د. مصطفى مسلم
New member
هذا بحث قديم شاركت به في أحد المؤتمرات قبل عدة سنوات ، وأحببت نشره اليوم لأنه لم ينشر من قبل في ملتقى أهل التفسير مع سؤال البعض عنه .
الرياض في 15/12/1432هـ
الرياض في 15/12/1432هـ
التفاسير حسب ترتيب النزول في الميزان
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فقد بذل علماء المسلمين أقصى ما يستطيعون في خدمة القرآن الكريم تعلماً وتعليماً وتفسيراً وبياناً، وقامت العلوم الإسلامية في اللغة والبلاغة والنحو لخدمة النص الكريم وفهمه، وأقيم صرح علوم الحديث لأن السنة النبوية شارحة ومبينة لمجمله ومفصلة لعامه وهي التطبيق العملي لهداياته، وكتبت الموسوعات الفقهية على ضوء الأصول التي وضعها المجتهدون لاستنباط أحكامه.
وتعددت المدارس التفسيرية حسب اختصاصات المفسرين واهتماماتهم الشخصية وتلبية لحاجات المجتمعات التي عاشوا فيها.
وفي القرن الرابع عشر الهجري كان زخم في الإنتاج في جميع مجالات المعرفة وأخذ تفسير القرآن الكريم والدراسات القرآنية الأخرى بحظ وافر نظراً لتيسر سبل تلقي المعلومات وتطور وسائل الطباعة والنشر والاتصال. وقد استمر عمود التفسير المتعارف عليه ومدارسه المشهورة:
- التفسير بالمأثور
- التفسير بالرأي وكذلك فروع التفسير بالرأي:
· التفسير اللغوي
· التفسير الفقهي
· التفسير العقدي
· التفسير الموسوعي
ومن التفسير الموسوعي (العام) وجدت في هذا القرن ثلاثة تآليف نهج أصحابها نهجاَ خاصاً في تفسير القرآن الكريم، وهو التفسير حسب ترتيب النزول وهي:
1- تفسير بيان المعاني للشيخ عبد القادر ملا حويش
2- التفسير الحديث للأستاذ محمد عزة دروزة
3- معارج التفكر ودقائق التدبر للشيخ عبد الرحمن بن حسن حبنكة الميداني
فأحببت أن يكون هذا المنهج وأصحابه مجال بحثي، أسأل الله تعالى أن يلهمني الصواب ويسدد خطاي وأن يجنبني الزلل في القول والعمل.
خطة البحث :
وقد قسمت البحث إلى تمهيد وثلاثة مباحث وخاتمة:
أما التمهيد فقد ذكرت فيه ترتيب القرآن بين التوقيف والتوفيق
وفي المبحث الأول: ذكرت الدوافع التي دعت كلاً من المفسرين الثلاثة لانتهاج هذا النهج:
المطلب الأول: دوافع ملا حويش، المطلب الثاني: دوافع الأستاذ دروزة، المطلب الثالث: دوافع حبنكة.
وفي المبحث الثاني: ناقشت دوافع كل من المفسرين الثلاثة.
وفي المبحث الثالث: جدوى هذا المنهج في التفسير.
وفي الخاتمة: نتائج وتوصيات.
التمهيد: ترتيب سور القرآن بين التوقيف والتوفيق:
لست في هذه العجالة وفي هذا البحث المختصر بصدد إيراد أقوال العلماء بأدلتها، واختلافهم في ترتيب سور القرآن الكريم، ولكن تكفي الإشارة إلى القائلين والمراجع التي وردت فيها الأقوال. فللعماء في ترتيب سور القرآن الكريم ثلاثة أقوال:
القول الأول: ترتيبها توقيفي- أي بالوحي- كترتيب الآيات في السورة.
قال بهذا من السلف الإمام أبو بكر الأنباري، والكرماني، والطيبي، وأبو جعفر النحاس، وابن الحصار، والبيهقي، وابن حجر العسقلاني.[1] وأغلب العلماء المعاصرين الذين كتبوا في علوم القرآن ذهبوا إلى التوقيف منهم الشيخ محمد عبد الله دراز في النبأ العظيم، وعبد العظيم الزرقاني في مناهل العرفان، والشيخ أحمد شاكر في تحقيق مسند الإمام أحمد وغيرهم.
القول الثاني: ترتيب السور القرآنية اجتهادي من فعل الصحابة رضي الله عنهم
وقال بهذا القول: ابن فارس، والقاضي عياض، وابن تيمية وغيرهم، ونسب بعضهم هذا القول إلى جمهور العلماء[2].
القول الثالث: إن ترتيب بعض السور كان توقيفياً، وكان ترتيب بعضها باجتهاد الصحابة رضوان الله عليهم.
ونسب الزركشي هذا القول إلى ابن عطية، وأبي جعفر بن الزبير.
وذهب بعض المعاصرين إلى القول: مهما يكن من أمر سواء كان هذا الترتيب الذي نجده في المصاحف بطريق التوقيف أم بطريق الاجتهاد ثم أجمع الصحابة عليه، ومضت الأمة على قبوله، فيجب التمسك به، والإعراض عن الدعوات الزائفة إعادة ترتيب المصاحف حسب النزول، أو الموضوع، أو غير ذلك. لأن في ترتيب سوره معاني لا تقل عن معاني الترتيب في آياته، جدّ كثير من العلماء في استنباطها وتحصيلها، فضلاً عن مخالفة الإجماع، وما في ذلك من مفاسد عظيمة.
والمفسرون الثلاثة- موضع البحث- لم يقفوا طويلاً عند اختلاف العلماء في ترتيب سور القرآن في المصحف، هل هو توقيفي أو اجتهادي؟
فقد أقر كل من الشيخ عبد القادر ملا حويش، والأستاذ محمد عزة دروزة بأن ترتيب السور في المصحف توقيفي ولا يجوز مخالفة هذا الترتيب، لأنه كان بوحي من الله إلى جبريل إلى رسول اللهr [3].
ولكنهما لم يجدا مانعاً من مخالفة هذا الترتيب في التفسير، لأن التفسير والدراسات القرآنية ليست كالتلاوة في المصحف، فإن الباحث له أن يقدم دراسة سورة على سورة أو يقدم تفسيرها على تفسير غيرها، وله أن يخالف ترتيب المصحف لمصلحة يراها. وقد ذكر كل منهما وجهة نظره في الدافع له على مخالفة ترتيب المصحف. وستأتي مناقشتهما في موضعه[4] .
