التصوير الفني في سورة الواقعة من الآية 01 إلى الآية 40

إنضم
10/08/2010
المشاركات
295
مستوى التفاعل
1
النقاط
18
التصوير الفني في سورة الواقعة


من الآية 01 إلى الآية 40


إعداد الطالب : فتحي بودفلة


المراجع :
سيد قطب , في ظلال القرآن , دار الشروق ط38 1430هـ 2009م
سيد قطب , مشاهد القيامة في القرآن , دار الشروق بيروت , دار الثقافة الدار البيضاء المغرب (د.ت)
ابن كثير , تفسير القرآن العظيم , دار الفكر بيروت 1422هـ 2002م
حسين محمد مخلوف , كلمات القرآن تفسير وبيان , بهامش مصحف التجويد دار المعرفة دمشق 2007م
د. درويش جويدي , كلمات القرآن من تفسير السعدي , المكتبة العصرية بيروت 2005م

{إذا وقعت الواقعةُ . ليس لوقعتها كاذبةٌ . خافضة رافعةٌ. إذا رجّتِ الأرضُ رجّاً . وبسّتِ الجبالُ بسّاً . فكانت هباءً منبثّاً . وكنتم أزواجاً ثلاثةً} سورة الواقعة الآية 1...7
شرح بعض المفردات :
رجّت : زلزلت , حرّكت واضطربت
بسّت : فتّتت
هباء منبثّا : غبارا متفرقا منتشرا
الدراسة البيانية :
أوّلا : صورة التحوّل والانقلاب التي يحدثها هول يوم القيامة
تصوّر الآيات هول القيامة في شكل انقلاب كامل وتغيّر شامل لمعهود البشر فموازين التقديم والتأخير والرفع والخفض هي موازين جديدة غير الموازين المعهودة ...فكم من مقدَّمٍ في الدنيا ذي منصب وجاه لا يلتفت إليه يوم القيامة وكم من فقير مستضعف مؤخّرٍ في الدنيا هو في الآخرة من السابقين الأخيار ....
وها هي الأرض التي عهدها الإنسان ثابتة ساكنة قد رجّت اليوم واهتزّت واضطربت على غير عادتها وعهدها ... والجبال المنصوبة الراسية فتّتت وصارت هباء منبثّا ... فأصبحت لا ترى فيها عوجا ولا أمتا حتى معهود البشر في التقابلات والتقسيمات التناظرية أنّها ثنائية أصبحت اليوم على خلاف عهدهم بها ثلاثية .
ثانيا : حركة الفرقعة والرجّة والاضطراب
إنّ هذه الآيات قد عرضت هول القيامة في حركة توحي بشيء من الاهتزاز والرجّة والاضطراب... فلفظة الواقعة بمدّ قافها اللازم الطويل وما فيها من تفخيم وتعظيم يقتضيه استعلاؤها وبما فيها من اضطراب تستلزمها قلقلتها أشبه ما تكون "بسقوط الجسم الذي يرفع ثم يترك فيهوي واقعا فينتظر له الحسّ فرقعة ورجّة"[1]
ثمّ تأتي هذه الفرقعة والرجّة المنتظرة فيما يذكر بعدها من الآيات في تناسق عجيب وتفاعل غريب... خافضة رافعة , ترفع أقواما وتخفض آخرين والرفع والخفض هو أوّل مظهر من مظاهر هذه الرجّة والفرقعة ...
ورجّت الأرض رجّا أي هزّت واضطربت وهذا المظهر الثاني للفرقعة والرجّة والاضطراب...
ثمّ لا بدّ لهذه الرجّة من ضعف أوّلاً ثمّ توقف وسكون ثانيا ... -كما هو الحال في عالم الحسّ والمشاهدة – فيأتي قوله تعالى يكمّل الصورة المشاهدة والحركة المتتابعة ...بل والصوت المسموع المحسوس ... وبسّت الجبال أي فتّتت ونسفت فكانت هباء منبثّا "غبارا متفرقاً وأصبحت الأرض قاعا صفصفاً ليس عليها جبل ولا معلم لا ترى فيها عوجا ولا أمتا"[2]
ثالثا : فواصل هذه الآيات
فواصل هذه الآيات :
وقد تنوّعت فواصل هذه الآيات وتوزّعت بين التاء والثاء والسين والجيم وجميعها مناسبة لمضامينها ومتناسقة مع أغراضها ومرادها ...
فهمس التاء والثاء والسين متناسب مع ما ينبغي أن يجده الخائف المتوجّس من هول القيامة الواقعة وعظم شأنها وخطبها ...
