التعليق على تفسير ابن جرير الطبري المجلس الأول: (2 - 11 - 1434)

إنضم
29/01/2012
المشاركات
45
مستوى التفاعل
0
النقاط
6

بسم1
التعليق على تفسير ابن جرير الطبري المجلس الأول: (2 - 11 - 1434)


اعتنى به: عمرو الشرقاوي​

الحمد لله وحده، وبعد:
* أفضل طبعات الكتاب، طبعة الدكتور عبد الله التركي، وهناك ملاحظات على هذه الطبعة، ومنها:
أولاً: مميزات هذه الطبعة:

1- الاعتماد على نسخة فريدة لم تَعتمِد عليها الطبعات السابقة، وتدارك كثير من السقط الموجود في المطبوع .
لقد كنت أترقب صدور هذه الطبعة بفارغ الصبر، لما سمعت من وجود نسخة لم يسبق أن وقف عليها من حقق الطبعات السابقة، وكنت أرجو أن تحلَّ بعض الإشكالات التي كنت أرى أنها بسبب سقط في العبارة، وقد كان ذلك، إذ ظهر في هذه الطبعة أن كثيرًا مما وقع الإشكال فيه كان بسبب السقط في النسخة المطبوعة، ومن ذلك على سبيل المثال [(27/47) من طبعة الحلبي] ووازنها بطبعة [دار هجر: (22/20)]، ومثال آخر [(27/59) من طبعة الحلبي] ووازنها بطبعة [دار هجر: (22/50)] .
2- وضع أجزاء وصفحات طبعة البابي الحلبي - وهي الأكثر تداولاً بين الناس - على الحاشية اليمنى أو اليسرى من الصفحة، وفي ذلك الصنع فائدة لمن يريد أن يوازن بين التحقيقين، أو تكون عنده النسخة القديمة فيعرف مقابلها من التحقيق الجديد .
وهذا العمل يُحبَّذُ أن يجعل في كل تحقيق جديد لكتاب سارت طبعة من طبعاته بين الناس، لتكون الفائدة منه أعمُّ، ولا يفقد طالب العلم ما كان له من تعليقات على الطبعة القديمة .
3- وضع السور والآيات المفسَّرة في المجلد على كعب المجلد، وهذا يسهِّل الرجوع إلى الموضع الذي يريده الباحث .
4- ذكر فروق النُّسخ، وذلك يجعل للقارئ فرصة التخيُّر والاجتهاد، فيما لو رأى أن ما اختاره المحققون ليس مما يحالفه الصواب .
5- تخريج الأحاديث, وبعض الآثار، وهو مع وجازته يفيد في عملية البحث العلمي، ويقرِّب المعلومة لمن يريد أن يتوسع في التخريج .
6- شرح المفردات الغريبة التي تحتاج إلى شرح .
7- تخريج القراءات تخريجاً موجزاً .
ومن حيث العموم فالحواشي لم تكن مثقلة بما لا يفيد، وهذا من محاسن التحقيق من هذه الجهة .
ومن الملاحظ على هذه الطبعة:

1- عدم الاستفادة من تعليقات آل شاكر، مع ما فيها من ثروة علمية لا تخفى على من قرأ في طبعة محمود شاكر رحمه الله، إذ كان له عناية فائقة بالتحقيق والتعليق على كتب التراث، وله في ذلك منهج نفيس لا يخفى على من يقرأ في تراثه.
ومن الملاحظ أن المحققين استفادوا كثيراً من تحقيقه، وإن لم يشيروا إليه، ويظهر هذا جليّاً بموازنة عمل المحققين بين القسم الذي حققه محمود شاكر والقسم الذي لم يحققه .
2 - عدم بيان المصطلحات النحوية التي يستعملها الطبري، وقد كان بيان هذه المصطلحات مما اعتنى به محمود شاكر رحمه الله، وكم كنت أتمنى لو وجِدَ هذا التعريف بالمصطلحات ليكون قارئُ التفسير على علمٍ بها, خصوصًا وأن الطبري يتبع مصطلحات النحو الكوفي، وهي مخالفة للمصطلحات الدارجة اليوم.
3- عدم الاستفادة من تحقيق الدكتورة هدى قراعة لكتاب معاني القرآن للأخفش، وتظهر فائدة عملها في هذا الكتاب في إرجاعها لنقول الطبري من معاني القرآن للأخفش، وتحديدها بالصفحات، كما قامت في الفهارس بوضع فهرس خاصٍّ بهذه النقول .
كما أنه لم يتابع في نقوله النحوية واللغوية بما عند الفراء في معانيه، وقد استفاد الطبري من كتاب الفراء كثيراً، بل يظهر أنه عمدة عنده .
هذا، وقد ظهر لي من خلال الموازنة أن الطبري ينقل من معاني القرآن للفراء، وقد ينص عليه أحياناً، كما قد تتبعه محمود شاكر في المواطن التي حققها .
وينقل كذلك من مجاز القرآن لأبي عبيدة، وكذلك تتبعها محمود شاكر في المواطن التي حققها .
وينقل من الأخفش، وهو ما تكفلت به الدكتورة هدى قراعة، وجعلت له جدولاً في فهارس معاني القرآن .
وإذا نقل عنهم قلَّ أن ينص على أسمائهم، بل ينسبه إلى أهل العربية أو اللغة أو النحو من البصرة أو الكوفة .
وهناك نصوص لم أعثر عليها في هذه الكتب الثلاثة، ولعلها للكسائي أو قطرب أو غيرهما، والله أعلم .
وتظهر فائدة إرجاع هذه النقول إلى أصولها أنَّ الطبري قد يحكيها أحياناً بالمعنى، فتستغلق العبارة، فإذا عاد القارئ إلى الأصل الذي نقلها منه الطبري اتضحت عبارته .
4- عدم ترقيم الآثار .
5 - عدم القيام بالفهارس التي هي أهمُّ من الفهارس الموجودة في التحقيق، ومن هذه الفهارس المهمة:
فهرس اللغة، فهرس الغريب، فهرس أساليب العرب، فهرس مصطلحات الطبري، فهرس قواعد الترجيح، فهرس الفوائد العلمية .
6 - كان من المحبذ لو أدرجت استدراكات ابن عطية وابن كثير على الطبري، فهما ممن كان لهما عناية بكتابه، ولهما عليه استدراكات علمية مفيدة .
7 - ومن المحبذ لو وضعت النسخ التي اعتمدت في التحقيق في جدول يذكر فيه اسم النسخة والمواضع التي تحتويها النسخ .
8- صِغَرُ الهوامش الجانبية، مع أن القارئ لا يخلو من حاجته للتعليق على هذا الكتاب، فلو كانت الحواشي أوسع لاستفيد منها في التعليق .
9- كان يمكن أن يستعاض عن هذا الحجم الكبير، ويمكن أيضاً أن تُدخل تعليقات آل شاكر المهمة، واستدراكات ابن عطية وابن كثير = لو كان إخراج الكتاب فنيّاً على غير هذه الصورة، ومن المعلوم أن الأمور الطباعية قد تطورت، حتى لقد ظهر تفسير ابن عطية وابن الجوزي وابن كثير وغيرها في مجلد واحد.
وليس المراد أن يكون إخراجه مضغوطاً مثل هذه الكتب، لكن المراد أن تحقيق ذلك ممكن .
10- من المصادر التي اعتمدت في هذه الطبعة كتاب التبيان للطوسي، وقد جاء ذكره في المراجع (26:1336) كالآتي: التبيان في تفسير القرآن (شيعي) لشيخ الطائفة الطوسي .
والملحوظة أن الإحالات عليه ترد في مرويات عن السلف كمرويات مجاهد وقتادة وغيرهما . ولا أدري ما القيمة العلمية في كون الطوسي ذكر هذه المرويات، وهي موجودة عند الطبري بالإسناد ؟!.
ينظر - على سبيل المثال - بعض الإحالات إليه في المجلد (22) الصفحات (11، 54، 133، 152،165, 166) وغيرها كثير .
وهذا الكتاب ليس من كتب التفسير المعتمدة عند أهل السنة حتى يُذكر، والإرجاع إليه في قضية لا تخصه بحيث يقال إنها لا توجد إلا فيه . وحبذا لو ألغيت هذه الترجيعات .
11- لقد شارك في هذا العمل مركز البحوث والدراسات العربية والإسلامية بدار هجر، وهذا يعني أن الذي قام بالعمل فريق، وفي مثل هذا النوع من العمل يفضَّل ذكر الفريق الذي شارك، ويبين ما قام به كل واحد من أعضائه، وهذا أولى من عدم ذكرهم مع ما لهم من جهد، كما أنَّ فيه توكيداً وإقناعاً للقارئ خصوصاً إذا عرفت تخصصات هؤلاء العاملين .
12- كم كنت أود لو كانت المقدمة للكتاب تتناسب مع جلالة مؤلفة وعظمة تأليفه، وأن يستخرج منهجه من خلال ما قام به المحققون؛ إذ الكلام عن منهجه جاء وصفياً خالياً من الأمثلة مع تيسرها لمن قام بتحقيقه، وبقي معه مدة من الزمن .
13- مخالفة الرسم للقراءة التي يرجحها ابن جرير، ومن أمثلة ذلك، قوله تعالى: ((نزاعة للشوى)) .
ولقد وقع في الحديث عن منهجه بعض الأخطاء أحببت أن أذكر أهمها، فمنها:

