عبد الحميد السراوي
New member
التفسير الإذاعي للشيخ المكي الناصري
رحمه الله
كتاب "التيسير في أحاديث التفسير" للشيخ المكي الناصري من التفاسير المعاصرة، وهو يختلف عما سبقه من التفاسير القديمة، وحاجة المخاطب وظروف عيشه. أو على مستوى عرض المادة بأسلوب يستجيب لظروف الحياة وواقع الناس الذي يتميز بالسرعة في كل شيء والميل إلى الإيجاز مع عدم الإكثار والإسترسال في الشرح والإطناب.
أحاول أتلمس أوجه الجدة في الكتاب انطلاقا مما تشكل لدي من تصورات ومعلومات أثناء الدراسة عن التفاسير القديمة، كما أروم تقديم صورة عامة عن التفسير منطلقا من مقدمة الكتاب ثم دراسة السورة نموذجا لتلمس منهجه مطبقا بعد أخذ التصور النظري الذي قرره أثناء مقدمته.
الكتاب حافل بالمعاني الثرة، والأساليب البديعة، مع إيجاز ويسر واضحين وهو يتميز في عدة جوانب منه بالجدة والتطور، خصوصا في افتراض وحدة موضوعية للآيات المدروسة ثم في استخلاص محور السورة.
قبل أن أتناول الحديث عن الكتاب أود الإشارة إلى بعض المعلومات المقتضبة حول إسم الكتاب ومؤلفه وسنة طبعه، وكذا مصدر المؤلف.
كتاب: "التيسير في الأحاديث للتفسير" لسماحة الشيخ محمد المكي الناصري. طبع هذا الكتاب بدار الغرب الإسلامي، بيروت – لبنان، الطبعة الأولى: 1405 هــ 1985 م.
هذا، وقد سبق للشيخ المكي الناصري أن تتلمذ على يد شيوخ كبار وبعضهم مغاربة وآخرون من المشرق، فخوله ذلك تلقي أبجديات الفن (التفسير)، والإطلاع على عظمة كتاب الله، وترسخت عنده القناعة بأهمية التفسير، وكان هذا بمثابة الصرح الأول العمدة في نظم الكتاب، وإضافة إلى انطلاقه مما وقف عليه من معاني ودلالات زمن إلقائه لدروس التفسير بالمساجد.
ومما أثار انتباهي وأنا أقلب صفحات مقدمة الكتاب، هذا الإختلاف الحاصل في تسمية الكتاب، إذ عثرت له على عناوين عرف بهما المؤلف، فالطبعةالموجودة بالأسواق سجلت بعنوان: "التيسير في أحاديث التفسير، إلا أنه ذكر له تسمية أخرى تنسجم مع الصورة المؤلفة وما يرمي إليه من مقاصد، فكانت التسمية الثانية: "النهج القويم في تفسير الذكر الحكيم"، وقد رجح إحدى التسميتين على الأخرى انطلاقا من غرضه ودوافعه من التأليف، فقال: " وما دام الأسلوب الذي وقع عليه الإختيار لتحقيق هذا الغرض النبيل مستمدا ومستوحى من نص التنزيل القائل: " ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مذكر" ففي إمكان قراء هذه الأحاديث أن يطلق عليها إسم (التيسير في أحاديث التفسير)، أو يطلقوا عليها بناء على ما بسطناه من مختلف الإعتبارات اسم (النهج القويم في تفسير الذكرالحكيم). فيكون الإسم الأخير يعبر عن غرض المؤلف في ضبط عملية التفسير وتأسيسه وفق قواعد عملية بعيدا عن الضعيف والمتهالك من الروايات والآراء التي لا تسند على دليل معتبر، في حين يؤول غرض التسمية الأولى إلى هدف المفسر في بسط وتيسير وبيان معاني القرآن بأسلوب يلبي حاجة العامة والخاصة منه.
إن الدارس لمقدمة "التيسير" يقف أمام سيل من الدواعي وزخم من المقاصد التي يرمي إلى تأسيسها الكاتب، فقد أدرك عظمة القرآن أثناء تلقيه التفسير عن علماء أجلاء، واستشعر عظم المسؤولية في بيان القرآن، ونشر رسالته في الآفاق.
فانطلق تحذوه الرغبة في التعريف برسالة القرآن الجامعة، وهدايته النافعة، آملا من إذاعة التفسير كل يوم للإسهام في تثقيف الشعب وإصلاح تدين العباد.
وتعلق غرضه في تحقيق هذه المقصد سلوك أقصر الطرق وأيسرها لتدبر كتاب الله، وهو ما يعبر عنه "بتيسير القرآن"، علما أنه موجه لشرائح شعبية متفاوتة في مستوى ثقافتها.
