاصدها، وفي نظمها .
( إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ ) : استهلّ الله سبحانه وتعالى هذه السورة بأداة الشرط (إذا)، واتبعها بعدة جمل للوصول إلى جواب الشرط. وقد لفت الله تعالى انتباه المخاطبين، من المشركين، الذين يعانون من بلادة التفكير، وعدم الاعتبار بالآيات الكونية، إلى آية باهرة، يرونها كل يوم؛ وهي الشمس التي تطلع عليهم كل صباح، وتغيب عنهم كل مساء. لقد بات هذا المشهد العظيم في حس كثير من الناس منظراً مألوفاً, ولكن الله سبحانه وتعالى يبين أن هذه الصورة المتكررة، وهذا المنظر المألوف، لن يدوم، وأنه سيأتي عليه وقت يختلف عما هو عليه! ولا ريب أن هذا من دواعي هز النفس من أركانها؛ أن يقال إن هذه الشمس، التي تراها صبيحة كل يوم، يطلع قرنها من جهة المشرق، ثم تراها عشية كل يوم، يسقط قرنها في المغرب، أنها في يوم من الأيام تكور! فقال : (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) . ومعنى (كورت) : لهذه اللفظة أربعة معاني عند المفسرين: فمنهم من قال: " كورت " ذهبت، وزالت. فهذه الشمس المرئية التي لا تخطئها العين، والتي يحال عليها في تحقيق الخبر، كما في الأثر: } على مثلها فاشهد أو دع { , ويقول الناس : " كالشمس في رابعة النهار "، هذه الشمس التي يضرب بها المثل في الوضوح، والتحقق، تذهب. وقيل في معنى " كورت ": أي ذهب ضوئها، يعني خُطف بريقها، وأظلمت، بعد أن كانت نيرة مشعة. وقيل : رميت، وألقيت. ويشهد لهذا المعنى ما جاء في الحديث : } أن الشمس والقمر ثوران عقيران مكوران في النار { فهي تلقى في النار يوم القيامة. وقيل : جمعت، ولفت، كما تكور العمامة.
وهذه المعاني الأربعة لا تعارض بينها ؛ وذلك أن الشمس مخلوق عظيم، كالجبال، والسماء، والأرض، يعتريها يوم القيامة من الحوادث أحوال عديدة, فمثلاً: يبتدئ الحال بأن تجمع هذه الشمس بعضها على بعض، وتلف, وبعد لفها يذهب ضوئها, وينقبض، وينحسر، ثم بعد ذلك، يذهب بها، فتزال عن موضعها, ثم يرمى بها، فيكون مستقرها أن تلقى في النار، إذ أنها من طبيعة النار؛ فإن الشمس، كما هو معروف عند علماء الفلك، جسم ناري، ملتهب، حتى إن الفلكين يقولون إنه يجري على سطح الشمس من الانفجارات الهائلة، ما يعادل ملايين الانفجارات النووية. فهي جسم ملتهب، متقد، ولذلك يصلنا القدر الذي يكفينا من ضوئها، ودفئها. وبهذا تجتمع المعاني الأربعة للفظ النكوير، دون تعارض.
هذا هو المشهد الأول، يسرح الفكر في تصور هذا المخلوق العظيم، وما يطرأ عليه يوم القيامة من التغيرات الهائلة ! ولا شك أن تحول المناظر المألوفة، مما يبعث على الفزع, فإن الشيء المستقر الراتب إذا تغير يبعث على الفزع، ويحرك القلوب الراكدة.
( وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ ) : النجوم هي هذه النقاط التي نراها في قبة السماء، ليلاً، تبعث الضوء، وتبدو لنا صغيرة, وإن كان أهل الفلك يقولون إنها شموس كبيرة، جبارة، ولكن لبعد مسافاتها، التي تقاس بالسنين الضوئية، تبدو لنا كالنقط. وللمفسرين في معنى ( انكدرت ) أقوال: فمنهم من قال: إن معنى ( انكدرت ) تناثرت، وتساقطت، وتهافتت, شذر مذر، وتقع على الأرض من عليائها. وهذا أيضاً أمر يدعو للفزع؛ فإن الإنسان إذا رأى الشهب، والنيازك، تتقاذف في السماء أصابه روع, ولو وقع شيء منها على شيء من الأرض، أحرقه، أوترك فيها أثراً، وحفراً، يجده الناس في الصحاري، أحياناً , فكيف إذا كانت هذه النجوم، التي تعد بالملايين، يجري لها هذا الأمر ؟! ويشهد لهذا المعنى قول الله تعالى في السورة التالية : ( إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ , وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ ) فهذا من الانتثار. وقيل في معنى (انكدرت): تغير لونها , فإن الكدرة هي تغير اللون، بحيث يخبو البريق، ويذهب الوهج. وهذا أيضاً حاصل؛ فإنها تسلب لمعانها، وبريقها الذي هي عليه في الدنيا. إذاً هذا مظهر آخر من مظاهر القيامة.
( وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ ) : هذه الجبال الرواسي، الشامخات، التي يضرب بها المثل في الثبات، تزول عن أماكنها، ويسيُّرها الله عز وجل، كما قال في الآية الأخرى : ( وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ ). وهذا هو أحد أحوال الجبال يوم القيامة، وهو حال التسيير؛ بأن تزول من أماكنها، التي كانت قد ثبتت، وأرسيت فيها، فتسير سيراً عجيباً. ثم يتلو هذا التسيير مرحلة النسف، كما قال الله تعالى : ( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا ). ويتلو هذا الحال مرحلة البس، والدق، حتى تعود هباءً منبثاً، كما قال الله عز وجل : ( وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا . فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا ). وهكذا ينبغي أن تجمع الآيات في القضية الواحدة، ليكتمل فهمها , فلا يقال إن هذا يعارض هذا , بل يقال: إن يوم القيامة يوم طويل، تحصل فيه هذه الأحداث المتنوعة، وتتوالى.
( وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ ) : والعشار هي النوق العشراء، أي التي بلغت الشهر العاشر في حملها، وصارت على وشك الوضع. والنوق كانت، ولا تزال، أنفس أموال العرب, فكيف إذا كانت هذه النوق على وشك الولادة ؟ لا شك أن ثمنها يعلو؛ لأن الذي يملكها يطمع في الاستيلاد، والنتاج. ومعنى ( عطلت ) : أهملت، وتركت بلا راعٍ يرعاها، ولا موالٍ يواليها. دفع إلى ذلك هول الموقف .
( وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ ) : الوحش هو الحيوان غير المستأنس، الذي يعيش في الفلوات. قيل في معنى ( حشرت ): ماتت ، وقيل، وهو الأقرب، أي جمعت؛ لأن الحشر هو الجمع الذي يصاحبه ضيق، واكتظاظ، وازدحام، كما قال الله عز وجل : (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ), فهذه الوحوش التي عاشت على وجه الأرض، مما نرى، ومما لا نرى، ومما انقرض، كلها يوم القيامة تحشر، وتجمع. ويمكن الجمع بين القولين بأنها تجمع أولاً، ثم تموت، بعد ذلك؛ فإنه يقال لها: كوني تراباً .
( وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ ) : البحار تشمل ما نسميه الآن البحار، والمحيطات، والأنهار, فإن هذا كله يشمله اسم البحر, قال الله تعالى: ( وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ ), فالبحر يطلق على مجتمع الماء الكثير. وقد وردت قراءة بالتشديد، يعني بالتضعيف ( سُجِّرت ), ووردت بالتخفيف( سُجِرَت ). والتسجير له عدة معاني , فقيل إن معنى ( سجرت ) أي أوقدت، وأشعلت , وقيل : امتلأت، وفاضت , وقيل : يبست .
وكما قلنا في أمر الجبال، وفي أمر الشمس، نقول أيضاً في أمر البحار : إن هذه البحار يعتريها أحوال يوم القيامة, فلعل أول ما يعتريها أنها تفجر، كما في السورة التالية : ( وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ ) أي فاضت، وامتلأت، فاختلط الماء العذب، بالماء الحلو، وفاضت عن حدها، ووعائها الذي كان يحفظها, فإن الله سبحانه وتعالى قال : ( وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا ) فهذا البرزخ يكسر يوم القيامة، ويقع امتلاء وفيضان. ثم يقع بعد ذلك التسجير، بمعنى الإيقاد، والإشعال، كما قال في السورة الأخرى: ( وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ ) يعني: الموقد المضطرم ناراً, فيجري إيقاد، وينشأ عن هذا الإيقاد أن يتبخر هذا الماء، فتيبس البحار. فتكون هذه المعاني محمولةً على أحوال مختلفة، فلا يكون هذا من باب التعارض والتناقض, وإنما من باب التنوع. فهذه الألفاظ ألفاظ مشتركة تستعملها العرب على معانٍ متعددة. ومن بلاغة القرآن أن المعنى يحمل هذه الألفاظ على وجه لا تعارض فيه.
