التعليق على الوقف اللازم في قوله تعالى : ( ماذا أراد الله بهذا مثلا )

إنضم
15/04/2003
المشاركات
1,698
مستوى التفاعل
5
النقاط
38
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، أما بعد:
فقد طلب مني بعض الإخوة في هذا الملتقى أن أطرح بعض المسائل التي ناقشتها في رسالة الماجستير ، وكانت بعنوان ( وقوف القرآن وأثرها في التفسير ) ، وقد استحسنت هذه الفكرة ، فرأيت أن أطرح منها ما تيسر.
وسأبدأ هذا الطرح بالتعليق على أول وقف لازم في مصحف المدينة النبوية ، وهو الوقف الوارد في قوله تعالى : (إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ) (البقرة:26).
فأقول مستعينًا بالله :
الوقف اللازم في هذه الآية على قوله تعالى :(مثلاً) الثانية.
فما معنى الكلام بناءً على هذا الوقف ؟
إن لزوم الوقف على قوله تعالى :(مثلاً) يدل على انفصال الجملة من قوله تعالى : ( وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلاً ) عمَّا بعدها، فتمَّ هنا كلام الكفار.
ثم أعقبه الله جل ذكره ببيان فائدة المثل بقوله تعالى : (يضل به كثيراً و يهدي به كثيراً ) ، فهذا من الله ابتداءُ كلامٍ تعقيباً على قولهم ، و رداً عليهم.
وما الإشكال الوارد في الوصل لو وصل القارئ ؟
ولو وصل القارئ قوله تعالى : (وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا يضل به كثيرا و يهدي به كثيرا ) لأوهَمَ أن قوله تعالى : (يضل به كثيراً … ) من تمام قول الكفار .
وقد أورد المفسرون هذين المعنيين السابقين ، و اختار أكثرهـم الوقف على قـوله تعـالى : (مثلاً ) ، وأعلُّوا المعنى الثاني .
قال أبو جعفر الطبري :(يعني بقوله جل و عز : (يضل به كثيراً ) يضل الله به كثيراً من خلقه , و الهاء في (به) من ذكر المثل ، و هذا خبر من الله جل ثناؤه مبتدأ ، و معنى الكلام أن الله يضل بالمثل الذي يضر به كثيراً من أهل النفاق و الكفر )) (1)
ثم استدل لصحة هذا الوقف بما جاء في سورة المدثر من قوله تعالى : ( وليقول الذين في قلوبهم مرض و الكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا كذلك يضل به من يشاء و يهدي من بشاء ) .
قال الطبري : (( وفيما في سورة المدثر من قول الله : ( وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء ) ما ينبئ عن أنه في سورة البقرة كذلك مبتدأ ، أعني قوله : (يضل به كثيراً ) )) (2).
وقد تبع الطبريَّ في الاستدلال بهذه الآية على صحة الوقف في آيه البقرة أبو جعفر النحاس حيث قال : (( والأَولى في هذا ما قاله أبو حاتم ، والدليل على ذلك ... )) (3) . ثم ساق آيه المدثر .
و قال الشوكاني : (( وقوله : ( يضل به كثيراً و يهدي به كثيراً ) هو كالتفسير للجملتين السابقتين المصدرتين بـ(أما) ، فهو خبر من الله سبحانه )) (4).
و قال ابن جزي الكلبي : (( (يضل به ) من كلام الله جواباً للذين قالوا ماذا أراد الله بهذا مثلا ، وهو أيضاً تفسير لما أراد الله بضرب المثل من الهدى والضلال )) (5).
و ممن اختار هذا المعنى : السُّدِّيُّ ، ومقاتل ؛ كما نقل ذلك عنهما ابن الجوزي في تفسيره (6) .
واختاره السجاوندي (7) ، وأبو حيان في تفسيره (8) ، ومن نقلتُ أقوالَهم فيما سبق .
و اختار المعنى الثاني ـ وهو أن يكون الكلام من تمام كلام الكفار ـ : الفــراء (9) وابن قتيبة (10) .
قال الفراء : (( وقوله : (ماذا أراد الله بهذا مثلا يضل به كثيراً و يهدي به كثيراً) ؛ كأنه قال ـ والله أعلم ـ : ماذا أراد الله بهذا بمثل ـ لا يعرفه كل أحد ـ يضل به هذا ويهدي به هذا . قال الله : ( وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ)(البقرة: من الآية26) )) (11).
وقد اعتُرضَ على قول الفراء بما يأتي :
أن الكافرين لا يُقرُّون بأن في القرآن شيئاً من الهداية ، ولا يعترفون على أنفسهم بشيء من الضلالة (12).
و قال أبو حيان ـ مناقشاً لهذا القول ـ : (( واختار بعض المعربين والمفسرين أن يكون قوله تعالى : ( يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً)(البقرة: من الآية26) في موضع الصفة لمثل … فعلى هذا يكون من كلام الذين كفروا ، وهذا الوجه ليس بظاهر ؛ لأن الذي ذكر أن الله لا يستحيي منه هو ضرب مثلٍ ما ؛ أيِّ مثلٍ كان : بعوضة أو ما فوقها ، والذين كفروا إنما سألوا سؤال استهزاء وليسوا معترفين بأن هذا المثل يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً إلا إن ضَمَّن معنى الكلام : إن ذلك على حسب اعتقادكم وزعمكم أيها المؤمنون ، فيمكن ذلك ، ولكن كونه إخباراً من الله تعالى هو الظاهر )) (13).

