التطور التاريخي لحركة التفسير (محمد بن جماعة)

إنضم
23/01/2007
المشاركات
1,211
مستوى التفاعل
2
النقاط
38
الإقامة
كندا
الموقع الالكتروني
www.muslimdiversity.net
بسم الله الرحمن الرحيم
التطور التاريخي لحركة التفسير
مرّ تفسير القرآن الكريم (1) في مسيرته التاريخية بأربعة أطوار رئيسية، هي (2): طور التأسيس، وطور التأصيل، وطور التفريع، وطور التجديد. وقد تميز كل طور منها بظروف تاريخية ومزايا منهجية خاصة، نحاول استعراضها في ما يلي.

1- طور التأسيس:
امتد هذا الطور من عهد النبي (صلى الله عليه وسلم) إلى أواخر القرن الثالث للهجرة. فقد بدأت المرحلة التأسيسية لتفسير القرآن في عهد النبي (صلى الله عليه وسلم). وأشار القرآن إلى أن إحدى وظائف النبي (صلى الله عليه وسلم) هي بيان القرآن للناس: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (النحل/44).
ولئن نزل القرآن بلغة العرب وعلى أساليب بلاغتهم والفصيح من كلامهم، فقد كانت الحاجة للبيان النبوي نابعة بالأساس من التفاوت الطبيعي بين الناس في الفهم، حيث كان يندّ عن بعض الصحابة مدلولات بعض الألفاظ، أو المراد ببعض المفردات أو العبارات. وكان الصحابة إذا التبس عليهم فهم آية من الآيات سألوا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عنها، فيوضح لهم ما غمض عليهم فهمه وإدراكه. ومن أمثلة ذلك ما ورد عن ابن مسعود: "لَمَّا نَزَلَتْ {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبسُواْ إِيمَانَهُم بظُلْمٍ} الأنعام، شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم)، وَقاَلُوا: أَيُّنَا لاَ يَظْلِمُ نَفْسَهُ؟! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم): "لَيْسَ هُوَ كَمَا تَظُنُّونَ.. إِنَّمَا هُوَ كَمَا قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ: {يَابُنَيّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ، إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}".

ولئن ورد خلاف علمي حول ما إذا كان النبي (صلى الله عليه وسلم) فسّر جميع آيات القرآن أو بعضها فقط، فإن ما تم توثيقه من تفسيره (صلى الله عليه وسلم) يعتبر قليلا، وأكثره يندرج ضمن ما يمكن تسميته بـ(التفسير العملي)، بمعنى أنه حين يرد في القرآن مصطلح أو لفظ خاص، مثل الحج أو الصلاة، تأتي أفعال النبي وممارساته مبينة للمراد من هذا الأمر، وليس بالضرورة في هيئة حديث تفسيري. أما ما أثر من أحاديث نبوية في التفسير فلم يتجاوز شرح بعض المفردات والتراكيب.

و أيّا كان الخلاف في ذلك، فلا خلاف في أن تفسير القرآن لم يكن يدوّن في عهد النبي (صلى الله عليه وسلم) كعلم مستقل بذاته، وإنما كان يروى منه عن النبي (صلى الله عليه وسلم) ما كان يتعرض لتفسيره. ولذلك يمكن القول بأن التفسير ولد في أحضان علم الحديث، حيث كانت المرويات المتعلقة بتفسير القرآن تمثل جزءاً أساسياً من كتب الحديث.

وبعد وفاة النبي (صلى الله عليه وسلم)، تواصلت حاجة الصحابة إلى فهم القرآن وبيانه للناس. وإضافة لاعتمادهم على عدد من الأدوات المساعدة في ذلك (معرفتهم باللغة العربية، ومقارنة الآيات بعضها ببعض، وما نقل عن النبي (صلى الله عليه وسلم) من أقوال وأفعال، وتدبّرهم الذاتي)، فقد ساعدهم في الفهم معاصرتهم للسياق الاجتماعي، ومعايشتهم لنزول الوحي، ومخالطتهم للنبي (صلى الله عليه وسلم) وتأثرهم به وبطريقة تعامله مع القرآن، إضافة لمعرفتهم بمعهود العرب اللغوي والسلوكي والفكري.

ورغم أن عدد الصحابة كان كبيرا، إلا أن من اشتهر منهم بالتفسير لا يتجاوز العشرة: الخلفاء الأربعة (أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب)، وعبد الله بن مسعود، وعبدالله بن عباس، وأبيّ بن كعب، وزيد بن ثابت، وأبو موسى الأشعري، وعبدالله بن الزبير (3).

وبالرغم من أن ما صح نقله عنهم ليس كثيرا (4)، إلا أن ثلاثة من بين هؤلاء اشتهرت أقوالهم بسبب صحبة بعض التابعين لهم وتلقيهم العلم عنهم: عبدالله بن عباس، وأبي بن كعب وعبدالله بن مسعود.

ويمكن سوق ثلاث ملاحظات عامة بخصوص تفسير الصحابة للقرآن:
- الملاحظة الأولى: متعلقة بغياب التدوين تقريبا، ويعود ذلك لعدم تفشي ثقافة التدوين والكتابة، والاقتصار في ذلك العهد على تدوين المصحف فقط. ولذلك نقلت أغلب أقوال الصحابة في التفسير للجيل اللاحق شفويا.
- الملاحظة الثانية: متعلقة بغياب التفسير المطول والشامل لجميع الآيات، خلافا لما نقل عمن جاء بعدهم، وتطور في العصور اللاحقة، حيث لم تتجاوز أقوالهم شرح بعض المفردات والتراكيب، وبيان المناسبات مما له علاقة بالأماكن والوقائع وأسباب النزول.
- الملاحظة الثالثة: متعلقة بندرة اختلاف التضاد فيما نقل عنهم من تفاسير لنفس الآيات (5).

وشهد آخر عصر الصحابة اتساع نطاق الحاجة إلى تفسير القرآن بسبب الفتوحات ودخول أعداد كبيرة من العرب والأعاجم في الإسلام، وعدم إحاطة كثير منهم باللغة وظروف التنزيل الذي امتد لبضع وعشرين سنة. فكان لاستقرار بعض الصحابة المشهورين بالتفسير في مكة والمدينة والعراق أثر في نشأة حركة علمية للإجابة عن التساؤلات المتعلقة بفهم القرآن، كان على رأسها:

- عبدالله بن عباس (ت: 68)، الذي استقر في مكة، ونسبت له "مدرسة التفسير" فيها، وتتلمذ عليه: مجاهد بن جبر (ت: 104)، وسعيد بن جبير (ت: 95)، وطاووس بن كيسان اليماني (ت: 106)، وعكرمة البربري (ت: 104)، وعطاء بن أبي رباح (ت: 114)، وأبو الشعثاء بن زيد الأزدي (ت: 93) (6).
- أبي بن كعب، الذي استقر في المدينة، ونسبت له "مدرسة التفسير" فيها، ومن تلاميذه: أبو العالية رافع بن مهران (ت: 90)، ومحمد بن كعب القرظي (ت: 118)، وسعيد بن المسيب (ت: 95)، وزيد بن أسلم (ت: 136) (7).
- عبدالله بن مسعود (ت: 35)، الذي استقر بالكوفة في العراق، ونسبت له "مدرسة التفسير" فيها، ومن تلاميذه: علقمة بن قيس النخعي (ت: 61)، ومسروق بن الأجدع (ت: 63)، وزِرّ بن حُبَيش (ت: 82)، وعبد الله بن حبيب السلمي (ت: 73)، والأسود بن يزيد النخعي (ت: 74)، وعامر الشعبي(ت: 109)، والحسن البصري (ت: 110)، وقتادة بن دعامة السدوسي (ت: 117)، وعبيدة السلماني (ت: 72) (8).
وبالإضافة لذلك، تضافرت عوامل هامة أخرى ساهمت في تطور حركة التفسير في عصر أتباع التابعين، منها:
- الخلافات السياسية التي زادت حدتها إثر مقتل الخليفة عثمان بن عفان (سنة 35)، والتي اختلط فيها السياسي بالديني،
- بداية الكلام في مسائل الاعتقاد، وظهور القول بالقدر والإرجاء في مقابل غلو الخوارج، واستمرار ذلك إلى أواخر القرن الثاني للهجرة، مع ظهور القول بخلق القرآن ونفي الصفات،
- ظهور الوعّاظ والقصّاصين الذين اهتموا بأحاديث الترغيب والترهيب، وبالقصص القرآني،
- التأسيس لنشأة ثلاثة تخصصات جديدة: علم اللغة، والأدب، ورواية الحديث النبوي (9).
وفي هذا العصر أيضا، بدأ تدوين التفاسير المستقلّة، وجمع أقوال بعض التابعين وأتباعهم في كتب، ومنها (10): تفسير مجاهد، وتفسير ابن عباس وتفسير الحسن البصري، وتفسير قتادة، وتفسير سفيان الثوري، وتفسير السدي الكبير، وتفسير عبدالرزاق الصنعاني.
ومن الملاحظ أن حركة التفسير اكتفت، طيلة طور التأسيس، ببيان بعض المفردات والعبارات القرآنية، وبتفسير بعض آيات الأحكام، وقصص القرآن. ولم يظهر تفسير القرآن كاملا إلا في أواخر القرن الثالث للهجرة (11)، حيث أصبح التفسير علما قائما.
وأما من الناحية المنهجية، فيمكن القول إن التفسير في طور التأسيس غلبت عليه نزعتان:
- نزعة أثرية، تعنى برواية الأقوال مسندةً إلى أصحابها، على نمط أهل الحديث. وممن تميز بذلك في تفسيره: مجاهد (ت: 102)، والحسن البصريّ (ت: 110)، والسدّيّ الكبير (ت: 128)، وسفيان الثوريّ (ت: 161).
- نزعة لغوية بيانية، تعنى ببيان معاني المفردات القرآنية من خلال الشواهد الشعرية وأقوال العرب. وممن تميز بذلك: أبو عبيدة مَعمَر بن المثنّى (ت: 210) في كتابه "مجاز القرآن"، والفرّاء (ت: 207) في كتابه "معاني القرآن"، والأخفش (ت: 215) في كتابه "معاني القرآن".

2- طور التأصيل:
يمثل عمل أبي جعفر محمد بن جرير الطبريّ (ت: 310) علامة فارقة في حركة التفسير، باعتباره أول من أصّل لعلم التفسير وأرسى أسسَه وقواعدَه، وأيضا باعتباره أول من فسّر القرآن آيةً آية وجملةً جملة، وذلك في نهاية القرن الثالث للهجرة.
وقد أفاد الطبري منهجيا من جهود سابقيه القائمة على أساس النزعتين الأثرية واللغوية، لتأصيل أول منهجية متكاملة في التفسير، من خلال الجمع بين الاتجاهين وإضافة استنباطاته وترجيحاته. ويعتبر كتابه "جامع البيان عن تأويل آي القرآن" أول تفسير كامل للقرآن على أساس منهجي، وقد أملاه ابن جرير على تلاميذه من سنة 283 هـ إلى سنة 290، ثمَّ قُرئ عليه سنة 306.
تقوم منهجية الطبري في التفسير، والتي نقلت حركة التفسير من طور التأسيس إلى طور التأصيل، على أصول ثلاثة: اللغة، والأثر، والترجيح والاستنباط.
وقدَّمَ الطبريُّ لتفسيرِه بمقدمة علميَّة حشدَ فيها جملة من مسائل علوم القرآن، منها: اللغة التي نزل بها القرآن والأحرفُ السبعة، والمعربُ، وطرق التفسيرِ، وقد عنون لها بقوله: (القول في الوجوه التي من قِبَلِها يُوصلُ إلى معرفةِ تأويلِ القرآنِ)، وتأويل القرآنِ بالرأي، وذكر من تُقبل روايتهم، ومن لا تُقبل في التَّفسير.
ثمَّ ذكر القولَ في تأويل أسماء القرآن وسوره وآيه، ثمَّ القول في تأويل أسماء فاتحة الكتاب، ثمَّ القول في الاستعاذة، ثُمَّ القول في البسملة. ثمَّ ابتدأ التفسيرَ بسورة الفاتحة، حتى ختم تفسيرَه بسورةِ النَّاسِ.
وتتميز منهجية الطبري في التفسير بما يلي(12):
- اعتمد أقوال الصحابة والتابعين وأتباع التابعين، ولم يكن له ترتيب معيَّن يسير عليه في ذكر أقوالهم.
- لم يخرج في ترجيحاته عن قول هذه الطبقات الثلاث إلا نادرًا. وكان شرطه في كتابه أن لا يخرج المفسر عن أقوال هذه الطبقات الثلاث.
- يؤخر أقوال أهل اللغة، ويجعلها بعد أقوال السلف، وأحيانًا بعد ترجيحه بين أقوال السلف.
- غالب ما رواه عن أهل اللغة متعلق بالإعراب.
- اعتمد النظر إلى صحة المعنى المفسَّر به، وإلى تلاؤمه مع السياق، وكان هذا هو منهجَه العام في التفسير، وكان يعتمد على صحة المعنى في الترجيح بين الأقوال.
- كان يُجزِّئ الآيةَ التي يريد تفسيرَها إلى أجزاء، فيفسّر كل جزء على حدة. وإذا وجد خلافا في تفسيره، ذكر الخلاف ثم ترجيحه. وبعد ذلك يذكر المعنى العام.
- إذا لم يكن هناك خلاف بين المفسرين السابقين، فسَّر إجمالا، ثم قال: (وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل).
- إذا كان بين المفسرين السابقين خلاف، ذكر التفسير الجملي، ثم نص على وجود الخلاف، كقوله: (واختلفَ أهلُ التَّأويلِ في تأويلِ ذلكَ، فقال بعضهم فيه نحوَ الذي قلنا فيه). وقد يذكر اختلاف أهل التأويل بعد المقطع المفسَّرِ مباشرةً، ثمَّ يذكر التفسير الجملي أثناء ترجيحه.
- من عادته في ذكر مختلف الأقوال أن يقول: (فقال بعضهم...)، ثمَّ يقول: (ذِكْر من قال ذلك...)، ثمَّ يذكر أقوالهم مسندًا إليهم بما وصله عنهم من أسانيد. ثمَّ يقول: (وقال غيرهم...)، (وقال آخرون...)، ثمَّ يذكر أقوالهم. فإذا انتهى من عرض أقوالِهم، رجَّحَ ما يراه صوابًا، وغالبًا ما تكون عبارته: (قال أبو جعفر: والقول الذي هو عندي أولى بالصواب، قول من قال...)، أو يذكر عبارة مقاربةً لها، ثمَّ يذكر ترجيحَه، ومستندَه في الترجيحِ، وغالبًا ما يكون مستندُه قاعدةً علميَّة ترجيحيَّةً. وهذا مما تميَّزَ به في تفسيرِه.
- أورد بعض مرويات بني إسرائيل.