هذه الأمور الستة، روي عن أبي ابن كعب، رضي الله عنه، أنها تقع يوم القيامة، قبل البعث، مقارنة لنفخة الصعق, وأما ما بعدها، مما سيأتي، فيقع بعد البعث. وإذا أطلق (يوم القيامة) فقد يراد به ما يصاحب نفخة الصعق، وقد يراد به ما يتلو نفخة البعث؛ لأن النفخ نفختان، كما قال الله عز وجل:( ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى), نفخة للصعق، ونفخة للبعث. وأضاف بعض العلماء نفخة ثالثة، وهى نفخة الفزع ! لكن الذي تدل عليه الأدلة أنهما نفختان. فهذه الأمور الستة التي ذكر الله تعالى في مطلع السورة ( إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ ) تكون مصاحبة لنفخة الصعق، بين يديها، فيبصرها الناس، ويقع من جراء ذلك فزع عظيم لهذا التغير الكوني.
( وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ ) : هذا يكون بعد البعث. ومعنى ( زُوِّجَتْ ) أي : قرنت النفوس بالأبدان، أو بالأجساد التي كانت تعمرها في الدنيا. وقيل : أي قرن الأشباه، والنظائر، بعضها ببعض؛ فاليهودي مع اليهودي، والنصراني مع النصراني، كما قال الله تعالى : ( احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ ) يعني أشكالهم وأشباههم , فيكون معنى "زوجت" يعني قرنت بأشباهها، وأشكالها. ولعل هذا المعنى أرجح؛ وذلك أن الله، سبحانه وتعالى، دوماً ينبه على هذا، كما في قوله : ( فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ), وقال : ( فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ . وَأَصْحَابُ الْمَشَْمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ . وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ ), فهذا التصنيف، والتوزيع، والقرن، هو التزويج المراد بقوله: ( وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ ) .
( وَإِذَا الْمَوْؤدَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ ) : الموؤدة : البنت التي يقتلها أبوها في صغرها، إما خشية العار، وإما خشية الحاجة، أو خشية الأمرين معاً. فقد كان أهل الجاهلية، والعياذ بالله، يئدون البنات, قال تعالى : (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيم ,ٌ يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب) , روى الإمام الدارمي رحمه الله في مطلع سننه أَنَّ رَجُلاً أَتَى النَّبِىَّ، صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا كُنَّا أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ وَعِبَادَةِ أَوْثَانٍ ، فَكُنَّا نَقْتُلُ الأَوْلاَدَ ، وَكَانَتْ عِنْدِى بِنْتٌ لِى ، فَلَمَّا أَجَابَتْ عِبَادَةَ الأَوْثَانِ ، وَكَانَتْ مَسْرُورَةً بِدُعَائِى إِذَا دَعَوْتُهَا ، فَدَعَوْتُهَا يَوْماً فَاتَّبَعَتْنِى ، فَمَرَرْتُ حَتَّى أَتَيْتُ بِئْراً مِنْ أَهْلِى غَيْرَ بَعِيدٍ ، فَأَخَذْتُ بِيَدِهَا فَرَدَّيْتُ بِهَا فِى الْبِئْرِ ، وَكَانَ آخِرَ عَهْدِى بِهَا أَنْ تَقُولَ : يَا أَبَتَاهُ يَا أَبَتَاهُ. فَبَكَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- حَتَّى وَكَفَ دَمْعُ عَيْنَيْهِ ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ جُلَسَاءِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- : أَحْزَنْتَ رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ لَهُ :« كُفَّ ، فَإِنَّهُ يَسْأَلُ عَمَّا أَهَمَّهُ ». ثُمَّ قَالَ لَهُ :« أَعِدْ عَلَىَّ حَدِيثَكَ ». فَأَعَادَهُ ، فَبَكَى حَتَّى وَكَفَ الدَّمْعُ مِنْ عَيْنَيْهِ عَلَى لِحْيَتِهِ ، ثُمَّ قَالَ لَهُ :« إِنَّ اللَّهَ قَدْ وَضَعَ عَنِ الْجَاهِلِيَّةِ مَا عَمِلُوا ، فَاسْتَأْنِفْ عَمَلَكَ ».
