فريد البيدق
New member
"موسوعة أحسن الكلام في الفتاوى والأحكام"، الشيخ عطية صقر، الجزء السابع، ص 518-528، مكتبة وهبة.
***
1 ـ مفهوم التفرقة العنصرية:
يقصد بالتفرقة العنصرية في العرف الحديث التمييز بين الأجناس في القوانين والمعاملات، على أساس الدم والخصائص البيولوجية المتعلقة بتكوين الجسم البشري، وما يتبع ذلك من الحياة الفكرية ومظاهر السلوك والاجتماع.
لقد صنَّف العلماء والباحثون في العلوم الإنسانية الأجناس البشرية إلى جماعات تجمع بين كل منها خصائص ومميزات طبيعية متوارثة في مجموعها وإن كان هناك مجال للاختلاف البسيط بين أفرادها، ومن أبرز هذه الخصائص لون البشرة وشكل الجمجمة، وملامح الوجه وطول القامة. وقالوا: إن هذه الطبيعية يتبعها اختلاف في المواهب العقلية والقوى النفسية وما إليها.
ورأى بعض هؤلاء أن تقسيم البشر إلى أجناس يرجع إلى الدم نفسه على خلاف فيما بينهم على مقدار نسبة ما يوجد من دم الآباء والأجداد في الإنسان حتى ينسب إلى هذا الجنس، وعلى أساس هذا التقسيم العنصري قرر الباحثون أن هناك امتيازا لبعض الأجناس بعضهم الآخر، يحق للأجناس العالية أن تكون لها قوانين وأن تعامل معاملة خاصة بخلاف الأجناس الأخرى التي لا ينبغي أن تدخل معها في هذه القوانين وتلك المعاملات.
هذا هو مفهوم التفرقة العنصرية في العرف الحديث والهدف منه، وسيأتي بيان بطلان الأساس الذي قسموا عليه البشر، وزيف ما يهدفون إليه من أغراض.
2 ـ التفرقة في النظم القديمة:
إن فكرة التمييز بوجه عام بين بني الإنسان فكرة قديمة، ضرورة اختلاف الناس بعضهم عن بعض في القوة الجسمية والمواهب العقلية والمظاهر المادية، والتي كان من أثرها استعلاء بعضهم على بعض، واستغلال القوي منهم للضعيف وتحكم الغني في الفقير، وسيطرة العالم على الجاهل، والتي كان من أكبر مظاهرها الرق.
(أ) ففي الهند مثلا كانت كتبهم المقدسة تقرر التفاضل بين الناس بحسب عناصرهم التي خلقوا منها في زعمهم، فتذكر أن "براهما" خلق فصيلة البرهميين من فمه، وهم أشرف المخلوقات ولهم أرقى المناصب الدينية. وخلق فصيلة الكشتريين أو الشاتري من ذراعه، وهم الذين يتولون الوظائف الحربية. وخلق فصيلة الفيشائيين أو الفاشا من فخذه، وهم الذين يقومون بالتجارة والإنتاج. وخلق فصيلة السودرائيين والمنبوذين من قدمه، وهؤلاء لهم وظيفة واحدة هي خدمة الطبقات السابقة.
(ب) وكان اليونان يعتقدون أنهم شعب مختار، خلقوا من عناصر تختلف عن العناصر التي خلقت منها الشعوب الأخرى، التي كانوا يطلقون عليها اسم "البربر". وقد قرر أرسطو في كتابه "السياسة "أن الآلهة خلقت فصيلتين من الأناسي: فصيلة زودتها بالعقل والإرادة، وهي اليونان. وقد فطرتها على هذا التكوين الكامل لتكون خليفتها في الأرض، وسيدة على سائر الخلق. وفصيلة لم تزودها إلا بقوة الجسم وما يتصل اتصالا مباشرا به، وهم البرابرة أي ما عدا اليونان من بني آدم، وقد فطروا على هذا التقويم الناقص؛ ليكونوا عبيدا مسخرين للفصيلة المختارة المصطفاة. وكانوا يقرون الرق الذي يقول فيه أرسطو: إن الرقيق آلة ذو روح، أو متاع تقوم به الحياة. فهم لا يدخلونه في عداد المخلوقات الإنسانية.
(ج) وكان الرومان يعتقدون كما يعتقد اليونان أنهم سادة العالم، وأن غيرهم بر ابره خدم لهم، وكانت قوانينهم تقر الرق، وتعامل الرقيق على أنه متاع، مدعين أن استعباده رحمة به من القتل الذي تتعرض له الحيوانات. وإلى جانب الاسترقاق بالحروب كانوا يسترقون الفقير إذا عجز عن أداء الدين، ولم تكن للرقيق حقوق قانونية ولا مدنية، ولا يستطيع أن يقاضي سيده أو يتظلم من معاملته، بل كان لسيده الحق في قتله دون مجازاة. ولم يخفف من حدة هذه المعاملة الدين المسيحي الذي اعتنقه الرومان بعد.
(د) والعرب في الجاهلية كانوا يعيشون على التفاخر بالأحساب والأنساب، ويعتقدون أنهم أفضل من غيرهم الذين كانوا يطلقون عليهم اسم العجم، ولعل ذلك كان أساسه اعتزاز العربي بلغته الفصيحة التي لا يوجد لها مثيل في العالم.
وكانوا بناء على ذلك يكرهون أن يتلوث دمهم العربي النقي بدم غيرهم عن طريق الزواج، ويأنفون أن يزوجوا بنتا من أحقر قبائلهم كباهلة وسلول إلى أعجمي حتى لو كان كسرى نفسه، وقد خطب كسرى أبرويز بنت النعمان بن المنذر فرفض النعمان مصاهرته، مع أنه كان أحد ولاته، وكانت حرب طاحنة بين الفرس والعرب، تكتلت فيها قبائلهم من أجل حماية حرقة بنت النعمان أن يأخذها كسرى، وانتهت المعركة بانتصار العرب في موقعة (ذي قار).
وكان العرب يستخدمون الرقيق في الأعمال المنزلية وفي التجارة، بل كان يمارس معهم الحرب أحيانا، وإذا أعجبوا به أعتقوه وجعلوه أحد أعضاء الأسرة.