- جاء في (ص 50): ((فالترجيح بالروايات هو أقوى مرجحات الطبري لما يختاره من المعاني التي يستنبطها)).
أقول: لم يكن هذا هو المنهج العام الذي سار عليه الطبري، بل كان يرجح بعض الروايات التي فيها ضعف، فهو ينظر إلى المعنى أكثر من نظره للإسناد أو لطبقة المفسر، إلا في حالات قليلة، وهذا ظاهر من منهجه .
- وجاء في الصفحة نفسها: ((وكان الأولى به أن يتحرى نقد الأسانيد؛ خاصة أنه ساق كثيراً من الإسرائيليات، ولعل دافعه إلى ذلك أنه ساق السند بتمامه، ومن أسند لك فقد حمَّلك أمانة البحث عن رجال الإسناد، وبالتالي فقد أخلى عهدته ...)) .
على هذا الكلام ملحوظتان:
الأولى: أن اشتراط التحري في أسانيد التفسير ليس هو المنهج الذي قام عليه منهج المحدثين الذين فرقوا بين أحاديث الحلال والحرام والمرفوعات وغيرها، بل لقد نصوا على قبول الروايات التفسيرية على ما فيها من ضعف، وعمل المحدثين والمفسرين على هذا، والطبري مثال لذلك، لذا لا تجد عنده نقد أسانيد مرويات التفسير إلا نادراً، لأن هذه الروايات مما تلقاه العلماء بالقبول، وعملوا بها في فهم كلام الله، ولا يُعترض عليها إلا في حالة وقوع نكارة تدعو إلى تحري الإسناد[1].
وإذا عُرِفَ هذا، فإن ما ذُكر من الكلام على الأسانيد الدائرة الضعيفة (ص: 187) مع أنه عن بعض الأسانيد، فإنه لا فائدة فيه من جهة العمل التفسيري؛ لأن هذه الأسانيد التي حكم عليها بالضعف مما اشتهر أخْذُ المفسرين به، وقد سبق بيان أن منهج المحدثين قبول هذه الروايات في التفسير، والله أعلم .
الثانية: أن الطبري لم يَسِرْ على قاعدة من أسند فقد حمَّلك البحث عن الإسناد، والدليل على ذلك ما سبق من أنه اعتمد على هذه الروايات في بيان كلام الله , ولم ينتقدها، ولو كان إنما ذكرها فقط لجاز أن يقال بهذا، مع أني أرى أنه لا يقال به إلا بنص صريح من المؤلف أنه أراد هذه القاعدة في منهجه، وذلك ما لا تجده عند ابن جرير لا نصّاً ولا استقراءً، بل منهجه مخالف لها، والله أعلم .
* تلخيص لمنهج الطبري:
أملى ابن جرير كتابه جامع البيان عن تأويل آي القرآن على تلاميذه من سنة (283) إلى سنة (290) ثمَّ قُرئ عليه سنة (306)، وقد أطبق العلماء على الثناء على كتابه .
وقد قدَّمَ الطبريُّ لتفسيرِه بمقدمة علميَّةِ حشدَ فيها جملة من مسائل علوم القرآن، منها: اللغة التي نزل بها القرآن والأحرفُ السبعة، والمعربُ، وطرق التفسيرِ، وقد عنون لها بقوله: (القول في الوجوه التي من قِبَلِها يُوصلُ إلى معرفةِ تأويلِ القرآنِ)، وتأويل القرآنِ بالرأي، وذكر من تُرضى روايتهم ومن لا تُرضى في التَّفسيرِ .
ثمَّ ذكر القولَ في تأويلِ أسماء القرآنِ وسورِه وآيه، ثمَّ القول في تأويلِ أسماء فاتحة الكتابِ، ثمَّ القول في الاستعاذةِ، ثُمّ القول في البسملةِ .
ثمَّ ابتدأ التفسيرَ بسورة الفاتحة، حتى ختم تفسيرَه بسورةِ النَّاسِ .
- كان يُجزِّئ الآيةَ التي يُريدُ تفسيرَها إلى أجزاء، فيفسرها جملة جملة، ويعمدُ إلى تفسير هذه الجملة، فيذكر المعنى الجملي لها بعدها, أو يذكره أثناء ترجيحه إن كان هناك خلاف في تفسيرها .
- إذا لم يكن هناك خلاف بين أهل التأويل فسَّر تفسيرًا جُمْلِياً، ثم قال: وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
- وإذا كان بين أهل التأويل خلاف، فقد يذكر التفسير الجملي، ثم ينص على وجود الخلاف، ويقول: واختلفَ أهلُ التَّأويلِ في تأويلِ ذلكَ، فقال بعضهم فيه نحوَ الذي قلنا فيه.
- وقد يذكر اختلاف أهل التأويل بعد المقطع المفسَّرِ مباشرةً، ثمَّ يذكر التفسير الجملي أثناء ترجيحه.
- ومن عادته أن يُترجمَ لكل قولٍ بقوله: فقال بعضهم ….، ثمَّ يقول: ذكر من قال ذلـك، ثمَّ يذكر أقوالهم مسنداً إليهم بمـا وصله عنهم من أسانيد، ثمَّ يقول: وقال غيرهم، وقال آخرون …، ثمَّ يذكر أقوالهم، فإذا انتهى من عرضِ أقوالِهم، رجَّحَ ما يراه صواباً، وغالباً ما تكون عبارته: قال أبو جعفر: والقول الذي هو عندي أولى بالصواب، قول من قال، أو يذكر عبارة مقاربةً لها، ثمَّ يذكر ترجيحَه، ومستندَه في الترجيحِ، وغالباً ما يكون مستندُه قاعدةً علميَّة ترجيحيَّةً، وهو مما تميَّزَ به في تفسيرِه.
- اعتمدَ أقوال ثلاث طبقات من طبقات مفسري السلف، وهم الصحابة والتابعون وأتباع التابعين، ولم يكن له ترتيب معيَّن يسير عليه في ذكر أقوالهم، وإن كان يغلب عليه تأخير الرواية عن ابن زيد (ت: 182) .
- ويحرص على ذكر ما ورده عنهم بالإسناد إليهم، ولو تعدَّدت الأسانيد في القول الواحد .
- وقد يورد قول الواحد منهم ويعتمده إذا لم يكن عنده غيره .
- ولم يخرج في ترجيحاته عن قول هذه الطبقات الثلاث إلا نادراً، وكان شرطه في كتابه أن لا يخرج المفسر عن أقوال هذه الطبقات الثلاث [2] .
- ولهذا ردَّ أقوال أهل العربية المخالفة لأقوال السلف أدنى مخالفةٍ، ولم يعتمد عليها إلا إذا لم يرد عن السلف في مقطع من مقاطع الآية شيء (ينظر تفسيره للواو في قوله {والذي فطرنا} فقد اعتمد ما ذكره الفراء من احتمالات) .
وإذا ذكر علماء العربية فإنه لا يذكر أسماءهم إلا نادراً، وإنما ينسبهم إلى علمهم الذي برزوا فيه، وإلى مدينتهم التي ينتمون إليها، كقوله: « قال بعض نحويي البصرة».
وغالب ما يروي عنهم مما يتعلق بالإعراب .
- اعتمد الطبري النظر إلى صحة المعنى المفسَّرِ به، وإلى تلاؤمه مع السياق، وقد كان هذا هو المنهج العامَّ في تفسيره، وكان يعتمد على صحة المعنى في الترجيح بين الأقوال .
- وكان لا يبين درجة إسناد الآثار إلا نادراً، ولم يكـن من منهجه نقد أسانيد التفسير، كما أنه لم يعمد إلى ما يقال من طريقة: من أسندك فقد أحالك .
- وكان - في الغالب - لا يفرق بين طبقات السلف في الترجيح، وقد يقدم قول أتباع التابعين أو التابعين على قول الصحابي .
- وإن كان في بعض المواطن يقدم قول الصحابة، خصوصاً فيما يتعلق بالنُّزول .
- يقدم قول الجمهور على قول غيرهم، وقد يعدُّه إجماعًا، ويَعُدُّ القول المخالف لهم شاذّاً .
- يَعُدُّ عدم قول السلف بقولٍ دلالة على إجماعهم على تركه، ويرجح بهذه الحجة عنده .
- لم يلتزم بالأخذ بقول الصحابي في الغيبيات .
- لم يُعْرِضْ عن مرويات بني إسرائيل لأنه تلـقاها بالآثـار التي يروي بها عن السلف، وقد يبني المعنى على مـجمل ما فيها من المـعنى المبيِّن للآية [3] .
- يؤخر أقوال أهل العربية، ويجعلها بعد أقوال السلف، وأحياناً بعد ترجيحه بين أقوال السلف .
- لا يقبل أقوال اللغويين المخالفة لأقوال السلف، ولو كان لها وجه صحيح في المعنى .
هذا ما أردت التنبيه عليه من منهج الطبري، وقد بقي بعض المسائل لعل الله أن يمن بكتابتها - خصوصاً ما يتعلق بالقراءات - والله الموفق