3- طور التفريع والتطبيقات:
امتد هذا الطور من القرن الرابع إلى القرن الرابع عشر للهجرة. وتميزت هذه الفترة بظهور عشرات التفاسير المختلفة في المنهج.
ويعود التنوع الكبير في محتوى تفاسير هذه الحقبة التاريخية أساسا للتوسع في مختلف المسائل وإضافة معارف أخرى، بحيث لم تكن كتبا خالصة للتفسير. ولو جُرِّدَ التفسير من كثيرٍ من هذه المعلومات، لتقاربتْ مناهجُ المفسِّرين، ولكان جلُّ الخلافِ بينهم في وجوهِ التَّفسيرِ، وترجيحِ أقوالِ المتقدِّمينَ.فقد جمعت بين المسائل التالية:
1- تفسير القرآن (أي: بيانه بيانا مباشرا)،
2- معلومات تفيدُ في تقوية بيان المعنى، وليست من جوهر التفسير، أن غيابها لا تؤثر على فهم المعنى،
3- استنباطات عامة، في الآداب والفقه وغير ذلك،
4- لطائفُ ومُلَحٌ تفسيريَّة (13)،
5- مسائل متعلقة بعلوم القرآن،
6- مسائل أخرى من شتَّى المعارف الإسلاميَّة وغيرِها، يغلب عليها عدم وجود صلة بينها وبين علم التفسير. غير أن المفسر يذكرها لكونه ممن برز في علم من هذه العلوم، فيحشو تفسيره به. فترى الفقيه يورد مسائل علم الفقه، والنَّحويَّ يورد مسائلَ علم النَّحو، والمتكلِّم يوردُ مسائلَ علم الكلام، وهكذا.

وبسبب تعدد العلوم والمعارف، وتنوع الفرق والمذاهب، واختلاط العرب بثقافات أقوام أخرى داخلة في الإسلام، بدأت تبرز تدريحيا نزعة عقلية في التفسير متحررة من الاعتماد المطلق على اللغة والأثر. فظهرت تفاسير تذكر أوجها تفسيريَّة جديدة مختلفة عمَّا ورد عن السلف، فركّز بعضها على الاستنباطات الفقهيَّةِ أو الأدبيَّةِ، واتخذ البعض أسلوب المتكلمين في الاستدلال للمسائل العقدية، وظهرت التفاسير الصوفية قائمة على التأويل العرفاني، إلى غير ذلك. ومن أمثلة التفاسير التي اشتهرت في طور التفريع: تفسير "الجامع لأحكام القرآن" لكلّ من القرطبي والجصّاص، وتفسير "مفاتح الغيب" للفخر الرازي.

4- طور التجديد:
بدأ هذا الطور مع بداية القرن الرابع عشر للهجرة (القرن العشرين الميلادي)، نتيجة تواصل المسلمين بالحضارة الغربية، والنقاش الذي شهده جامع الأزهر حول مناهج التدريس والحاجة للتجديد، والذي ترجم إلى صدام بين الداعين للتغيير والرافضين له على أساس الارتياب في أن تكون مطالب التغيير جاءت لخدمة مصالح استعمارية خفية.
وبالرغم من هذه المعارضة الشديدة، بدأ الشيخ محمد عبده (ت: 1323 هـ/1905 م) في إلقاء سلسلة من المحاضرات في التفسير، وأملى فيها تفسيرا جزئيا، ضمنه فيما بعد تلميذه محمد رشيد رضا (ت: 1354 هـ/1935 م)، في كتابه "تفسير القرآن الحكيم" المشهور بتفسير المنار، الذي جاء بمنهجية مختلفة عما سبق في كتب التفسير، وأحدث مع بعض التفاسير التي تلته تجديدا في تفسير القرآن والتعامل معه، غيّر النظرة التقليدية التي طغت طيلة القرون السابقة.
يقوم المنهج التجديدي لمحمد عبده في التفسير على أساس اعتبار القرآن "كتاب هداية". وعلى هذا، جاء انتقاده الشديد لمناهج وأدوات التفسير السابقة والتي كانت تركز على القضايا الكلامية والبلاغية، واصفا منهج التفسير القائم عليها بالجفاف والإغراق في قضايا بعيدة عن مقاصد القرآن. ولبيان هذا الموقف، ننقل كلام محمد عبده كما أورده رشيد رضا، حيث ذكر أن التفسير قسمان (14):
"(أحدهما) جافٌ مبعدٌ عن الله وعن كتابه، وهو ما يقصد به حل الألفاظ وإعراب الجمل وبيان ما ترمي إليه تلك العبارات والإشارات من النكت الفنية، وهذا لا ينبغي أن يسمى تفسيرا، وإنما هو ضرب من التمرين في الفنون كالنحو والمعاني وغيرهما.
و(ثانيهما) وهو التفسير الذي قلنا إنه يجب على الناس على أنه فرض كفاية، هو الذي يستجمع تلك الشروط لأجل أن تستعمل لغايتها، وهو ذهاب المفسر إلى فهم المراد من القول، وحكمة التشريع في العقائد والأحكام، على الوجه الذي يجذب الأرواح، ويسوقها إلى العمل والهداية المودعة في الكلام ليتحقق فيه معنى قوله (هدى ورحمة) ونحوهما من الأوصاف. فالمقصد الحقيقي وراء كل تلك الشروط والفنون: هو الاهتداء بالقرآن. قال الأستاذ الإمام: وهذا هو الغرض الأول الذي أرمي إليه في قراءة التفسير".
وعلى هذا الأساس، وصف رشيد رضا تفسير أستاذه قائلا: "هذا هو التفسير الوحيد الجامع بين صحيح المأثور وصريح المعقول، الذي يبيّن حِكَم التشريع، وسننَ الله في الكون، وكونَ القرآن هدايةً للبشر في كل زمان ومكان، ويوازن بين هدايته وما عليه المسلمون في هذا العصر وقد أعرضوا عنها، وما كان عليه سلفهم المعتصمون بحبلها، مراعى فيه السهولة في التعبير، مجتنبًا مزجَ الكلام باصطلاحات العلوم والفنون، بحيث يفهمه العامةُ، ولا يستغني عنه الخاصة" (15).

وكان من آثار جهود محمد عبده وتلميذه رشيد رضا التجديدية في التفسير والتعامل مع القرآن، أن نشأت حركة إصلاحية كبيرة في العالم العربي تركت آثارا ملحوظة في فهم القرآن والإسلام، ونتج عنها تأسيس ما يعرف بالعمل الحركي الدعوي، ونشوء طبقة واسعة من العلماء والدعاة المنخرطين فيه. وقد كان من أثر ذلك تأليف تفسير سيد قطب (ت: 1965م) "في ظلال القرآن"، والذي بناه بشكل فريد على نظرية (التصوير الفني في القرآن).

وشهدت هذه الفترة التاريخية أيضا نشوء اتجاه أدبي في التفسير، متمثلة في مدرسة أمين الخولي، والتأصيل لنظرية التفسير البياني للقرآن. ثم تلى ذلك ظهور فن جديد في التفسير سمي بالتفسير الموضوعي، مثّل نمطاً منالاستجابة للتطورات الحديثة التي استجدت في حياة المسلمين، باعتبارهمنهجاً يساعد المفسر على استجلاء نظريات القرآن وقواعده في شتى شؤون الفكروالحياة. وقد مثلت مدرسة المنار والمدرسة الإصلاحية، والاتجاه الأدبي في التفسير، أهم الحواضن للتفسير الموضوعي.

وعلى الرغم من نقص التأصيل والضبط المنهجي لهذا الفن من التفسير، يمكن القول إن التفسير الموضوعي شكّل بداية لنقلة هامة في دراسة القرآن من مستوى التفسير النصي إلى مستوى تحليل الخطاب، وهو ما يجعله قادرا على تشكيل أرضية متينة للدرس القرآني المعاصر، وذلك من خلال تطوير الأدوات المنهجية وربطها بالعلوم اللسانية، والتي يمكن من خلالها الكشف عن بنية القرآن ومفاهيمه ونظرياته وأحكامه، بطريقة أشد تماسكا.