أما الشيخ عبد الرحمن حبنكة الميداني، فقد ذهب إلى القول بأن ترتيب السور في المصحف اجتهادي. وجاء ذلك بشكل عابر في مقدمة كتابه( معارج التفكر ودقائق التدبر)[5] وفي أثناء تفسيره، ولكنه في كل ذلك لم يقف عند قول من قال إن ترتيب السور في المصحف توقيفي، ولم يناقش أدلتهم، ولم يتعرض لمن قال: إن ترتيب السور بعد جمع عثمان بن عفان للمصحف كان على ملأ من الصحابة، ولم يعترض أحد على هذا الترتيب ثم أجمعت أجيال الأمة الإسلامية إلى يومنا هذا على هذا الترتيب، فلو أسلمنا جدلاً أن الترتيب كان اجتهادياً في البداية ولكن تم إجماع الأمة على أن هذا الترتيب لا يخالف ولا يجوز إعادة كتابة المصاحف على غير هذا الترتيب.
وكان من المفترض أن يتناول الشيخ حبنكة هذا الأمر بالاهتمام الزائد ويورد أقوال الذاهبين إلى التوقيف، ويورد حجج القائلين بالاجتهاد ثم يرجح ما يراه بالأدلة والبراهين. وبخاصة أن الشيخ يقدم على أمر غير مسبوق إليه إلا من قلة قليلة في تفسير القرآن حسب ترتيب النزول.
المبحث الأول: دوافع خروج المفسرين الثلاثة عن المنهج العام في التفسير إلى التفسير حسب ترتيب النزول:
اختلفت الدوافع عند كل مفسر عن الآخر في تركه التفسير حسب ترتيب المصحف إلى التفسير حسب ترتيب النزول.وذكر كل واحد منهم في مقدمة تفسيره دوافعه.
المطلب الأول: دوافع الشيخ عبد القادر ملا حويش:
فقد قال الشيخ عبد القادر ملا حويش في مقدمة تفسيره بيان المعاني( واعلم أن الخليفة عثمان رضي الله عنه ومن معه من الأصحاب إنما لم يأخذوا برأيه- أي رأي الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه حيث كان قد رتب مصحفه على ترتيب النزول- لأن السور والآيات كانت مرتبة ومجموعة على ما هو في المصاحف الآن، وهو أمر توقيفي لا مجال للرأي فيه، وليعلم أن تفسيره على رأي الإمام علي كرم الله وجهه لا يشك أحد بأنه كثير الفائدة عام النفع، لأن ترتيب النزول غير التلاوة، ولأن العلماء رحمهم الله لما فسروه على نمط المصاحف اضطروا لأن يشيروا لتلك الأسباب بعبارات مكررة، إذ بين ترتيبه في المصاحف وترتيبه حسب النزول بعد يرمي للزوم التكرار، بما أدى إلى ضخامة تفاسيرهم، ومن هذا نشأ الاختلاف بأسباب النزول والناسخ والمنسوخ والأخذ والرد فيما يتعلق منهما.
وقد علمت بالاستقراء أن أحداً لم يقدم تفسيره بمقتضى ما أشار إليه الإمام عليه السلام، ويكفي القارئ مؤنة تلك الاختلافات وتدوينها، ويعرف كيفية نزوله ويوفقه على أسباب تنزيله ويذيقه لذة معانيه وطعم اختصار مبانيه بصورة سهلة ميسرة، خالية عن الرد والبدل، سالمة من الطعن والعلل، مصونة من الخطأ والزلل، فعنّ لي القيام بذلك)[6].
إذن يمكن تلخيص دوافع ملا حويش بالنقاط التالية:
1- تجنب ما وقع فيه المفسرون من التكرار بما أدى لضخامة تفاسيرهم.
2- تجنب الاختلاف بأسباب النزول والناسخ والمنسوخ.
3- لتعريف القارئ كيفية نزول القرآن وتوقيفه على أسباب نزوله.
4- ليتذوق القارئ معاني القرآن وطعم اختصار مبانيه بصورة سهلة يسيرة خالية عن الرد والبدل، سالمة من الطعن والعلل، مصونة من الخطأ والزلل.
سأناقش هذه الدوافع، مع دوافع المفسرين الآخرين في المبحث الثاني إن شاءالله.
المطلب الثاني: دوافع الأستاذ محمد عزة دروزة:
أما دوافع الأستاذ محمد عزة دروزة لاتباع هذا النمط من التفسير فقد بينه بقوله في مقدمة تفسيره في الطبعة الأولى( ..فإننا بعد أن كتبنا كتبنا الثلاثة وهي: عصر النبيr وسيرة الرسولr من القرآن، والدستور القرآني في شؤون الحياة، انبثقت فينا فكرة كتابة تفسير شامل، بقصد عرض القرآن بكامله بعد أن عرضناه فصولاً حسب موضوعاته في الكتب الثلاثة، نظهر فيها حكمة التنزيل ومبادئ القرآن، ومتناولاته عامة بأسلوب وترتيب حديثين، متجاوبين مع الرغبة الشديدة الملموسة عند كثير من شبابنا الذين يتذمرون من الأسلوب التقليدي ويعرضون عنه، مما أدى إلى انبتات الصلة بينهم وبين كتاب دينهم المقدس، ويدعو إلى الأسف والقلق) وعلق المؤلف على الكلام السابق في الطبعة الثانية بقوله( ونزيد على ما قلناه في الطبعة الأولى فنقول: إن الحاجة إلى ذلك تشتد يوماً بعد يوم بنسبة ازدياد ما يتعرض له شبابنا وناشئتنا من تيارات جارفة عاصفة من الإلحاد والتحلل من مختلف القيم والروابط الأخلاقية والاجتماعية والتقليد الأعمى لكل تافه سخيف مخل بالدين والخلق والمروءة، والإقبال على قراءة المجلات والروايات الماجنة الخليعة التافهة..)ا.هـ[7]. ويقول في موضع آخر مبرراً هذا المنهج( ..لأننا رأينا هذا يتسق مع المنهج الذي اعتقدنا أنه الأفضل لفهم القرآن وخدمته، إذ بذلك يمكن متابعة السيرة النبوية زمناً بعد زمن، كما يمكن متابعة أطوار التنزيل ومراحله بشكل أوضح وأدق، وبهذا وذلك يندمج القارئ في جو نزول القرآن، وجو ظروفه ومناسباته ومداه ومفهوماته، وتتجلى له حكمة التنزيل)[8].
إذن يمكن تحديد دوافع دروزة بالنقاط التالية:
1- بيان حكمة التنزيل ومبادئ القرآن ومتناولاته عامة بأسلوب وترتيب حديثين.
2- التجاوب مع رغبة الشباب المتذمرين من الأسلوب التقليدي في التفسير.
3- لانتشال الشباب والناشئة من التيارات الإلحادية المتحللة من القيم والأخلاق والتقليد الأعمى لكل تافه سخيف مخل بالدين والخلق والمروءة.
4- في هذا المنهج تسهيل فهم القرآن.
5- يمكن هذا المنهج من متابعة السيرة النبوية زمناً بعد زمن.