3 ـ التفرقة عند اليهود والمسيحيين:
(أ) لقد ادعى اليهود أنهم شعب الله المختار، وأن الإله الذي يعبدونه لا ينبغي أن يكون معبودا لغيرهم من الناس الذين كانوا يطلقون عليهم أميين، قال تعالى: "وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ"، فكان رد الله عليهم أنهم كغيرهم من خلقه لا يفضل أحد على أحد إلا بالعمل، فقال تعالى: "قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ" [المائدة: 18]، وكانوا يعتقدون أن غيرهم من الأميين ليست لهم حقوق كحقوقهم، كما حكى الله عنهم بقوله: "وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ" [آل عمران: 75].
وكانوا يبيحون استرقاق من عداهم عند العجز عن الوفاء بالدين، وما يزال شعور التعالي والتعصب العنصري موجودًا لديهم حتى الآن، وكانت قمته هي الصهيونية بمظاهرها وأساليبها المعروفة التي تتنافى مع الكرامة الإنسانية.
(ب) والمسيحية أقرت الرق كما أقرته اليهودية، وقد جاء في المعجم الكبير للقرن التاسع عشر (لاروس): لا يعجب الإنسان من بقاء الرق واستمراره بين المسيحيين إلى اليوم؛ فإن نواب الدين الرسميين يقرون صحته، ويسلمون بمشروعيته، وجاء فيه: الخلاصة أن الدين المسيحي ارتضى الاسترقاق تماما إلى يومنا هذا، ويتعذر على الإنسان أن يثبت أنه سعى في إبطاله كما أثبت ذلك أيضا (قاموس الكتاب المقدس) للدكتور جورج يوسف.
وظل الرق معترفا به بين المسيحيين، وكثر كثرة فاحشة بعد اكتشاف أمريكا وجلب الرقيق من أفريقيا للعمل بها، وكان الاتجار على أشده بين الدول الاستعمارية يمارسه ملوكها وكبار رجالها مع قسوة بالغة العنف، برروها بأقوال من كتبهم المقدسة. وصدرت قوانين تنص على احتقار الجنس الأسود وإهدار كرامته، وكان مفكروهم ينادون بذلك، كما جاء في كتاب (روح القوانين) حيث قال مؤلفه (مونتيسكيو) الفرنسي في الفصل الخامس منه: إن شعوب أوروبا بعد ما أبادت سكان أمريكا الأصليين وهم الهنود الحمر لم تر بُدًّا من استعمار شعوب أفريقيا؛ لكي تستخدمها في استغلال هذه الأقطار الشاسعة؛ فإن هذه الشعوب سود البشرة من أقدامهم إلى رءوسهم، ولا يمكن أن يتصور أحد أن الله وهو ذو الحكمة البالغة قد خلق روحا وعلى الأخص روحا طيبة في أجسام حالكة السواد.
وعلى الرغم من إبطاله قانونا فإن الدول المسيحية ما زالت تمارسه بلون آخر هو الاستعمار والتفرقة العنصرية على ما سيأتي بيانه.
4 ـ العلم والتفرقة العنصرية:
إن تقسيم البشر إلى أجناس على أساس الدم أو التكوين الطبيعي للجسم قد قرر العلماء المنصفون أخيرا أنه تقسيم باطل؛ فإن مظاهر التقدم والرقي الموجودة عند بعض الجماعات لا يرجع سببها إلى ذلك، وإنما يرجع إلى عوامل من البيئة الطبيعية والظروف السياسية والأوضاع الاقتصادية والأجواء الثقافية، وقرروا أنه لو وضع شخصان من جنسين مختلفين في بيئة حضارية وثقافية واجتماعية واحدة ما كان هناك فرق يذكر بينهما في الفكر والسلوك، وكم تقدم أفراد من أناس ملونة على أفراد من البيض في الجامعات وفي النشاط الاجتماعي العام، وذلك عندما تهيأت لهم الظروف التي تهيأت لغيرهم من الناس. ومن هنا لا تكون وراثة الخصائص البيولوجية مانعة من التقدم والحضارة عندما تتوافر الظروف للتطور والنهوض، فإذا كان هناك تخلف حضاري عند سلالة من السلالات فمرده إلى العوامل الطبيعية والاقتصادية والثقافية والسياسية وما إليها.
وقد بحث العلماء بنوع خاص في عنصرية اليهود، فأكدوا أن الموجودين منهم الآن وهم حوالي خمسة عشر مليونا في العالم كله ليسوا من عنصر واحد بحكم اختلاطهم بالأجناس الأخرى طوعا أو كرها، وقد تحدث البحاثة "بيتار " عن ذلك، وأثبت أن الإسرائيليين يكونون جماعات دينية واجتماعية قوية النفوذ وثيقة التضامن، غير أنها متباينة العناصر إلى أبعد الحدود. وأكد أن الإسرائيليين الخلص الذين هم من أصل آشوري برأسه المستطيل عددهم محدود جدا، كما قرر ذلك أيضا "هاتزجونتر" في كتابه "أصول الأجناس في التاريخ الأوروبي . . وأكده أيضا "كوماس " أستاذ التاريخ الطبيعي للأجناس البشرية في الجامعة الوطنية بمكسيكو. انظر رسالة الدكتور العمري في التفرقة العنصرية، ومجلة العربي أكتوبر1970.
5 ـ الاهتمام بالأبحاث العنصرية:
إن الاهتمام بالبحث في الأجناس وخصائصها ومميزاتها لم يأخذ شكلا واضحا إلا في العصور المتأخرة، حين غلبت على بعض الأمم القوية نزعة الاستعمار والاستغلال للأمم الضعيفة المتخلفة، أرادت به الدعاية لجنس معيَّن، أو لفكرة سياسية يمكن عن طريقها التحكم في الأجناس الأخرى. وكثيرا ما لجأت هذه الأفكار إلى الدين تستمد منه تأييدا لها، كالصهيونية التي ادعت أنها شعب الله المختار. ولقد ظهرت هذه النغمة بالذات في أوروبا في العصر الحديث، فبعد أن كانت دولها لا تفرق بين مسيحي وغير مسيحي، وبعد أن كان يفاخر بعضها البعض الآخر بالأخلاق والآثار- أصبحت تتحدث عن الأجناس وخصائصها، وتفرق بين جنس وآخر تبعا لهذه الخصائص، كما يقول المؤرخ "توينبي ".