الحواشي:
1- يدور معنى (فَسَرَ) في لغة العرب على معنى البيانِ والكشفِ والوضوحِ. ويقصد بالتفسير اصطلاحا: بيان المعنى الَّذي أرادَه اللهُ بكلامِه.
2- الخالدي، تعريف الدارسين بمناهج المفسرين، ص 35.
3- السيوطي، الإتقان في علوم القرآن، طبعة البغا (2/1227).
4- كمثال على ذلك، نقل الزرقاني في مناهل العرفان (ص 2/26) عن الإمام الشافعي قوله: "لم يثبت عن ابن عباس في التفسير إلا شبيه بمائة حديث".
5- أشار ابن تيمية في (مقدمة في أصول التفسير) إلى أن اختلاف تفسير الصحابة كان في أغلبه اختلاف تنوع في التعبير، وليس اختلاف تضاد في المعنى، كتفسير بعضهم للصراط المستقيم بالقرآن، والبعض الآخر بالإسلام، وآخرين بطاعة الله ورسوله. وهي معان متقاربة ومؤداها واحد تقريبا.
6- الذهبي، التفسير والمفسرون، ص 78-86.
7- المرجع السابق، ص 86-88.
8- المرجع السابق، ص 88-95.
9- مع نهاية العهد الأموي وبداية العهد العباسي (في القرن الثاني للهجرة)، اتسع نطاق الاهتمام بالقراءات القرآنية ومصادرها وأسانيدها ليمد حركة التفسير بأدوات جديدة.
10- الخالدي، تعريف الدراسين بمناهج المفسرين، ص 38.
11- Andrew Rippin. 'Tafsir', in Mircea Eliade (ed.). The Encyclopedia of Religion, New York: Macmillan, 1987, pp.236-244
12- الطيار، "ملخص في منهج الطبري في تفسيره". مقالة منشورة في ملتقى أهل التفسير.
13- كمثال على ذلك، ذكر ابن عطيَّة في المحرر الوجيز، ط: قطر (1: 82) موقع هذه المُلَح من العلم، فقال: "وهذا من ملحِ التَّفسير، وليس من متين العلم".
14- رضا، تفسير المنار، ص 24.
15- المرجع السابق، صفحة الغلاف.

مراجع البحث:

1- ابن تيمية، أحمد بن عبدالحليم، "مقدمة في أصول التفسير"، نسخة إلكترونية على الإنترنت.
2- ابن عطيَّة الأندلسي، عبد الحق، "المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز"، ط 1، وزارة الأوقاف والشئونالإسلامية بدولة قطر، 1398هـ.
3- الخالدي، صلاح الدين، "تعريف الدراسين بمناهج المفسرين"، ط 3، دار القلم دمشق 1429 هـ.
4- الذهبي، محمد حسين، "التفسير والمفسرون"، مكتبة وهبة.
5- الزرقاني، محمد عبدالعظيم، "مناهل العرفان"، ط 1 دار الفكر دمشق، 1996.
6- السيوطي، جلال الدين، "الإتقان في علوم القرآن"، دار ابن كثير دمشق 1407هـ، تحقيق مصطفى ديب البغا.
7- الطيار، مساعد، "ملخص في منهج الطبري في تفسيره"، مقال منشور في ملتقى أهل التفسير: http://vb.tafsir.net/showthread.php?t=95
8- رضا، محمد رشيد، "تفسير القرآن الحكيم المشتهر باسم تفسير المنار"، ط 2، دار المنار القاهرة، 1366 هـ/1947م.
9- Andrew Rippin. 'Tafsir', in Mircea Eliade (ed.). The Encyclopedia of Religion, New York: Macmillan, 1987, pp.236-244
 
أشكر أخي محمد بن جماعة على هذا المقال الموفق الذي حاول من خلاله تلخيص مسيرة تفسير القرآن الكريم خلال القرون الخمسة عشر الماضية منذ نزول القرآن الكريم حتى اليوم، وقد نجح في تصوير معالم هذه المسيرة، واجتهد في تقسيمها إلى مراحل مع ما في ذلك من الصعوبة لتداخل هذه المراحل فيما بينها.
ويُمكنني - بعد القراءة المتأنية المكررة - التعليق على هذه المقالة في النقاط التالية رغبةً في تطويرها وتقويمها:

1- نُخطئُ عندما نظنُّ أنَّ العلوم التي عُنيت ببيان معاني القرآن هي كتب التفسير بالمعنى الاصطلاحي فقط، ولذلك نتهم المفسرين بأنهم أغفلوا كذا ولم يتنبهوا لكذا. والذي أراه أنَّ بيان معاني القرآن الكريم مشروعٌ تقاسَمه علماءُ الأمةِ بحسب تخصصاتهم، وخدموه من زوايا مختلفةٍ تكاملت مع كتب التفسير في بيان المعاني الدقيقة للقرآن الكريم، فعلماء الفقه خدموا القرآن الكريم بفهمهم الدقيق لأدلة الأحكام منه، وبالغوا في تتبع جزئياتها، وأكمل فقهَهُم للقرآن مَنْ صنَّفَ في آيات الأحكام بعد ذلك من المفسرين والفقهاء، والفقهاء والأصوليون كلهم كانوا ينطلقون من القرآن ويدورون حوله، وليس هناك فقيهٌ في الإسلام لم يتخذ القرآن أساساً لفقهه قط، لا أصحابُ الحديث ولا أصحابُ الرأي ولا غيرهم. وقل مثلَ ذلك في علماء العقيدة ومسائلها فقد فسروا آيات العقيدة في القرآن وخدموها خدمةً جليلةً ودقَّقوا في أوجه الاستدلال بهذه الآيات حتى أصبحت في غاية الوضوح، ومَن توسَّعَ من المفسرين في بيان آياتِ الاعتقاد فهو يُسدِّدُ جُهودَ عُلماء الاعتقاد ويساندُها في فهم تلك الآيات، والقليلُ من المفسرين مَنْ يتوسَّعُ في بيان الآيات الفقهية العمليَّةِ اكتفاءً بعمل الفقهاء الذين قد يكون هو نفسه منهم، وله تصانيف في الفقه. وعلماء الأصول بنوا أدلتهم في مجملها على القرآن كمصدر أول للأدلة وكم لهم من القواعد والأصول في فهم القرآن كان المفسرون عالةً عليهم فيها بعد ذلك، وعلماء البلاغة بنوا علم البلاغة على القرآن وأساليب البيان فيه، ومثلهم علماء النحو، فكانت كتب البلاغة والنحو خادمة للغة القرآن، وتفسيراً له من زاوية لغوية.
فإذا نحن نظرنا إلى هذه الجهود نظرة شاملة ألفيناها كلَّها نشأت ودارت وخدمت القرآن الكريم، وتأتي كتب التفسير لتكون ضمن هذه المنظومة المتكاملة من الجهود في بيان معاني القرآن، وليست مستقلةً بفهمِ القرآنِ وخدمته، ولذلك فلا غرابة أن يقع التفاوت بين كتب التفسير طولاً وقصراً ومنهجاً.
ولكنَّ النظر إلى الكتب التي عنون لها مؤلفوها بـ (تفسير القرآن) أي التفسير بالمعنى الاصطلاحي تَجعلُنا نتهم أجيالاً بالتقصير في التفسير أو في التأليف فيه أو في التجديد في جوانبه، ونقصر خدمة القرآن تفسيراً وبياناً لمعانيه على هذه الكتب وحدها، وهذا لا يمثل الحقيقة كاملةً .