6- كما يمكن هذا المنهج من متابعة أطوار التنزيل ومراحله بشكل أوضح وأدق.
ستأتي مناقشة هذه الدوافع في المبحث الثاني إن شاء الله تعالى.
المطلب الثالث: دوافع الشيخ عبد الرحمن حبنكة:
أما الشيخ عبد الرحمن حبنكة الميداني فقد أجمل دوافعه لاتباع هذا المنهج بقوله في مقدمة تفسيره(معارج التفكر ودقائق التدبر) : ( ..وقد رأيت من الواجب عليّ أن أقدم ما أستطيع تقديمه من تدبر لسور هذا الكتاب العزيز المعجز، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ملتزماً على مقدار استطاعتي بمضمون القواعد التي فتح الله بها عليّ، مع الاعتراف بأن التزامها التزاماً دقيقاً وشاملاً عسير جداً،بل قد يكون بالنسبة لمتدبر واحد متعذراً).
( وقد رأيت بالتدبر الميداني للسور أن ما ذكره المختصون بعلوم القرآن من ترتيب النزول هو في معظمه حق، أخذاً من تسلسل البناء المعرفي التكاملي وتسلسل التكامل التربوي، واكتشفت أموراً جليلة تتعلق بحركة البناء المعرفي لأمور الدين، وحركة المعالجات التربوية الربانية الشاملة لرسول اللهr وللذين آمنوا معه واتبعوه،وللذين لم يستجيبوا لدعوة الرسول متريثين،أو مكذبين كافرين)[9]. ويمكن تحديد دوافع الشيخ حبنكة لانتهاج هذه الطريقة بما يلي:
1- إن تدبره الميداني الطويل لكتاب الله، واستنباطه للقواعد التي ذكرها في كتابه( قواعد التدبر الأمثل) كان من جملة ما دعاه إلى اتباع هذا المنهج.
2- إن هذا المنهج يحقق تسلسل البناء المعرفي التكاملي.
3- إن هذا المنهج يحقق تسلسل التكامل التربوي.
4- كشف هذا المنهج عن أمور جليلة تتعلق بحركة البناء المعرفي لأمور الدين وحركة المعالجات التربوية الربانية الشاملة للرسول صلى الله عليه وسلم.
5- الاستشراف إلى حكمة التدرج، ومعرفة الغاية من التكرير[10].
وسأناقش هذه الدوافع بإذن الله في المبحث الثاني.
المبحث الثاني: مناقشة الدوافع، وهل حقق هذا المنهج ما هدفوا إليه:
بادئ ذي بدء أقول: إن الذي يقدم على أمر كبير يخالف فيه جماهير العلماء من السلف والخلف ينبغي أن تكون الأسباب الدافعة له واضحة المعالم محددة الأهداف، مدعمة بالبراهين والأدلة بحيث تحمل كل من يقرؤها على القناعة بجدوى هذا الأمر ناهيك عن إزالة الشكوك والشبهات من الأذهان.
وباستعراضنا لدوافع الشيوخ الثلاثة نجدها عموميات غير محددة وغير مدعمة بما يقنع القارئ أو تزيل من ذهنه الشكوك. ولننظر في هذه الدوافع ونناقشها في المطالب التالية:
- المطلب الأول: مناقشة أهداف الشيخ عبد القادر ملا حويش:
الهدف الأول: تجنب ما وقع فيه المفسرون من التكرار بما أدى إلى ضخامة تفاسيرهم.
لم يسق لنا الشيخ ملا حويش مقارنة بين تفسيره وتفاسير أخرى ورد فيها التكرار لكي نكون على بينة مما يقول. ثم كيف يتجنب المفسر – منهم ملا حويش- آيات وردت في المرحلة المكية مجملة كآيات سورة الإسراء وفيها الأمر بالالتزام بأمهات الأخلاق ثم وردت في سورة الأنعام المكية أيضاً وهي قريبة جداً مما ورد في سورة الإسراء.
وقل مثل ذلك ما ورد في سورة المعارج المكية وسورة المؤمنون من صفات وأعمال تكاد تكون متطابقة، وقد فسرها الشيخ ملا حويش نفسه هنا وهناك. وقل مثل ذلك في قصص الأنبياء التي تكررت مرات عديدة تارة بالإجمال وتارة بالتفصيل وأخرى تناولت جانباً من جوانب حياة الأنبياء أو أسلوباً من أساليب دعوتهم.كقصة إبراهيم عليه السلام وقصة نوح عليه السلام وقصة موسى عليه السلام، فالمفسر ليس أمامه إلا أن يسير مع الآيات ويعرض الأسلوب القرآني المعجز في عرض الأمر وينبه على الجانب الخاص المذكور في كل مرة وبإمكانه الإحالة على الموضع المتقدم من التفسير كما يفعل أغلب المفسرين فهم يحيلون القارئ كثيراً إلى بعض الجزئيات المتقدمة ويقول: وقد ذكرنا تفصيل هذا الأمر في سورة كذا عند الحديث عن كذا[11].
أما قول الشيخ بأن ضخامة تفاسير القدماء كان سببه التكرار، أقول إن سبب ضخامة التفاسير هو العلوم والمضامين التي تناولوها، والجوانب التي تعرضوا لها في تفسير الآيات من قضايا عقدية أو لغوية أو فقهية أو ردود على بعض الأقوال التي لم يرتضوها ..وهكذا. وليست قضية التكرار كما زعم الشيخ.
ثم إن تفسير الشيخ ملا حويش قد زاد على ثلاثة آلاف صفحة فهو في ست مجلدات كبار أليس تفسيراً ضخماً؟!.
الهدف الثاني: تجنب الاختلاف بأسباب النزول والناسخ والمنسوخ:
لم أدرك ما قصده الشيخ بتجنب الاختلاف بأسباب النزول والناسخ والمنسوخ فمن المعلوم أن ترد روايات في أسباب النزول بعضها صحيح وبعضها سقيم وعلى المفسر أن يدرس هذه الروايات ويأخذ بالرواية الصحيحة ويترك الأخرى، فما علاقة ذلك بترتيب النزول؟! وقد فعل الشيخ أحياناً، ولكنه لم يلتزم بالأخذ بالصحيحة دائماً وإنما أخذ بالرواية الضعيفة وترك الصحيحة كما سنورد على ذلك أمثلة من تفسيره عند إيراد الملحوظات على تفسير كل واحد من المفسرين الثلاثة.
ومثل ذلك في الناسخ والمنسوخ، فإن الأحكام التي ترد في بعض الآيات ولا يمكن الجمع بين هذه الآيات وعلمنا وقت نزول الآيتين فإننا نحكم بنسخ الآية المتقدمة في النزول، كما هو مدون في قواعد الترجيح لدى علماء التفسير وعلماء أصول الفقه.