ويرجع ظهور هذه النغمة في أوروبا إلى أسباب منها:
(أ) النزعة الاستعمارية التي تبرر نقاء الجنس الأبيض الأوروبي وزعامته لبقية الأجناس ووصايته عليها، كما مرت موجة الاستعمار الأوربي للشعوب الأخرى.
(ب) النزعة القومية المعتدة بجنسها، والداعية إلى وحدة شعوبها التي تنتمي إلى جنس واحد. وفي ظل هذه النزعة أيضا سمعنا تمسك الشعب الألماني بفكرة نقاء أصله وسلالته الآرية، وبخاصة بعد قيام الاتحاد الألماني في أعقاب الحرب السبعينية بين بروسيا وفرنسا، وجاءت نداءات: ألمانيا فوق الجميع، وقول غليوم الثاني: إنه منتدب من الله لنصرة الألمان على سائر شعوب أوروبا.
وكذلك رأينا في الشرق الجنس الأصفر الياباني يعتز بنفسه أيضا وينادي: آسيا للآسيويين. ورأينا الإنجليز أيضا ينادون بفكرة سيادة الإنجلوسكسون وتعاليهم على سكان أوروبا ما عد الشمال.
(ج) الانقلاب الصناعي والحاجة إلى الأيدي العاملة في المصانع وسوق الآلاف من العمال لخدمة الرأسماليين واستعبادهم وجلبهم من الأجناس الأخرى والأمم المختلفة، وإعطائهم أجورا قليلة دون اعتراف لهم بحقوق تحفظ كرامتهم.
(د) اكتشاف أمريكا والحاجة إلى استغلال خيراتها، الأمر الذي خلق تجارة الرقيق وجلبهم من أفريقيا للعمل في مزارعها ثم في مصانعها.
6 ـ آثار النزعة العنصرية:
لقد سخر المستعمرون والمستغلون علماءهم لتبرير نقاء الجنس الأبيض، وإثبات خصائص للألوان والأجناس، فزعموا أن الأجناس أربعة هي: البيض والسود والصفر والحمر، وأعلاها جميعا الجنس الأبيض. وقد علمت أن العلماء المنصفين أثبتوا أن هذه الأجناس لم يعد لها وجود متميز الآن؛ فقد تداخلت وتلاقت بعوامل مختلفة، وانتقلت خصائص بعضها إلى البعض الآخر، ولم يبق من الأجناس الصافية إلا قلة ضئيلة من الهنود الحمر، وفي وسط أفريقيا وحوض الأمازون وبعض جزر الباسفيكي وأهل أرض النار في جنوبي قارتي العالم الجديد.
لقد قال المستعمرون: إن السود والهنود الحمر ليسوا من نسل آدم، فروحهم مشتقة من أصل أقل من الإنسان. وفي معمعة التطور الصناعي ومعاملة الطبقات العاملة نشأت نظرية "داروين " في تطور النوع وبقاء الأصلح، وسادت نظرية "مندل " في الوراثة، وظهرت مؤلفات كثيرة تبحث عن فكرة عدم المساواة بين الأجناس البشرية وعن سيادة الجنس الآري. وتكونت مدرسة لها نظرياتها تزعمها الكونت "جوبينو " الفرنسي وكذلك "فاجنر " الموسيقي الألماني، ومثله (ستيوارت شامبرلين) الإنجليزي، وأيضا (لوتروب ستودارد) الأمريكي، وهؤلاء قالوا: إن الجنس الأبيض هو وحده منشئ الحضارة، وهو الجنس الآري المنحدر من شمالي الهند والقوقاز كما ظهرت نغمات: الشرق شرق، والغرب غرب، ولن يلتقيا.
مع هذا التزييف للحقائق العلمية والتحيز الظاهر في الأحكام على الأجناس البشرية الذي كان أثرا من آثار النزعة العنصرية كانت هناك آثار واضحة تطبيقية لهذه النزعة، من أهمها:
(أ) استعمار البيض للملونين، وكسبهم مزايا سياسية واقتصادية انتعشت بها أوروبا، وفكت بها أزمتها، وكثرت تبعا لذلك رءوس الأموال الأجنبية في البلاد المستعمرة، واستنزفت ثرواتها. كما كان من لوازم الاستعمار تخصيص محاكم ومصحات ونواد وغير ذلك للسادة المستعمرين لا يتمتع بها الملونون.
(ب) احتقار البيض لغيرهم، واستخدامهم المزري لهم، كما كان يحدث في الهند؛ فقد كان الإنجليزي يركب على ظهر الهندي ليستطيع أن يمتطي جواده. وفي الصين عندما كان يجبر الصيني على جر العربة بالسائحين كالدابة سواء بسواء. وقد كتبت لافتات على بعض الحدائق العامة في شنغهاي مدينة الامتيازات الأجنبية عبارة (محظور على الوطنيين والكلاب دخول هذا المكان).
(ج) العزل الاجتماعي والسياسي لأهل البلاد، وعدم تمكينهم من ممارسة نشاطهم في هذه المجالات، كما يظهر ذلك في جنوبي أفريقيا وروديسيا.
(د) إبقاء الوطنيين على التأخر والجهل والانحطاط، وذلك ليمكن للأجنبي التسلط عليهم؛ فإن من المقرر عند المستعمرين أن تقدم الأهالي يخلق فرصة للمطالبة بالحرية والاستقلال، ولا شك أن ذلك كله يهدد الأمن الداخلي للبلاد التي تمارس التفرقة العنصرية، ويزعزع أركان السلام العالمي ويثير الفتن والحروب بين الدول.