والجمع بين أصوات مختلفة باعتبار القوة والضعف (همس صفير قلقلة...) في غاية التناسب والتناسق مع صوت الرجّة والفرقعة والاضطراب الذي يحدثه السياق ...
قال الله تعالى : {وكنتم أزواجا ثلاثةً. فأصحاب الميمنة. ما أصحاب الميمنة , وأصحاب المشئمة. ما أصحاب المشئمة . والسابقون السابقون.} القارعة 7..12
شرح بعض المفردات :
أزواجا : أصنافا وفرقا
الميمنة : أي ناحية اليمين تعظيما لشأنهم وتفخيما لأحوالهم ...
المشأمة : أي ناحية الشمال تهويلا لحالهم ...
الدراسة البيانية :
اختلف المفسرون في حقيقة هذه القسمة الثلاثية ولعلّها مطابقة لما في سورة فاطر { ثمّ أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير} فاطر 22 , كما فسّرها حبر الأمة وترجمان القرآن ابن عباس رضي الله عنهما ... وليس يهمّنا ها هنا تفسير هذه الآيات بقدر ما يهمنا الوقوف على أسرارها البيانية وصورها الفنّية على وجه الخصوص... فصيغة أصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة ومثلها أصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة استفهام بلاغي يقصد به التهويل والتعظيم خاصّة وأنّه لم يفصّل القول في حقيقة هؤلاء الأصناف من هم؟ ولا طبيعة جزاؤهم بل ترك الأمر عاما مطلقا يفتح المجال واسعا أمام مخيّلة القارئ والسامع... ليتصور أصحاب اليمين من المؤمنين الصادقين ...وأصحاب الشمال من الكافرين المكذّبين ... بكلّ ما يقتضيه الإيمان من أعمال صالحة والتصديق من استجابة وتسليم ... وكلّ ما يقتضيه الكفر من أعمال طالحة والتكذيب من إنكار وجحود ...
أما السابقون فقد ترك النّص القرآني وصفهم – لا باليمين ولا بالشمال – كما عدل عن الأسلوب الإنشائي وصيغة الاستفهام البلاغي إلى الأسلوب الخبري وصيغة التكرار ...فكأنما يصفهم باسمهم ولا يزيد ولا يضيف شيئا... السابقون السابقون "كأنما ليقول إنّهم هم هم وكفى فهو مقام لا يزيده الوصف شيئا..."[3] هو مقام ليس فوقه مقام ... وقد ذكر المفسرون في حقيقة هؤلاء السابقون وصفاتهم الشيء الكثير ولكنّها في مجموعها لا تخرج عن كونهم الأوائل في كلّ خير والسابقون في كلّ فضل...
وللمخيلة الآن مساحة واسعة لتصوّر وتخيّل هذا الصنف من الناس الذي يسبق غيره في الطاعات ويتقدم عليه في الفضل والخيرات... والتكرار ها هنا لتأكيد فضل وعظمة هذا المقام وتقرير سبق وامتياز هذه الطائفة من النّاس...
قال الله تعالى : {والسابقون السابقون. أولئك المقربون. في جنات النعيم. ثلّة من الأولين . وقليل من الآخرين . على سرر موضونة. متكئين عليها متقابلين. يطوف عليهم ولدان مخلدون. بأكواب وأباريق. وكأس من معين. لا يصدّعون عنها ولا ينزفون. وفاكهة ممّا يتخيّرون. ولحم طير ممّا يشتهون. وحور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون. جزاء بما كانوا يعملون. لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما. إلاّ قيلاً سلاماً سلاماً} الواقعة 11...28
شرح بعض المفردات :
ثلّة : أمة كثيرة من الناس
موضونة : منسوجة بالذهب والفضة مرصّعة بالجواهر واللؤلؤ والحليّ بإحكام متناه
مخلدون : ولدان حسان لا يتحوّلون عن هيئتهم ولا يتغيرون
أكواب : أوانٍ لا خراطيم لها ولا عرى