وسواء كان تفسير القرآن على حسب ترتيب المصحف أو على حسب ترتيب النزول فإن دراسة الآيتين تأخذ بعداً معيناً ومنهجاً محدداً في الدراسة والمقارنة، فآيتا عدة المتوفى عنها زوجها في سورة البقرة[12]، الآية الناسخة متقدمة في ترتيب الآيات، والآية المنسوخة متأخرة في الترتيب. ومع ذلك لم يكن هناك إشكال عند أي مفسر في ذكر الآية الناسخة وتحديد حكم المنسوخ، لأنه لابد من تفسير الآيتين وتحديد المتأخرة في النزول منهما ثم بيان التعارض وبالتالي الحكم بنسخ إحداهما.
أما الهدف الثالث: قول الشيخ ملا حويش: لتعريف القارئ كيفية نزول القرآن وتوقيفه على أسباب تنزيله:
وهذا الجانب أشبعه المفسرون بحثاً حيث ذكروا وقت نزول السورة والآيات وذكروا الروايات التي تحدد أسباب النزول. ولم يتركوا شاردة ولا واردة في ذلك إلا ذكروها. بل كان الشيخ ملا حويش ومن تبعه في التفسير حسب ترتيب النزول عالة على المفسرين السابقين في أخذ الروايات التي ذكرت مكية السورة أو مدنيتها، وبينت أسباب النزول، ذكروا كل ذلك مع التزامهم بترتيب السور حسب ما وردت في المصحف.
أما الهدف الرابع: قول الشيخ ملا حويش: ليتذوق القارئ لذة معاني القرآن وطعم اختصار مبانيه بصورة سهلة يسرة..
ما علاقة تذوق لذة معاني القرآن بالترتيب، إن تذوق المعاني يأتي في تفسير السورة بأسلوب بليغ جميل فما علاقة ذلك بالترتيب، إننا نتذوق جمال ما قاله ابن عطية في المحرر الوجيز وما قاله ابن عاشور في التحرير والتنوير وما قاله سيد قطب في تفاسيرهم فيما قالوه في سورة المدثر سواء وضع تفسيرها في بداية الكتاب في المجلد الأول كما فعل ملا حويش ودروزة وحبنكة، أو في المجلد الأخير كما فعل الأولون.
أما سلامة التفسير من الطعن والعلل، وصونه من الخطأ والزلل لا تأتي من ترتيب السور وإنما تأتي من المنهجية التي اتبعها المفسر في كتابه من تفسير القرآن بالقرآن وبصحيح السنة النبوية بأقوال الصحابة الثابتة، وبفهم أوتيه المفسر وملكته الخاصة التي لا تنحرف بها الأهواء.
مادامت السورة هي الوحدة الكاملة التي يتناول تفسيرها، فلا علاقة لموقعها بالتفسير وتذوقه وسلامته من الطعن والعلل والخطأ والزلل.
إن الأهداف والدوافع التي ذكرها ملا حويش أنها التي حملته على تفسير القرآن حسب ترتيب النزول تتحقق في كل تفسير بغض النظر عن ترتيب السور مادام المفسر متبعاً منهجاً سليماً ذا أسلوب جميل صحيح في عرض معاني الآيات.
- المطلب الثاني: مناقشة دوافع الأستاذ محمد عزة دروزة:
لا تقل دوافع الأستاذ محمد عزة دروزة عن دوافع ملا حويش من حيث الضبابية والعموم. فقد قال الأستاذ إن في هذه الطريقة:
أولآً- (بيان حكمة التنزيل ومبادئ القرآن ومتناولاته بأسلوب وترتيب حديثين)
ونحن نقول كما قلنا في مناقشة ملا حويش ألا يتأتى بيان حكمة التنزيل، وعرض مبادئ القرآن ومتناولاته في تفسير السورة إلا إذا غيرنا موقعها..؟!
إن صنع الأستاذ دروزة في تفسير الفاتحة التي جعلها مفتتح تفسيره هو صنيع ملا حويش من قبله في تفسير سورة الفاتحة التي جعلها السورة الخامسة في ترتيب تفسيره وكذلك ما فعله حبنكة من بعده عندما وضع ترتيبها السورة الخامسة وكل يتعرض لتفسيرها على منهج المفسرين السابقين..ولم يبرز أحدهم حكمة التنزيل مما له علاقة بترتيبها، وقل مثل ذلك في سورة القمر وترتيبها عند دروزة السابعة والثلاثين وكذلك عند ملا حويش وحبنكة وقارن ذلك بما ورد في تفاسير القاسمي ورشيد رضا وقد جاء ترتيبها حسب المصحف الرابعة والخمسين. لا تجد فرقاً يذكر.
ثانياً وثالثاً- موضوع التجاوب مع رغبة الشباب المتذمرين من الأسلوب التقليدي في التفسير: نقول للأستاذ دروزة يا ترى ما سبب انصراف الشباب عن القرآن الكريم وتفسيره، بل عن العلوم الشرعية عامة؟
إن تذمر الشباب من كل ما ينتمي إلى الإسلام يعود إلى:
أ- الشبه التي أثارها أعداء الإسلام حول الإسلام.
ب- المغريات والشهوات التي يلوّح بها دهاقنة الإفساد الخلقي في العالم.
ج- تخلف المسلمين عن ركب التطور الحضاري، وعيشهم على هامش الأحداث في العالم.
د- الطبقة الحاكمة في العالم الإسلامي التي رباها أعداء الإسلام على أعينهم، وسلطوهم على رقاب المسلمين ليسوموا العلماء والدعاة أشد العذاب، ويقضوا على المؤسسات الشرعية ويفرغوها من مضمونها وليئدوا كل محاولة لربط المسلمين بعقيدتهم ويحيوا في أنفسهم حب الله ورسوله، والرجوع إلى الالتزام بالإسلام عقيدة وسلوكاً وحكماً ودعوة.
إن من يستعرض واقع المسلمين منذ القضاء على الخلافة الإسلامية إلى اليوم يدرك أسباب تذمر الشباب من الإسلام عامة ومن تفسير القرآن الكريم خاصة. وليس من بينها قضية تفسير القرآن حسب ترتيب المصحف أو حسب ترتيب النزول.
وقل مثل ذلك في انتشال الشباب من التيارات الإلحادية، والتقليد الأعمى لكل تافه وسخيف ، إن ذلك لا يتأتى بتغيير ترتيب التفسير، وإنما بإعادة مناهج التعليم في الوزارات والجامعات والمؤسسات العلمية، وإطلاق يد العلماء الربانيين في نشر العلوم، ودعم المؤسسات الجادة في نشر العلم والوعي والأخذ على يد العابثين والمفسدين تجار الرذيلة.
