عزام عز الدين
New member
- إنضم
- 22/02/2006
- المشاركات
- 65
- مستوى التفاعل
- 0
- النقاط
- 6
..طرح الخطاب القرآني تساؤله الأول بصيغة شديدة الخصوبة. وشديدة الإيحاء . وبالتالي التأثير ..
لقد اعتمد الخطاب القرآني على نموذج تاريخي عريق ليدخل من خلاله التساؤل إلى عقيدة أولئك الذين أخذوه بقوة من شباب مكة في الجيل الأول ..
وكان هذا النموذج الذي يمثله القرآن لتحرير العنصر الأول من عناصر التفكير الإسلامي هو نبي الله ابراهيم الخليل عليه السلام..
هناك 3 : هوامش ينبغي تسجيلها على اختيار ابراهيم دون غيره ..
الهامش الأول. ان العرب تنسب نفسها جميعا إلى ابراهيم عبر ابنه إسماعيل، الذي شارك أباه في بناء الكعبة – محج العرب عبر التاريخ - والنسب عند العرب بالغ الاهمية حتى انهم كانوا يعدون من لا نسب له ليس عربيا.. ، لذلك اعتمد الخطاب القرآني جدَهم الاكبر لتوصيل مفهوم العقيدة الجديدة – القديمة – (العقيدة الحنيفية الأصيلة).
الهامش الثاني. ان ابراهيم بالذات يحتل نفس المكانة المميزة عند اهل الكتاب سواء كانوا نصارى أو يهود .. والذين كان لهم وجود وتأثير في الجزيرة باشكال متعددة ومختلفة. سواء عبر وجودهم وإمكانياتهم المادية – التجارية المختلفة، - مثل اليهود – أو عبر وجود كيانات ودول كبرى تدين بالنصرانية وتجاور الجزيرة (الروم – الحبشة). فاختيار ابراهيم كان يمنح صلة وصل عميقة الجذور لا بالنسب العربي فحسب، بل بالعلاقات بين الأمم، وبالذات بأمم أهل الكتاب التي كانت تعتبر نفسها – عن حق – ارقى من بقية الشعوب الامية – والتي كان العرب من ضمنها ..
الهامش الثالث: ان الصورة التي يطرح من خلالها ابراهيم هي صورة أصيلة، ولا وجود لها في التوراة أو في الكتابات الإنجيلية. وذلك بالتأكيد يزيدها رسوخا وعمقا ضمن نسيج الخطاب القرآني المتميز عن التوراة والانجيل. فبينما تبدأ القصة التوراتية وابراهيم يغادر ارض بابل، يعود بنا الخطاب القرآني إلى صبا ابراهيم وبواكير وعيه ليعرفنا على جذور القصة الغير محكية في التوراة..
وقبل ان نسترسل علينا ان نؤكد ان هذه القصة لا تأخذ اهميتها الحقيقية الا عبر فهم المكانة المميزة التي احتلها ابراهيم في الخطاب القرآني فهو الذي قال فيه الخطاب المنزل ( ان ابراهيم كان امة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين ) النحل 120 (ولقد آتينا ابراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين) الأنبياء 150 (قد كانت لكم أسوة حسنة في ابراهيم والذين معه) الممتحنة 4 ( واذ ابتلى ابراهيم ربه بكلمات فاتمهن قال اني جاعلك للناس إماما .. ) البقرة 124 ( ومن يرغب عن ملة ابراهيم الا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه حنيفا وما كان من المشركين ) آل عمران 95 ..
من هذه الحقيقة المميزة للوضع الابراهيمي في السياق القرآني يمكن ان نفهم كيف بنى الخطاب القرآني عنصر التفكير الأول عليه ..
* * *
كيف صار ابراهيم – أبو الأنبياء وأبو العرب وصاحب الملة الحنفية – نبياً ؟.
ما هي التربة التي رأى الله عز وجل انها صارت خصبة معدة لاستقبال حكمة النبوة ومسؤولية الرسالة ؟.
ما هي العوامل النفسية – السلوكية التي جعلته مهيئاً ليكون الأب الروحي للأديان السماوية الثلاثة ؟.
يجيبنا الخطاب القرآني عن هذه التساؤلات بطريقة موجزة وموحية .. كالعادة.
(واذ قال ابراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناما آلهة أنى أريك وقومك في ضلال مبين. وكذلك نري ابراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين. فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربى فلما أفل قال لا احب الآفلين. فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربى فلما افل قال لئن لم يهدني ربى لأكونن من القوم الضالين. فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا اكبر فلما افلت قال يا قوم إني برئ مما تشركون. إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما انا من المشركين) الإنعام (74-79).