7 ـ أمثلة من مظاهر العنصرية الحديثة:
على الرغم من إصدار القرارات ضد التفرقة العنصرية في المؤتمرات الدولية المتعاقبة منذ مطلع القرن التاسع عشر، كان آخرها اتفاق عصبة الأمم سنة 1926 م الذي وقعه ثمان وثلاثون دولة، وعلى الرغم من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي أعلنته الأمم المتحدة في العاشر من ديسمبر سنة 1948 م- فإن التفرقة العنصرية ما زالت تمارس في بعض الدول الحديثة. ومن أبرز مظاهرها ما يوجد في أمريكا وجنوبي أفريقيا.
(أ) ففي أمريكا الآن حوالي عشرين مليونا من الملونين، يقطن أكثرهم في الولايات الجنوبية، وقد قامت حرب أهلية بين الشمال والجنوب من سنة 1860 إلى سنة 1865 م بزعامة (لنكولن) صاحب فكرة تحرير العبيد، وقد قتل بيد عنصري متعصب اسمه (بوث) فى14 من أبريل سنة 1865م كان الجنوب مصرا على الإبقاء على التفرقة العنصرية لضمان استخدام الرقيق في مزارعه، وكان الشمال يصر على تحريره؛ ليتمكن من الهجرة إلى الشمال ويعمل في مصانعه. ومن هنا يعرف أن ال هذه الحرب كان اقتصاديا استغلاليا، وليس ثورة على الكرامة الإنسانية.
وإذا كانت الحرب قد انتهت بتقرير المساواة فإن التفرقة ما زالت تمارس عمليا ومنصوصا عليها في قوانين بعض الولايات ففي دستور ولاية (مسيسبي) في الفصل الثامن في التربية والتعليم (مادة 207): يراعى في هذا الحقل أن يفصل بين أطفال الزنوج، فتكون لكل فريق مدارسه الخاصة.
وفي الفصل الرابع عشر (أحكام عامة) مادة 263: أن زواج شخص أبيض من شخص زنجي يعد غير شرعي وباطلا. بل جاء في قانون هذه الولاية أن الذي يطالب بالمساواة الاجتماعية والتزاوج بين البيض والسود بالطبع أو النشر أو أية وسيلة يعتبر عمله جرما يعاقب عليه القانون.
وهذه التشريعات تطبق في عدة ولايات أمريكية، كما جاء في تقرير قدم إلى الأمم المتحدة سنة 1947، تحت عنوان (نداء إلى العالم).
على أن الكنيسة نفسها شاركت في إقرار هذا الظلم؛ فإن للزنوج كنائس خاصة، ولا يصح لهم أن يعبدوا ربهم في كنائس البيض مع أن الذي خلقهم جميعا واحد وهو الله سبحانه.
وقد جاء في كتاب (مصرع الديموقراطية في العالم الجديد) الذي نشرته دار العلم للملايين في بيروت كثير من هذه الصور التي تدل على تمكن النزعة العنصرية من نفوس الأمريكيين.
وقد تأسست في الجنوب جمعية (كلوكلوكس كلان) لإرهاب الملونين، وانتشرت في جميع أنحاء الولايات المتحدة، وهي قائمة على أنقاض جمعية لإرهاب الكاثوليك ومنع هجرتهم.
وما زالت حوادث التفرقة في أمريكا دليلا على أن هذا العالم الذي يدعي حماية الحريات يعيش على النفاق والخداع، بعيدا عن مقررات الأمم المتحدة وعن قواعد الأخلاق والإنسانية.
(ب) وفي جنوبي أفريقيا تفرقة عنصرية صارخة؛ فقد احتل الهولنديون المسمون (البوير) أي الفلاحين هذه البلاد، وأسسوا مدينة رأس الرجاء الصالح سنة 1752 م، ثم احتلها الإنجليز سنة 1806 م، وطاردت البوير إلى ناتال ثم أورانج والترنسفال، وكان البوير قد جلبوا عمالا من الملايو والهند للزراعة ولا يعترفون لهم بحقوق كحقوقهم، ولما غلب الإنجليز على هذه البلاد مكن رجالهم لاستعمارهم حتى تكون اتحاد جنوبي أفريقيا سنة 1910 م بعد حروب طويلة كان من أشهر رجالها (سيسل رودس) الذي حاول خلق حياة أفضل للبيض على حساب الأفريقيين. فكانت التفرقة العنصرية التي لم تحاول إنجلترا أن تعمل شيئا للحد منها.
لقد كان في جنوبي أفريقيا حسب إحصاء سنة 1952 نحو 5، 14 مليونا، منهم 10 أفريقيون، 3 أوربيون، ومليون من الملونين، ونصف مليون من الآسيويين. ومع ذلك يتحكم الأوربيون في بقية السكان، مطبقين للتفرقة العنصرية بأشد مظاهرها، تلك المظاهر التي تبدو في: تقييد حرية التعاقد على العمل للملونين، وعدم زيارتهم للمدن إلا لمدة اثنتين وسبعين ساعة. ووجوب الحصول على إذن فيما زاد على ذلك، وتحديد عدد المقيمين منهم في المدن، ومنع دخول كنائس البيض، وعدم علاجهم في المصحات إلا عند الضرورة القصوى، ومنع عقد اجتماع عام لهم، وتحريم امتلاكهم لعقارات البيض، ومنع التزاوج بين الأوربيين وبينهم، وتحديد عدد تلاميذ المدارس من الأفريقيين وحرمانهم من الحقوق السياسية.
وقد أثيرت مشكلة هذه التفرقة في هيئة الأمم سنة 1947 م غير أن إنجلترا وأمريكا ضغطتا على الأعضاء فلم يفز القرار بالأغلبية المطلوبة، وقامت عدة ثورات تطالب بمنع هذه المعاملة القاسية، ولكنها لم تجد أذنا مصغية.
وفي أول أبريل سنة 1960 اصدر مجلس الأمن قرارا بدعوة جنوبي أفريقيا لنبذ سياسة التفرقة العنصرية، كما أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة في 11 من أكتوبر سنة 1961 قرارا بلومها، ومع ذلك لم تستجب الحكومة لهذا كله. وقد دعا إلى إصدار هذه القرارات توالي حوادث العنف، وكان من أهمها حادث (شارب فيل) في 21 من مارس 1960 عندما احتج الأفريقيون على نظام تصريحات المرور، فأطلق البوليس النار عليهم وقتل منهم عددا كبيرا.