كان هذا حالهم، والعياذ بالله، يئدون البنات؛ لأنهم يخشون العار؛ لما يقع بينهم من الغزو، والسلب، والنهب، فيخشون أن تؤسر، فتقع في يد عدوه، فيكون عاراً عليه, أو يفعلون ذلك بسبب الفقر، أو الخوف منه. ولهذا نهاهم الله عز وجل : (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ) , (وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ ).
( بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ ): هذا السؤال من الله عز وجل في ذلك اليوم، ما أثقله، وما أعظمه على ذلك الوائد ! وماذا يكون جواب هذه الموءودة ؟ وقد جاء في قراءة ( بأي ذنب قُتِلْتِ ) على سبيل الخطاب. ولا شك أنه لا ذنب لها, وإنما الذنب يتحمله هذا الوائد، القاطع. وهذا مما أكرم الله تعالى به المرأة في هذه الشريعة العظيمة، أن حفظها من هذا الهوان وهذا القتل .
( وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ ) : المراد بالصحف: صحائف الأعمال، التي يقيد بها الكرام الكاتبون ما يخرج من الإنسان من خير، أو شر. ومعنى ( نشرت ): أي فتحت، وأبرزت, فلا خفاء، ولا سر , بل عدل ظاهر, وحق بين. وهذا من كمال عدل الله عز وجل, واعتبار الشارع بالتوثيق, فكل إنسان يقيد عليه ما طار منه من عمل، كما قال الله عز وجل : ( وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا ) يعني ما طار منه من عمل, لأن ما يبدر منك من فعل، أو قول، كالطائر الذي فر منك، لا سبيل إلى رده, فلذلك سمي طائراً, ومعنى ( منشوراً ) : أي مفتوحاً .
( وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ ) : هذا مظهر عجيب ! هذه السماء التي يُسَرِّح الإنسان فيها طرفه، ويجول في أرجائها، ويبحث عن موضع ثقب، ولو كجب الإبرة، فلا يجده ! كما قال الله تعالى : (فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ) , فهي سماء محكمة، مسمتة , لا يوجد فيها أدنى خلل, في يوم القيامة تكشط، أي: تسلخ كما يسلخ الجلد من الذبيحة, حين يضع الجزار عليها قدمه، أو فيها يده، ويكشط الجلد ! هكذا تكشط السماء. قال الله تعالى في الآية الأخرى : ( يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ ) السجل: هو ما تحفظ فيه الكتب، والمواثيق، يدار، فتسل فيه الورقة. فهذه السماء تطوى طياً، وعبر هاهنا بالكشط وهو الإزالة . ومن شواهد ذلك، أن الله تعالى عبر بالتشقق، حيث قال: ( وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ ) فكل سماء تنفرج وتنشق عن السماء التي فوقها.
ولا ريب أن هذه الأمور أمور غيبية، نفهم منها المعنى العام، المشترك، الذي دلت عليه اللغة, لكننا لا نحيط بالكيفية. فما دل عليه القرآن من أحوال يوم القيامة، ومن صفات الرب سبحانه وتعالى، وسط بين طرفين؛ لا هو كلام أعجمي غير مفهوم، ولا هو حكاية كيفية تتخيلها الأذهان, بل هو إدراك للمعنى، دون إدراك للكيفية. فنحن إذا قرأنا هذه الآيات المتعلقة باليوم الآخر , أو الآيات المتعلقة بصفات الرب سبحانه وتعالى، ندرك منها بمقتضى الوضع العربي معاني معينة, لكننا لا ندرك الحقائق، والكنه، والكيفيات, ولا شك أن إدراكنا للمعاني كافٍ في حصول الموعظة، والعبرة، والتأثير.
( وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ ) : الجحيم: اسم من أسماء النار, وهي تدل على الجهامة، والظلمة, فهي سوداء، مظلمة، يحطم بعضها بعضاً. ومعنى قوله : ( سُعِّرَتْ ) أي: زيد في إيقادها، وتسعيرها, وإلا فإنها مخلوقة، موجودة، وهذا هو الذي دلت عليه النصوص, لكنها يوم القيامة تَهيُئ لأضيافها، وبئس الأضياف، وبئس النزل .
( وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ ) : روي عن بعض السلف أن الآيتين ( وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ ) ، هما مجرى الخطاب، يعني أن كل ما سبق، ذكر للوصول إلى هذا الأمر، أي إلى جحيم تسعر، أو جنة تزلف. ومعنى ( أزلفت): أي: قربت، وأدنيت. ولهذا كان من شأن الجنة، أنها تفتح أبوابها تلقائياً, وأن النار، والعياذ بالله، تفتح فجأة, كما ذكر الله ذلك في آخر سورة الزمر ( وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا) وفي هذا صدمة وهول, بينما قال في الجنة: ( وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا) كأنما هناك تهيؤٌ، واستقبال، وحفاوة مسبقة. نسأل الله من واسع فضله .
( عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ ) : هذا جواب الشرط, ذكر بعد ثلاثة عشر جملة من قوله : ( إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ ) إلى قوله : ( وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ ), و(نَفْسٌ): اسم جنس، يعني نفس من النفوس, كما قال الله تعالى: ( يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا ). ولا ريب أن من مرت به هذه المواقف المقارنة لقيام الساعة, والمواقف والأحوال التي تتلو البعث، يدرك يقيناً ما هو عليه. وهذا الشوط من الآيات شوط مهول, شوط يهز القلب من أركانه ، وترتجف له النفوس الحية. وتأمل وقع هذه الآيات على قوم ينكرون البعث ! فإذا كان المؤمن الذي علم مسبقاً بهذا الأمر، وتلا السورة، وأمثالها، مراراً، يتأثر قلبه لتكرارها, فما بالك بهذا الذي قد أعفى نفسه من التفكير في هذه الأمور، وقيل له سيقع كذا وكذا. فلا ريب أن هذا يهزه هزاً عظيماً، ويجعله أمام مفترق طرق, فإما أن يتبع هذا النبي الذي جاء بهذا الحق, وإما أن يختار الأخرى. وهذه مجازفة، ومغامرة، تجعله أمام خيار صعب.

الفوائد المستنبطة
الفائدة الأولى : بيان هول يوم القيامة.
الفائدة الثانية : بيان عظيم قدرة الله تعالى؛ فهذا الكون المنتظم، الرتيب، بأفلاكه العلوية، ومخلوقاته السفلية، يخلفه الله عز وجل، ويغير نمطه.
الفائدة الثالثة : شناعة جريمة الوئد، حيث خصها الله بالذكر في هذا السياق المليء بالآيات الكونية، والأحداث الكبرى.
الفائدة الرابعة : بيان كمال عدل الله .
الفائدة الخامسة : إثبات الجنة والنار، وأنهما مخلوقتان .
الفائدة السادسة : إقرار المرء بعمله يوم القيامة

بقلم الشيخ :د.أحمد بن عبد الرحمن القاضي حفظه الله تعالى.[/align]
 
[align=center]العقيـــــدة والقـــرآن » التفسير العقدي لجزء عم ( سورة التكوير ) المقطع الثاني

بسم الله الرحمن الرحيم
التفسير العقدي لجزء (عم)
سورة التكوير
(المقطع الثاني)
فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآَهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)) (فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ) :(فلا أقسم) هذا التعبير كثير في كتاب الله عز وجل , كقول الله تعالى : ( لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ) , ( لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ ) , وقد اختلف المفسرون في توجيهه , فقال بعضهم إن " لا " زائدة , والمراد : " أقسم " , وإنما نفى القسم، لكون الأمر من الوضوح والبيان، لدرجة لا يحتاج فيها إلى القسم. وهذا أبلغ. وقال بعضهم: إن معنى قوله ( لَا أُقْسِمُ ) أو( فَلَا أُقْسِم ُ) على تقدير محذوف, أي: ليس الأمر كما تظنون، ( أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوَارِ الْكُنَّسِ ) , ولا الأمر كما تظنون ( أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ). فالمنفي هو ذلك الباطل الذي يعتقدون. وبعضهم قال إن "لا" زائدة لفظاً لا معنىً ؛ يعني أنه لا يراد بها حقيقة النفي، وإنما يراد بها التأكيد.