هـذا الحوار الذي دار بين ابراهيم وأبيه أولاً ، وبين إبراهيم والكون ثانياً، وبين إبراهيم ونفسه ثالثاً – لم يكن مجرد حوار عادى دار ذات ليلة بين اب وابنه، بل كان اعمق من ذلك وخارجا عن المقاييس الزمنية والتاريخية. انه حوار في عمق الوعي الانساني والتجربة البشرية بأسرها، حوار شكل منعطفا مهماً في تاريخ الفكر الانساني واكتملت انعطافته بظهور الاديان السماوية المرتبطة بشكل أو بآخر إلى إبراهيم.. ينطلق ابراهيم في هذا الحوار التاريخي من الشك بالمسلمات التقليدية في مجتمعه*1، ثم عندما يجن الليل عليه، يبدأ بالبحث المباشر عن اله هذا الكون..
والثالوث الذي تقلـب ابراهيم بينه تلك الليلة حتى الصباح لم يكن ثالوثا اعتباطيا، فالقمر والزهرة والشمس هي من العبادات شديـدة الانتشار عند الاقوام السامية عموما (ان لم يكن عند غيرها ايضاً). على اختلاف في تقديم القمر على الشمس عند الساميين الغربيين والعرب الجنوبيين ، والعكس عند العـرب الشماليين .. وقد ظلت هذه العبادة قائمة حتى ظهور الإسلام: ومن أسماء العرب المعروفة: عبد شمس، ومن القبائل المعروفة التي تعبدت للشمس بنى تميم. وكذلك بنو اد: ضبة ، تميم ، وعدي ، وعطل ، وثور. ويقال ان اللات – الصنم المعروف الذي تعبـد له المشركون والوارد ذكره في القرآن – كان رمزا للشمس، والمعروف ان قريش كانت تصلي صلاة للشمس وعند الضحى.. والقمر ايضا كان معبودا معروفا عند الجاهليين خاصة عند السبأيين*2 اذ هو إلههم الأكبر – واتخذوا الثور رمزا مقدسا له كما تدل على ذلك النصوص الثمودية وغيرها .. ورغم ان الزهرة – وتسمى عثتر – كانت اكثر كوكب تعبد له العرب، الا انهم تعبدوا لكواكب أخرى مثل: الدبران، العيوق، والشعرى (التي ورد ذكرها في القرآن) والثريا، والمرزم.. الخ*3.
ان الكواكب والنجوم والأصنام لم تنفرد بعبادتها الأقوام السامية فحسب، بل شاعت عبادتها في كل أنحاء الارض عبر التاريـخ. مع اختلافات متنوعة في التفاصيل لكن الحيرة الإبراهيمية والحوار الإبراهيمي يخرج بهذا عن اطاره الفردي – ليكتسب أبعاداً حضارية – إنسانية عميقة موغلة في القدم: انه بحواره مع ابيه يمثل تمرد جيل جديد على الافكار التقليدية والمسلمات الاجتماعية البالية. والاب هنا هو رمز لكل السلطات والمؤسسات الاجتماعية التي تكرس بقاء التقاليد والمسلمات والأعراف وتوفر لها الحماية والاستمرارية..
وحوار ابراهيم مع الكون يمثل نضوج العقل الانساني ومحاولته فك اسرار الخليقـة بالاعتماد على العقل.
انه يمثل الحيرة والشك الوجوديتين أمام الحياة والموت والوجود ككل، وهو يمثل بالوقت نفسه – محاولة الاعتماد على العقل للخروج من هذه الحيرة وهذا الشك، وذلك برفض كل المسلمات والبديهيات التقليدية.. والبدء من جديد، من نقطة جديدة.. نحو هدف جديد وبأساليب مختلفة وغير تقليدية..
تلك الليلـة التي قضاها ابراهيم متقلبا حائرا على فراش الشك والتساؤلات المزدحمة كانت ليلة طويلة جدا، ولم تنته عندما أشرقت الشمس. اذ انه ظل حائرا يبحث فيها عن ربه .. لكنها انتهت عندما اشرق العقل في داخله. عندما وجد الاجابة عن تساؤلاته فيه. عندما وجد ان الجسر نحو الخلاص موجود في أعماقه، فقط عليه ان يخطو نحوه الخطوة الأولى، متحررا من كل الأحكام التقليدية والنظرة المسبقة والتقاليد البالية- المسيطرة فقط لأنها تنتمي للأولين..