2- في المقال محاولةٌ جيدةٌ لتقسيم مراحل التطور التاريخي لحركة التفسير على أطوار يفترض القارئ لها أنها أطوار منفصلة محددة المعالم، وهذه المسألةُ صعبةٌ للغاية على الباحث للحاجة الماسة إلى استعراض كُلِّ الجهود أو أبرزها لتحديد المعالم الرئيسية التي يُمكنُ أن تشكل بِمجموعها مرحلةً تاريخيةً لعلمٍ من العلوم. فمرحلة التأسيسِ -مثلاً- يُمكنُ رصدُها بسهولةٍ لطبيعة البدايات وبساطتها، غير أن مرحلة التأصيل التي مثَّلَ الباحثُ لها بالإمام الطبري واكتفى بهِ وكأَنَّهُ وحدَه الذي مثَّلَ هذه المرحلة فيه نوعٌ من الاختزال للمرحلة.
ومرحلةُ التأصيل مرحلةٌ أوسع من الطبري وعصره، ويصعب جداً أن يستقل بها شخص واحد مهما أوتي من علم، وقد سَبَقَ إلى تأصيلِ كثيرٍ من مسائلِ التفسير الصحابةُ والتابعون وأتباعهم، والأئمة الكبار كأبي حنيفة والشافعي وغيرهم، ولذلك كان الطبري في تفسيره يبني على أُصولٍ مُقررةٍ معروفةٍ، والذين كتبوا في أُصولِ التفسير عند الطبري وجدوهُ لا يكاد يأتي بجديد في هذا الجانب إلا الإبراز والتدوين لها والتطبيق أيضاً. أضف إلى ذلك سلامة كتابه من الضياع ووصوله إلينا، ولو وصلتنا كتب المرحلة التي سبقته وافية لوصلنا الكثير من الجهود التفسيرية. ويُمكن التمثيل بتفسير مقاتل بن سليمان (ت150هـ) و يحيى بن سلام البصري(ت200هـ) لتفاسير اشتملت على الكثير من التأصيل والتقعيد.
ولذلك فإنني أقترح أن يعدل أخي العزيز محمد بن جماعة قوله عن الإمام الطبري:(باعتباره أول من أصّل لعلم التفسير وأرسى أسسَه وقواعدَه، وأيضا باعتباره أول من فسّر القرآن آيةً آية وجملةً جملة، وذلك في نهاية القرن الثالث للهجرة) إلى :(باعتباره مِنْ أول من أصّل لعلم التفسير وأرسى أسسَه وقواعدَه ... الخ ) ليكون هذا أدق في التعبير عن هذه المرحلة ، وأتفق مع الباحث أن تفسير الطبري ومنهجيته الفريدة الواضحة المستقرة من أول التفسير إلى آخره بوأته هذه المكانة بكل جدارة رحمه الله وغفر له .
ثم مسألة أخرى تتعلق بطور التأصيل ، وهي إغفال جهود المفسرين الذين تلوا الإمام الطبري مثل ابن عطية وابن كثير والزمخشري غيرهم من المفسرين الكبار في مرحلة التأصيل، فقد كان لهؤلاء المفسرين الكبار دورٌ بارز في التأصيل لعلم التفسير، وإبراز أصول مهمةٍ للتفسير لم يتنبه لها من سبقهم، وكأني لمستُ من المقال اعتبار جهود أمثال هؤلاء داخلة في مرحلة (التفريعات والتطبيقات)، وقد كان للزمخشري خصوصاً دور رائع في إبراز الكثير من أصول النظر البلاغي لآيات القرآن الكريم لا يمكن تجاوزها بحال من الأحوال، ولا اعتبارها مجرد تطبيقات وتفريعات لأصول السابقين .

3- ذكر أخي محمد بن جماعة وهو يعدد معالم منهج الإمام الطبري في تفسيره أن (غالب ما رواه عن أهل اللغة متعلق بالإعراب)، وهذا قد يكون فيه شيء من الصواب، ولكنَّ ما نقله عن أهل اللغة من بيان معاني المفردات أكثر مما نقله من بيان التراكيب ودلالاتها، وقد قرأتُ التفسير ولله الحمد عدة مرات ورأيتُ عناية كبيرة ظاهرة بالمفردات وبيانها، وقد أفردها بعض الباحثين فجاءت في مجلدين وفاته الكثير، وأشار إلى هذا من درسوا منهجه في النحو كالدكتور صالح الفراج في رسالته (الطبري ومنهجه في النحو)، وهو يعتمد على الفراء والأخفش الأوسط في المسائل النحوية كثيراً وله اجتهاداته التي لا تنكر ويغلب عليه الجانب الكوفي لكثرة استخدامه لمصطلحاتهم . وقد أضاف الطبري الكثير من البيان العالي المفصل للمفردات اللغوية أضاف به ثروة مشكورة على ما نقله عن أهل اللغة قبله ، وكنتُ ولا زلتُ أتعجب من الإمام الطبري وإغفاله لذكر شيخه في اللغة والنحو أحمد بن يحيى الشيباني المشهور بثعلب في تفسيره، ثم ذكر لي بعض الأصدقاء قريباً أنه قد يكون من أسباب ذلك أن الإمام ثعلب كان ينتمي إلى الحنابلة، وأن الطبري أملى كتابه التفسير في بغداد في وسط معاركه مع الحنابلة، فقد يكون أغفل ذكره لهذا والله أعلم ، والمسألة بحاجة إلى بحث.

4- طوى الباحث تحت جناحي الطور الثالث (طور التفريع والتطبيقات) الكثير من الجهود التأصيلية في التفسير كما تقدم، وأعتقد أن هذا الطور بحاجة إلى مراجعة وإعادة بناء، حيث إن الجهود التي طويت تحته لم تكن مجرد تفريع وتطبيق .

5- وصف الطور الرابع بأنه (طور التجديد) يشعر القارئ أن هذا أفضل الأطوار الأربعة، وأنه الطور الوحيد الذي تنبه الناس فيه إلى أنَّ القرآن كتاب هداية، وهذا فيه ظلمٌ للقرون السابقة، حيث إنه يفترض القارئ أن القرون السابقة لم تُحسنِ التعامل مع القرآن على أنه كتاب هداية، وإنَّما غَفلت عن ذلك تَماماً حتى جاء الشيخ محمد عبده رحمه الله فنبه الأمة إلى ذلك، ولو رجعنا إلى جهود قديمة مثل جهود ابن القيم على سبيل المثال وجهود شيخه ابن تيمية لوجدنا هذا النَّفَسَ ظاهراً في كتبهم التي تناولت آيات القرآن، وفيه دعوة واضحة للعودة للقرآن على أنه كتاب هداية، ولكن هذا لم يستقل به علم التفسير وإنما تعاونت عليه كتب الوعظ والرقائق وغيرها ومستندها في ذلك كله هو القرآن الكريم. ولذلك وقع الخلاف اليوم بين بعض الباحثين حول ما كتبه سيد قطب رحمه الله ومدى دخوله في التفسير الاصطلاحي، أو أنه تأملات إيمانية وخواطر، بل حتى سيد قطب نفسه قال في مقدمته للتفسير:(هذه بعض الخواطر والانطباعات من فترة الحياة في ظلال القرآن)، مما يوحي بخروج هذا الأسلوب عن مصطلح التفسير، فأدعو الباحث والباحثين في التفسير وتاريخه إلى مراجعة هذه التسمية، ومحاولة البحث عن بديل عن هذا التقسيم، بحيث إنها لا تكاد تخلو مرحلة من مراحل التفسير من تجديد وتطوير في جانب من جوانبه، وأنها ليست المرحلة الأخيرة هي المرحلة التي استحوذت على هذا الوصف دون غيرها .

أكرر شكري لأخي محمد بن جماعة على هذه المقالة الموفقة، وأرجو أن يكون فيما علَّقتُ به فائدة، وهي اجتهاد قابل للنقاش، وحياةُ العلمِ بالمذاكرة والمدارسة.
 
حياكم الله، أختي سمر، وأخي عبد الرحمن.

أسعدتني ملاحظاتك، يا أبا عبد الله. واسمح لي بالتعليق هنا:

1- تقسيم تاريخ التفسير الذي أوردته في البحث إنما قام به د. صلاح عبد الفتاح الخالدي (كما أشرت في الحاشية رقم2)، ولست أنا واضعه في الحقيقة. غير أنني أعتقد أن هذا التقسيم جيد، وتمر به جميع العلوم. فما من علم يتأسس إلا ويمر بهذه المراحل الأربعة، بشكل أو بآخر: التأسيس، التأصيل، التفريع، التجديد.
وحين نتكلم عن التطور التاريخي لعلم من العلوم، فإن التتابع بين المراحل لا يعني عدم وجود تداخل في ما بينها. وإنما نبحث دائما عما يمكن تسميته بـ"اللحظات الفارقة" التي تشكّل نقلة من من حالة لحالة آخر. بل قد نجد أيضا ما يسمى بـ(الدَّوْر) أي العودة للوراء أو المرحلة السابقة.
ولذلك، فإبراز الطبري (كعلامة فارقة في حركة التفسير) لا يُفهم منه إلغاءً لمجهود سابقيه أو لاحقيه في عملية التأصيل. وإنما يعود له الفضل في كونه أول من أسس منهجية متكاملة، تعتمد على أصول ثلاثة واضحة: اللغة، والأثر، والترجيح والاستنباط. وباعتباره أيضا أول من فسر القرآن آية آية. وهذه لوحدها تمثل نقلة هامة تستحق أن تذكر كلحظة فارقة في التأريخ للتفسير.