ولا يقتصر الشيخ على تيسير التلاوة والحفظ، بل الهم عنده والأولى تيسير الفهم والعلم لتحقيق العمل به، انسجاما مع مقاصد القرآن الكريم نفسه: "ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر".
كما يهدف المؤلف إلى تبرئة ساحة القرآن من كل شائبة تشوبه، أو تشوب السنة الصحيحة.
ومن مقاصده أيضا: "بسط ما هو مجمل، وتقييد ما هو مطلق، وتخصيص ما هو عام، وتوضيح ما قد يعرض في فهمه من إشكال أو غموض" [1].
إننا أمام تفسير وجيز في حجمه، طريف في لغته، جديد في مقاصده، فهو لا يشاكل التفاسير التي تجعل ساحتها ميدانا للسجال الفكري، وعرض وتعداد أنواع العلوم وسرد غرائبها، بل يهدف إلى الإنطلاق من التفسير لإصلاح النفوس وتهذيبها، وهو بذالك ينم عن غرض إصلاحي تربوي، يظهر جليا انطلاقا من تنصيصه على عدم الوقوف عند حد تيسير التلاوة والحفظ فحسب، بل لابد من العمل بعد العلم والفهم.
فالشيخ المكي الناصري له قناعة راسخة بدور القرآن في إصلاح النفوس وتهذيبها وإحداث البعث المطلوب، وقد ترسخت هذه القناعة أثناء احتكاكه بالشعب إثر إلقائه لدروس التفسير، وترى ذلك ماثلا في قوله: " وكانت هذه الدروس العامة التي احتككت فيها بالشعب المؤمن احتكاكا يوميا مباشرا فرصة للتأكيد من جديد، بما يحدثه كتاب الله من تعبئة روحية وتأثير عميق، وانقلاب سريع في نفوس المؤمنين ( ... ) فكتاب الله هو الذي أحيا من المسلمين الموات..."
إن الرجل صحب القرآن الكريم منذ عهد مبكر فاستطاع التمكن من القرآن الكريم: قراءة وتجويدا، تلقيا وتلقينا، دراسة وتدريسا، وتركت الدروس والمحاضرات التي ألقاها خلال عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي بمساجد المحمدية وتطوان والبيضاء، الأثر البالغ في تأهيله للتفسير، وتأليف هذا الكتاب الذي بناه وفق قواعد علمية سديدة ومنهجية رشيدة، فتلمس من خلال كتابه أن الرجل له حظوة من الفهم، وزاد غير يسير من العلم.
وظف الشيخ المكي الناصري عند تفسيره للقرآن الكريم السنة النبوية، وهو في ذلك منطلق من قناعة مفادها أن السنة النبوية هي البيان للقرآن، واستعان أيضا بالقواعد الأصولية في استخراج المعاني من الألفاظ، أو إزالة الإشكال عن الآية أو غير ذلك من الوجوه...، وأضرب عن ذكر الخلافات المذهبية أوعرض النظريات أو تقرير القواعد العلمية التي تؤسس لعلم من العلوم أو فن من الفنون، وذلك رجاء ألا يصير التأليف على غير ما وضع له، كل ذلك أعطى للكتاب قبولا لدى العامة والخاصة، لما عرف فيه من الإختصار والتجوز، ليس بالطويل الممل ولا القصير المخل.
وأنبه في سياق الحديث عن إعراض المؤلف عن الإستطراد في ذكر النظريات العلمية إلى أن كتابه قائم على نفس القواعد العلمية التي حررتها وضبطتها تلك العلوم، إذ بدونها لا يمكن لأحد أن يضرب في علم التفسير بسهم ولا أن يفهم كتاب الله فهما صحيحا لا لغويا ولا شرعيا.
أول ما يستهل به المكي الناصري تفسيره، الشرح اللغوي لبعض المفردات المستعملة في الآيات التي هو بصدد دراستها وتفسيرها، وذلك لأجل إعانة السامع والمتلقي على الفهم، قال: في المدخل التمهيدي أدرج مسبقا (...) ما يصلح أن يكون شرحا لبعض المفردات المستعملة في تلك الآيات، إعانة له على فهمها.