***
1 ـ مفهوم التفرقة العنصرية:
يقصد بالتفرقة العنصرية في العرف الحديث التمييز بين الأجناس في القوانين والمعاملات، على أساس الدم والخصائص البيولوجية المتعلقة بتكوين الجسم البشري، وما يتبع ذلك من الحياة الفكرية ومظاهر السلوك والاجتماع.
لقد صنَّف العلماء والباحثون في العلوم الإنسانية الأجناس البشرية إلى جماعات تجمع بين كل منها خصائص ومميزات طبيعية متوارثة في مجموعها وإن كان هناك مجال للاختلاف البسيط بين أفرادها، ومن أبرز هذه الخصائص لون البشرة وشكل الجمجمة، وملامح الوجه وطول القامة. وقالوا: إن هذه الطبيعية يتبعها اختلاف في المواهب العقلية والقوى النفسية وما إليها.
ورأى بعض هؤلاء أن تقسيم البشر إلى أجناس يرجع إلى الدم نفسه على خلاف فيما بينهم على مقدار نسبة ما يوجد من دم الآباء والأجداد في الإنسان حتى ينسب إلى هذا الجنس، وعلى أساس هذا التقسيم العنصري قرر الباحثون أن هناك امتيازا لبعض الأجناس بعضهم الآخر، يحق للأجناس العالية أن تكون لها قوانين وأن تعامل معاملة خاصة بخلاف الأجناس الأخرى التي لا ينبغي أن تدخل معها في هذه القوانين وتلك المعاملات.
هذا هو مفهوم التفرقة العنصرية في العرف الحديث والهدف منه، وسيأتي بيان بطلان الأساس الذي قسموا عليه البشر، وزيف ما يهدفون إليه من أغراض.
2 ـ التفرقة في النظم القديمة:
إن فكرة التمييز بوجه عام بين بني الإنسان فكرة قديمة، ضرورة اختلاف الناس بعضهم عن بعض في القوة الجسمية والمواهب العقلية والمظاهر المادية، والتي كان من أثرها استعلاء بعضهم على بعض، واستغلال القوي منهم للضعيف وتحكم الغني في الفقير، وسيطرة العالم على الجاهل، والتي كان من أكبر مظاهرها الرق.
(أ) ففي الهند مثلا كانت كتبهم المقدسة تقرر التفاضل بين الناس بحسب عناصرهم التي خلقوا منها في زعمهم، فتذكر أن "براهما" خلق فصيلة البرهميين من فمه، وهم أشرف المخلوقات ولهم أرقى المناصب الدينية. وخلق فصيلة الكشتريين أو الشاتري من ذراعه، وهم الذين يتولون الوظائف الحربية. وخلق فصيلة الفيشائيين أو الفاشا من فخذه، وهم الذين يقومون بالتجارة والإنتاج. وخلق فصيلة السودرائيين والمنبوذين من قدمه، وهؤلاء لهم وظيفة واحدة هي خدمة الطبقات السابقة.
(ب) وكان اليونان يعتقدون أنهم شعب مختار، خلقوا من عناصر تختلف عن العناصر التي خلقت منها الشعوب الأخرى، التي كانوا يطلقون عليها اسم "البربر". وقد قرر أرسطو في كتابه "السياسة "أن الآلهة خلقت فصيلتين من الأناسي: فصيلة زودتها بالعقل والإرادة، وهي اليونان. وقد فطرتها على هذا التكوين الكامل لتكون خليفتها في الأرض، وسيدة على سائر الخلق. وفصيلة لم تزودها إلا بقوة الجسم وما يتصل اتصالا مباشرا به، وهم البرابرة أي ما عدا اليونان من بني آدم، وقد فطروا على هذا التقويم الناقص؛ ليكونوا عبيدا مسخرين للفصيلة المختارة المصطفاة. وكانوا يقرون الرق الذي يقول فيه أرسطو: إن الرقيق آلة ذو روح، أو متاع تقوم به الحياة. فهم لا يدخلونه في عداد المخلوقات الإنسانية.
(ج) وكان الرومان يعتقدون كما يعتقد اليونان أنهم سادة العالم، وأن غيرهم بر ابره خدم لهم، وكانت قوانينهم تقر الرق، وتعامل الرقيق على أنه متاع، مدعين أن استعباده رحمة به من القتل الذي تتعرض له الحيوانات. وإلى جانب الاسترقاق بالحروب كانوا يسترقون الفقير إذا عجز عن أداء الدين، ولم تكن للرقيق حقوق قانونية ولا مدنية، ولا يستطيع أن يقاضي سيده أو يتظلم من معاملته، بل كان لسيده الحق في قتله دون مجازاة. ولم يخفف من حدة هذه المعاملة الدين المسيحي الذي اعتنقه الرومان بعد.
(د) والعرب في الجاهلية كانوا يعيشون على التفاخر بالأحساب والأنساب، ويعتقدون أنهم أفضل من غيرهم الذين كانوا يطلقون عليهم اسم العجم، ولعل ذلك كان أساسه اعتزاز العربي بلغته الفصيحة التي لا يوجد لها مثيل في العالم.
وكانوا بناء على ذلك يكرهون أن يتلوث دمهم العربي النقي بدم غيرهم عن طريق الزواج، ويأنفون أن يزوجوا بنتا من أحقر قبائلهم كباهلة وسلول إلى أعجمي حتى لو كان كسرى نفسه، وقد خطب كسرى أبرويز بنت النعمان بن المنذر فرفض النعمان مصاهرته، مع أنه كان أحد ولاته، وكانت حرب طاحنة بين الفرس والعرب، تكتلت فيها قبائلهم من أجل حماية حرقة بنت النعمان أن يأخذها كسرى، وانتهت المعركة بانتصار العرب في موقعة (ذي قار).
وكان العرب يستخدمون الرقيق في الأعمال المنزلية وفي التجارة، بل كان يمارس معهم الحرب أحيانا، وإذا أعجبوا به أعتقوه وجعلوه أحد أعضاء الأسرة.