أباريق : أوان لها خراطيم وعرى
معين: خمرٍ لذيذة للشاربين وجارية من العيون
لا يصدّعون عنها : لا يصيبهم من شرابها صداع الرأس كما هو شأن خمر الدنيا
لا ينزفون : لا تذهب بسببها عقولهم وتزول أحلامهم
حور عين : الحوراء التي في عينها كحل وملاحة وحسن وبهاء
العين : واسعات الأعين حِسانها
المكنون : المصون في أصدافه مستور عن الأعين والريح والشمس يبقى على جماله الأصلي لا يؤثّر فيه شيء ... فكذلك الحور العين , لا عيب فيهنّ بوجه من الوجوه
لغوا : كلاما لا خير فيه ولا فائدة
تأثيما : كلام يؤثّم صاحبه
الدراسة البيانية :
من الجانب البياني والتصويري فإنّ أهمّ ما في هذه الآيات هذا "التفصيل" الدقيق وهذا الوصف "الحسي" العميق لجزئيات النعيم وأنواعه ... حتّى إنّه ليضعنا أمام مشهد مصورٍ متحركٍ... بألوانه المتنوعة وشخصياته المختلفة ... فها نحن نتصور "السابقون" ونتخيلهم ممتدّين على سررهم المرصّعة بالذهب والفضة ومختلف الجواهر والحليّ ... وحولهم الولدان الحسان يجيئون ويذهبون محمّلين بما تشتهيه الأنفس وتطيب وتلذّ له الأعين ...بأباريق الخمر العذبة اللذيذة وبأطباق الفواكه المختارة ... وبأشهى وأفضل أنواع اللحم ...وأزواجهم الحوريات بقربهم في منتهى الحسن والجمال ...
ولا ينتهي هذا النعيم العظيم عند هذا الحدّ فحسب ...بل إنّ ممّا يزيده عظمة وبهاء أنْ ليس في مقامهم هذا ما يعكّر كماله وصفوه ... فلا صداع للرأس ولا نزيف وذهاب للعقل ولا يطرق السمع لغو ولا تأثيم
الملاحظة الثانية في هذا النعيم المستفيض الذي خصّ به الله سبحانه وتعالى هذه الطبقة الممتازة من عباده طبقة السابقين أنّه عزّ وجلّ جمع لها بين جميع أنواع النعيم
النعيم المادي الحسي : في السرر الموضونة والولدان المخلدون والمعين والفاكهة واللحم وحور العين
النعيم المعنوي الروحي : السبق أوّلا ثم القربى منه عزّ وجلّ أولئك المقربون ... "الراحة وخلو البال والاطمئنان" كما يشير إليها لفظ متكئين
النعيم الإيجابي الوجودي : من نحو ما تقدم من النعيم المادي الحسي والمعنوي الروحي
النعيم السلبي العدمي : ومنه لا يصدّعون ومثله لا ينزفون ولا يسمعون لغوا ولا تأثيما
ثمّ إنّ هذا الثواب العظيم وهذا النعيم المتنوع الجسيم يطال جميع ما يمكن أن يتنعم به الإنسان :
فهو نعيم الرؤية كرؤية الولدان المخلدون والحور الحسان وغيرها...
نعيم الذوق ؛ ذوق الخمر والفاكهة واللحم ....
نعيم السمع حيث لا يسمعون فيها إلاّ قيلا سلاما سلاما...
نعيم اللمس لمس الحوريات...
نعيم الشمّ شمّ الفاكهة المتخيّرة...
نعيم العقل أو الروح بالراحة والقربى والطمأنينة والسبق والاختيار...
ولكي يبلغ الإحساس بهذا النعيم أوجّه عند القارئ ويتصوره بكلّ ما فيه من الشهوات والملذّات استعمل النّص القرآني ألفاظا مناسبة لهذا الغرض ألفاظ من شأنها أن توجد هذا الإحساس وتوقعه في أبلغ صوره وأبهى حلّله ...
فألفاظ مثل السبق والقربى والنعيم والاتّكاء والتخيّر والاشتهاء تثير فينا هذا الإحساس بالترفّه والتنعيم
كما أنّ ألفاظ مثل السرر والأكواب والأباريق والكأس والفاكهة واللحم والولدان وحور العين والؤلؤ ... تجسد هذا النعيم وتجعله محسوسا مشاهدا متذوقا ومرئيا...
فواصل الآيات :