تلك الخطوة بدأت بالشك بهذه المسلمات في عقل ابراهيم. بدأت بالتساؤلات المزلزلة التي اقتلعت فكرة الأصنام والأوثان من عقل ابراهيم..
انـه الشك. التساؤل الذي سرى مثل التيار الكهربائي ليمنح الحياة والروح إلى العقل الأول: عقل الإنسان الذي سيصير ابا روحيا – بل وجسديا إلى حد كبير – لثلاث أمم وثلاثة أديان سماوية.. انه العقل الذي كون تلك التربة الخصبة المهيئة لاستقبال الوحى الالهي ..
لقد كانت الشرارة الاولى التي مهدت لنزول الكلمة الالهية هي شرارة احتكاك العقل بالواقع ومعطياته بعيدا عن الأحكام المسبقة والنظرة التقليدية.. انه العقل الذي سبق الوحى بل ومهد له وعبد له الطريق، انه العقل الذي مثل البوتقة التي انصهر فيها الوحى الالهي وتفاعل وتكامل معها.. هل كان يمكن للوحى ان يتنزل على عقل خامل لا شك فيه ولا تساؤلات، هل كان يمكن ان ينمو الايمان في عقل لم يعرف الشك ولم يتقلب بحثا عن يقين، ولم يشك بالمسلمات ولم يلحد بالشرك الغبي المتوارث..
لا طبعا. الايمان يبدأ من الشك. واليقين يبدأ من السؤال. والوحي الإلهي لم ينزل الا على عقل شكاك، اذ لا يكتمل الايمان الا هناك.
هذا المحور شديد الاهمية هو الذي ركز عليه الخطاب القرآني، فإبراهيم – بنص الخطاب – هو أول المسلمين. والإسلام – هو ملـة ابراهيم الحنيف الذي لم يكن من المشركين، والرسالة الجديدة هي تتمة لرسالة ابراهيم الاولى والاصلية..
وعنـدما تكون رسالة ابراهيم قد بدأت من تخوم الشك والتساؤلات، ولم ينزل الوحى الا بعد خوضه لتلك التجربة المثمرة: تجربة الشك والتساؤلات، فإن هذه البداية، تدمغ – بطريقة ما – الرسالة الإسلامية ككل، باعتبارها الوريث الشرعي للرسالة الإبراهيمية ..
الإسلام اذن بدأ من الشك، من التساؤل المطلق أمام الحقائق الكونية. من رفض القبول المسبق الغبي الخالي من التمحيص والبحث..
ولذلك يعلق الخطاب القرآني على رحلة الشك التي خاضها ابراهيم لتكون التربة الصالحة لنزول الوحي (وتلك حجتنا اتيناها ابراهيم على قومه نرفع درجات من نشـاء ان ربك حكيم عليم).. الانعام 83 – الحجة هي العقل، عقـل ابراهيم المنفرد السابق على نزول الوحي، هو الحجة الاولى، وتأمل ارتباط هذه الحجة بالحكمة والعلم في اختيار هذين الصفتين دون غيرهما لوصفه عز وجل، فالحكمة والعلم مرتبطتان بل وناتجتان عن العقل – الحجة التي اقامها الله على البشرية، وابراهيم على نفسه اولا وعلى قومه ثانيا..
* * *
لكن علاقـة الشك والتساؤل بالايمان في منهجية الخطاب القرآني ليست علاقة أولية تبدأ حتى تنتهي. فالسؤال هنا ليس إضاءة برق خاطفة تضئ الدرب لوهلة ثم تنتهي إلى الأبد ..
علاقة التساؤل بالايمان – في الخطاب القرآني – علاقة صميمية ومترابطة ولا تنتهي بالوصول إلى يقين نهائي يتحول مع تقدم الوقت الي يقين غبي ومتوارث حاله حال البديهيات والمسلمات التقليدية ..
وعلى العكس مما هو متوقع من عقيدة دينية، فان الخطاب القرآني يقدم ابا الأنبياء – ابراهيم – وبعد ان يكتمل عقلـه مع الوحى الالهي ويصبـح الرسول الذي أصبحه، يقدمه القران في لحظة عميقة، لحظة يحاول من خلالها إعادة النظر واعادة التقييم، ويصل من خلالها، إلى ذروة الايمان التي لا يمكن الوصول اليها الا عبر الشك ..