3 ـ التفرقة عند اليهود والمسيحيين:
(أ) لقد ادعى اليهود أنهم شعب الله المختار، وأن الإله الذي يعبدونه لا ينبغي أن يكون معبودا لغيرهم من الناس الذين كانوا يطلقون عليهم أميين، قال تعالى: "وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ"، فكان رد الله عليهم أنهم كغيرهم من خلقه لا يفضل أحد على أحد إلا بالعمل، فقال تعالى: "قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ" [المائدة: 18]، وكانوا يعتقدون أن غيرهم من الأميين ليست لهم حقوق كحقوقهم، كما حكى الله عنهم بقوله: "وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ" [آل عمران: 75].
وكانوا يبيحون استرقاق من عداهم عند العجز عن الوفاء بالدين، وما يزال شعور التعالي والتعصب العنصري موجودًا لديهم حتى الآن، وكانت قمته هي الصهيونية بمظاهرها وأساليبها المعروفة التي تتنافى مع الكرامة الإنسانية.
(ب) والمسيحية أقرت الرق كما أقرته اليهودية، وقد جاء في المعجم الكبير للقرن التاسع عشر (لاروس): لا يعجب الإنسان من بقاء الرق واستمراره بين المسيحيين إلى اليوم؛ فإن نواب الدين الرسميين يقرون صحته، ويسلمون بمشروعيته، وجاء فيه: الخلاصة أن الدين المسيحي ارتضى الاسترقاق تماما إلى يومنا هذا، ويتعذر على الإنسان أن يثبت أنه سعى في إبطاله كما أثبت ذلك أيضا (قاموس الكتاب المقدس) للدكتور جورج يوسف.
وظل الرق معترفا به بين المسيحيين، وكثر كثرة فاحشة بعد اكتشاف أمريكا وجلب الرقيق من أفريقيا للعمل بها، وكان الاتجار على أشده بين الدول الاستعمارية يمارسه ملوكها وكبار رجالها مع قسوة بالغة العنف، برروها بأقوال من كتبهم المقدسة. وصدرت قوانين تنص على احتقار الجنس الأسود وإهدار كرامته، وكان مفكروهم ينادون بذلك، كما جاء في كتاب (روح القوانين) حيث قال مؤلفه (مونتيسكيو) الفرنسي في الفصل الخامس منه: إن شعوب أوروبا بعد ما أبادت سكان أمريكا الأصليين وهم الهنود الحمر لم تر بُدًّا من استعمار شعوب أفريقيا؛ لكي تستخدمها في استغلال هذه الأقطار الشاسعة؛ فإن هذه الشعوب سود البشرة من أقدامهم إلى رءوسهم، ولا يمكن أن يتصور أحد أن الله وهو ذو الحكمة البالغة قد خلق روحا وعلى الأخص روحا طيبة في أجسام حالكة السواد.
وعلى الرغم من إبطاله قانونا فإن الدول المسيحية ما زالت تمارسه بلون آخر هو الاستعمار والتفرقة العنصرية على ما سيأتي بيانه.
4 ـ العلم والتفرقة العنصرية:
إن تقسيم البشر إلى أجناس على أساس الدم أو التكوين الطبيعي للجسم قد قرر العلماء المنصفون أخيرا أنه تقسيم باطل؛ فإن مظاهر التقدم والرقي الموجودة عند بعض الجماعات لا يرجع سببها إلى ذلك، وإنما يرجع إلى عوامل من البيئة الطبيعية والظروف السياسية والأوضاع الاقتصادية والأجواء الثقافية، وقرروا أنه لو وضع شخصان من جنسين مختلفين في بيئة حضارية وثقافية واجتماعية واحدة ما كان هناك فرق يذكر بينهما في الفكر والسلوك، وكم تقدم أفراد من أناس ملونة على أفراد من البيض في الجامعات وفي النشاط الاجتماعي العام، وذلك عندما تهيأت لهم الظروف التي تهيأت لغيرهم من الناس. ومن هنا لا تكون وراثة الخصائص البيولوجية مانعة من التقدم والحضارة عندما تتوافر الظروف للتطور والنهوض، فإذا كان هناك تخلف حضاري عند سلالة من السلالات فمرده إلى العوامل الطبيعية والاقتصادية والثقافية والسياسية وما إليها.
وقد بحث العلماء بنوع خاص في عنصرية اليهود، فأكدوا أن الموجودين منهم الآن وهم حوالي خمسة عشر مليونا في العالم كله ليسوا من عنصر واحد بحكم اختلاطهم بالأجناس الأخرى طوعا أو كرها، وقد تحدث البحاثة "بيتار " عن ذلك، وأثبت أن الإسرائيليين يكونون جماعات دينية واجتماعية قوية النفوذ وثيقة التضامن، غير أنها متباينة العناصر إلى أبعد الحدود. وأكد أن الإسرائيليين الخلص الذين هم من أصل آشوري برأسه المستطيل عددهم محدود جدا، كما قرر ذلك أيضا "هاتزجونتر" في كتابه "أصول الأجناس في التاريخ الأوروبي . . وأكده أيضا "كوماس " أستاذ التاريخ الطبيعي للأجناس البشرية في الجامعة الوطنية بمكسيكو. انظر رسالة الدكتور العمري في التفرقة العنصرية، ومجلة العربي أكتوبر1970.
5 ـ الاهتمام بالأبحاث العنصرية:
إن الاهتمام بالبحث في الأجناس وخصائصها ومميزاتها لم يأخذ شكلا واضحا إلا في العصور المتأخرة، حين غلبت على بعض الأمم القوية نزعة الاستعمار والاستغلال للأمم الضعيفة المتخلفة، أرادت به الدعاية لجنس معيَّن، أو لفكرة سياسية يمكن عن طريقها التحكم في الأجناس الأخرى. وكثيرا ما لجأت هذه الأفكار إلى الدين تستمد منه تأييدا لها، كالصهيونية التي ادعت أنها شعب الله المختار. ولقد ظهرت هذه النغمة بالذات في أوروبا في العصر الحديث، فبعد أن كانت دولها لا تفرق بين مسيحي وغير مسيحي، وبعد أن كان يفاخر بعضها البعض الآخر بالأخلاق والآثار- أصبحت تتحدث عن الأجناس وخصائصها، وتفرق بين جنس وآخر تبعا لهذه الخصائص، كما يقول المؤرخ "توينبي ".