[1/3]
((قُرِئَ عَلَى أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ فِي سَنَةِ سِتٍّ وَثَلَاثِمِائَةٍ)) .
التعليق: نستفيد من هذه العبارة أن ابن جرير ابتدأ بإملاء الكتاب قبل هذا التاريخ بسنوات، ثم قرئ عليه سنة ست وثلاثمائة .
وليس هناك ما يثبت من خلال المخطوطات كم قرئ عليه من هذا الكتاب .
ومن المعلوم أن ابن جرير له محطات مع هذا الكتاب فكان له إملاء قديم، ثم تأليف الكتاب، ثم قرئ عليه الكتاب .
* من المهمات لفهم هذا التفسير، معرفة القراءة التي يقرأ بها ابن جرير، وراجع للأهمية، مقالين للدكتور مساعد الطيار، وهما:
1. هل أنكر ابن جرير قراءة متواترة أو ردَّها ؟
2. قراءة حفص عن عاصم ليست من مرويات الطبري في القراءات .

[1/6]
قال الطبري: ((اللَّهُمَّ فَوَفِّقْنَا لِإِصَابَةِ صَوَابِ الْقَوْلِ فِي مُحْكَمِهِ وَمُتَشَابِهِهِ، وَحَلَالِهِ وَحَرَامِهِ، وَعَامِّهِ وَخَاصِّهِ، وَمُجْمَلِهِ وَمُفَسَّرِهِ، وَنَاسِخِهِ وَمَنْسُوخِهِ، وَظَاهِرِهِ وَبَاطِنِهِ، وَتَأْوِيلِ آيِهِ، وَتَفْسِيرِ مُشْكِلِهِ...)) .
التعليق: ذكر الطبري متقابلات، فقابل بين:
1. مُحْكَمِهِ وَمُتَشَابِهِهِ،
2. وَحَلَالِهِ وَحَرَامِهِ،
3. وَعَامِّهِ وَخَاصِّهِ،
4. وَمُجْمَلِهِ وَمُفَسَّرِهِ،
5. وَنَاسِخِهِ وَمَنْسُوخِهِ،
6. وَظَاهِرِهِ وَبَاطِنِهِ .
وهذا لا إشكال فيه، والإشكال في مقابلة 7. التأويل بالتفسير .
فقوله: وَتَأْوِيلِ آيِهِ، وَتَفْسِيرِ مُشْكِلِهِ، محتمل لأن يكون مراده المخالفة بين التأويل والتفسير، ومحتمل لأن يكون المراد أن التأويل عام والتفسير خاص، وأن ما يحتاج إلى فك وتحليل (المشكل) فإنه يعتبره من باب التفسير، فيكون أقرب إلى تنويع العبارة، من كونه من باب المتقابلات .
ولا تزال هذه العبارة محلًا للنظر .
ومن خلال تتبع الكتاب نجد أن مصطلح التأويل مساوٍ لمصطلح التفسير .

[1/7]
قال الطبري: ((وَنَحْنُ فِي شَرْحِ تَأْوِيلِهِ، وَبَيَانِ مَا فِيهِ مِنْ مَعَانِيهِ: مُنْشِئُونَ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ ذَلِكَ - كِتَابًا مُسْتَوْعِبًا لِكُلِّ مَا بِالنَّاسِ إِلَيْهِ الْحَاجَةُ مِنْ عِلْمِهِ جَامِعًا، وَمِنْ سَائِرِ الْكُتُبِ غَيْرِهِ فِي ذَلِكَ كَافِيًا، وَمُخْبِرُونَ فِي كُلِّ ذَلِكَ بِمَا انْتَهَى إِلَيْنَا مِنَ اتِّفَاقِ الْحُجَّةِ فِيمَا اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ الْأُمَّةُ، وَاخْتِلَافِهَا فِيمَا اخْتَلَفَتْ فِيهِ مِنْهُ، وَمُبَيِّنُو عِلَلِ كُلِّ مَذْهَبٍ مِنْ مَذَاهِبِهِمْ، وَمُوَضِّحُو الصَّحِيحِ لَدَيْنَا مِنْ ذَلِكَ، بِأَوْجَزِ مَا أَمْكَنَ مِنَ الْإِيجَازِ فِي ذَلِكَ، وَأَخْصَرِ مَا أَمْكَنَ مِنَ الِاخْتِصَارِ فِيهِ.)) .
التعليق: هذه الأسطر يبين فيها الطبري عن منهجه، وقد غفل كثير ممن كتب في منهج الطبري رحمه الله عن هذه الأسطر، والسبب هو النظر إلى عنايته بسرد الأسانيد، والغفلة عن تحليل مقدمة الكتاب .
ومن هنا أقول: إن من أهم ما يعتني به من يريد الحديث عن مناهج المفسرين = تحليل مقدمات الكتب، وهذا في أي علم من العلوم غالبًا، وبه يتبين منه منهج المؤلف .
وهو يبين أن كتابه في تبيين معاني القرآن الكريم، وأن ما يذكره في كتابه من العلوم الأخرى فهي لخدمة هذا الغرض، وليس المقصود استيعاب هذا العلم .
فالإعراب - مثلًا - آت لخدمة المعنى .
وقوله: كِتَابًا مُسْتَوْعِبًا لِكُلِّ مَا بِالنَّاسِ إِلَيْهِ الْحَاجَةُ مِنْ عِلْمِهِ جَامِعًا، وَمِنْ سَائِرِ الْكُتُبِ غَيْرِهِ فِي ذَلِكَ كَافِيًا .
وهذا منه تنبيه على أن الحاجة في التأليف في علم التفسير، وفي غيره متجددة في كل عصر، وراجع مثلًا سبب تأليف الواحدي لكتبه، ستجد شيئًا من ذلك .
وقوله: وَمُخْبِرُونَ فِي كُلِّ ذَلِكَ بِمَا انْتَهَى إِلَيْنَا مِنَ اتِّفَاقِ الْحُجَّةِ فِيمَا اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ الْأُمَّةُ [4].
الحجة عند الإمام الطبري هم الطبقات الثلاثة:
1. الصحابة .
2. والتابعون .
3. وأتباع التابعين .
وهذا ذكره في المقدمة، وباستقراء الكتاب فإنه لم ينقل عن طبقة تلي أتباع التابعين .
* وقوله: وَمُبَيِّنُو عِلَلِ كُلِّ مَذْهَبٍ مِنْ مَذَاهِبِهِمْ، وَمُوَضِّحُو الصَّحِيحِ لَدَيْنَا مِنْ ذَلِكَ .
وهو من أهم مميزات الكتاب .
* وفي هذه العبارة أيضًا يبين الطبري منزلة الأسانيد عنده، فقضية الأسانيد عنده ليست على قاعدة: من أسند لك فقد أحالك، وهو خطأ محض .
وباستقراء التفسير فإنه لم يتكلم على الأسانيد إلا في قرابة (30 - 40) إسناد .
فرواية العوفي، أو علي بن أبي طلحة، أو الضحاك أو غيرهم، فهو يذكرها، وهو على ذكر بما فيها من مشكلات تتعلق بالإسناد، لكن الفكرة هنا: أن تعامل الأئمة مع الأسانيد مختلف عن تعامل المعاصرين .
وكيف يروم شخص أن يرمي الأئمة بالتساهل، ولا يقف مع منهج الأئمة عبر القرون في التعامل مع هذه الأسانيد ؟!!
فالطبري رحمه الله وهو منهج المتقدمين من العلماء جميعًا كانوا يعتمدون في إثبات المعاني على مثل هذه الأسانيد .