(واذ قال ابراهيم ربى أرنى كيف تحيى الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ اربعة من الطير فصرهن اليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءً ثم ادعهن يأتينك سعيا واعلم ان الله عزيز حكيم) البقرة 260 . فابراهيم لم تمنعه مكانة الوحى الالهي التي يتلقاها، والمكانة الرسولية التي تبوأها من ان يعلن صراحة عن حاجته إلى إعادة النظر، عن عدم طمأنية تشوب افكاره وقلبه وعقله، عن تساؤل يقترب من الحدود الخطرة، وعن شك لا يزال يحتاج معه إلى بحث ..
وبالشك وحده وصل إلى اليقين النهائي، وصل إلى طمأنية القلب، الذروة العالية من الايمان التي كان يصبو اليها. هل وصلها بالمزيد من التعبد ؟ الاستغفار ؟ بالتحنث والانقطاع للعبادة ؟ ابداً. ولعله ما كان يصلها ابدا لو استخدم هذه الوسائل. لكنه وصل بالشك. بالتساؤل الذي لا يمثل مجرد محطة عابرة في ايمان ابى الرسل والأنبياء، بل يمثل العلامة الاهم – قرآنياً – في مسيرته الرسولية ..
.. ومن الواضح عبر السياق الوارد في الخطاب القرآني ان هذا التساؤل الإبراهيمي كان بعد نزول الوحى عليه لا كما كان في السياق الأول الذي مهد لنزول الوحى ..
ولعل هذه النقطة تتوضح اكثر إذا ما استرجعنا ان هذا السياق نزل في الفترة المدنية على العكس من السياق الاول المكي النزول ..، فهنا ايضا يذكر الخطاب في أوج الفترة المدنية – فترة نزول آيات الأحكام وتقوية أسس نشوء الدولة الإسلامية – بأهمية إعادة النظر وتجديد التقييم وربط ذروة الايمان بحالة التساؤل والشك الإيجابيتين والتي تسهم في تأصيل الايمان وتعميق جذوره، لا الإطاحة به كما قد يتصور البعض ..
ويستخدم الخطاب القرآني – نموذجا آخر – لتعميق فكرة التساؤل في ذهنية المتلقي قيد التكوين، وهو نموذج لا يقل مكانة عن ابراهيم –ولعل ذكره قد ورد اكثر مما ورد ابراهيم.
انه موسى عليه السلام – رسول آخر من أولى العزم وكليم الله – كما يلقبه الموروث الإسلامي- وصاحب شريعة وحفيد آخر من أحفاد الرسول الأول ابراهيم..
فموسى سأل الله ما لا يسال عادة – وهو ان يراه (ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب ارني انظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فان استقر مكانه فسوف تراني فتجل ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا فلما أفـاق قال سبحانك ربى تبت اليك وانا أول المؤمنين).. الأعراف 143. وهذا السؤال كانت له معطيات واقعية منسجمة مع الرؤية التجسيمية التي كان العبرانيون يؤمنون بها – أي ان سؤال موسى لم يكن ترفاً جدلياً بل محض انسجام مع الواقع ومتطلباته.. وفي كلتا الحالتين، -ابراهيم وموسى- ياتي الجواب الالهي بصورة عملية بليغة – الطير الذي يعود إلى الحياة والجبل الذي يندك – وهما مثالان على أجوبة إلهية لتساؤلات وشكوك انسانية على السنة الرسل.. والمثالان يعطياننا معا صورة رائعة لرؤية قرآنية مغايرة تماما. فالأسئلة والشكوك هنا لا تساور الكفار واعداء الرسل. بل تأتي على السنة الرسل وتجوب في أفكارهم وعقولهم، وهم لا يترددون في الإفصاح عنها لذاك الذي يعلم ما في الصدور – والعقول ..
.. والأجوبة الالهية لا تأتي بشكل صواعق تحرق حناجر الرسل الذين تجرءوا ونطقوا بالشك، أو بزلازل تبيد القرى وتفني عقب الرسل، كما عودتنا الرؤية التوراتية، كما انها لا تأتي باجوبة نظرية: حكم بليغة أو أمثال مأثورة لتسكت الأجوبة وتقمعها وتقيد العقل الذي صدرت عنه بأسوار التأويلات والمجازاة والتهويلات..
بل تأتي الأجوبة لتوجه السؤال نحو الطبيعة: مظاهرها وظواهرها. اشكالها وقوانينها. الطير والجبل شكلان من اشكال الطبيعة جاء الوحي الالهي ليوجه السؤال الرسولى نحوهما، ففيهما الجواب.. وهنا – مرة أخرى- يكون للعقل الذي سأل دورٌ في الجواب عن هذا السؤال. ان السؤال الذي عذب ابراهيم وآرق موسى لن يجد جوابا مباشرا من قبل الوحى الالهي بطريقة تجعله مجرد شاهد سلبي بل سيأتي الجواب بطريقة تستدرج العقل نفسه في إبداع الجواب وتكوينه. تدربه على عمليات عقلية مؤسسة على المشاهدة والتجربة والاستنتاج، ليصل بنفسه إلى الجواب الذي طرحه ..