عند تفسيره للآيات القرآنية، قد ينهج أسلوب المقارنة بين الآيات القرآنية الواردة في نفس الموضوع، وهو بذلك يشير إلى ما يصطلح عليه " بالتفسير الموضوعي"، ونلمس هذا الأمر عنده ليس على مستوى التطبيق والتتبع للآيات ضمن التفسير فحسب، بل يظهر أن له وعي كامل بهذا المنهج على المستوى النظري، حيث يقول عند حديثه على منهجه في التفسير " ... بمقارنة الآيات القرآنية الواردة في كل موضوع موضوع، وكل ميدان ميدان، فكتاب الله من بدايته إلى نهايته كتاب واحد يفسر بعضه بعضا، ويكمل بعضه بعضا، وهو بمجموعه، وبكافة صوره يكون " وحدة " متلاحمة لا تقبل التناقض ولا تعرف الإختلاف".
والمكي الناصري رحمه الله رغم حرصه على تقديم المعاني اللغوية للآيات وإبراز دلالتها، وبذل الجهد في المقارنة بين الآيات ومحاولة افتراض وحدة موضوعية ناظمة للكل، تعترضه مشكلة ضيق الوقت المخصص في الإذاعة لإلقاء التفسير، فيعمد إلى ابتكار منهج يوفق فيه بين عرض المادة دون إخلال، والإلتزام بالوقت المحدد، فيقول: " وعندما يضيق الوقت المخصص في الإذاعة لحصة التفسير عن استيعاب القول في جميع الآيات الداخلة في نطاق الحصة أكون مضطرا إلى التركيز على قسم من تلك الآيات، وأؤجل القول في بعضها الباقي إلى أن يأتي ما يماثلها في حصة أخرى من نفس السورة، أو ما يماثلها في غيرها من السور، حتى إذا حلت المناسبة المرتقبة جمعت الآيات المتعلقة بنفس الموضوع في صعيد واحد، وتناولت السابق منها واللاحق بالتفسير الكافي والشرح الوافي، بقدر الإستطاعة، وبذلك تكون أحاديث التفسير قد تناولت في مجموعها الجميع".
قبل البدء بالتفسيريتلى على أمواج الإذاعة ربع من القرآن الكريم،وبعد ذلك مباشرة ينتقل الشيخ المكي الناضري رحمه الله إلى تفسير هذا الربع من إملاء سماحته ،وقد ارتأيت أن أدرس سورة النبأ والنازعات باعتبارهما يشكلان ربعا.
قبل بدئ التفسير يقدم المادة التي هي محور التفسير فيقول مثلا: موضوع حديث اليوم تفسير الربع الأول من الحزب التاسع والخمسين في المصحف الكريم، وبدايته قوله تعالى في فاتحة سورة "النبأ" المكية: "بسم الله الرحمان الرحيم: عما يتساءلون عن النبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون"، ونهايته قوله جلا علاه في سورة النازعات المكية أيضا: "وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى".
حين يعرض مادة التفسير لا يقف عند جميع الآيات، ولا يستطيع شرح جميع المفردات نظرا لأنه تفسير إذاعي وتناغما مع جل شرائح المجتمع، ولكل مقام مقال.
إنه انطلق في اعتماده على تفسير ربع من القرآن على القرآن نفسه حيث إنه مجزء إلى الأثمان والأرباع والأنصاف، واقتضت حكمته تعالى فيه أن يكون مقسما إلى سور تتضمن في طياتها آيات متعددة، شاءت حكمة الله أن يكون نزولها منجما حسب الوقائع والأحداث قصد تسهيل حفظه وتيسير تدبره، ويكون أدعى للانتفاع به علما وعملا.
فعلى هذا الأساس، ومراعاة لتلكم الدواعي، ارتأى المكي الناصري أن يعتمد الربع خدمة للمقاصد السابقة، وسيرا مع منحى علماء الإسلام الذين جزؤوا تلاوة المصحف إلى عدة أجزاء. إضافة إلى غرضه في شرح وبسط معاني الآيات المتلوة في الإذاعة. كما نلحظ تناسبا ما يربط بين سور المتلو، فمن ذلك أن تكون سور الربع مكية، كما هو الأمر في سورة النبأ، والنازعات المكيتان، وهذا يسلمه للقول بمحور عام يجمع بين سور الربع، وعليه فمحور هذا الربع هو البعث، قال: "في مطلع الربع، وهو فاتحة سورة "النبأ" المكية يتحدث كتاب الله مرة أخرى عن البعث "يوم الفصل"، ثم في آخر سورة النبأ تناول الآية الأخيرة منها التي تتحدث عن حسرة الكافرين، ويربط معاني هذه ببداية سورة النازعات محاولا إثبات محور يضم السور حيث يقول: بعد تناول آخر آية من سورة النبأ السالفة الذكر: "ومن هنا ننتقل إلى سورة "النازعات" المكية أيضا".