ويرجع ظهور هذه النغمة في أوروبا إلى أسباب منها:
(أ) النزعة الاستعمارية التي تبرر نقاء الجنس الأبيض الأوروبي وزعامته لبقية الأجناس ووصايته عليها، كما مرت موجة الاستعمار الأوربي للشعوب الأخرى.
(ب) النزعة القومية المعتدة بجنسها، والداعية إلى وحدة شعوبها التي تنتمي إلى جنس واحد. وفي ظل هذه النزعة أيضا سمعنا تمسك الشعب الألماني بفكرة نقاء أصله وسلالته الآرية، وبخاصة بعد قيام الاتحاد الألماني في أعقاب الحرب السبعينية بين بروسيا وفرنسا، وجاءت نداءات: ألمانيا فوق الجميع، وقول غليوم الثاني: إنه منتدب من الله لنصرة الألمان على سائر شعوب أوروبا.
وكذلك رأينا في الشرق الجنس الأصفر الياباني يعتز بنفسه أيضا وينادي: آسيا للآسيويين. ورأينا الإنجليز أيضا ينادون بفكرة سيادة الإنجلوسكسون وتعاليهم على سكان أوروبا ما عد الشمال.
(ج) الانقلاب الصناعي والحاجة إلى الأيدي العاملة في المصانع وسوق الآلاف من العمال لخدمة الرأسماليين واستعبادهم وجلبهم من الأجناس الأخرى والأمم المختلفة، وإعطائهم أجورا قليلة دون اعتراف لهم بحقوق تحفظ كرامتهم.
(د) اكتشاف أمريكا والحاجة إلى استغلال خيراتها، الأمر الذي خلق تجارة الرقيق وجلبهم من أفريقيا للعمل في مزارعها ثم في مصانعها.
6 ـ آثار النزعة العنصرية:
لقد سخر المستعمرون والمستغلون علماءهم لتبرير نقاء الجنس الأبيض، وإثبات خصائص للألوان والأجناس، فزعموا أن الأجناس أربعة هي: البيض والسود والصفر والحمر، وأعلاها جميعا الجنس الأبيض. وقد علمت أن العلماء المنصفين أثبتوا أن هذه الأجناس لم يعد لها وجود متميز الآن؛ فقد تداخلت وتلاقت بعوامل مختلفة، وانتقلت خصائص بعضها إلى البعض الآخر، ولم يبق من الأجناس الصافية إلا قلة ضئيلة من الهنود الحمر، وفي وسط أفريقيا وحوض الأمازون وبعض جزر الباسفيكي وأهل أرض النار في جنوبي قارتي العالم الجديد.
لقد قال المستعمرون: إن السود والهنود الحمر ليسوا من نسل آدم، فروحهم مشتقة من أصل أقل من الإنسان. وفي معمعة التطور الصناعي ومعاملة الطبقات العاملة نشأت نظرية "داروين " في تطور النوع وبقاء الأصلح، وسادت نظرية "مندل " في الوراثة، وظهرت مؤلفات كثيرة تبحث عن فكرة عدم المساواة بين الأجناس البشرية وعن سيادة الجنس الآري. وتكونت مدرسة لها نظرياتها تزعمها الكونت "جوبينو " الفرنسي وكذلك "فاجنر " الموسيقي الألماني، ومثله (ستيوارت شامبرلين) الإنجليزي، وأيضا (لوتروب ستودارد) الأمريكي، وهؤلاء قالوا: إن الجنس الأبيض هو وحده منشئ الحضارة، وهو الجنس الآري المنحدر من شمالي الهند والقوقاز كما ظهرت نغمات: الشرق شرق، والغرب غرب، ولن يلتقيا.
مع هذا التزييف للحقائق العلمية والتحيز الظاهر في الأحكام على الأجناس البشرية الذي كان أثرا من آثار النزعة العنصرية كانت هناك آثار واضحة تطبيقية لهذه النزعة، من أهمها:
(أ) استعمار البيض للملونين، وكسبهم مزايا سياسية واقتصادية انتعشت بها أوروبا، وفكت بها أزمتها، وكثرت تبعا لذلك رءوس الأموال الأجنبية في البلاد المستعمرة، واستنزفت ثرواتها. كما كان من لوازم الاستعمار تخصيص محاكم ومصحات ونواد وغير ذلك للسادة المستعمرين لا يتمتع بها الملونون.
(ب) احتقار البيض لغيرهم، واستخدامهم المزري لهم، كما كان يحدث في الهند؛ فقد كان الإنجليزي يركب على ظهر الهندي ليستطيع أن يمتطي جواده. وفي الصين عندما كان يجبر الصيني على جر العربة بالسائحين كالدابة سواء بسواء. وقد كتبت لافتات على بعض الحدائق العامة في شنغهاي مدينة الامتيازات الأجنبية عبارة (محظور على الوطنيين والكلاب دخول هذا المكان).
(ج) العزل الاجتماعي والسياسي لأهل البلاد، وعدم تمكينهم من ممارسة نشاطهم في هذه المجالات، كما يظهر ذلك في جنوبي أفريقيا وروديسيا.
(د) إبقاء الوطنيين على التأخر والجهل والانحطاط، وذلك ليمكن للأجنبي التسلط عليهم؛ فإن من المقرر عند المستعمرين أن تقدم الأهالي يخلق فرصة للمطالبة بالحرية والاستقلال، ولا شك أن ذلك كله يهدد الأمن الداخلي للبلاد التي تمارس التفرقة العنصرية، ويزعزع أركان السلام العالمي ويثير الفتن والحروب بين الدول.
7 ـ أمثلة من مظاهر العنصرية الحديثة:
على الرغم من إصدار القرارات ضد التفرقة العنصرية في المؤتمرات الدولية المتعاقبة منذ مطلع القرن التاسع عشر، كان آخرها اتفاق عصبة الأمم سنة 1926 م الذي وقعه ثمان وثلاثون دولة، وعلى الرغم من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي أعلنته الأمم المتحدة في العاشر من ديسمبر سنة 1948 م- فإن التفرقة العنصرية ما زالت تمارس في بعض الدول الحديثة. ومن أبرز مظاهرها ما يوجد في أمريكا وجنوبي أفريقيا.