[1/8 - 12]
قال الطبري: ((وَإِنَّ أَوَّلَ مَا نَبْدَأُ بِهِ مِنَ الْقِيلِ فِي ذَلِكَ، الْإِبَانَةُ عَنِ الْأَسْبَابِ الَّتِي الْبِدَايَةُ بِهَا أَوْلَى، وَتَقْدِيمُهَا قَبْلَ مَا عَدَاهَا أَحْرَى، وَذَلِكَ الْبَيَانُ عَمَّا فِي آيِ الْقُرْآنِ مِنَ الْمَعَانِي، الَّتِي مِنْ قِبَلِهَا يَدْخُلُ اللَّبْسُ عَلَى مَنْ لَمْ يُعَانِ رِيَاضَةَ الْعُلُومِ الْعَرَبِيَّةِ، وَلَمْ تَسْتَحْكِمْ مَعْرِفَتُهُ بِتَصَارِيفِ وُجُوهِ مَنْطِقِ الْأَلْسُنِ السَّلِيقِيَّةِ الطَّبِيعِيَّةِ.
الْقَوْلُ فِي الْبَيَانِ عَنِ اتِّفَاقِ مَعَانِي آيِ الْقُرْآنِ وَمَعَانِي مَنْطِقِ مَنْ نَزَلَ بِلِسَانِهِ مِنْ وَجْهِ الْبَيَانِ وَالدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مِنَ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ هُوَ الْحِكْمَةُ الْبَالِغَةُ، مَعَ الْإِبَانَةِ عَنْ فَضْلِ الْمَعْنَى الَّذِي بِهِ بَايَنَ الْقُرْآنُ سَائِرَ الْكَلَامِ.)) .
التعليق: يشير هنا إلى أهمية علوم العربية لمن يريد تفسير القرآن، ثم ذكر الفصل الأول، وفيه قضايا كثيرة من أهمها قوله، [1/12]:
((فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ؛ فَبَيِّنٌ - إِذْ كَانَ مَوْجُودًا فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الْإِيجَازُ وَالِاخْتِصَارُ، وَالِاجْتِزَاءُ بِالْإِخْفَاءِ مِنَ الْإِظْهَارِ، وَبِالْقِلَّةِ مِنَ الْإِكْثَارِ، فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ، وَاسْتِعْمَالُ الْإِطَالَةِ وَالْإِكْثَارِ، وَالتَّرْدَادِ وَالتَّكْرَارِ، وَإِظْهَارُ الْمَعَانِي بِالْأَسْمَاءِ دُونَ الْكِنَايَةِ عَنْهَا، وَالْإِسْرَارُ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، وَالْخَبَرُ عَنِ الْخَاصِّ فِي الْمُرَادِ بِالْعَامِّ الظَّاهِرِ، وَعَنِ الْعَامِّ فِي الْمُرَادِ بِالْخَاصِّ الظَّاهِرِ، وَعَنِ الْكِنَايَةِ وَالْمُرَادُ مِنْهُ الْمُصَرَّحُ، وَعَنِ الصِّفَةِ وَالْمُرَادُ الْمَوْصُوفُ، وَعَنِ الْمَوْصُوفِ وَالْمُرَادُ الصِّفَةُ، وَتَقْدِيمُ مَا هُوَ فِي الْمَعْنَى مُؤَخَّرٌ، وَتَأْخِيرُ مَا هُوَ فِي الْمَعْنَى مُقَدَّمٌ، وَالِاكْتِفَاءُ بِبَعْضٍ مِنْ بَعْضٍ، وَبِمَا يَظْهَرُ عَمَّا يُحْذَفُ، وَإِظْهَارُ مَا حَظُّهُ الْحَذْفُ - أَنْ يَكُونَ مَا فِي كِتَابِ اللَّهِ الْمُنَزَّلِ عَلَى نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ذَلِكَ فِي كُلِّ ذَلِكَ لَهُ نَظِيرًا، وَلَهُ مِثْلًا وَشَبِيهًا.)) .
التعليق:
ذكر مجموعة من علوم العربية، بعضها يدخل في علم اللغة، وبعضها يدخل في علم البلاغة .
وكلها لها ارتباط - غالبًا - بالمعاني .
والفصل قائم أن ما في القرآن موجود في كلام العرب، لكنه أكثر تميزًا، وهذا في قوله:
((وَإِذَا كَانَتْ وَاضِحَةً صِحَّةُ مَا قُلْنَا، بِمَا عَلَيْهِ اسْتَشْهَدْنَا مِنَ الشَّوَاهِدِ وَدَلَّلْنَا عَلَيْهِ مِنَ الدَّلَائِلِ، فَالْوَاجِبُ أَنْ تَكُونَ مَعَانِي كِتَابِ اللَّهِ الْمُنَزَّلِ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِمَعَانِي كَلَامِ الْعَرَبِ مُوَافِقَةً، وَظَاهِرُهُ لِظَاهِرِ كَلَامِهَا مُلَائِمًا، وَإِنْ بَايَنَهُ كِتَابُ اللَّهِ بِالْفَضِيلَةِ الَّتِي فَضَلَ بِهَا سَائِرَ الْكَلَامِ وَالْبَيَانِ بِمَا قَدْ تَقَدَّمَ وَصْفُنَاه[5].)) .
فهو يقول أن كل ما في القرآن من كلام العرب، لكن الفضل بين القرآن وبين سائر كلام العرب، كالفضل بين الخالق والمخلوق، إذ القرآن كلام الله .
وقد تكلم بعد هذا عن المعرب (أعجمي القرآن) .