كما يومئ إلى المناسبة بين محور السورة وبعض القضايا المرتبطة به، فيقول: " وتناول كتاب الله بهذه المناسبة الحديث عن الطاغين" وعقابهم"، وقال أيضا: "ثم عرج كتاب الله على ذكر "المتقين وثوابهم".
بعد عرض قضايا السورة ومحورها، ينتخب مجموعة من الآيات التي تشتمل عليها السورة يفسرها، قال بعد فراغه من حديثه عن محور السورة وقضاياها: والآن فنقف وقفة خاصة عند بعض الآيات من هذه السورة الكريمة". فيشرع أولا في بيان المعنى اللغوي ومثاله عند كلامه على قوله تعالى: " وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا": "الماء الثجاج" هو المتتابع الصب. ثم أتبع هذا المعنى بآية في كتاب الله تشير إلى نفس المعنى: وإلى هذا المعنى يشير قوله تعالى في آية أخرى: "الله الذي يرسل الريح فتثير سحابا فيبسطه في السماء كيف يشاء ويجعله كسفا فترى الودق يخرج من خلاله".
ونجده وقافا عند النصوص دون إعمال للتأويل خصوصا في بعض النصوص التي لا مجال للرأي فيها، ومثاله ما قاله عند تعرضه لقوله تعالى: "يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجا"، فيذهب إلى معنى الصور بأنه البوق انسجاما مع نصوص حديثية واردة في الباب، قال: "المراد بالصور شيء يشبه البوق، سينفخ فيه يوم القيامة لدعوة الخلائق إلى ميقات جمعهم المعلوم، ولم يضف كتاب الله إلى ذكر إسمه أي بيان عنه ولا عن كيفيته، فذلك من "علم الغيب".
قد يتبادر إلى الذهن أن الرجل يكتفي بشرح الألفاظ شرحا لغويا مبسطا تعليميا، بل إنه يرجع اللفظة القرآنية إلى المفرد ثم ينطلق من المعنى الذي أفاده المفرد ليؤسس عليه معنى عاما للفظة الموظفة في سياقها القرآني. ومثال ذلك: قال: وقوله تعالى في شأن الطاغين: "لابثين فيها أحقابا" أي: ماكثين في جهنم أحقابا، والأحقاب جمع "حقب"، وهو في ذهابه إلى أن الأحقاب تجمع على "حقب" يستدل بنص قرآني من سورة الكهف: قال تعالى: لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبا"، ثم يستهل في شرح معنى هذا اللفظ: "والحقب هو المدة الطويلة من الدهر، "والحقبة من الدهر تجمع على حقب وحقوب".
عند تفسيره لقوله تعالى: لابثين فيها أحقابا" تعرض للأقوال الواردة في الآية، من ذلك قول لخالد بن معدان مفاده "أن العصاة من المؤمنين إذا عذبوا بجهنم فإنهم لايخلدون فيها، وإنما يلبثون فيها مدة محدودة، ثم يفارقونها إلى الجنة بمغفرة الله ورحمة منه"، وقول آخر في الآية لقتادة، أن الطاغين "يعذبون في جهنم عذابا لا انقطاع له، بحيث كلما مضى "حقب" جاء بعده حقب آخر"، فصار المكي الناصري إلى ترجيح القول الآخير لقتادة بناء على قول ابن جرير القائل بأن الأحقاب لا انقضاء لها، وقد عضد المكي الناصري رأيه بالآية الواردة في نفس السورة وفي نفس السياق: فذوقوا فلن تزيدكم إلا عذابا"، مدعما رأيه بقول عبد الله بن عمرو: لم ينزل على أهل النار آية أشد من هذه الآية، فهم في مزيد من العذاب أبدا".
ومما يقف عليه المطلع على كتاب "التيسير" تمكن الرجل من العربية فهو عالم بوجوه تصاريفها ملم بمعهود العرب من الكلام، عارف بمساقات كلامها، فمما يتجلى فيه إلمامه بمعهود كلام العرب تفسيره لقوله تعالى: "جزاء من ربك عطاء حسابا". قال: "أي عطاء كافيا وافيا، تقول العرب أعطاني فأحسبني"، أي: كفاني، ومنه "حسبي الله" أي: أن الله كفاني".
كما يحاول أن يوسع معاني بعض المفردات والكلمات لتصير لها دلالة عامة تستوعب الأقوال التي قيلت في القديم، وتتضمن أيضا المعاني المستحدثة، تحكمه في ذلك الرغبة في تقريب معاني بعض الأشياء المبهمة، ومراعاة التطور الحاصل في واقع الحياة ودنيا الناس، وتفاديا للتضارب والإختلاف في أقوال بعض المفسرين.