أما الهدف الرابع: فقد قال الأستاذ دروزة: تسهيل فهم القرآن:
وماذا قدم هذا الترتيب من جديد حتى يزعم أنه سهّل فهم القرآن، ومتى كان فهم القرآن مستغلقاً صعباً حتى يسهّله هذا المنهج، وهل ترك العلماء منذ أربعة عشر قرناً جانباً بدون توضيح وبيان حتى يأتي هؤلاء السادة في القرن الرابع عشر الهجري لكي يسهّلوا فهم القرآن بتفسيره حسب ترتيب النزول. إنها دعوى لا تستند إلى أي شيء من الواقع.
أما الهدف الخامس: وقول الأستاذ دروزة إن هذا المنهج يمكن من متابعة السيرة النبوية زمناً بعد زمن.
وهل يمكّن هذا المنهج من ذلك مع أخذ السورة كاملة في التفسير، وقد أقرّ الأستاذ دروزة نفسه( أن القول بترتيب السور حسب نزولها فيه شيء من التجوز، فهناك سور عديدة مكية ومدنية يبدو من مضامينها أن فصولها لم تنزل مرة واحدة أو متلاحقة، بل نزلت بعض فصولها أولاً ثم نزلت بعض فصول سور أخرى، ثم نزلت بقية فصولها في فترات..وأن بعض فصول سور متقدمة في الترتيب قد نزلت بعد فصول سور متأخرة فيه وبالعكس، وأن فصول هذه السورة قد ألقت بعد تمام نزول فصولها، وأن ترتيبها في النزول قد تأثر بفصلها أو فصولها الأولى. وأن بعض السور المتقدمة في الترتيب أولى أن تكون متأخرة أو بالعكس، أو بعض ما روي مدنية من السور أولى أن يكون مكياً أو بالعكس..)[13]
فكيف يصح لقائل أن يقول بعد كل هذا إنه يريد متابعة السيرة النبوية زمناً بعد زمن من خلال تفسير القرآن حسب ترتيب النزول.
أولم تدوّن سيرة الرسولr تدويناً كاملاً بتفاصيلها وجزئياتها في مؤلفات مستقلة وفي كتب السنة المشرفة، حتى يحتاج إلى مثل هذا المنهج في التفسير لتتابع سيرته العطرة؟!
أما الهدف السادس: فقد كرر فيه الأستاذ دروزة، متابعة أطوار التنزيل ومراحله بشكل أوضح وأدق. ونقول أيضاً إن أطوار التنزيل تتضح عند ذكر العلماء في تفاسيرهم مكية الآية أو مدنيتها ومنهم من عرّف في تفسيره بالسورة وشخصيتها وملامحها التربوية والتشريعية ومحورها وأهم مقاطعها قبل أن يبدأ بتفسيرها التفصيلي[14]. ولم يحمله ذلك على اتباع منهج التفسير حسب ترتيب النزول.
المطلب الثالث: مناقشة دوافع وأهداف الشيخ عبد الرحمن حسن حبنكة:
لقد لجأ الشيخ كسابقيه إلى استخدام عبارات مطاطة عامة غير واضحة المعالم (البناء المعرفي التكاملي) ( التكامل التربوي) ( حركة البناء المعرفي)(المعالجات التربوية).
وحبذا لو ساق لنا فضيلة الشيخ أمثلة تطبيقية من خلال تفسيره حسب ترتيب النزول على هذا البناء المعرفي التكاملي، والتكامل التربوي، وحركة البناء المعرفي، والمعالجات التربوية.
إن المفسرين السابقين ذكروا في تفاسيرهم عند ذكر السور المكية الأولى كالآيات الخمس من سورة العلق وسورة نون والمزمل والمدثر تركيز هذه السور الأولى على الجانب العقدي والتربوي وتطهير النفوس من أدران الجاهلية وعقابيل الشرك[15]،ولإعداد نفوسهم وتهيئتها لاستقبال المجابهات مع رموز الشرك وطواغيت الجاهلية كما نصت عليه سورة المدثر.
ذكروا كل ذلك في مواطنها ونبهوا عليه وبينوا كيف أن السور المكية في المرحلة المتوسطة قارعت الحجة بالحجة كسور الفرقان والحواميم والواقعة والذاريات والطور..وكيف أن السور المكية المتأخرة هيأت النفوس لاستلام قيادة الأمم ورعاية المجتمعات مثل سورة هود ويونس والأنعام والنحل وغيرها، وذكروا أن السور المدنية بدأت بتنظيم المجتمع الإسلامي وسن التشريعات في مختلف جوانب الدولة الدستورية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والعقوبات وغيرها.ولم يستدع بيان كل ذلك إلى إعادة ترتيب السور أو تفسير القرآن حسب ترتيب النزول. فياهل ترى ما الذي استطاع الشيوخ الأفاضل إضافته ولم يجدوا سبيلاً إلى الإضافة إلا بالتفسير حسب ترتيب النزول، وما الميزة التي يجدها القارئ عندما يقرأ تفسير سور: العلق، والمدثر، والمزمل، والقلم والفاتحة والمسد والتكوير والأعلى والليل والفجر والضحى والشرح والعصر والعاديات والكوثر والتكاثر والماعون والكافرون. عندما يقرأ تفسير هذه السور في المجلد الأول من التفسير كما في تفسير الشيخ حبنكة وفي الجزء الأول والثاني من تفسير دروزة وتفسير الشيخ ملا حويش. أو يقرأ تفسيرها في الجزء الأخير من التفسير المنير للزحيلي أو تفسير الأساس لسعيد حوى أو تفسير صفوة التفاسير للصابوني.
كل أولئك وهؤلاء التزموا بوحدة السورة وذكروا أسباب نزولها والوقت الذي نزلت فيه السورة والنقلات العقدية والتربوية وأساليب الدعوة التي اشتملت عليها، بل أقول: إن الذين ساروا في تفاسيرهم على ترتيب المصحف لم يجدوا تناقضاً مع المبدأ الذي ساروا عليه، لأنهم يعتقدون أن ترتيب المصحف توقيفي، وأنه جمعت سوره ورتبت كما كان عليه الحال قبل نزوله كما يقول الشيخ محمد عبد الله دراز(لئن كان جمع عن تفريق، فقد فرّق عن جمع)[16].(وأن هذا الترتيب ألغي فيه اعتبار الزمان والمكان والأشخاص، ورتبت آياته وسوره لحكمة إلهية كما هو في اللوح المحفوظ، وكما أنزل جملة وبهذا الترتيب إلى بيت العزة في السماء الدنيا)[17].
أما أصحاب التفسير حسب ترتيب النزول فقد وقعوا في تناقض مع أنفسهم ومع ما يعتقدون فإن الشيخ ملا حويش والأستاذ دروزة يقولان إن ترتيب السور كما هو في المصحف توقيفي لا يجوز مخالفته في التلاوة أما في التفسير فشأن آخر، وذكر كل واحد منهما دوافع ومبررات لتفسيره حسب ترتيب النزول وقد ناقشنا دوافعهما سابقاً[18].