أقوال علماء الوقف :
اختلف علماء الوقف في الحكم على هذا الموضع على أقوالٍ :
الأول : أنه تام ، وبه قال أبو حاتم ، وأبو جعفر النحاس (14).
الثاني : أنه حسن ، وبه قال أبو العلا الهمذاني (15).
الثالث : أنه لازم ، وهو قول السجاوندي (16).
الرابع : التفصيل بين الكفاية والجواز ، وهو قول الأشموني ، حيث قال : (( كافٍ ، على استئناف ما بعده جواباً من الله للكفار . وإن جُعل من تتمَّةِ الحكاية عنهم كان جائزاً (17) )) (18).
هذا ، وقد سبق ذكر الوجه التفسيري المترجح ، وهو قول الجمهور ، حيث جعلوا قوله تعالى : ( يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً)(البقرة: من الآية26) من قول الله استئنافاً للردِّ على الكفار . وبهذا الوجه يكون الفصل بين الجملتين بالوقف هو المرجَّح ، وهذا يتناسب من حكم عليه بالتمام والكفاية واللزوم .
وكونه كافياً أقرب ؛ لأن الجملة فيها ردٌّ على ما سبق من كلام الكفار ، وبهذا تكون مرتبطة بما قبلها من جهة المعنى ؛ لأن الحديث عن ضرب المثل لم يتمَّ بعد . والعلة التي ذكرها السجاوندي تجعل تخيُّر الوقف على هذا الموضع أولى ، وإن كان كافياً .
أما حكم أبي العلاء الهمذاني عليه بأنه حسن , وكذا ما ذكره الأشموني من أنه إن جعل من تتمه الحكاية عنهم كان جائزاً فهو موافق لاختيار الفراء التفسيري , وقد سبق الرد عليه .
ــــــــــــــ
( ) تفسير الطبري 1 : 181 .
(2) تفسير الطبري 1 : 181 .
(3) القطع والائتناف 129 .
(4) فتح القدير 1 : 57 ، وهو بنصه في فتح البيان ، لصديق خان 1 : 94 ، وانظر : تفسير القرطبي 1 : 209 ، وروح المعاني 1 : 209 .
(5) تفسير ابن جزي 1 : 42 .
(6) زاد المسير 1 : 43 .
(7) علل الوقوف 1 : 89 .
(8) البحر المحيط 1 : 125 .
(9) معاني القرآن 1 : 23 .
(10) انظر : زاد المسير 1 : 43 .
( 1) معاني القرآن 1 : 23 .
(2 ) انظر : فتح القدير 1 : 57 ، وفتح البيان 1 : 94 .
(3 ) البحر المحيط 1 : 125 .
(4 ) انظر : القطع والائتناف 129 .
(5 ) الهادي إلى معرفة المقاطع والمبادي 1 : 44 .
(6 ) علل الوقوف 1 : 89 .
(7 ) قال الأشموني في منار الهدى (ص : 10 ) عن مصطلح الجائز : (( … ثمَّ الأصلح ، وهو الذي يعبر عنه بالجائز )) . ولم يشرح بأكثر من هذا .
(8 ) منار الهدى 37 .
 
جزاك الله خيراً أبا عبدالملك على هذا الموضوع النافع ككل مشاركاتكم وفقكم الله. وجزى الله من أشار عليك بذلك خيراً ، ويا حبذا لو واصلت هذه الوقفات عند الوقوف ، فأكثر منها بارك الله فيك ، فبهذا التطبيق لمسائل علوم القرآن والتجويد يتضح مدى أهميتها وأثرها في التفسير ، وارتباطها به ارتباطاً وثيقاً. وفقك الله ونفع بك أخي الكريم.
 
عودة
أعلى