رحمه الله
كتاب "التيسير في أحاديث التفسير" للشيخ المكي الناصري من التفاسير المعاصرة، وهو يختلف عما سبقه من التفاسير القديمة، وحاجة المخاطب وظروف عيشه. أو على مستوى عرض المادة بأسلوب يستجيب لظروف الحياة وواقع الناس الذي يتميز بالسرعة في كل شيء والميل إلى الإيجاز مع عدم الإكثار والإسترسال في الشرح والإطناب.
أحاول أتلمس أوجه الجدة في الكتاب انطلاقا مما تشكل لدي من تصورات ومعلومات أثناء الدراسة عن التفاسير القديمة، كما أروم تقديم صورة عامة عن التفسير منطلقا من مقدمة الكتاب ثم دراسة السورة نموذجا لتلمس منهجه مطبقا بعد أخذ التصور النظري الذي قرره أثناء مقدمته.
الكتاب حافل بالمعاني الثرة، والأساليب البديعة، مع إيجاز ويسر واضحين وهو يتميز في عدة جوانب منه بالجدة والتطور، خصوصا في افتراض وحدة موضوعية للآيات المدروسة ثم في استخلاص محور السورة.
قبل أن أتناول الحديث عن الكتاب أود الإشارة إلى بعض المعلومات المقتضبة حول إسم الكتاب ومؤلفه وسنة طبعه، وكذا مصدر المؤلف.
كتاب: "التيسير في الأحاديث للتفسير" لسماحة الشيخ محمد المكي الناصري. طبع هذا الكتاب بدار الغرب الإسلامي، بيروت – لبنان، الطبعة الأولى: 1405 هــ 1985 م.
هذا، وقد سبق للشيخ المكي الناصري أن تتلمذ على يد شيوخ كبار وبعضهم مغاربة وآخرون من المشرق، فخوله ذلك تلقي أبجديات الفن (التفسير)، والإطلاع على عظمة كتاب الله، وترسخت عنده القناعة بأهمية التفسير، وكان هذا بمثابة الصرح الأول العمدة في نظم الكتاب، وإضافة إلى انطلاقه مما وقف عليه من معاني ودلالات زمن إلقائه لدروس التفسير بالمساجد.
ومما أثار انتباهي وأنا أقلب صفحات مقدمة الكتاب، هذا الإختلاف الحاصل في تسمية الكتاب، إذ عثرت له على عناوين عرف بهما المؤلف، فالطبعةالموجودة بالأسواق سجلت بعنوان: "التيسير في أحاديث التفسير، إلا أنه ذكر له تسمية أخرى تنسجم مع الصورة المؤلفة وما يرمي إليه من مقاصد، فكانت التسمية الثانية: "النهج القويم في تفسير الذكر الحكيم"، وقد رجح إحدى التسميتين على الأخرى انطلاقا من غرضه ودوافعه من التأليف، فقال: " وما دام الأسلوب الذي وقع عليه الإختيار لتحقيق هذا الغرض النبيل مستمدا ومستوحى من نص التنزيل القائل: " ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مذكر" ففي إمكان قراء هذه الأحاديث أن يطلق عليها إسم (التيسير في أحاديث التفسير)، أو يطلقوا عليها بناء على ما بسطناه من مختلف الإعتبارات اسم (النهج القويم في تفسير الذكرالحكيم). فيكون الإسم الأخير يعبر عن غرض المؤلف في ضبط عملية التفسير وتأسيسه وفق قواعد عملية بعيدا عن الضعيف والمتهالك من الروايات والآراء التي لا تسند على دليل معتبر، في حين يؤول غرض التسمية الأولى إلى هدف المفسر في بسط وتيسير وبيان معاني القرآن بأسلوب يلبي حاجة العامة والخاصة منه.
إن الدارس لمقدمة "التيسير" يقف أمام سيل من الدواعي وزخم من المقاصد التي يرمي إلى تأسيسها الكاتب، فقد أدرك عظمة القرآن أثناء تلقيه التفسير عن علماء أجلاء، واستشعر عظم المسؤولية في بيان القرآن، ونشر رسالته في الآفاق.
فانطلق تحذوه الرغبة في التعريف برسالة القرآن الجامعة، وهدايته النافعة، آملا من إذاعة التفسير كل يوم للإسهام في تثقيف الشعب وإصلاح تدين العباد.
وتعلق غرضه في تحقيق هذه المقصد سلوك أقصر الطرق وأيسرها لتدبر كتاب الله، وهو ما يعبر عنه "بتيسير القرآن"، علما أنه موجه لشرائح شعبية متفاوتة في مستوى ثقافتها.