2- أما بالنسبة لمصطلح (التجديد)، فأدرك ما قد يتبادر للذهن من مثل هذه المصطلحات. غير أنني لا أقصد ذلك، وإنما المقصود من هذه العبارة العودة (للحركة والنشاط) في ميدان التفسير بأدوات وأشكال تختلف عن الفترة السابقة التي عنيت بالتفريع والتطبيقات وأهملت الابتكار.

3- وأما اهتمام الفقهاء بخدمة القرآن، فهذا مما لا شك فيه. وأنا أرى أن (الحديث) و(الفقه) هما الحاضنان الحقيقيان لجميع علوم الدين.

مع خالص التحية
 
3- ذكر أخي محمد بن جماعة وهو يعدد معالم منهج الإمام الطبري في تفسيره أن (غالب ما رواه عن أهل اللغة متعلق بالإعراب)، وهذا قد يكون فيه شيء من الصواب، ولكنَّ ما نقله عن أهل اللغة من بيان معاني المفردات أكثر مما نقله من بيان التراكيب ودلالاتها، وقد قرأتُ التفسير ولله الحمد عدة مرات ورأيتُ عناية كبيرة ظاهرة بالمفردات وبيانها، وقد أفردها بعض الباحثين فجاءت في مجلدين وفاته الكثير، وأشار إلى هذا من درسوا منهجه في النحو كالدكتور صالح الفراج في رسالته (الطبري ومنهجه في النحو)، وهو يعتمد على الفراء والأخفش الأوسط في المسائل النحوية كثيراً وله اجتهاداته التي لا تنكر ويغلب عليه الجانب الكوفي لكثرة استخدامه لمصطلحاتهم . وقد أضاف الطبري الكثير من البيان العالي المفصل للمفردات اللغوية أضاف به ثروة مشكورة على ما نقله عن أهل اللغة قبله
قال السيد أحمد صقر_رحمه الله_ في مقدمة تحقيقه لكتاب (تفسير غريب القرآن) لابن قتيبة : ومما يستلفت النظر أن أباجعفر الطبري قد انتفع بكتاب الغريب هذا انتفاعا كبيرا ، ونقل ألفاظه في بعض المواطن نقلا حرفيا دون أن يشير إلى ابن قتيبة بأية إشارة واضحة أو مبهمة كالواضحة . مثل ما فعل مع الفراء وأبي عبيدة . وكثير من المواطن التي لم ينقل فيها ألفاظ ابن قتيبة وعبر فيها بألفاظه وأسلوبه يجد فيها القارئ الحصيف ريح كلام ابن قتيبة . وما أشبههما إلا ببحر كبير عارم الموج مر بجدول صغير فاستاق ماءه ومضى به.
 
وباعتباره أيضا أول من فسر القرآن آية آية. وهذه لوحدها تمثل نقلة هامة تستحق أن تذكر كلحظة فارقة في التأريخ للتفسير.
ما الدليل على ذلك ؟ والمفقود من الكتب لا يمكن القطع بخلوه من ذلك ، فالأفضل لنا هنا قول : مِنْ أول ..

2- أما بالنسبة لمصطلح (التجديد)، فأدرك ما قد يتبادر للذهن من مثل هذه المصطلحات. غير أنني لا أقصد ذلك، وإنما المقصود من هذه العبارة العودة (للحركة والنشاط) في ميدان التفسير بأدوات وأشكال تختلف عن الفترة السابقة التي عُنيِت بالتفريع والتطبيقات وأهملت الابتكار.
القارئ لا يعرف مقصودك الخاص، فليتك بينت مقصودك بالتجديد في أول الفقرة، علماً أن العودة بأدوات مختلفة غير منضبطة مع أصول التفسير لا يعتبر تجديداً بل قد يعتبر إفساداً للمنهج نفسه كما يحاوله اليوم كثير من أدعياء التجديد ، وهنا كتيب جيد للشيخ محمد المنجد يتحدث عن كثير ممن يعتبرون أنفسهم من المجددين بأدوات مختلفة (( بدعة إعادة فهم النص ) للشيخ محمد المنجد (كتاب و محاضرة)) .

وأما اهتمام الفقهاء بخدمة القرآن، فهذا مما لا شك فيه. وأنا أرى أن (الحديث) و(الفقه) هما الحاضنان الحقيقيان لجميع علوم الدين.
لا شك أنهما علمان جليلان، ولكنهما لم يستوعبا علم التفسير - باعتبار حديثنا هنا عنه - وهو يتميز عنهما منذ عهد الصحابة رضي الله عنهم، فهم يجتمعون على خدمة القرآن ولا شك، ولكنهما لا يستوعبان التفسير ضمن مسائلهما حتى في أول نشأتهما، والحديث عن التدوين في العلوم عندما نقول إن التفسير كان في بداية تدوينه ملحقاً بأبواب كتب الحديث، ليس معناه عدم تميز علم التفسير في مجالس العلم قبل ذلك .
والله يحفظكم .
 
أحسن الله إليكم د. عبد الرحمن،

1- أما سؤالك: ((ما الدليل على ذلك ؟ والمفقود من الكتب لا يمكن القطع بخلوه من ذلك ، فالأفضل لنا هنا قول : مِنْ أول ..))