أما الشيخ حبنكة فيرى أن ترتيب المصحف اجتهادي، وأن البناء المعرفي التكاملي، والتكامل التربوي وحركة البناء المعرفي والمعالجات التربوية حملته على تفسيره حسب ترتيب النزول.
وكل الشيوخ الثلاثة الأفاضل يقرون أن أغلب السور لم تنزل دفعة واحدة وأن بين نزول افتتاحية السورة وخاتمتها أزمنة وأوقات متطاولة أحياناً ربما بلغت سنوات عديدة وأنه تخللها خلال ذلك آيات وضعت في سورة أخرى وربما سور عديدة نزلت قبل أن تكتمل آيات السورة الأولى. وكم من آية مدنية وضعت في سورة مكية والعكس...
فأي بناء معرفي وتكامل تربوي ومعالجات ما دمنا لم نجمع الآيات حسب تسلسلها الزمني في النزول[19].
المبحث الثالث: جدوى هذا المنهج في التفسير:
إن من يخالف عادة اعتادها الناس في حياتهم الدنيوية، أو يواجه تياراً تعارف عليه الناس في معايشهم، أو يسلك منهجاً في نمط حياة الناس درجوا على سلوكه كل ذلك يقتضي أن يكون لدى المخالف ما يدافع به عن نفسه ويبرر مخالفته وإن رام إقناع الآخرين أن يكون لديه من الحجج والبراهين الواضحة التي تحملهم على الاقتناع بالشيء المستحدث الجديد.
فما بالك إذا كان الأمر يتعلق بأقدس شيء عند المسلمين بالقرآن الكريم وتفسيره وبيان مراد الله تعالى من آياته حسب الطاقة البشرية، فالأمر- عندئذ- يتطلب حججاً أقوى وبراهين أوضح.
ولم نجن فائدة تذكر في هذا المنهج لما يلي:
أولاً- باستقرائنا للدوافع والأسباب التي حملت أصحاب الفضيلة الشيوخ إلى هذا المنهج لم نجد ما يبرر صنيعهم فضلاً عن دفع التهم عنهم أو إيجاد القناعات لدى القارئين لكتبهم أو أهل الاختصاص في هذا العلم.
إن ما قالوه من العموميات والادعاءات لم نجد لها واقعاً في تفاسيرهم فلا استطاعوا أن يوفروا جهوداً في التكرار أو إدراك الناسخ والمنسوخ..[20]ولم نعثر على ما يشوق الجيل الناشئ للتوجه إلى كتاب ربهم لينهلوا من النبع الصافي- بدلاً من الثقافات الإلحادية المنحرفة الهابطة- في هذا المنهج الذي سلكه الأستاذ دروزة[21].
كما أننا لم نلحظ ذلك التكامل المعرفي والتدرج التربوي والتدرج في المعالجات للقضايا، أثناء تفاسير السادة الفضلاء الذين ساروا في تفاسيرهم حسب ترتيب النزول.
فهل تقديم سورة العلق ووضعها في مقدمة التفاسير، يغير من المفهوم لآياتها؟ وما المزايا التي وفرتها هذه التفاسير لهذه السورة وغيرها من السور المكية مثل سورة(ن) والمزمل، والمدثر..عندما وضعوا تفاسيرها في مقدمة تفاسيرهم، ماداموا قد التزموا بوحدة السورة.
إننا لا نجد فرقاً بين ما ذكروا في تفاسير هذه السور ومابين ما ذكره المفسرون الآخرون عندما وضعوا تفاسيرهم في المجلد الأخير من تفاسيرهم حسب ترتيب المصحف.
فالجميع يذكرون مكية هذه السور، ويذكرون أسباب نزولها وما ترتب على نزولها من مواقف، وحللوا دلالاتها اللفظية واستنبطوا الهدايات القرآنية والآداب الشرعية منها، حسب ما أوتيه كل واحد منهم من الفهم والمعرفة وقوة الاستنباط وإشراقة التعبير، ولا علاقة لكل ذلك بموضع السورة في المجلد الأول من التفسير أو في المجلد الأخير من التفسير.
ثانياً- أقول إن هذا المنهج لم يحقق للسادة الأفاضل ما أرادوه، لأنهم يدركون أن بعض المقاطع من السور تخللها نزول مقاطع من سور أخرى، فآيات من سورة القلم نزلت بعد الآيات الأولى من سورة العلق، بل يذهب ملا حويش وحبنكة إلى أن آية سورة(ن ) ( فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت) القلم/48، مدنية.
كما يقولون إن آخر آية في سورة المزمل( إن ربك يعلم أنك تقوم..)المزمل/20.أنها آية مدنية. ولا يلتفتون إلى رواية الإمام مسلم لقول السيدة عائشة أنها نزلت بعد سنة من افتتاحيتها تخفيفاً على المسلمين[22].
وسور البقرة المدنية وهي من أول ما نزل في المدينة بقيت مفتوحة طوال العهد المدني إلى أن اختتم الوحي الإلهي، فكان آخر آية نزلت على الإطلاق (واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله..)البقرة/281. ومادام أصحاب الفضيلة التزموا- كما قلنا- بوحدة السورة فلن يتم لهم ما أرادوه من التدرج والتكامل و..
لقد نزل القرآن الكريم منجماً حسب الحوادث طيلة عقدين ونيّف من الزمن لحكم ذكرها العلماء تفصيلاً[23]، كما أشار القرآن الكريم إليها إجمالاً في قوله تعالى( وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلاً ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيراً)الفرقان/33.
ثم عندما أعيد جمعه وترتيبه على الهيئة الأولى كما كان في اللوح المحفوظ وكما أنزل جملة إلى بيت العزة في السماء الدنيا، حيث ألغى في هذا الترتيب والجمع الاعتبارات الزمانية والوقائع والأشخاص، فأعيد جمعه لحكم يعلمها منزل القرآن الذي أسند جمعه إلى نفسه كما أخبر( لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرآناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه)القيامة/16.
وإطلاق الجمع يشمل أنواعه ومراحله، فجمع في صدر رسول اللهr لئلا ينساه وجمع بتهيئة أسبابه الداعية إلى كتابته في السطور والمصاحف بتوفيق من الله سبحانه وتعالى. وتيسير إجماع الأمة على تناقله من غير زيادة ولا نقصان ولا اختلاف في هذا الجمع والترتيب. وما أجمل ما قاله الشيخ محمد عبد الله دراز بهذا الصدد( ..إن كانت بعد تنزيلها جمعت عن تفريق فلقد كانت في تنزيلها مفرقة عن جمع، كمثل بنيان كان قائماً على قواعده، فلما أريد نقله بصورته إلى غير مكانه، قدّرت أبعاده ورقمت لبناته، ثم فرّق أنقاضاً فلم تلبث كل لبنة من أن عرفت مكانها المرقوم، وإذا البنيان قد عاد مرصوصاً يشد بعضه بعضاً كهيئته أول مرة)[24].هذا مثل آيات القرآن وسوره.