ولا يقتصر الشيخ على تيسير التلاوة والحفظ، بل الهم عنده والأولى تيسير الفهم والعلم لتحقيق العمل به، انسجاما مع مقاصد القرآن الكريم نفسه: "ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر".
كما يهدف المؤلف إلى تبرئة ساحة القرآن من كل شائبة تشوبه، أو تشوب السنة الصحيحة.
ومن مقاصده أيضا: "بسط ما هو مجمل، وتقييد ما هو مطلق، وتخصيص ما هو عام، وتوضيح ما قد يعرض في فهمه من إشكال أو غموض" [1].
إننا أمام تفسير وجيز في حجمه، طريف في لغته، جديد في مقاصده، فهو لا يشاكل التفاسير التي تجعل ساحتها ميدانا للسجال الفكري، وعرض وتعداد أنواع العلوم وسرد غرائبها، بل يهدف إلى الإنطلاق من التفسير لإصلاح النفوس وتهذيبها، وهو بذالك ينم عن غرض إصلاحي تربوي، يظهر جليا انطلاقا من تنصيصه على عدم الوقوف عند حد تيسير التلاوة والحفظ فحسب، بل لابد من العمل بعد العلم والفهم.
فالشيخ المكي الناصري له قناعة راسخة بدور القرآن في إصلاح النفوس وتهذيبها وإحداث البعث المطلوب، وقد ترسخت هذه القناعة أثناء احتكاكه بالشعب إثر إلقائه لدروس التفسير، وترى ذلك ماثلا في قوله: " وكانت هذه الدروس العامة التي احتككت فيها بالشعب المؤمن احتكاكا يوميا مباشرا فرصة للتأكيد من جديد، بما يحدثه كتاب الله من تعبئة روحية وتأثير عميق، وانقلاب سريع في نفوس المؤمنين ( ... ) فكتاب الله هو الذي أحيا من المسلمين الموات..."
إن الرجل صحب القرآن الكريم منذ عهد مبكر فاستطاع التمكن من القرآن الكريم: قراءة وتجويدا، تلقيا وتلقينا، دراسة وتدريسا، وتركت الدروس والمحاضرات التي ألقاها خلال عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي بمساجد المحمدية وتطوان والبيضاء، الأثر البالغ في تأهيله للتفسير، وتأليف هذا الكتاب الذي بناه وفق قواعد علمية سديدة ومنهجية رشيدة، فتلمس من خلال كتابه أن الرجل له حظوة من الفهم، وزاد غير يسير من العلم.
وظف الشيخ المكي الناصري عند تفسيره للقرآن الكريم السنة النبوية، وهو في ذلك منطلق من قناعة مفادها أن السنة النبوية هي البيان للقرآن، واستعان أيضا بالقواعد الأصولية في استخراج المعاني من الألفاظ، أو إزالة الإشكال عن الآية أو غير ذلك من الوجوه...، وأضرب عن ذكر الخلافات المذهبية أوعرض النظريات أو تقرير القواعد العلمية التي تؤسس لعلم من العلوم أو فن من الفنون، وذلك رجاء ألا يصير التأليف على غير ما وضع له، كل ذلك أعطى للكتاب قبولا لدى العامة والخاصة، لما عرف فيه من الإختصار والتجوز، ليس بالطويل الممل ولا القصير المخل.
وأنبه في سياق الحديث عن إعراض المؤلف عن الإستطراد في ذكر النظريات العلمية إلى أن كتابه قائم على نفس القواعد العلمية التي حررتها وضبطتها تلك العلوم، إذ بدونها لا يمكن لأحد أن يضرب في علم التفسير بسهم ولا أن يفهم كتاب الله فهما صحيحا لا لغويا ولا شرعيا.
أول ما يستهل به المكي الناصري تفسيره، الشرح اللغوي لبعض المفردات المستعملة في الآيات التي هو بصدد دراستها وتفسيرها، وذلك لأجل إعانة السامع والمتلقي على الفهم، قال: في المدخل التمهيدي أدرج مسبقا (...) ما يصلح أن يكون شرحا لبعض المفردات المستعملة في تلك الآيات، إعانة له على فهمها.