فأقول: إنما هي قناعتي الشخصية، وقد أكون مخطئا فيها. فقد بحثت كثيرا عن (أول من فسر القرآن آية آية) ولم أجد كلاما في هذه المسألة إلا في كتاب (التفسير والمفسرون) لمحمد حسين الذهبي، وبعض المقالات المتناثرة غير المحققة التي تتحدث عن عدم القدرة على تحديد أول من فسر القرآن آية آية من بين: تفسير الطبري، وابن ماجة والحاكم.
ولعل من المفيد أن أحيل إلى نصين هامين في كتاب الذهبي يشيران لهذه المسألة:
(( * ليس من السهل معرفة أول من دَوَّن تفسير كل القرآن مرتَّباً:
هذا.. ولا نستطيع أن نُعيِّن بالضبط، المفسِّر الأول الذى فسرَّ القرآن آية آية، ودوَّنه على التتابع وحسب ترتيب المصحف. ونجد فى الفهرست لابن النديم (ص 99) أن أبا العباس ثعلب قال: "كان السبب فى إملاء كتاب الفرَّاء فى المعانى أن عمر بن بكير كان من أصحابه، وكان منقطعاً إلى الحسن بن سهل فكتب إلى الفرَّاء: إن الأمير الحسن بن سهل، ربما سألنى عن الشئ بعد الشئ من القرآن فلا يحضرنى فيه جواب، فإن رأيت أن تجمع لى أصولاً، أو تجعل فى ذلك كتاباً أرجع إليه فعلت، فقال الفرَّاء لأصحابه: اجتمعوا حتى أُملى عليكم كتاباً فى القرآن، وجعل لهم يوماً، فلما حضروا خرج إليهم، وكان فى المسجد رجل يُؤذِّن ويقرأ بالناس فى الصلاة، فالتفت إليه الفرَّاء فقال له: اقرأ بفاتحة الكتاب نفسِّرها، ثم نوفى الكتاب كله، فقرأ الرجل ويفسِّر الفراء، قال أبو العباس: لم يعمل أحد قبل مثله، ولا أحسب أن أحدا يزيد عليه".
فهل نستطيع أن نستخلص من ذلك: أن الفرَّاء المتوفى سنة 207 هـ، هو أول مَن دَوَّن تفسيراً جامعاً لكل آيات القرآن مرتَّباً على وفق ترتيب المصحف؟ وهل نستطيع أن نقول إن كل مَن تقدَّم الفرَّاء من المفسِّرين كانوا يقتصرون على تفسير المشكل فقط؟.. لا.. لا نستطيع أن نفهم هذا من عبارة ابن النديم لأنها غير قاطعة فى هذا، كما لا نستطيع أن نميل إليه كما مال إليه الأستاذ أحمد أمين فى كتابه ضحى الإسلام (جـ 2 ص 141)، وذلك لأن كتاب "معانى القرآن" للفرَّاء شبيه فى تناوله للآى على ترتيبها فى السور بكتاب "مجاز القرآن" لأبي عبيدة، فإنه يتناول السور على ترتيبها، ويعرض لما فى السورة من آيات تحتاج لبيان مجازها - أى المراد منها - فليس للفرَّاء أوَّلية فى هذا، بل تلك على ما يبدو كانت خطة العصر، ثم إن ما نُقِل لنا عن السَلَف يُشعر - وإن كان غير قاطع - بأن استيفاء التفسير لسور القرآن وآياته كان عملاً مبكراً لم يتأخر إلى نهاية القرن الثانى وأوائل الثالث، فمثلاً يقول ابن أبى مليكة: "رأيت مجاهداً يسأل ابن عباس عن تفسير القرآن ومعه ألواحه، فيقول له ابن عباس: اكتب. قال: حتى سأله عن التفسير كله".
ونجد الحافظ ابن حجر عندما ترجم لعطاء بن دينار الهذلى المصرى فى كتابه "تهذيب التهذيب" يقول: "قال علىّ بن الحسن الهسنجانى، عن أحمد ابن صالح: عطاء بن دينار، من ثقات المصريين، وتفسيره فيما يروى عن سعيد بن جبير صحيفة، وليس له دلالة على أنه سمع من سعيد بن جبير، وقال أبو حاتم: صالح الحديث إلا أن التفسير أخذه من الديوان، وكان عبد الملك بن مروان (المتوفى سنة 86 هـ) سأل سعيد بن جبير أن يكتب إليه بتفسير القرآن، فكتب سعيد بهذا التفسير، فوجده عطاء بن دينار فى الديوان فأخذه فأرسله عن سعيد بن جبير".
فهذا صريح فى أن سعيد بن جبير رضى الله عنه جمع تفسير القرآن فى كتاب، وأخذه من الكتاب عطاء بن دينار، ومعروف أن سعيد بن جبير قُتِل سنة 94 - أو سنة 95 هجرية - على الخلاف فى ذلك، ولا شك أن تأليفه هذا كان قبل موت عبد الملك بن مروان المتوفى سنة 86 هجرية.
وكذلك نجد فى وفيات الأعيان ( جـ 2 ص 3): أن عمرو بن عبيد شيخ المعتزلة، كتب تفسيراً للقرآن عن الحسن البصرى، ومعلوم أن الحسن توفى سنة 116 هجرية.
ومرَّ بنا فيما سبق ( ص 85) أن ابن جريج المتوفى سنة 150 هجرية له ثلاثة أجزاء كبار فى التفسير رواها عنه محمد بن ثور، فإذا انضم إلى هذا ما نلاحظه من قوة اتصال القرآن بالحياة الإسلامية، وشدة عناية القوم بأخذ الأحاكم وغيرها من آيات القرآن، وحاجاتهم المُلِّحة فى ذلك، نستطيع أن نقول إن الفرَّاء لم يُسبق إلى هذا الاستيفاء والتقصى، بل هو مسبوق بذلك، وإن كنا لا نستطيع أن نُعيِّن مَن سبق إلى هذا العمل على وجه التحقيق، ولو أنه وقع لنا كل ما كتب من التفسير من مبدأ عهد التدوين. لأمكننا أن نُعيِّن المفسِّر الأول الذى دوَّن التفسير على هذا النمط.
))

ثم في موضوع آخر يقول عن تفسير الطبري:
(( وبعد.. فإن ما جمعه ابن جرير فى كتابه من أقوال المفسِّرين الذين تقدَّموا عليه، وما نقله لنا من مدرسة ابن عباس، ومدرسة ابن مسعود، ومدرسة على بن أبى طالب، ومدرسة أُبَىّ بن كعب، وما استفاده مما جمعه ابن جريج والسدى وابن إسحاق وغيرهم من التفاسير جعلت هذا الكتاب أعظم الكتب المؤلَّفة فى التفسير بالمأثور، كما أن ما جاء فى كتاب من إعراب، وتوجيهات لُغوية، واستنباطات فى نواح متعددة، وترجيح لبعض الأقوال على بعض، كان نقطة التحول فى التفسير، ونواة لما وُجِد بعد من التفسير بالرأى، كما كان مظهراً من مظاهر الروح العلمية السائدة فى هذا العصر الذى يعيش فيه ابن جرير.
وفى الحق إن شخصية ابن جرير الأدبية والعلمية، جعلت تفسيره مرجعاً مهماً من مراجع التفسير بالرواية، فترجيحاته المختلفة تقوم على نظرات أدبية ولُغوية وعلمية قيِّمة، فوق ما جمع فيه من الروايات الأثرية المتكاثرة.
وعلى الإجمال، فخير ما وُصِف به هذا الكتاب ما نقله الداودى عن أبى محمد عبد الله بن أحمد الفرعانى فى تاريخه حيث قال: "فتم من كتبه - يعنى محمد بن جرير - كتاب تفسير القرآن، وجوَّده، وبيَّن فيه أحكامه، وناسخه ومنسوخة، ومشكلة غريبة، ومعانيه، واختلاف أهل التأويل والعلماء فى أحكامه وتأويله، والصحيح لديه من ذلك، وإعراب حروفه، والكلام على الملحدين فيه، والقصص، وأخبار الأُمَّة والقيامة، وغير ذلك مما حواه من الحِكم والعجائب كلمة كلمة، وآية آية، من الاستعاذة، وإلى أبى جاد، فلو ادَّعى عالم أن يُصِّف منه عشرة كتب كل كتاب منها يحتوى على علم مفرد وعجيب مستفيض لفعل".
هذا وقد جاء فى معجم الأدباء (الجزء 18 ص 64 - 65) وصف مسهب لتفسير ابن جرير، جاء فى آخره ما نصه: "... وذكر فيه من كتب التفاسير المصنَّفة عن ابن عباس خمسة طرق، وعن سعيد بن جبير طريقين، وعن مجاهد بن جبر ثلاثة طرق، وعن الحسن البصرى ثلاثة طرق، وعن عكرمة ثلاثة طرق، وعن الضحاك بن مزاحم طريقين، وعن عبد الله ابن مسعود طريقاً، وتفسير عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وتفسير ابن جريج، وتفسير مقاتل بن حبان، سوى ما فيه من مشهور الحديث عن المفسِّرين وغيرهم، وفيه من المسند حسب حاجته إليه، ولم يتعرض لتفسير غير موثوق به، فإنه لم يُدخل فى كتابه شيئاً عن كتاب محمد بن السائب الكلبى، ولا مقاتل بن سليمان، ولا محمد بن عمر الواقدى، لأنهم عنده أظنَّاء والله أعلم. وكان إذا رجع إلى التاريخ والسير وأخبار العرب حكى عن محمد بن السائب الكلبى، وعن ابنه هشام، وعن محمد بن عمرالواقدى، وغيرهم فيما يُفتقر إليه ولا يُؤخذ إلا عنهم.
وذكر فيه مجموع الكلام والمعانى من كتاب علىّ بن حمزة الكسائى، ومن كتاب يحيى بن زيادة الفرَّاء، ومن كتاب أبى الحسن الأخفش، ومن كتاب أبى علىّ قطرب، وغيرهم مما يقتضيه الكلام عند حاجته إليه، إذ كان هؤلاء هم المتكلمون فى المعانى، وعنهم يؤخذ معانيه وإعرابه، وربما لم يسمهم إذا ذكر شيئاً من كلامهم، وهذا كتاب يشتمل على عشرة آلاف ورقة أو دونها حسب سعة الخط أو ضيقه".
كما نجد فى معجم الأدباء أيضاً قبل ذلك بقليل، ما يدل على أن الطبرى أتم تفسيره هذا فى سبع سنوات، إملاءً على أصحابه، فقد جاء فى الجزء (18 ص 42) على أبى بكر بن بالويه أنه قال: "قال لى أبو بكر محمد بن إسحاق - يعنى ابن خزيمة - : بلغنى أنك كتبت التفسير عن محمد بن جرير؟ قلت: نعم، كتبنا التفسير عنه إملاءً، قال: كله؟ قلت: نعم، قال: فى أى سنة؟ قلت: من سنة ثلاث وثمانين إلى سنة تسعين..." إلخ.
وبعد.. فأحسب أنى قد أفضت فى الكلام عن هذا التفسير، وتوسعت فى الحديث عنه، وأقول: إن السر فى ذلك هو أن الكتاب يُعتبر المرجع الأول والأهم للتفسير بالمأثور، وتلك ميزة لا نعرفها لغيره من كتب التفسير بالرواية.
))