واختلف العلماء في المرادبـ (الخنس الجوار الكنس )على ثلاثة أقوال: فقيل: المراد بها النجوم السيارة, وقيل الكواكب المعروفة,وقيل: الظباء، أو بقر الوحش. ومعنى(الخنس) التي تغيب وتطلع. ومعنى(الْجَوَار) النجوم التي تجري في فلكها، أو الظباء في فلاواتها. ومعنى(الْكُنَّسِ) : المكان الذي تختفي فيه الظباء والوحوش، أي المكانس، وهي الحجر التي تأوي إليها. وأرجح هذه الأقوال الثلاثة النجوم, وإن كان ابن جرير، رحمه الله، رجح بأن المراد كل ما يخنس، ويجري، ويدخل في كناسه، وأن كل ذلك يصلح محلاً للقسم. لكن يؤيد كونها النجوم أن النجوم أبين، وأظهر؛ يراها الناس جميعاً، وتؤيدها آية الواقعة (فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ) .
(إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ):(إنه) أي القرآن,(رسول كريم) المراد به جبريل عليه السلام. وهذا لا يعني أن القرآن من كلام جبريل, وإنما المراد أنه مبلغ عن مرسله، فوظيفته في هذا الأمر النقل، والتبليغ. ولهذا عرفه بأنه رسول
(ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ): (ذي العرش) هو الله سبحانه وتعالى, (مَكِينٍ) يعني: ذي مكانة، ومنزلة .
(مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ) (مطاع) يعني أن جبريل، عليه السلام، تطيعه الملائكة, (ثَمَّ أَمِينٍ) يعني أنه مؤتمن على الوحي. وكل هذا توثيق للرسالة.
(وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ): المراد بالصاحب محمد صلى الله عليه وسلم. وإنما نفى عنه الجنون، لأنهم كانوا ينبزونه به، فبرأه الله من ذلك.
(وَلَقَدْ رَآَهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ):أي أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى جبريل عليه السلام، بالأفق المبين، وهو مطلع الشمس، أو مغربها، مكان التقاء الأرض بالسماء.
( وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ):(ضنين) أي لا يبخل بالوحي، ولا يأخذ عليه أجراً. وفي قراءة أخرى(ظنين) يعني من الظِّنة، أي ليس محلاً للتهمة، والظنة. فليس بمتهم في تبليغ رسالات ربه، وفي هذا أعظم التزكية.
(وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ ) : مما برأ الله تعالى به كلامه، أنه ليس بقول شيطان رجيم. فقد فكان من مزاعم كفار مكة أن الشياطين هي التي تلقي إلى النبي صلى الله عليه وسلم هذا الكلام، وأن له رئي من الجن، يعني صاحب من الجن. والحملة الإعلامية التي كانوا يشوهون بها دعوة النبي صلى الله عليه وسلم فكانوا يزعمون أن للنبي صلى الله عليه وسلم رئي من الجن يلقنه هذه الكلمات، كما يلقن الجن السجع للكهان. فكلام الله بريء من ذلك. وكلمة " شيطان " مشتقة من الشطن، وهو البعد وذلك، لإبعاد الله تعالى له , ومعنى (رجيم) : أي مرجوم، وملعون، ومطرود عن رحمة الله. وفي هذا أيضاً تبرئة، وتوثيق للقرآن العظيم، من أن يكون التبس به شيء، أو خالطه شيء من إلقاء الشياطين. يقول ربنا عز وجل : ( وَمَاأَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آَيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) يعني أن الشياطين تحاول التلبيس على الوحي، والتأثير على النبي، بأن تدخل فيه ما ليس منه. ووجه دلالة الآية , من قوله : ( تمنى ) يعني تلا, وليس المراد تمنى من الأماني , وإنما من الأمنية وهي، التلاوة، كما قال الشاعر :
تمنى كتاب الله أول ليلة وآخرها لاقى حمام المقادر