عند تفسيره للآيات القرآنية، قد ينهج أسلوب المقارنة بين الآيات القرآنية الواردة في نفس الموضوع، وهو بذلك يشير إلى ما يصطلح عليه " بالتفسير الموضوعي"، ونلمس هذا الأمر عنده ليس على مستوى التطبيق والتتبع للآيات ضمن التفسير فحسب، بل يظهر أن له وعي كامل بهذا المنهج على المستوى النظري، حيث يقول عند حديثه على منهجه في التفسير " ... بمقارنة الآيات القرآنية الواردة في كل موضوع موضوع، وكل ميدان ميدان، فكتاب الله من بدايته إلى نهايته كتاب واحد يفسر بعضه بعضا، ويكمل بعضه بعضا، وهو بمجموعه، وبكافة صوره يكون " وحدة " متلاحمة لا تقبل التناقض ولا تعرف الإختلاف".
والمكي الناصري رحمه الله رغم حرصه على تقديم المعاني اللغوية للآيات وإبراز دلالتها، وبذل الجهد في المقارنة بين الآيات ومحاولة افتراض وحدة موضوعية ناظمة للكل، تعترضه مشكلة ضيق الوقت المخصص في الإذاعة لإلقاء التفسير، فيعمد إلى ابتكار منهج يوفق فيه بين عرض المادة دون إخلال، والإلتزام بالوقت المحدد، فيقول: " وعندما يضيق الوقت المخصص في الإذاعة لحصة التفسير عن استيعاب القول في جميع الآيات الداخلة في نطاق الحصة أكون مضطرا إلى التركيز على قسم من تلك الآيات، وأؤجل القول في بعضها الباقي إلى أن يأتي ما يماثلها في حصة أخرى من نفس السورة، أو ما يماثلها في غيرها من السور، حتى إذا حلت المناسبة المرتقبة جمعت الآيات المتعلقة بنفس الموضوع في صعيد واحد، وتناولت السابق منها واللاحق بالتفسير الكافي والشرح الوافي، بقدر الإستطاعة، وبذلك تكون أحاديث التفسير قد تناولت في مجموعها الجميع".
قبل البدء بالتفسيريتلى على أمواج الإذاعة ربع من القرآن الكريم،وبعد ذلك مباشرة ينتقل الشيخ المكي الناضري رحمه الله إلى تفسير هذا الربع من إملاء سماحته ،وقد ارتأيت أن أدرس سورة النبأ والنازعات باعتبارهما يشكلان ربعا.
قبل بدئ التفسير يقدم المادة التي هي محور التفسير فيقول مثلا: موضوع حديث اليوم تفسير الربع الأول من الحزب التاسع والخمسين في المصحف الكريم، وبدايته قوله تعالى في فاتحة سورة "النبأ" المكية: "بسم الله الرحمان الرحيم: عما يتساءلون عن النبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون"، ونهايته قوله جلا علاه في سورة النازعات المكية أيضا: "وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى".
حين يعرض مادة التفسير لا يقف عند جميع الآيات، ولا يستطيع شرح جميع المفردات نظرا لأنه تفسير إذاعي وتناغما مع جل شرائح المجتمع، ولكل مقام مقال.
إنه انطلق في اعتماده على تفسير ربع من القرآن على القرآن نفسه حيث إنه مجزء إلى الأثمان والأرباع والأنصاف، واقتضت حكمته تعالى فيه أن يكون مقسما إلى سور تتضمن في طياتها آيات متعددة، شاءت حكمة الله أن يكون نزولها منجما حسب الوقائع والأحداث قصد تسهيل حفظه وتيسير تدبره، ويكون أدعى للانتفاع به علما وعملا.
فعلى هذا الأساس، ومراعاة لتلكم الدواعي، ارتأى المكي الناصري أن يعتمد الربع خدمة للمقاصد السابقة، وسيرا مع منحى علماء الإسلام الذين جزؤوا تلاوة المصحف إلى عدة أجزاء. إضافة إلى غرضه في شرح وبسط معاني الآيات المتلوة في الإذاعة. كما نلحظ تناسبا ما يربط بين سور المتلو، فمن ذلك أن تكون سور الربع مكية، كما هو الأمر في سورة النبأ، والنازعات المكيتان، وهذا يسلمه للقول بمحور عام يجمع بين سور الربع، وعليه فمحور هذا الربع هو البعث، قال: "في مطلع الربع، وهو فاتحة سورة "النبأ" المكية يتحدث كتاب الله مرة أخرى عن البعث "يوم الفصل"، ثم في آخر سورة النبأ تناول الآية الأخيرة منها التي تتحدث عن حسرة الكافرين، ويربط معاني هذه ببداية سورة النازعات محاولا إثبات محور يضم السور حيث يقول: بعد تناول آخر آية من سورة النبأ السالفة الذكر: "ومن هنا ننتقل إلى سورة "النازعات" المكية أيضا".