هذان النصان، جعلاني أميل للقول بأن الطبري هو أول من فسر القرآن آية آية. وأرى أن كلامي ليس فيه خطأ من ناحية الصدق العلمي. فالتفسير الأول الذي وصل إلينا كاملا وقد فسر القرآن آية آية هو تفسير الطبري. ولا يوجد أي دليل ملموس على خلاف ذلك. ولذلك فتقريري لأولية تفسير الطبري في هذا الموضوع مقبولٌ علميا، إلى أن يأتي ما يخالف ذلك. ويفترض بالباحث أن يحكم على ما ما بين يديه من المعلومات، وليس على احتمال وجود معلومات لم تصل إليه.

وإن كانت هناك مراجع أخرى يمكن إحالتي عليها في هذا الموضوع، فأرجو إحالتي عليها أو ذكر بعض النصوص منها. فما يهمني هو المعرفة فقط، وأكون لكم من الشاكرين.

2- بالنسبة لقولك: ((القارئ لا يعرف مقصودك الخاص، فليتك بينت مقصودك بالتجديد في أول الفقرة، علماً أن العودة بأدوات مختلفة غير منضبطة مع أصول التفسير لا يعتبر تجديداً بل قد يعتبر إفساداً للمنهج نفسه كما يحاوله اليوم كثير من أدعياء التجديد ، وهنا كتيب جيد للشيخ محمد المنجد يتحدث عن كثير ممن يعتبرون أنفسهم من المجددين بأدوات مختلفة (( بدعة إعادة فهم النص ) للشيخ محمد المنجد (كتاب و محاضرة))

أقول: صدقت، لعل كلامي يحتاج لدقة أكثر. وحسبي أني وضحت في تعليقي الأخير أنني لم أقصد ذلك :) وأشكرك على الإحالة، وقد قمت بتنزيل الكتيب هذا الصباح وسأطلع عليه بإذن الله للاستفادة.

3- وبالنسبة للملاحظة الثالثة حول قولي بأن (الحديث) و(الفقه) هما الحاضنان الرئيسيان لعلوم الدين: ((لا شك أنهما علمان جليلان، ولكنهما لم يستوعبا علم التفسير - باعتبار حديثنا هنا عنه - وهو يتميز عنهما منذ عهد الصحابة رضي الله عنهم، فهم يجتمعون على خدمة القرآن ولا شك، ولكنهما لا يستوعبان التفسير ضمن مسائلهما حتى في أول نشأتهما، والحديث عن التدوين في العلوم عندما نقول إن التفسير كان في بداية تدوينه ملحقاً بأبواب كتب الحديث، ليس معناه عدم تميز علم التفسير في مجالس العلم قبل ذلك))

لعلي لم أفهم مقصودك جيدا. فأنا علّقت متفقا معك في كلامك التالي : ((يخطئُ عندما نظنُّ أنَّ العلوم التي عُنيت ببيان معاني القرآن هي كتب التفسير بالمعنى الاصطلاحي فقط، ولذلك نتهم المفسرين بأنهم أغفلوا كذا ولم يتنبهوا لكذا. والذي أراه أنَّ بيان معاني القرآن الكريم مشروعٌ تقاسَمه علماءُ الأمةِ بحسب تخصصاتهم، وخدموه من زوايا مختلفةٍ تكاملت مع كتب التفسير في بيان المعاني الدقيقة للقرآن الكريم، فعلماء الفقه خدموا القرآن الكريم بفهمهم الدقيق لأدلة الأحكام منه، وبالغوا في تتبع جزئياتها، وأكمل فقهَهُم للقرآن مَنْ صنَّفَ في آيات الأحكام بعد ذلك من المفسرين والفقهاء، والفقهاء والأصوليون كلهم كانوا ينطلقون من القرآن ويدورون حوله، وليس هناك فقيهٌ في الإسلام لم يتخذ القرآن أساساً لفقهه قط، لا أصحابُ الحديث ولا أصحابُ الرأي ولا غيرهم. وقل مثلَ ذلك في علماء العقيدة ومسائلها فقد فسروا آيات العقيدة في القرآن وخدموها خدمةً جليلةً ودقَّقوا في أوجه الاستدلال بهذه الآيات حتى أصبحت في غاية الوضوح، ومَن توسَّعَ من المفسرين في بيان آياتِ الاعتقاد فهو يُسدِّدُ جُهودَ عُلماء الاعتقاد ويساندُها في فهم تلك الآيات، والقليلُ من المفسرين مَنْ يتوسَّعُ في بيان الآيات الفقهية العمليَّةِ اكتفاءً بعمل الفقهاء الذين قد يكون هو نفسه منهم، وله تصانيف في الفقه. وعلماء الأصول بنوا أدلتهم في مجملها على القرآن كمصدر أول للأدلة وكم لهم من القواعد والأصول في فهم القرآن كان المفسرون عالةً عليهم فيها بعد ذلك، وعلماء البلاغة بنوا علم البلاغة على القرآن وأساليب البيان فيه، ومثلهم علماء النحو، فكانت كتب البلاغة والنحو خادمة للغة القرآن، وتفسيراً له من زاوية لغوية.))

نعم، أتفق معك في هذا، وأنا أعتبر أن (الحديث) و(الفقه) هما الحاضنان الرئيسيان (ولم أقل: الوحيدان) لعلوم الدين. ولا ينفي هذا وجود ممارسة تفسيرية لبعض الصحابة والتابعين خارج نطاق (الحديث) و(الفقه).

وأرغب في الاستفادة منكم في هذه المسائل، فلعل استدلالاتكم ونقولكم تساعدني في تطوير الانطباع الذي تولد لدي في هذا الموضوع.

جزاكم الله خيرا.
 
معذرة: أود الإشارة إلى إحالة أخرى بخصوص تفسير الطبري.

قد يفيد الاطلاع أيضا على كلام للدكتور صلاح الخالدي في هذا الموضوع، في كتابه (تعريف الدارسين بمناهج المفسرين) من ص 39 إلى ص 41.
 
أحسنتم بارك الله فيكم يا أبا أحمد، وأشكرك على تعقيباتك النافعة .
وما زلتُ أرى أنَّ (تاريخ التفسير) لم يعط حقه من التتبع العلمي، ومراعاة قواعد التاريخ للعلم، ولا سيما في النقاط المفصليَّة التي أشرتم إلى بعضها في مقالكم وفقكم الله، ومعظم الباحثين يعتمدون على كتاب الدكتور الذهبي رحمه الله، والإضافات التي أضافها المتأخرون قليلة .
 
عودة
أعلى