[1/13 - 17]
قال الطبري: ((الْقَوْلُ فِي الْبَيَانِ عَنِ الْأَحْرُفِ الَّتِي اتَّفَقَتْ فِيهَا أَلْفَاظُ الْعَرَبِ وَأَلْفَاظُ غَيْرِهَا مِنْ بَعْضِ أَجْنَاسِ الْأُمَمِ)).
التعليق:
قرر الطبري في الفصل الذي سبقه أن القرآن عربي، وأشار إلى رأيه في هذه المسألة (أعجمي القرآن)، بقوله: اتَّفَقَتْ فِيهَا أَلْفَاظُ الْعَرَبِ وَأَلْفَاظُ غَيْرِهَا مِنْ بَعْضِ أَجْنَاسِ الْأُمَمِ[6] .
نص الطبري إلى دليل منطقي بقوله: ((وَذَلِكَ هُوَ مَعْنَى مَنْ رَوَيْنَا عَنْهُ الْقَوْلَ فِي الْأَحْرُفِ الَّتِي مَضَتْ فِي صَدْرِ هَذَا الْبَابِ، مِنْ نِسْبَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضَ ذَلِكَ إِلَى لِسَانِ الْحَبَشَةِ، وَنَسَبَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضَ ذَلِكَ إِلَى لِسَانِ الْفُرْسِ، وَنَسَبَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضَ ذَلِكَ إِلَى لِسَانِ الرُّومِ، لِأَنَّ مَنْ نَسَبَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ إِلَى مَا نَسَبَهُ إِلَيْهِ، لَمْ يَنْفِ بِنِسْبَتِهِ إِيَّاهُ إِلَى مَا نَسَبُهُ إِلَيْهِ، أَنْ يَكُونَ عَرَبِيًّا، وَلَا مَنْ قَالَ مِنْهُمْ: هُوَ عَرَبِيٌّ نَفَى ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مُسْتَحِقًّا النِّسْبَةَ إِلَى مَنْ هُوَ مِنْ كَلَامِهِ مِنْ سَائِرِ أَجْنَاسِ الْأُمَمِ غَيْرِهَا، وَإِنَّمَا يَكُونُ الْإِثْبَاتُ دَلِيلًا عَلَى النَّفْيِ فِيمَا لَا يَجُوزُ اجْتِمَاعُهُ مِنَ الْمَعَانِي كَقَوْلِ الْقَائِلِ: فُلَانٌ قَائِمٌ، فَيَكُونُ بِذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ دَالًا عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ قَاعِدٍ، وَنَحْوَ ذَلِكَ، مِمَّا يَمْتَنِعُ اجْتِمَاعُهُ لِتَنَافِيهِمَا. فَأَمَّا مَا جَازَ اجْتِمَاعُهُ، فَهُوَ خَارِجٌ مِنَ الْمَعْنَى، وَذَلِكَ كَقَوْلِ الْقَائِلِ: فُلَانٌ قَائِمٌ مُكَلَّمٌ فُلَانًا، فَلَيْسَ فِي تَثْبِيتِ الْقِيَامِ لَهُ مَا دَلَّ عَلَى نَفْيِ كَلَامٍ آخَرَ لِجَوَازِ اجْتِمَاعِ ذَلِكَ فِي حَالٍ وَاحِدٍ، مِنْ شَخْصٍ وَاحِدٍ، فَقَائِلُ ذَلِكَ صَادِقٌ، إِذَا كَانَ صَاحِبُهُ عَلَى مَا وَصَفَهُ بِهِ. فَكَذَلِكَ مَا قُلْنَا فِي الْأَحْرُفِ الَّتِي ذَكَرْنَا وَمَا أَشْبَهَهَا غَيْرُ مُسْتَحِيلٍ أَنْ يَكُونَ عَرَبِيًّا بَعْضَهَا أَعْجَمِيًّا، وَحَبَشِيًّا بَعْضَهَا عَرَبِيًّا، إِذْ كَانَ مَوْجُودًا اسْتِعْمَالُ ذَلِكَ فِي كِلْتَا الْأُمَّتَيْنِ، فَنَاسِبُ مَا نَسَبَ مِنْ ذَلِكَ إِلَى إِحْدَى الْأُمَّتَيْنِ، أَوْ كِلْتَيْهِمَا، مُحِقٌّ غَيْرُ مُبْطِلٍ.)) .
فقال: أن من ذكر من السلف أن اللفظ حبشي - مثلًا - لم ينف كونه عربيًا، والعكس .
وذكر قاعدة مهمة، وهي: متى يجوز أن يكون الإثبات دليلًا على النفي ؟
والجواب: في المتضادات، أو المتناقضات .
وذلك قوله: وَإِنَّمَا يَكُونُ الْإِثْبَاتُ دَلِيلًا عَلَى النَّفْيِ فِيمَا لَا يَجُوزُ اجْتِمَاعُهُ مِنَ الْمَعَانِي كَقَوْلِ الْقَائِلِ: فُلَانٌ قَائِمٌ، فَيَكُونُ بِذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ دَالًا عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ قَاعِدٍ، وَنَحْوَ ذَلِكَ، مِمَّا يَمْتَنِعُ اجْتِمَاعُهُ لِتَنَافِيهِمَا. فَأَمَّا مَا جَازَ اجْتِمَاعُهُ، فَهُوَ خَارِجٌ مِنَ الْمَعْنَى، وَذَلِكَ كَقَوْلِ الْقَائِلِ: فُلَانٌ قَائِمٌ مُكَلَّمٌ فُلَانًا، فَلَيْسَ فِي تَثْبِيتِ الْقِيَامِ لَهُ مَا دَلَّ عَلَى نَفْيِ كَلَامٍ آخَرَ لِجَوَازِ اجْتِمَاعِ ذَلِكَ فِي حَالٍ وَاحِدٍ، مِنْ شَخْصٍ وَاحِدٍ، فَقَائِلُ ذَلِكَ صَادِقٌ، إِذَا كَانَ صَاحِبُهُ عَلَى مَا وَصَفَهُ بِهِ... الخ .