(أ) ففي أمريكا الآن حوالي عشرين مليونا من الملونين، يقطن أكثرهم في الولايات الجنوبية، وقد قامت حرب أهلية بين الشمال والجنوب من سنة 1860 إلى سنة 1865 م بزعامة (لنكولن) صاحب فكرة تحرير العبيد، وقد قتل بيد عنصري متعصب اسمه (بوث) فى14 من أبريل سنة 1865م كان الجنوب مصرا على الإبقاء على التفرقة العنصرية لضمان استخدام الرقيق في مزارعه، وكان الشمال يصر على تحريره؛ ليتمكن من الهجرة إلى الشمال ويعمل في مصانعه. ومن هنا يعرف أن ال هذه الحرب كان اقتصاديا استغلاليا، وليس ثورة على الكرامة الإنسانية.
وإذا كانت الحرب قد انتهت بتقرير المساواة فإن التفرقة ما زالت تمارس عمليا ومنصوصا عليها في قوانين بعض الولايات ففي دستور ولاية (مسيسبي) في الفصل الثامن في التربية والتعليم (مادة 207): يراعى في هذا الحقل أن يفصل بين أطفال الزنوج، فتكون لكل فريق مدارسه الخاصة.
وفي الفصل الرابع عشر (أحكام عامة) مادة 263: أن زواج شخص أبيض من شخص زنجي يعد غير شرعي وباطلا. بل جاء في قانون هذه الولاية أن الذي يطالب بالمساواة الاجتماعية والتزاوج بين البيض والسود بالطبع أو النشر أو أية وسيلة يعتبر عمله جرما يعاقب عليه القانون.
وهذه التشريعات تطبق في عدة ولايات أمريكية، كما جاء في تقرير قدم إلى الأمم المتحدة سنة 1947، تحت عنوان (نداء إلى العالم).
على أن الكنيسة نفسها شاركت في إقرار هذا الظلم؛ فإن للزنوج كنائس خاصة، ولا يصح لهم أن يعبدوا ربهم في كنائس البيض مع أن الذي خلقهم جميعا واحد وهو الله سبحانه.
وقد جاء في كتاب (مصرع الديموقراطية في العالم الجديد) الذي نشرته دار العلم للملايين في بيروت كثير من هذه الصور التي تدل على تمكن النزعة العنصرية من نفوس الأمريكيين.
وقد تأسست في الجنوب جمعية (كلوكلوكس كلان) لإرهاب الملونين، وانتشرت في جميع أنحاء الولايات المتحدة، وهي قائمة على أنقاض جمعية لإرهاب الكاثوليك ومنع هجرتهم.
وما زالت حوادث التفرقة في أمريكا دليلا على أن هذا العالم الذي يدعي حماية الحريات يعيش على النفاق والخداع، بعيدا عن مقررات الأمم المتحدة وعن قواعد الأخلاق والإنسانية.
(ب) وفي جنوبي أفريقيا تفرقة عنصرية صارخة؛ فقد احتل الهولنديون المسمون (البوير) أي الفلاحين هذه البلاد، وأسسوا مدينة رأس الرجاء الصالح سنة 1752 م، ثم احتلها الإنجليز سنة 1806 م، وطاردت البوير إلى ناتال ثم أورانج والترنسفال، وكان البوير قد جلبوا عمالا من الملايو والهند للزراعة ولا يعترفون لهم بحقوق كحقوقهم، ولما غلب الإنجليز على هذه البلاد مكن رجالهم لاستعمارهم حتى تكون اتحاد جنوبي أفريقيا سنة 1910 م بعد حروب طويلة كان من أشهر رجالها (سيسل رودس) الذي حاول خلق حياة أفضل للبيض على حساب الأفريقيين. فكانت التفرقة العنصرية التي لم تحاول إنجلترا أن تعمل شيئا للحد منها.
لقد كان في جنوبي أفريقيا حسب إحصاء سنة 1952 نحو 5، 14 مليونا، منهم 10 أفريقيون، 3 أوربيون، ومليون من الملونين، ونصف مليون من الآسيويين. ومع ذلك يتحكم الأوربيون في بقية السكان، مطبقين للتفرقة العنصرية بأشد مظاهرها، تلك المظاهر التي تبدو في: تقييد حرية التعاقد على العمل للملونين، وعدم زيارتهم للمدن إلا لمدة اثنتين وسبعين ساعة. ووجوب الحصول على إذن فيما زاد على ذلك، وتحديد عدد المقيمين منهم في المدن، ومنع دخول كنائس البيض، وعدم علاجهم في المصحات إلا عند الضرورة القصوى، ومنع عقد اجتماع عام لهم، وتحريم امتلاكهم لعقارات البيض، ومنع التزاوج بين الأوربيين وبينهم، وتحديد عدد تلاميذ المدارس من الأفريقيين وحرمانهم من الحقوق السياسية.
وقد أثيرت مشكلة هذه التفرقة في هيئة الأمم سنة 1947 م غير أن إنجلترا وأمريكا ضغطتا على الأعضاء فلم يفز القرار بالأغلبية المطلوبة، وقامت عدة ثورات تطالب بمنع هذه المعاملة القاسية، ولكنها لم تجد أذنا مصغية.
وفي أول أبريل سنة 1960 اصدر مجلس الأمن قرارا بدعوة جنوبي أفريقيا لنبذ سياسة التفرقة العنصرية، كما أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة في 11 من أكتوبر سنة 1961 قرارا بلومها، ومع ذلك لم تستجب الحكومة لهذا كله. وقد دعا إلى إصدار هذه القرارات توالي حوادث العنف، وكان من أهمها حادث (شارب فيل) في 21 من مارس 1960 عندما احتج الأفريقيون على نظام تصريحات المرور، فأطلق البوليس النار عليهم وقتل منهم عددا كبيرا.