ومعنى ( أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ ): يعني أدخل الشيطان لفظاً في تلاوته. لكن الله عز وجل قد تكفل بعصمة الوحي، قال :( فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آَيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ). وقد روي في سبب نزولها عن سعيد بن جُبَيْر، قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة "النجم" فلما بلغ هذا الموضع: ( أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى . وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأخْرَى ) قال: فألقى الشيطان على لسانه: "تلك الغَرَانيق العلى. وإن شفاعتهن ترتجى". قالوا: ما ذكر آلهَتنا بخير قبل اليوم. فسجَدَ وسجدوا، فأنزل الله عز وجل هذه الآية: ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) رواه ابن أبي حاتم، وابن جرير. وقال ابن كثير :( ولكنها من طرق كلها مرسلة، ولم أرها مسندة من وجه صحيح، والله أعلم)
وقد صنف فيها الشيخ ناصر الدين الألباني، رحمه الله، رسالة بعنوان " نصب المجانيق في نسف قصة الغرانيق " والمجانيق: جمع منجنيق : هو آلة حربية، يوضع في كفتها ثقل، ويرمى به القلاع، والحصون، فتهدم الجدران. والرسالة المذكورة، اسم على مسمى، فقد نسف هذه القصة من الناحية الحديثية. وعلى أي حال، لو قدرنا أن شيئاً مثل هذا قد وقع، بدلالة آية الحج ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ ) فنقول: لو قدر أن وقع شيء من ذلك، وأدخل الشيطان في الآيات ما ليس منها، فإن الله سبحانه وتعالى يبطل هذا الدخيل، ويبقي كلامه الأصيل، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، فلم يبق محذور .
(وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ): هذا ردٌّ على القدرية الذين ينكرون القدر السابق. ورد على الجبرية الذين ينكرون مشيئة العبد. فقد أثبت الله للعباد مشيئة حقيقية، داخلة تحت مشيئته، خاضعة لإرادته.
وبهذا كانت هذه السورة العظيمة قد حققت مقاصدها الجليلة. ومن هذه المقاصد :
1. الإيمان بالساعة واليوم الآخر .
2. الإيمان بالقرآن وأنه كلام الله المنزل من عنده .
3. الإيمان برسالة محمد صلى الله عليه وسلم.
4. إثبات مشيئة العباد وأفعالهم التي يتعلق بها الثواب والعقاب .
وهذه المقاصد العظيمة أسس الاعتقاد , تحفر في عقول المخاطبين، وتقر في قلوبهم، أن يؤمنوا بالبعث وما يجري يوم القيامة, وأن يؤمنوا بهذا القرآن الذي يتلى عليهم، وأنه ليس كلاماً كسائر الكلام, ليس من سجع الكهان، وليس من شعر الشعراء، ولا غير ذلك من كلام البشر, بل هو كلام كريم، من رب العالمين. كذلك هذا الشخص المبلغ له مزية, فهو وإن كان بشراً، يأكل الطعام، ويمشي في الأسواق, لكنه يوحى إليه. ( قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يوحى إلي) . هذه كلها مفاصل الاعتقاد , ثم ما يترتب على هذه الجمل الإيمانية، والأصول العقدية، من الأثر البالغ، وهو تعليقهم بمسئوليتهم، التي مكنهم الله تعالى فيها؛ من الأدوات، والآلات، فأثبت لهم مشيئة ، وفعلاً ، وقدرة ، واختياراً , على أساسه يترتب الثواب، والعقاب. فيا للعجب هذه السورة على قصر آياتها، كيف احتوت هذه الأصول العقدية العظيمة !

الفوائد المستنبطة :
الفائدة الأولى : بلاغة القرآن، وقوة تأثيره, تأمل قول الله تعالى: (فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ. الْجَوَارِ الْكُنَّسِ . وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ . وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ ), لا تفي العبارات لتصوير الأثر الذي ينقدح بالنفس، من هذه الجمل الرصينة المؤثرة , فهذا مظهر لبلاغة القرآن وجزالته، لاسيما القرآن المكي .
الفائدة الثانية : إقسام الله بما شاء من مخلوقاته, فلله عز وجل أن يقسم بما شاء من مخلوقاته , لكن ليس للمخلوق أن يقسم إلا بالله عز وجل , فمن حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك .
الفائدة الثالثة: التنبيه على أن مهمة جبريل، عليه السلام، هي البلاغ ، أخذاً من قوله : ( رسول ) .
الفائدة الرابعة : شرف جبريل، عليه السلام، وفضله على سائر الملائكة, حيث وصفه الله بأنه " كريم " وأنه " مطاع " وأنه " أمين " .الفائدة الخامسة : تبرئة النبي صلى الله عليه وسلم مما نبزه به المشركون بالجنون .