[1/20 - 62]
قال الطبري: الْقَوْلُ فِي اللُّغَةِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ مِنْ لُغَاتِ الْعَرَبِ .
التعليق:
ذكر الطبري هنا خبر الأحرف السبعة، وأطال في ذلك[7] .
قال الطبري: ((قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: صَحَّ وَثَبَتَ، أَنَّ الَّذِيَ نَزَلَ بِهِ الْقُرْآنُ مِنْ أَلْسُنِ الْعَرَبِ، الْبَعْضُ مِنْهَا دُونَ الْجَمِيعِ، إِذْ كَانَ مَعْلُومًا أَنْ أَلْسُنَتَهَا وَلُغَاتَهَا أَكْثَرُ مِنْ سَبْعَةٍ، بِمَا يَعْجَزُ عَنْ إِحْصَائِهِ.))[1/40] .
فمذهب الطبري: أن الأحرف السبع هي لغات سبعة، كقول القائل: أقبل وهلم وتعال .
وهو يرى أن الأحرف شيء والقراءات شيء آخر .
ويرى أنها شيء والقرآن شيء آخر .
فهناك ثلاث قضايا متغايرة: (الأحرف - القرآن - القراءات) .
قال الطبري: ((فَقِيلَ لَهُ: لَيْسَ الْقَوْلُ فِي ذَلِكَ بِوَاحِدٍ مِنَ الْوَجْهَيْنِ اللَّذَيْنِ وَصَفْتَ، بَلِ الْأَحْرُفُ السَّبْعَةُ الَّتِي أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا الْقُرْآنَ هُنَّ لُغَاتٌ سَبْعٌ فِي حَرْفٍ وَاحِدٍ وَكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ، بِاخْتِلَافِ الْأَلْفَاظِ وَاتِّفَاقِ الْمَعَانِي، كَقَوْلِ الْقَائِلِ: هَلُمَّ، وَأَقْبِلْ، وَتَعَالَ، وَإِلَيَّ، وَقَصْدِي، وَنَحْوِي، وَقُرْبِي، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا تَخْتَلِفُ فِيهِ الْأَلْفَاظُ، بِضُرُوبٍ مِنَ الْمَنْطِقِ، وَتَتَّفِقُ فِيهِ الْمَعَانِي، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ بِالْبَيَانِ بِهِ الْأَلْسُنُ، كَالَّذِي رَوَيْنَا آنِفًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَمَّنْ رَوَيْنَا ذَلِكَ عَنْهُ مِنَ الصَّحَابَةِ، أَنَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِكَ: هَلُمَّ، وَتَعَالَ، وَأَقْبِلْ، وَقَوْلُهُ: «مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا زَقْيَةً» ، وَ {إِلَّا صَيْحَةً} [يس: 29] .)) [1/49] .
التعليق: وعليه فيمكن القول أن الأحرف السبعة عنده كباب الترادف عند علماء اللغة .
وذكر اعتراض، فقال: فَإِنْ قَالَ: فَفِي أَيِّ كِتَابِ اللَّهِ نَجِدُ حَرْفًا وَاحِدًا مَقْرُوءًا بِلُغَاتٍ سَبْعٍ مُخْتَلِفَاتِ الْأَلْفَاظِ مُتَّفِقَاتِ الْمَعْنَى، فَنُسَلِّمُ لَكَ بِصِحَّةِ مَا ادَّعَيْتَ مِنَ التَّأْوِيلِ فِي ذَلِكَ؟ قِيلَ: إِنَّا لَمُ نَدَّعِ أَنَّ ذَلِكَ مَوْجُودٌ الْيَوْمَ، وَإِنَّمَا أُخْبِرْنَا أَنَّ مَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ» ، عَلَى نَحْوِ مَا جَاءَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ الَّتِي تَقَدَّمَ وَذَكَرْنَاهَا، هُوَ مَا وَصَفْنَا دُونَ مَا ادَّعَاهُ مُخَالِفُونَا فِي ذَلِكَ لِلْعِلَلِ الَّتِي قَدْ بَيَّنَّا. [1/52 - 53] .
وقال الطبري: فَإِنْ قَالَ: فَمَا بَالُ الْأَحْرُفِ الْأُخَرِ السِّتَّةِ غَيْرُ مَوْجُودَةٍ، إِنْ كَانَ الْأَمْرُ فِي ذَلِكَ عَلَى مَا وَصَفْتَ، وَقَدْ أَقْرَأَهُنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ، وَأَمَرَ بِالْقِرَاءَةِ بِهِنَّ، وَأَنْزَلَهُنَّ اللَّهُ مِنْ عِنْدِهِ عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنُسِخَتْ فَرُفِعَتْ؟ فَمَا الدَّلَالَةُ عَلَى نَسْخِهَا وَرَفْعِهَا؟ أَمْ نَسِيَتْهُنَّ الْأُمَّةُ؟ فَذَلِكَ تَضْيِيعُ مَا قَدْ أُمِرُوا بِحِفْظِهِ، أَمْ مَا الْقِصَّةُ فِي ذَلِكَ؟
قِيلَ لَهُ: لَمْ تُنْسَخْ فَتُرْفَعْ، وَلَا ضَيَّعَتْهَا الْأُمَّةُ، وَهِيَ مَأْمُورَةٌ بِحِفْظِهَا، وَلَكِنَّ الْأُمَّةَ أُمِرَتْ بِحِفْظِ الْقُرْآنِ وَخُيِّرَتْ فِي قِرَاءَتِهِ وَحَفِظِهِ، بِأَيِّ تِلْكَ الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ شَاءَتْ، كَمَا أُمِرَتْ إِذَا هِيَ حَنَّثَتْ فِي يَمِينٍ وَهِيَ مُوسِرَةٌ أَنْ تُكَفِّرَ بِأَيِّ الْكَفَّارَاتِ الثَّلَاثِ شَاءَتْ: إِمَّا بِعِتْقٍ، أَوْ إِطْعَامٍ، أَوْ كِسْوَةٍ، فَلَوْ أَجْمَعَ جَمِيعُهَا عَلَى التَّكْفِيرِ بِوَاحِدَةٍ مِنَ الْكَفَّارَاتِ الثَّلَاثِ، دُونَ حَظْرِهَا التَّكْفِيرَ بِأَيِّ الثَّلَاثِ شَاءَ الْمُكَفِّرُ، كَانَتْ مُصِيبَةً حُكْمَ اللَّهِ، مُؤَدِّيَةً فِي ذَلِكَ الْوَاجِبَ عَلَيْهَا مِنْ حَقِّ اللَّهِ، فَكَذَلِكَ الْأُمَّةُ أُمِرَتْ بِحِفْظِ الْقُرْآنِ وَقِرَاءَتِهِ، وَخُيِّرَتْ فِي قِرَاءَتِهِ بِأَيِّ الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ شَاءَتْ، فَرَأَتْ لِعِلَّةٍ مِنَ الْعِلَلِ، أَوْجَبَتْ عَلَيْهَا الثَّبَاتَ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ، قِرَاءَتُهُ بِحَرْفٍ وَاحِدٍ، وَرَفْضَ الْقِرَاءَةَ بِالْأَحْرُفِ السِّتَّةِ الْبَاقِيَةِ، وَلَمْ تُحْظَرْ قِرَاءَتُهُ بِجَمِيعِ حُرُوفِهِ عَلَى قَارِئِهِ، بِمَا أُذِنَ لَهُ فِي قِرَاءَتِهِ بِهِ.
التعليق: فهو يرى أن الأحرف لم تنس ولم تنسخ، وإنما تركت، ووازن ذلك بكفارة اليمين، ولا يعلم أحد غير الطبري قال بأن الأمة لها أن تتفق على اختيار، فالمثال قياس مع الفارق .
والمهم:
أن عبارة الطبري متسقة مع تفكيره، وإن كان الرأي الذي ذهب إليه ضعيف .
قال الطبري: فَكَذَلِكَ الْأُمَّةُ أُمِرَتْ بِحِفْظِ الْقُرْآنِ وَقِرَاءَتِهِ، وَخُيِّرَتْ فِي قِرَاءَتِهِ بِأَيِّ الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ شَاءَتْ .
إذًا: فهو يرى أن القرآن غير الأحرف السبعة، وهذه مسألة مهمة تخفى على من يقرأ في كتب المتقدمين[8]، فإنهم يرون أن القرآن هو الموجود ما بين الدفتين، (الذي هو المرسوم) .
فـ(الحمد لله رب العالمين) هذا قرآن، وأما القراءة في الحمد بالنصب أو الرفع = فلا يراها من الأحرف، وإنما يسميها الطبري قراءة .
وهذه تهون علينا معرفة اعتراض بعض الأئمة على بعض القراءات التي يرى من جاء بعده أنها متواترة .
قال الطبري: فَأَمَّا مَا كَانَ مِنَ اخْتِلَافِ الْقِرَاءَةِ، فِي رَفْعِ حَرْفٍ وَجَرِّهِ وَنَصْبِهِ، وَتَسْكِينِ حَرْفٍ وَتَحْرِيكِهِ وَنَقْلِ حَرْفٍ إِلَى آخَرَ، مَعَ اتِّفَاقِ الصُّورَةِ، فَمِنْ مَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُمِرْتُ أَنْ أَقْرَأَ الْقُرْآنَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ» بِمَعْزِلٍ، لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا حَرْفَ مِنْ حُرُوفِ الْقُرْآنِ، مِمَّا اخْتَلَفَتِ الْقِرَاءَةُ فِي قِرَاءَتِهِ بِهَذَا الْمَعْنَى يُوجِبُ الْمِرَاءُ بِهِ كُفْرَ الْمُمَارِي بِهِ فِي قَوْلِ أَحَدٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ. [1/60] .
التعليق:
هنا يبين الطبري - رحمه الله - الممايزة بين (الأحرف السبعة - القراءات - القرآن) .
فالأحرف السبعة عنده بمعنى الترادف .
والقرآن ما بين الدفتين .
وكيف يقرأ القرآن، وقع فيه الخلاف، وهو بمعزل عن الأحرف السبعة، فليست منزَّلة كتنزل الأحرف السبعة، ومن خلال تعامله مع القراءات يتبين ذلك وأن ثبوتها عنده ليست يقينية، لأنه صاحب آثار، ويقف عند النص، فكيف يعترض عليها، وقد ثبتت[9] ؟!


___ ___
(*) سيتم رفع المادة الصوتية قريبًا بالموقع، مرفقًا به هذه الفوائد، وحتى ذلك يمكن الاستماع للمحاضرة، على هذا الرابط .
(1) راجع مقال: كيفية التعامل مع أسانيد التفسير، د. مساعد الطيار، واختلاف السلف، د. محمد صالح .
(2) ينظر: تفسير الطبري، ط: الحلبي (1: 41) .
(3) ينظر: تفسير الطبري، ط: الحلبي (1: 274) .
(4) في نسخة: منه .
(5) قال الشيخ: وَصْفُنَاهُ، وهذا من عبارات الطبري المشكلة .
(6) وهو اختيار أبي عبيد القاسم، وغيره .
(7) (21 - 41) .
(8) كمكي والداني .
(9) حبذا لو كتبت مقالة في تبين منهج الطبري في القراءات، والأحرف السبعة .
 
قال د. مساعد الطيار - حفظه الله : أن اشتراط التحري في أسانيد التفسير ليس هو المنهج الذي قام عليه منهج المحدثين الذين فرقوا بين أحاديث الحلال والحرام والمرفوعات وغيرها، بل لقد نصوا على قبول الروايات التفسيرية على ما فيها من ضعف، وعمل المحدثين والمفسرين على هذا . ا.هـ .
أين أجد هذا التنصيص فقد تعبت عليه .. والقول بأن عمل المحدثين والمفسرين هكذا بالعموم كلام مرسل يحتاج إلى التدليل عليه ، وقد أشرت في بحث سابق عن ( منهج ابن كثير في تناول الروايات غير المرفوعة ) إلى ذلك ، وأنهيت البحث بأن قاعدة المحدثين ( من أسند لك فقد أحالك ) هي قاعدة عامة لا تحتاج إلى تنصيص المؤلف على أنه استخدم هذه القاعدة في منهجه .
أرجو من فضيلة الدكتور مساعد موافاتي بمواضع التنصيص ، والرد على الملاحظة الثانية ، مع قبول تحياتي .
 