الفواصل المستعملة في الآيات تنوعت بين النون والميم وهي في غاية التناسب مع السياق العام فهي برخاوتها وغنّتها تفيد السكون والهدوء والاستمرار...كما تفيد الميم التعظيم والتفخيم الذي يتناسب وعظم النعيم الذي وجده السابقون .
قال الله تعالى: {وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين. في سدر مخضود. وطلح منضود. وظلٍّ ممدود. وماء مسكوب. وفاكهة كثيرة. لا مقطوعة ولا ممنوعة. وفرش مرفوعة. إنّا أنشأناهنّ إنشاءً. فجعلناهنّ أبكاراً. عرُباً أتراباً. لأصحاب اليمين. ثلّة من الأولين. وثلّة من الآخرين.}الواقعة 29...42
السدر : شجر النبق
مخضود : مقطوع ما فيه من الشوك والأغصان الرديئة المضرّة , مجعول مكان ذلك الثمر الطيّب , وللسدر من الخواص الظلّ الظليل وراحة الجسم فيه
طلح : هو شجر كبار يكون بالبادية وقيل هو الموز
منضود : تنضد أغصانه من الثمر اللذيذ الشهيّ وقيل نضّد بالحمل من أسفله إلى أعلاه
ماء مسكوب: كثير العيون والأنهار السارحة والمياه المتدفقة وقيل مصبوب يجري من غير أخاديد
عربا : متحببات إلى أزواجهنّ
أترابا : مستويات في السنّ والحسن قيل ثلاث وثلاثين سنة التي هي غاية ما يتمنى وهي أكمل سنّ الشباب
الدراسة البيانية :
الحديث ها هنا عن أصحاب اليمين الذين سبقت الإشارة إليهم ولكن تأجّل التفصيل في أمرهم وحقيقة نعيمهم إلى ما بعد الحديث عن السابقين فكان للسابقين السبق والأولوية في الذكر المتناسبة والمتناسقة مع اسمهم وجزائهم ...
والتفصيل بعد الإجمال ...أو الجواب بعد السؤال ...منهج تربوي وأسلوب اتصالي كثير الاستعمال والدور في القرآن الكريم ...فهو يجعل المتلقي يهتمّ بهذا التفصيل ويدقّق فيه ويصغي لهذا الجواب ويتأمّل فيه ...لأنّ له علما ودراية مسبقة به ولكنّه علم بسيط ودراية سطحية وها هو التفصيل والبيان ليكتمل نقصه ...
ولأنّ السؤال دوره أن يدخل المتلقي في دوامة من الاستفهام واستغراق واشتغال بموضوع السؤال ... والذي كأنّه أحدث ثقبا وفراغا في المجال المعرفي للمتلقي ...ثمّ ها هو الجواب يملأ هذا الفراغ ويسدُّ هذا الثقب والعوار ويقطع الاستفهام بجواب كافٍ شافٍ لأنّه من صاحب السؤال...
ثمّ لنتأمّل الآن في حقيقة هذا النعيم ...ولنحاول مقارنته [4] بنعيم السابقين...إنّه يشترك معه في "التفصيل والتدقيق" أوّلاّ فليس هو من قبيل قوله تعالى :ٍ{فأمّا من ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية} القارعة5-6
[5]أو قوله : {إنّ الذين ءامنوا وعملوا الصالحات لهم جنّات تجري من تحتها الأنهار ذلك الفوز الكبير}سورة البروج 11
6] بل السياق هنا يحدّد ويعدد أنواعا وأصنافا من الخيرات والثواب والنعيم .
ثمّ هو يشترك مع السابقين في شيء من نعيمهم – وليس كلّه – هو ذلك النعيم المادي المحسوس نلتمسه في السدر والطلح وفي الماء والظلّ ... وغيرها من النِعم والآلاء المعدّدة والمذكورة .
ولكنّه يختلف عنه في كونه "يبدو في أوصافه شيء من خشونة البداوة ويلبي هواتف أهل البداوة حسبما تبلغ مداركهم وتجاربهم من تصوّر ألوان النعيم"[7] فهذا السدر هو شجر النبق المعروف في البادية والذي يحتفل ويهتمّ به أهلها أيّما احتفال واهتمام... ولكنّه ها هنا من غير نقص ولا عيب... فهو مخضود منزوع الشوك ...وهذا الطلح شجر منتشر في صحارى الحجاز قد غصَّ بالثمار معدّة للتناول بلا كدٍّ ولا مشقّةٍ ولا تعبٍ...