إن هذا المنهج الذي سلكه أصحاب الفضيلة لم يحقق لهم ما أرادوه لأن ترتيب الآيات في السورة ثم ترتيب السور في المصحف ألغيت فيها جميع الاعتبارات وبقي اعتبار الإرادة الإلهية والحكمة الربانية في إظهار المعجزة الخالدة.
ثالثاً- لقد وقع السادة أصحاب هذا المنهج في محاذير منها:
أ- مخالفة إجماع الأمة على ترتيب سور القرآن الكريم بعد جمع عثمان بن عفان رضي الله عنه. فلقد أجمع صحابة رسول اللهrومن بعدهم الأمة بأجيالها المتعاقبة على ترتيب المصحف بهذا الشكل، على اختلاف هل كان هذا الترتيب توقيفياً أو اجتهادياً ثم أجمعت الأمة عليه. ولم يفرقوا في هذا الترتيب بين التلاوة وبين التفسير.
ب- إن تفسير القرآن حسب ترتيب النزول قد يجرئ بعض أدعياء العلم إلى إعادة ترتيب الآيات في السور حسب نزولها، فيخلطوا بين آيات السور، فيكونوا قد وقعوا في شراك أعداء الإسلام الذين طالما دعوا إلى إعادة ترتيب آيات القرآن الكريم حسب نزولها أو حسب موضوعاتها أو غير ذلك بزعم أن محمداً كان أمياً لا خبرة له بالتأليف..وبالتالي يكونوا قد قضوا على المعجزة القرآنية معجزة الإسلام الخالدة.
ج- إن هذا المنهج في التفسير يقضي على جهود العلماء الطيبة واستنباطاتهم الرائعة في المناسبات بين السور، فقد أظهروا علماً جليلاً وروابط متينة ومناسبات دقيقة بين سور القرآن الكريم، فكم من مناسبة لطيفة بين سور مدنية أعقبتها سورة مكية في الترتيب[25].وبين سورة مكية تلتها سورة مدنية في الترتيب[26].
وقد ألفت مؤلفات قديماً وحديثاً تبرز لوناً من ألوان إعجاز القرآن البياني في هذه المناسبات بين السور. من أشهرها:
1- نظم الدرر في تناسب الآيات والسور للبقاعي.
2- مناسبات ترتيب السور لأبي جعفر ابن الزبير الأندلسي.
3- تناسق الدرر في تناسب السور لجلال الدين السيوطي.
4- جواهر البيان في تناسب سور القرآن للغماري.
5- سمط الدرر في تناسب الآيات والسور لمحمد طاهر.
6- المناسبات في ترتيب آيات القرآن وسوره لمحمد أحمد يوسف القاسم.
بالإضافة إلى ما كتبه المفسرون السابقون والمعاصرون في كتب التفسير من مناسبات بين السور المتتالية.
الخاتمة
ونقول بعد هذه الجولات في كتب أصحاب منهج التفسير حسب ترتيب النزول، نصل إلى جملة من النتائج نلخصها فيما يلي:1- إننا لم نتمكن من الإطلاع على الدوافع الحقيقية لأصحاب هذا المنهج، وما ذكروه في كتبهم من دوافع وأسباب لا تسمن ولا تغني من جوع، وقد قلنا سابقاً إن من يخالف جماهير المفسرين قديماً وحديثاً، وفي قضية تتعلق بأقدس شيء عند المسلمين لابد أن تكون له من المبررات والدوافع ما يقنع ويقيم الحجة.
2- لم يتحقق لأصحاب هذا المنهج ما أرادوه من تكامل معرفي وتكامل تربوي ولا إبراز تدرج في التدريج ولا جذب انتباه شباب الأمة إلى تراث أمتهم، من خلال هذا المنهج، ولم ينفردوا بإبراز جوانب في تفسير القرآن الكريم لم يصل إليها غيرهم من أصحاب منهج التفسير حسب ترتيب المصحف. بل أضافوا بمنهجهم هذا مشقة على الباحثين، فإذا أرادوا أن يطلعوا على تفسير آية في هذه التفاسير، كان لزاماً عليهم أن يرجعوا إلى فهارس الأجزاء كلها، أو على أقل تقدير فهارس الأجزاء للسور المكية إن كانت الآية مكية، أو أجزاء السور المدنية إن كانت الآية مدنية. وربما اختلف أصحاب هذا المنهج في تقديم بعض السور على غيرها حسب اجتهاد كل واحد منهم في ترتيبها، أو الاختلاف في مكية بعض السور ومدنيتها[27].
3- وقع أصحاب هذا المنهج في مخالفة كبيرة عندما صدموا إجماع الأمة في ترتيب المصحف، وكما ذكرنا في موضعه أن الأمة أجمعت على جمع عثمان بن عفان رضي الله عنه، ولم يفرقوا في هذا الترتيب بين التلاوة والتفسير.
4- على الرغم من حسن الظن بنوايا أصحاب هذا المنهج ودوافعهم فقد حققوا بصنيعهم هذا نصف مراد المستشرقين الذين بذلوا الكثير لحمل علماء المسلمين على أمرين اثنين:
أولهما : إعادة ترتيب سور القرآن الكريم حسب النزول.
ثانيهما: إعادة ترتيب الآيات في سور القرآن حسب النزول بغية التلاعب بالنص الكريم، وإزالة قدسيته من القلوب.
5- وأخيراً نوجه استفساراً ونريد جواباً من السادة أصحاب هذا المنهج وهو: تفسير القرآن حسب ترتيب النزول، هل فات السلف من علماء الأمة السبق إليه وفطنتم أنتم له؟ أو أن السلف كانوا أحرص على الاتباع وترك الابتداع؟.
توصيات:
1- توجيه دراسات أكاديمية متخصصة لدراسة منهج التفسير حسب ترتيب النزول، من قبل المتخصصين في التفسير وعلوم القرآن. إما عن طريق تسجيل رسائل دكتوراه كما فعل الدكتور فريد مصطفى سليمان أو عن طريق بحوث من أساتذة التفسير وعلوم القرآن. وذلك لبيان ما يترتب على هذا المنهج من قضايا تمس القرآن الكريم من قريب أو بعيد.
2- مخاطبة ورثة كل من الشيخ عبد القادر ملا حويش والأستاذ محمد عزة دروزة لإعادة طباعة تفسيريهما حسب ترتيب المصحف، وإسناد الإشراف على الطباعة إلى جهة متخصصة موثوقة للحفاظ على صلب التفسير ومزاياه، مع الالتزام بترتيب المصحف.