الأخ الكريم / عمرو الشرقاوي
هي مقالة واحدة كتبها الدكتور مساعد قديمًا ( 1424 هـ ) بموقع أهل التفسير ، وأعادها بعنوان آخر على موقعه ( 1434 هـ ) ؛ وليس فيها إجابة عن ( نصوا على قبول الروايات التفسيرية على ما فيها من ضعف ، وعمل المحدثين والمفسرين على هذا )
وقول المحدثين : يكتب حديثه في كذا ، لا يعني أن القول مقبول ؛ ولا يعني أنهم قالوا : تساهلوا في كذا أنهم عملوا به على إطلاقه ، كما يفهم من سياق الكلام ، ولذا انتقد كثير من المفسرين والمحدثين من سبقهم في ذلك ، وها هنا بعض الأمور التي أصبحت كالمسلمة عند أهل العلم بالرواية ، وهي :
1 – أن السابقين من المصنفين في التفسير بالمنقول كانت عادتهم الجمع والإسناد ، ومن أسند فقد أحالك ، فمن أراد أن يبحث عن صحة النقل فأمامه الإسناد ينظر فيه .
2 – أنه قد يكون في الرواية إسناد صحيح بمعنى صحيح لبعض السلف ، وتأتي روايات أخرى لغيره وفي إسنادها ضعف ؛ فيعتمد المفسر في النقل صحة المتن لا صحة الإسناد ، ويذكر هذا على أنه قول لقائله ، لوجود القول الأول الصحيح .
3 – قد لا يكون في المنقول إلا ما هو ضعيف الإسناد ، وليس في تفسير الآية غيره ، فيثبته المفسر لعدم وجود غيره ... ثم إن كان المعنى صحيحًا اعتبره ، وإن كان ليس صحيحًا ردَّه ، أو سكت عنه .
4 – قد يختار بعض المفسرين قولا يصححه وإن كانت الرواية له ضعيفة ، ولكن تصحيحه باعتبار آخر ، ربما لصحة اللغة فيه ، أو قرائن من المناسبة في الآية ، أو تكون الآية تتحدث عن واقعة في السيرة ... أو غير ذلك .... والعلم عند الله تعالى .
 