والظلّ ...الظلّ الذي له ثمنه وقيمته في البيئة الصحراوية العادية والحارة إذ يقلّ ويعزّ وجوده فيها ... ها هو اليوم ممدود لأصحاب اليمين يتنعمون فيه ويترفلون...
ثمّ الماء عصب الحياة ...هذا الذي يكاد ينعدم في الصحراء ... وهو فيها أغلى من الذهب والفضة... وأنذر من المعادن النفيسة ...صار اليوم جاريا مسكوبا ...فلهم أن يشربوا ويغسلوا ويلعبوا...
وهكذا ذكر السدر والطلح والظلّ والماء "تلك جميعا من مراتع البدوي ومناعمه كما يطمح إليها خياله وتهتف بها أشواقه"[8]
فرق آخر بين الطائفتين لافت للانتباه هو اشتراكهما في بعض مظاهر الثواب (الفاكهة , الفرش , الأزواج) ولكن بون واسع بين النعمتين وفرق شاسع بين المتعتين ...
فإذا كانت فاكهة السابقين ممّا يشتهون ويتخيّرون ...فإنّها في حقّ أصحاب النعيم كثيرة غير مقطوعة ولا ممنوعة ...فالفاكهة هي هي , ولكن نعمتها في حقّ السابقين تنطلق من أنفسهم وتبتدئ من تشهّيهم وتخيّرهم ... وفي حقّ أصحاب اليمين نعمتها في الفاكهة نفسها ...في كثرتها وعدم انقطاعها...فللسابقين نعمتان نعمة التخيّر ونعمة الفاكهة وليس لأصحاب اليمين إلاّ الفاكهة.
وللفريقين فرشُ وهي في حقّ أصحاب اليمين – ها هنا – مرفوعة بكلّ ما تحمله هذه الكلمة من دلالة الرفعة الحسّية والمعنوية ...ولكنّها مهما عظمت فإنّها لا تبلغ درجة السابقين فالسرر هناك موضونة أي مرمولة بالذهب منسوجة منه مرصّعة بالدّر والياقوت[9] وفي هذا الوضين رفعة كذلك ولكنّها رفعة مخصوصة تفوق رفعة أصحاب اليمين ...
ولأصحاب اليمين أزواج كما أنّ للسابقين أزواجا كذلك ... ولكن شتّان بين أزواج هؤلاء وأولئك ...فإذا كنّ ها هنا أبكارا عربا أترابا ...فكذلك هنّ مع السابقين ولكنّهنّ هناك كالؤلؤ المكنون صفاؤهنّ كصفاء الدّر الذي لم يغادر الأصداف لم تمسّه الأيدي ولم تنل منه الأعين والريح والشمس...
وإذا كان النصّ القرآني قد ترك تسميتهنّ في حقّ أصحاب اليمين فإنّهنّ عند السابقين حورٌ عين هكذا بأوصاف تزيدهنّ حسنا وجمالا وتزيد السابقين متعة وتنعما...
وذهب بعض أهل التفسير إلى أنّ أزواج أصحاب اليمين من عجائز أهل الدنيا كنّ فيها عمشا رمصا فأعاد الله إنشاءهن إنشاء في أبهى حلّة وأجمل صورة فجعلهنّ أبكارا عربا أتراباً...
أما في حقّ السابقين فقد خلقهنّ الله تعالى للتمتع والتنعم ابتداء وجعلهنّ في منتهى الجمال وغاية الحسن أولاً وانطلاقاً...
فواصل الآيات :
أمّا عن فواصل هذا المقطع من السورة فإنّ ما يميّزها هو كثرة التنوّع إلى درجة أنّها توزعت على ثمانية أحرف هي النون , الدال , الباء , التاء , الهمزة , الراء , الألف والهاء .
فلعلّ هذا التنوع في الفواصل يناسب تنوّع نعيم أصحاب اليمين وتعدّده ...السدر , الطلح , الظل , الماء , الفاكهة , الفرش والأزواج ... ولو استثنينا السدر والطلح فكلّ صنف من أصناف هذه النعم جنس مختلف عن جنس باقي الأصناف ولا يلتقي معها في شيء من خصائصها ...
ثمّ إنّنا في هذه الفواصل لا نستشعر فيها ذلك السكون والهدوء وراحة البال الذي استشعرناه من تكرار فاصلة النون في المقطع الخاص بالسابقين ...ولا نجد ذلك التعظيم والتفخيم الذي التمسناه –هناك- في فاصلة الميم .