الفائدة السادسة : وفور عقل النبي صلى الله عليه وسلم، فإن نفي الله تعالى عن نبيه الجنون يتضمن إثبات كمال ضده , فليس المقصود فقط أنه ليس بمجنون، وحسب, بل ليس بمجنون، وفوق ذلك هو وافر العقل، والرأي، والرشد .الفائدة السابعة : ثبوت اللقيا بين النبي صلى الله عليه وسلم، وبين جبريل، عليه السلام، واتصال سنده برب العالمين، لقوله : (ولقد رآه بالأفق المبين). الفائدة الثامنة : الشهادة الربانية للنبي صلى الله عليه وسلم،بكمال البلاغ, لقوله تعالى : ( وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ ) .
الفائدة التاسعة : عصمة الوحي من إلقاء الشياطين، وتلبيسهم, لقول الله تعالى : ( وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ ) .
الفائدة العاشرة : عموم دين الإسلام للعالمين, لقوله تعالى :( إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ ).الفائدة الحادية عشرة : كون القرآن ذكراً، يرفع الجهل والغفلة, لقوله : ( إن هو إلا ذكر للعالمين ) .
الفائدة الثانية عشرة : إثبات مشيئة العباد وأفعالهم , لقوله تعالى : (لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ ) .الفائدة الثالثة عشرة : الرد على الجبرية الذين ينكرون مشيئة العباد .
الفائدة الرابعة عشرة : أن التزام الدين استقامة، وتركه اعوجاج , لقوله تعالى : (لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ) , فالمعيار في الاستقامة: موافقة الشرع، والوحي, والمعيار في الوسطية موافقة الشرع والوحي. وتجد بعض الناس يصنف الآخرين على ما يحلو له؛ فيقول: فلان متشدد ، وفلان متساهل ، وفلان متوسط بناءً على معيار غير دقيق, فإذا رأى من يلتزم بالسنن، ويحافظ على هدي النبي صلى الله عليه وسلم قال عنه: فلان متشدد, سبحان الله ! هذا ليس معياراً صحيحاً ؟ بل هذا انحراف, فالمستقيم حقاً, والمتوسط حقاً، هو من وافق هدي النبي صلى الله عليه وسلم فإن زاد فهو متشدد , وإن نقص فهو مفرط .
الفائدة الخامسة عشرة : إثبات عموم مشيئة الله تعالى, لقوله تعالى :( وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ) .
الفائدة السادسة عشرة : الرد على القدرية, فإن غلاة القدرية، ينكرون مراتب القدر الأربع كلها، فيقولون لم يعلم، ولم يكتب، ولم يشأ، ولم يخلق أفعال العباد! ومقتصدوهم، وهم المعتزلة، قالوا: علم، وكتب, لكن لم يشأ، ولم يخلق! الفائدة السابعة عشرة : أنه لا تنافي بين إثبات المشيئتين , لأن مشيئة الله شاملة لمشيئة العبد. والدليل على ذلك، أن العبد إذا شاء، والرب لم يشأ، لم تقع مشيئة العبد, لقوله تعالى : ( وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ), لكن في نفس الوقت العبد له مشيئة حقيقية , ليس مضطراً, ولا مكرهاً، ولا مجبوراً, على أفعاله الاختيارية، بل يأتي الأشياء، ويذرها بمحض اختياره، وسبق إصراره. وهذا أمر مدرك؛ كل إنسان يجده من نفسه، ويفرق بين أعماله الاضطرارية، وأعماله الاختيارية, ولا ينازع في هذا إلا مخبول. فأنت تفرق بين أن تنزل من السطح إلى الأرض درجة درجة, وبين أن تتدحرج حتى تصل القاع. الأولى اختيارية , والثانية اضطرارية.
الفائدة الثامنة عشرة : كمال عدل الله، وعلمه ؛ لأن إثبات مشيئة الله العامة، تدل على إثبات علمه، لوقوع الأشياء وفق معلومه. وكونه سبحانه أعطى العبد مشيئة، وفعلاً، واختياراً، رتب عليه الثواب، والعقاب، يدل على كمال عدله . والله أعلم .[/align]
 
عودة
أعلى