الأخ الكريم / عمرو الشرقاوي
رأيت اليوم أنك أضفت إشارة إلى مقال ( تعليقات الشيخ عبد الله الجديع على مقال أسانيد التفسير للدكتور مساعد الطيار ) ، وهي تعليقات مفيدة ، وتؤيد ما ذكرته في تعليقي ؛ فجزاه الله خيرًا ، وجزاك والدكتور صفوت مثله .. إنه جواد كريم .
وأنا أنقل ها هنا مقالي الأخير في الدراسة التي أشرت إليها رجاء الفائدة :
من أسند لك فقد أحالك​
( من أسند لك فقد أحالك ... من أسند فقد أحال ... من أسند فقد برئت ذمته ... من أسند فقد برئت عهدته ... من أسند فقد أحال ، ومن أحال فقد برئ ) عبارات مختلفة الألفاظ متفقة المعنى ، يقولها أهل الحديث إعذارًا للسابقين من المصنفين الذين جمعوا الروايات فكان فيها الصحيح والحسن ودون ذلك ؛ والمعنى : من أسند فقد برئت ذمته ، وإنما على المحقق أن يتبين صحة تلك المرويات بعد دراسة أسانيدها .
قال الألباني - رحمه الله - في تحقيقه لكتاب ( اقتضاء العلم العمل ، ص 4 ) : إن القاعدة عند علماء الحديث أن المحدث إذا ساق الحديث بسنده ، فقد برئت عهدته منه ، ولا مسؤولية عليه في روايته ، ما دام قد قرن معه الوسيلة التي تُمكِّن العالم من معرفة ما إذا كان الحديث صحيحًا أو غير صحيح ، ألا وهي الإسناد .ا.هـ.
وأول من ذكر هذه القاعدة في كتاب – فيما وقفت عليه – حافظ المغرب أبو عمر ابن عبد البر ( ت : 463 هـ ) – رحمه الله – قال في ( التمهيد : 1 / 3 ) : وقالت طائفة من أصحابنا : مراسيل الثقات أولى من المسندات ؛ واعتلوا بأن ( من أسند لك فقد أحالك ) على البحث عن أحوال من سماه لك ؛ ومن أرسل من الأئمة حديثًا مع علمه ودينه وثقته فقد قطع لك على صحته وكفاك النظر .ا.هـ .
وهذا يدل على أن العبارة كانت مستخدمة قبله – رحمه الله ؛ فهي قاعدة في الإسناد قديمة ؛ وقد استعملها العلماء في كتبهم إما بلفظها أو بمعناها ، وجاء - أيضًا - عنهم ما يدل على نقدهم لمرويات التفسير ، وإعذار من يروي بالإسناد ، فمن ذلك ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله : فالموجود من كتب الرقائق والتصوف ، فيها الصحيح ، وفيها الضعيف ، وفيها الموضوع ؛ وهذا أمر متفق عليه بين جميع المسلمين ، لا يتنازعون في أن هذه الكتب فيها هذا ، وفيها هذا ، بل نفس الكتب المصنفة في الحديث والآثار ، فيها هذا وهذا ، وكذلك الكتب المصنفة في التفسير ، فيها هذا وهذا ، مع أن أهل الحديث أقرب إلى معرفة المنقولات ، وفي كتبهم هذا وهذا ، فكيف غيرهم ؟
والمصنفون قد يكونون أئمة في الفقه ، أو التصوف ، أو الحديث ، ويروون هذا تارة ، لأنهم لم يعلموا أنه كذب ، وهو الغالب على أهل الدين ، فإنهم لا يحتجون بما يعلمون أنه كذب ، وتارة يذكرونه وإن علموا أنه كذب ، إذ قصدهم رواية ما رُوي في ذلك الباب .
ورواية الأحاديث المكذوبة ، مع بيان أنها كذب ، جائز ، وأما روايتها - مع الإمساك عن ذلك - رواية عمل فإنه حرام عند العلماء ، كما ثبت في الصحيح عن النبي  أنه قال : " من حدث عني حديثًا وهو يرى أنه كذب ، فهو أحد الكاذبين " ؛ وقد فعل ذلك كثير من العلماء متأولين أنهم لم يكذبوا ، وإنما نقلوا ما رواه غيرهم ، وهذا يسهل إذ رووه ليعرف أنه رُوي ، لا لأجل العمل به والاعتماد عليه ( 1 ) .
وقال - أيضًا : وما يرويه أبو بكر الخطيب ، وأبو الفضل بن ناصر ، وأبو موسى المديني ، وأبو القاسم ابن عساكر ، والحافظ عبد الغني ، وأمثالهم ممن لهم معرفة بالحديث ، فإنهم كثيرًا ما يروون في تصانيفهم ما رُوي مطلقًا على عادتهم الجارية ؛ ليعرف ما رُوي في ذلك الباب ، لا ليحتج بكل ما رُوي ، وقد يتكلم أحدهم على الحديث ، ويقول : غريب ، ومنكر ، وضعيف ، وقد لا يتكلم ( 2 ) .
وقال الحافظ ابن حجر – رحمه الله - وهو يترجم للطبراني : وقد عاب عليه إسماعيل بن محمد بن الفضل التيمي جمعه لأحاديث الأفراد مع ما فيها من النكارة الشديدة والموضوعات ، وفي بعضها القدح في كثير من القدماء من الصحابة وغيرهم ؛ وهذا أمر لا يختص به الطبراني ، فلا معنى لإفراده باللوم ؛ بل أكثر المحدثين في الأعصار الماضية - من سنة مائتين وهلمَّ جرَّا - إذا ساقوا الحديث بإسناده اعتقدوا أنهم برئوا من عهدته ؛ والله اعلم ( 3 ) .
وقال الحافظ العراقي – رحمه الله - بعد أن ذكر حديثًا باطلاً طويلًا روي عن أُبي بن كعب  في فضائل القرآن سورةً سورة : وكل من أودع حديث أُبي المذكور في تفسيره ، كالواحدي ، والثعلبي ، والزمخشري ، مخطئ في ذلك ، لكن من أبرز إسناده منهم ، كالثعلبي والواحدي ، فهو أبسط لعذره ؛ إذ أحال ناظره على الكشف عن سنده ، وإن كان لا يجوز له السكوت عليه من غير بيانه ، وأما من لم يُبرز سنده ، وأورده بصيغة الجزم ، فخطؤه أفحش كالزمخشري .
قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله - معلقًا على كلام شيخه العراقي : قلت : والاكتفاء بالحوالة على النظر في الإسناد ، طريقة معروفة لكثير من المحدثين ، وعليها ما صدر من كثير منهم ، من إيراد الأحاديث الساقطة معرضين عن بيانها صريحًا ، وقد وقع هذا لجماعة من كبار الأئمة ، وكان ذكر الإسناد عندهم من جملة البيان ( 4 ) .
أحسب أنه بعد هذه النقول قد استبان أمر هذه القاعدة ، وأنها مطردة في الإسناد ، ولا يرد باستعمالها طعن على الأولين ؛ بل فيها دفاع عنهم وإعذار لهم .
ولهذا قال الأستاذ محمود شاكر – رحمه الله - دفاعا عن الطبري – رحمه الله - واعتذارًا عنه :
( تذكرة ) : تبين لي مما راجعته من كلام الطبري ، أن استدلال الطبري بهذه الآثار التي يرويها بأسانيدها ، لا يراد به إلا تحقيق معنى لفظ ، أو بيان سياق عبارة ؛ فهو قد ساق هنا الآثار التي رواها بإسنادها ليدل على معنى ( الخليفة ) ، و ( الخلافة ) ، وكيف اختلف المفسرون من الأولين في معنى ( الخليفة ) . وجعل استدلاله بهذه الآثار ، كاستدلال المستدل بالشعر على معنى لفظ في كتاب الله ؛ وهذا بين في الفقرة التالية للأثر رقم : 605 ، إذ ذكر ما روي عن ابن مسعود وابن عباس ، وما روي عن الحسن في بيان معنى ( الخليفة ) ، واستظهر ما يدل عليه كلام كل منهم . ومن أجل هذا الاستدلال ، لم يبال بما في الإسناد من وهن لا يرتضيه . ودليل ذلك أن الطبري نفسه قال في إسناد الأثر : 465 عن ابن مسعود وابن عباس ، فيما مضى ص : 353 : ( فإن كان ذلك صحيحًا ، ولست أعلمه صحيحًا ، إذ كنت بإسناده مرتابًا . . ) ، فهو مع ارتيابه في هذا الإسناد ، قد ساق الأثر للدلالة على معنى اللفظ وحده ، فيما فهمه ابن مسعود وابن عباس -إن صح عنهما- أو ما فهمه الرواة الأقدمون من معناه . وهذا مذهب لا بأس به في الاستدلال .
ومثله - أيضًا - ما يسوقه من الأخبار والآثار التي لا يشك في ضعفها ، أو في كونها من الإسرائيليات ، فهو لم يسقها لتكون مهيمنة على تفسير آي التنزيل الكريم ، بل يسوق الطويل الطويل ، لبيان معنى لفظ ، أو سياق حادثة ، وإن كان الأثر نفسه مما لا تقوم به الحجة في الدين ، ولا في التفسير التام لآي كتاب الله .
فاستدلال الطبري بما ينكره المنكرون ، لم يكن إلا استظهارًا للمعاني التي تدل عليها ألفاظ هذا الكتاب الكريم ، كما يستظهر بالشعر على معانيها ؛ فهو إذن استدلال يكاد يكون لغويًّا ، ولما لم يكن مستنكرًا أن يستدل بالشعر الذي كذب قائله ، ما صحت لغته ؛ فليس بمستنكر أن تساق الآثار التي لا يرتضيها أهل الحديث ، والتي لا تقوم بها الحجة في الدين ، للدلالة على المعنى المفهوم من صريح لفظ القرآن ، وكيف فهمه الأوائل - سواء كانوا من الصحابة أو من دونهم .
وأرجو أن تكون هذه تذكرة تنفع قارئ كتاب الطبري ، إذا ما انتهى إلى شيء مما عده أهل علم الحديث من الغريب والمنكر ؛ ولم يقصر أخي السيد أحمد شاكر في بيان درجة رجال الطبري عند أهل العلم بالرجال ، وفي هذا مقنع لمن أراد أن يعرف علم الأقدمين على وجهه ، والحمد لله أولا وآخرًا .ا.هـ ( 5 ) .
وقال د. محمد الذهبي – رحمه الله – في ( التفسير والمفسرون ) : ثم إن ابن جرير وإن التزم في تفسيره ذكر الروايات بأسانيدها ، إلا أنه في الأعم الأغلب لا يتعقب الأسانيد بتصحيح ولا تضعيف ، لأنه كان يرى - كما هو مقرر في أصول الحديث - أنَّ مَن أسند لك فقد حمَّلك البحث عن رجال السند ، ومعرفة مبلغهم من العدالة أو الجرح ، فهو بعمله هذا قد خرج من العهدة ، ومع ذلك فابن جرير يقف من السند أحيانًا موقف الناقد البصير ، فيُعَدِّل مَنْ يُعَدِّل من رجال الإسناد ، ويُجرِّح مَنْ يُجَرِّح منهم ، ويرد الرواية التي لا يثق بصحتها ، ويُصرِّح برأيه فيها بما يناسبها ... ثم ذكر مثالا لذلك عند تفسيره للآية ( 94 ) من سورة الكهف ( 6 ) .
وبنحو هذا قال د. نور الدين عتر في ( علوم القرآن الكريم ) : ويمتاز عمل ابن جرير في التفسير بالمأثور أنه يورد الروايات بأسانيدها، لكنه وقد التزم هذا الأسلوب لم يلتزم الصحة فيما يورده، كما أنه قلّما يعقّب على الروايات بتصحيح أو تضعيف، وذلك لأنه كان يرى- فيما يبدو- أن من أسند فقد حمَّلك البحث عن رجال السند ودرسه ، وكان عصره عصر العلم بهذا الفن يسهل على طالب العلم معرفة حال الروايات أسانيد ومتونا ، فاعلم ذلك وراعه ( 7 ) .ا.هـ .
وفي مقال له بـ ( مجلة البحوث الإسلامية ) عنوانه : ( التفسير بالأثر والرأي وأشهركتب التفسير فيهما ) قال الدكتور عبد الله بن إبراهيم بن عبد الله الوهيبي : وقد التزم ابن جرير في تفسيره ذكر الروايات بأسانيدها ، إلا أنه في الأعم الأغلب لا يتعقب الأسانيد بتصحيح ولا تضعيف ، لأنه كان يرى كما هو مقرر في أصول الحديث ، أن من أسند لك فقد حملك البحث عن رجال السند ، ومعرفة مبلغهم من العدالة والجرح ، فهو بعمله هذا قد خرج من العهدة ، ومع ذلك فابن جرير يقف أحيانًا من السند موقف الناقد البصير ، فيعدل من يعدل رجال الإسناد ، ويجرح من يجرح منهم ، ويرد الرواية التي لا يثق بصحتها ، ويصرح برأيه فيها بما يناسبها ؛ ( وهذا نقله عن الذهبي كما سبق ) ثم قال : ثم إننا نجد ابن جرير يأتي في تفسيره بأخبار إسرائيلية يرويها بإسناده إلى كعب الأحبار ووهب بن منبه وابن جريج والسدي وغيرهم ، ونراه ينقل عن محمد بن إسحاق كثيرًا مما رواه عن مسلمة النصارى .
وهكذا يكثر ابن جرير من رواية الإسرائيليات ، ولعل هذا راجع إلى ما تأثر به من الروايات التاريخية التي عالجها في بحوثه التاريخية الواسعة .
فعلى الباحث في تفسيره أن يتابع هذه الروايات بالنظر الشامل والنقد الفاحص ، وقد يسر لنا ابن جرير الأمر في ذلك حيث إنه ذكر الإسناد ، وبذلك يكون قد خرج من العهدة . انتهى المراد منه .
وبعد ؛ فقد استبان أمر هذه القاعدة : ( من أسند لك فقد أحالك ) واستعمال العلماء لها ، والمقصد من استعمالها ، وأنها مطردة في الإسناد .

[1]- انظر ( الاستقامة ) : 2 / 67 .

[2]- انظر ( قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة ) : 1 / 131 – تحقيق المدخلي .

[3]- لسان الميزان : 3 / 74 .

[4]- نقلا عن ( توضيح الأفكار ) للأمير الصنعاني : 2 / 62 - الكتب العلمية – تحقيق عويضة .

[5]- انظر حاشية ( تفسير الطبري ) : 1 / 453 – بتحقيق أحمد شاكر ومحمود شاكر رحمهما الله .

[6]- انظر ( التفسير والمفسرون ) : 1 / 197 .

[7]- انظر ( علوم القرآن الكريم ) - نور الدين عتر ، ص 81 .
 
عودة
أعلى