[1] سيد قطب , مشاهد القيامة في القرآن ص126

[2] د. درويش جودي , كلمات القرآن من تفسير السعدي ص614

[3] سيد قطب المرجع في ظلال القرآن 6\3463

[4] ذكر الأصناف الثلاثة معا في موضع واحد وفي شكل تقابلي يستدعي هذه المقارنة ويقتضيها

[5] سورة القارعة 5- 6

[6] سورة البروج 11

[7] في ظلال القرآن 6\3464

[8] المرجع نفسه

[9] ابن كثير 4\1823
 
التعديل الأخير:
شكرا للأخ (أحب الصالحين ) والأخت سمر على التصفح والتعليق ... لا أظنّني سأواصل في الموضوع ...الآن على الأقل ...لكن لعلّ الجهد والوقت يسمح بذلك مستقبلاً إن شاء الله
 
وفقك الله لكل خير أخي الفاضل مع إني أتمنى عليك أن تستكمل على الأقل هذه السورة المباركة ثم نمهلك الوقت اللازم حتى تختار لنا سورة أخرى تتوقف عند التصوير الفني فيها فننتفع بما ستعرضه علينا.
 
مواصلة دراسة سورة الواقعة بيانيا مع التركيز على جانب التصوير

مواصلة دراسة سورة الواقعة بيانيا مع التركيز على جانب التصوير

وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ (45) وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآَبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآَخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50)ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآَكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56)
شرح بعض المفردات :
سموم : ريح شديدة الحرارة
حميم : ماء في منتهى الحرّ
يحموم : دخان شديد السواد , لهب نار مختلط بدخان
لا كريم : غير نافع من أذى الحرّ
مترفين : عصاة متّبعين أهواء أنفسهم أو قد ألهتهم دنياهم وعملوا لها وتنعموا بها فألهاهم الأمل عن إحسان العمل
الحنث : الدنب
الزقوم : هو أقبح الأشجار وأخشنها وأنتنها ريحا وأبشعها منظرا
شرب الهيم : الإبل العطاش التي لا تروى , أو أنّ الهيم داء يصيب الإبل لا تروى معه من شراب الماء
هذا نزلهم : ضيافتهم وما أعدّ لهم من الجزاء
الدراسة البيانية:
أصحاب الشمال هم أنفسهم أصحاب المشأمة وكذلك أصحاب اليمين والميمنة , هذا ما أكّده غير واحد من أهل التفسير [1]وحتّى من سكت عنه فإنّما سكت لأنّ الأمر ظاهر معلوم لا يحتاج إلى تفسير وبيانٍ ... ولكن السؤال الذي يفرض نفسه ها هنا هو لماذا اختلفت الأسماء بين أوّل السورة ووسطها إذا كانت المسميات واحدة ؟
إنّها – والله أعلم – من اختلاف العبارات لاختلاف الاعتبارات كما يقال .