3- توجيه نداء إلى فضيلة الشيخ عبد الرحمن حبنكة الذي لازال على قيد الحياة[28] ولازال يعمل في استكمال تفسيره. أن يعيد النظر فيما أقدم عليه من هذا المنهج ويرتب بنفسه ما طبعه ويكمل طبع ما بقي من التفسير حسب ترتيب المصحف، ليقطع دابر الاختلاف، وتوفيراً لجهوده ولسد الذريعة أمام المتربصين بالقرآن وأهله، وقطع أطماعهم في النيل من قدسيته.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
فهرس المصادر والمراجع:
1- الإتقان في علوم القرآن، جلال الدين السيوطي، المكتبة العصرية- لبنان.
2- الأساس في التفسير، سعيد حوى، دار السلام.
3- البحر المحيط، أبو حيان، مكتبة النصر الحديثة.
4- البرهان في علوم القرآن، بدر الدين الزركشي، دار المعرفة- لبنان.
5- بيان المعاني، عبد القادر ملا حويش، مطبعة الترقي.
6- التحرير والتنوير، محمد الطاهر بن عاشور، دار سحنون- تونس.
7- التفسير الحديث، محمد عزة دروزة، دار الغرب الإسلامي.
8- التفسير المنير، وهبة الزحيلي، دار الفكر.
9- تناسق الدرر في تناسب السور، جلال الدين السيوطي، دار الاعتصام-مصر.
10- دراسات في علوم القرآن، فهد الرومي، مكتبة التوبة.
11- صفوة التفاسير، محمد علي الصابوني، دار القرآن الكريم.
12- عبد الرحمن حبنكة الميداني، عائدة راغب الجراح ، دار القلم.
13- فواتح السور وخواتيمها، عبد العزيز الخضيري، رسالة دكتوراه لم تنشر.
14- في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق.
15- قواعد التدبر الأمثل، عبد الرحمن حبنكة الميداني، دار القلم.
16- مباحث في التفسير الموضوعي، مصطفى مسلم، دار القلم.
17- مباحث في علوم القرآن، صبحي الصالح، دار العلم للملايين-لبنان.
18- محاسن التأويل،’ محمد جمال الدين القاسمي، دار إحياء الكتب العربية.
19- محمد عزة دروزة وتفسير القرآن، فريد مصطفى سليمان، مكتبة الرشد.
20- معارج التفكر ودقائق التدبر، عبد الرحمن حبنكة الميداني، دار القلم.
21- مفاتيح الغيب، فخر الدين الرازي، دار الكتب العلمية- طهران.
22- النبأ العظيم، محمد عبد الله دراز، دار القلم.
23- نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، برهان الدين البقاعي، دار السلفية – الهند.
الحواشي ...
[1] انظر في ذلك: البرهان في علوم القرآن، للزركشي1/259 تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم ط دار المعرفة. والإتقان في علوم القرآن للسيوطي 1/62.
[2] انظر دراسات في علوم القرآن للدكتور فهد الرومي ص 112
[3] انظر بيان المعاني 1/3، والتفسير الحديث 1/9.
[4] انظر مناقشة ما أورده ملا حويش من حجج ص8 من البحث، وانظر ما أورده دروزة من حجج ص 10 من البحث.
[5] انظر في معارج التفكر 1/6.
[6] انظر مقدمة تفسير بيان المعاني 1/4.
[7] انظر مقدمة التفسير الحديث 1/5
[8] المرجع السابق1/9.
[9] انظر المقدمة العامة لكتاب معارج التفكر ودقائق التدبر 1/ص 5 ، 6.
[10] هذا الدافع الأخير أخذته من شرح الشيخ للقاعدة التاسعة في كتاب قواعد التدبر الأمثل ص 153.
[11] ولولا حجم البحث المختصر لأوردت نماذج من كلام المفسرين على هذا، ولأوردت من كلام ملا حويش ما يناقض قوله وأنه وقع في عكس ما دعاه من تجنب التكرار. ( ينظر سورة الإسراء والأنعام، وسورة المعارج والمؤمنون)في تفسير ملا حويش.
[12] انظر الآية الناسخة(234) البقرة، والآية المنسوخة(240)البقرة.
[13] انظر مقدمة التفسير الحديث 1/13.
[14] انظر تفسير سيد قطب في ظلال القرآن في التمهيد لأي سورة تختارها.
[15] انظر على سبيل المثال التفسير المنير29/191وما بعدها، وتفسير ظلال القرآن لسيد قطب 6/3741 وما بعدها ط دار الشروق.
[16] انظر النبأ العظيم ص 154ط دار القلم.
[17] انظر هذا القول في الإتقان 1/62 ونسبه إلى الطيبي
[18] انظر ص9 وما بعدها من البحث
[19] كثير من المستشرقين يدعون إلى ترتيب القرآن حسب النزول أو حسب الموضوعات، وقد حاول المستشرق الفرنسي (جول لابوم) أن يجمع الآيات حسب الموضوعات في كتاب( تفصيل آيات القرآن) وقد أظهر عمله هذا أنه تيسير للباحثين لجمع الآيات المتعلقة بموضوع واحد. ولكن الدوافع الحقيقية لم يعلن عنها، وربما كانت محاولة منه لترسيخ الدعوة إلى إعادة ترتيب آيات القرآن من جديد على غير ترتيب المصحف. كما دعا المستشرق( غريم) ومثله المستشرقون( نودلكه، ووليم موير، وبلاشير وبل، ورود ويل) إلى إعادة ترتيب المصاحف حسب ترتيب النزول.
[20] انظر ما قاله ملا حويش في مقدمة تفسيره 1/4.
[21] انظر مقدمة التفسير الحديث 1/9.
[22] انظر صحيح مسلم كتاب صلاة المسافرين باب جامع صلاة الليل ج2ص 169 ط استانبول.
[23] انظر مباحث في علوم القرآن ص 107
[24] انظر النبأ العظيم ص 154-155.
[25] كالمناسبات التي ذكرت بين خاتمة التوبة وافتتاحية سورة يونس .انظر في ذلك فواتح السور وخواتيمها، للدكتور عبد العزيز الخضيري1/303رسالة دكتوراه لم تنشر. والبحر المحيط لأبي حيان 5/121 ط مكتبة النصر الحديثة.
[26] كالمناسبات بين خاتمة الأحقاف- المكية- وافتتاحية سورة محمدr - المدنية- انظر في ذلك مباحث في التفسير الموضوعي ص82.
[27] انظر في ذلك ما قاله دروزة في مقدمة تفسيره 1/12. فقد اختلف اجتهاده في بعض السور في الطبعة الثانية عما كان عليه الأمر في الطبعة الأولى. كما خالف الآخرين في البدء بتفسير سورة الفاتحة بدل سورة العلق.
[28] كتب البحث في حياة الشيخ عبد الرحمن حبنكة وقد توفي فيما بعد، فيوجه النداء إلى ورثته.