كما يومئ إلى المناسبة بين محور السورة وبعض القضايا المرتبطة به، فيقول: " وتناول كتاب الله بهذه المناسبة الحديث عن الطاغين" وعقابهم"، وقال أيضا: "ثم عرج كتاب الله على ذكر "المتقين وثوابهم".
بعد عرض قضايا السورة ومحورها، ينتخب مجموعة من الآيات التي تشتمل عليها السورة يفسرها، قال بعد فراغه من حديثه عن محور السورة وقضاياها: والآن فنقف وقفة خاصة عند بعض الآيات من هذه السورة الكريمة". فيشرع أولا في بيان المعنى اللغوي ومثاله عند كلامه على قوله تعالى: " وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا": "الماء الثجاج" هو المتتابع الصب. ثم أتبع هذا المعنى بآية في كتاب الله تشير إلى نفس المعنى: وإلى هذا المعنى يشير قوله تعالى في آية أخرى: "الله الذي يرسل الريح فتثير سحابا فيبسطه في السماء كيف يشاء ويجعله كسفا فترى الودق يخرج من خلاله".
ونجده وقافا عند النصوص دون إعمال للتأويل خصوصا في بعض النصوص التي لا مجال للرأي فيها، ومثاله ما قاله عند تعرضه لقوله تعالى: "يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجا"، فيذهب إلى معنى الصور بأنه البوق انسجاما مع نصوص حديثية واردة في الباب، قال: "المراد بالصور شيء يشبه البوق، سينفخ فيه يوم القيامة لدعوة الخلائق إلى ميقات جمعهم المعلوم، ولم يضف كتاب الله إلى ذكر إسمه أي بيان عنه ولا عن كيفيته، فذلك من "علم الغيب".
قد يتبادر إلى الذهن أن الرجل يكتفي بشرح الألفاظ شرحا لغويا مبسطا تعليميا، بل إنه يرجع اللفظة القرآنية إلى المفرد ثم ينطلق من المعنى الذي أفاده المفرد ليؤسس عليه معنى عاما للفظة الموظفة في سياقها القرآني. ومثال ذلك: قال: وقوله تعالى في شأن الطاغين: "لابثين فيها أحقابا" أي: ماكثين في جهنم أحقابا، والأحقاب جمع "حقب"، وهو في ذهابه إلى أن الأحقاب تجمع على "حقب" يستدل بنص قرآني من سورة الكهف: قال تعالى: لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبا"، ثم يستهل في شرح معنى هذا اللفظ: "والحقب هو المدة الطويلة من الدهر، "والحقبة من الدهر تجمع على حقب وحقوب".
عند تفسيره لقوله تعالى: لابثين فيها أحقابا" تعرض للأقوال الواردة في الآية، من ذلك قول لخالد بن معدان مفاده "أن العصاة من المؤمنين إذا عذبوا بجهنم فإنهم لايخلدون فيها، وإنما يلبثون فيها مدة محدودة، ثم يفارقونها إلى الجنة بمغفرة الله ورحمة منه"، وقول آخر في الآية لقتادة، أن الطاغين "يعذبون في جهنم عذابا لا انقطاع له، بحيث كلما مضى "حقب" جاء بعده حقب آخر"، فصار المكي الناصري إلى ترجيح القول الآخير لقتادة بناء على قول ابن جرير القائل بأن الأحقاب لا انقضاء لها، وقد عضد المكي الناصري رأيه بالآية الواردة في نفس السورة وفي نفس السياق: فذوقوا فلن تزيدكم إلا عذابا"، مدعما رأيه بقول عبد الله بن عمرو: لم ينزل على أهل النار آية أشد من هذه الآية، فهم في مزيد من العذاب أبدا".
ومما يقف عليه المطلع على كتاب "التيسير" تمكن الرجل من العربية فهو عالم بوجوه تصاريفها ملم بمعهود العرب من الكلام، عارف بمساقات كلامها، فمما يتجلى فيه إلمامه بمعهود كلام العرب تفسيره لقوله تعالى: "جزاء من ربك عطاء حسابا". قال: "أي عطاء كافيا وافيا، تقول العرب أعطاني فأحسبني"، أي: كفاني، ومنه "حسبي الله" أي: أن الله كفاني".
كما يحاول أن يوسع معاني بعض المفردات والكلمات لتصير لها دلالة عامة تستوعب الأقوال التي قيلت في القديم، وتتضمن أيضا المعاني المستحدثة، تحكمه في ذلك الرغبة في تقريب معاني بعض الأشياء المبهمة، ومراعاة التطور الحاصل في واقع الحياة ودنيا الناس، وتفاديا للتضارب والإختلاف في أقوال بعض المفسرين.