والقصد أنّ العرب الجاهليين وهم أوّل من خوطب بالقرآن الكريم اشتهروا بالتيمّن والتشاؤم في مقدمات أسفارهم وبدايات أعمالهم لأشياء يرونها وظواهر يعتقدونها فمن ذلك قول المُرَقِّش :
لا يمنعنّك من بغا ءِ الخير , تَعْقادُ التمائمِ
وكذلك لا شرّ ولا خيرَ على أحدٍ بدائم
ولقد غدوتُ وكنت لا أغدو على واق وحائم
فإذا الأشائم كالأيا من , والأيامن كالأشائم
لقد جرى القرآن الكريم - ها هنا – على أسلوب العرب وعرفهم فكأنّه يقول لهم في أوّل السورة قبل بَدْءِ عرض تفاصيلها : إنّ أصحاب المشأمة الحقّ ...إنّ الذي ينبغي أن تتشاءموا منه وتتطيّروا وتتخوفوا منه بحقٍّ هو هذا الذي سأذكره لكم لاحقاً...فلما جاء إلى ذكر صفاتهم وما خصّه بهم يوم القيامة استعمل لفظة (الشمال) جزءا من جزائهم ؛ إشارة إلى مكانهم وموقفهم يوم المحشر أو إلى طريقة أخذ كتابهم وسجلّ أعمالهم ...[2]
هذا من جهة ومن جهة أخرى فإنّ هذا التقديم بذكر الأصناف الثلاثة دون تفصيل لحالهم وبصيغة السؤال , سبق وأن أشرنا إلى أنّ القصد منه لفتُ انتباه السامع وجلبٌ لاهتمامه وسعي وراء تركيزه ونضيف ها هنا إلى أنّ ذكر الميمنة والمشأمة في أوّل السورة ينصب في السياق نفسه ويخدم الهدف والغرض ذاته لأنّ المشأمة تحتاج إلى بيان أسبابها أوّلا ونتائجها ثانيا فالعرب لا تتشاءم إلاّ لمظاهر وأسباب تراها والشؤم عندهم مجلبة للشرّ وعلامة عليه...فالعربي حين يقرأ أوّل السورة سينتظر بيان هذه الأسباب وسيرتقب التصريح بمآل هذا التشاؤمِ ومصير أصحابه...
فكأنّ القرآن الكريم بمثل هذه المقدمة بإجمالها وسؤالها وبذكر التيمّن والتشاؤم قد أحدث في السامع ثقبا معرفيا لا بدّ من سدّه ونقصا وحاجة وفراغا علميا ولا بدّ من ملئه...
وأنا أتصور القارئ لهذه الآيات في أوّل سورة الواقعة يفتح المجال لمخيّلته واسعا محاولا تفصيل الإجمال والإجابة عن السؤال معبّأً بالتشاؤم في حال أو مشبعا في أخرى بالفال...
ولكنّه في جميع الأحوال لن يرض عن تصوراته ولن تلبي مخيّلته جميع حاجاته وسيبقى التساؤل قائما والاستفهام ...حتى إذا وقف على قوله تعالى : وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42)
...الآيات...هنالك سيحسم السؤال ويقف الاستفهام ... هنالك سيجد السامع نفسه تتلقّفُ الجواب تلقّفا وتتّبع التفصيل تتبّعاً ... تنظر في مآل أصحاب الشمال بتلهّفٍ , بقلبٍ مفتوحٍ وعقلٍ واعٍ وأذنٍ صاغية...
فتحي بودفلة
يتبع إن شاء الله تعالى

[1] انظر على سبيل المثال أيسر التفاسير للسعدي

[2] نفس الكلام يقال عن أصحاب اليمين
 
عودة
أعلى