وهنا بالذات تتوضح أهمية (طمأنينة القلب) التي حازها ابراهيم و(ألاولوية على المؤمنين) التي حازها موسى.. ان هذه المرتبة لم تأتِ اعتباطا: لم تكن هبة إلهية دونما جهد بذله العقل الانساني، لقد كانت نتيجة لبحث وجهد وتأملات، ولم تكن – بالتأكيد – نتيجة لتسبيح أو استغفار لفظي أو تكرار لصلوات معينة طوال الوقت.
الشك، إذن ، التساؤل، قد يفتح باب اليقين النهائي، لا الضياع والإلحاد كما يحاول البعض ان يوهمنا..
وبالنسبة للخطاب القرآني ، الذي عمل على تشكيل عقل الفرد المسلم وتكوين شخصيته، فان هذه المسالة كانت بالغة الاهمية والتأثير. لقد كرست هذه الرؤية مسالة التساؤل في عقل الفرد المسلم عبر المثل القرآني وبدون مبالغات في الخطابة.
انه التساؤل الذي منه بدأ الايمان الأول : إيمان الجد – ابراهيم.
* * *
.. ونحن أحق بالشك من ابراهيم !!
عبارة عادية، قد لا تلفت الكثير من الانتباه، إذا قالها أي واحد منا ، من آلاف – بل ملايين الناس العاديين المتأرجحين في إيمانهم بين شك ويقين أو ايمان تقليدي متوارث.. لكن قائل العبارة ليس شخصا عاديا. انه الرسول (ص) نفسه. بل وخاتم الرسل والوريث النهائي لشريعة أبي الأنبياء ، ابراهيم.
انه الرسول(ص): لا يبرر، لا يبحث عن تأويل يبرئ إبراهيم من تهمة الشك، لا يبحث في ألفاظ العربية عن معنى يخبأ خلفه شك ابراهيم. لا يخرج شك ابراهيم عن معناه الحقيقي ليحوله إلى مجاز آخر من المجازات العقيمة خالية المعاني. لا يستغفر له عن شكه. لا يعده خطيئة. ولا يصدر أحكاماً بناءً عليه..
على العكس من ذلك: انه يعلن ببساطة ، أحقية المسلمين بهذا الشك. أي ان هذا الشك، صار موضعا للتنافس والمسابقة بدلا من ان يكون تهمة مدفوعة، والمسلمون، ورثة ابراهيم الذي بدء إيمانه من التساؤل والشك في المكرسات التقليدية، احق بهذا الميراث من غيرهم. كنز الايمان ومفتاحه الأول: التساؤل. والشك الذي يجدد هذا الإيمان ويفتح له أفاقا أوسع ومديات ارحب: قد يكون اليقين من بينها، لكنه يظل ابدا يقينا متجددا بالشك الذي يتفاعل معه ويفاعله، يظل يقينا متصاعدا حيويا فاعلا .. ولولا الشك لتحول اليقين إلى مجرد موروث مكرس غبي وملئ بالضجر والرتابة .. لولا الشك الذي نحن أحق به من ابراهيم !!
ونستنتج من راوي الحديث: ابى هريرة ، الذي اسلم قبل ثلاث سنوات فقط من وفاة الرسول (ص)، ان هذا الحديث لم يرد في فترة مبكرة من الفترة المدنية، ناهيك عن كون الآية التي تروى قصة الشك مدنية أصلا..
أي ان الرسول – الذي أعلن احقيته واتباعه بالشك، لم يكن، عندما أعلن هذا الإعلان، في مرحلة مبكرة من عمره الرسولي وبدء نزول الوحي عليه. بل كان الوحي ينزل عليه منذ عشرين سنة – على اقل تقدير ..
انه الشك الإيجابي والتساؤل الفعال. ذاك الذي يصير جزء من طبيعة تفكير ومنهجية حياة. ذاك الذي يقتلع جذورا هشة ليزرع مكانها جذورا اعمق واقوى.. انه الشك الناضج: ذاك الذي يعني بالملاحظة والتجربة واعادة النظر والاستنتاج..
انه شك الانبياء ، الممتزج بيقين – لا شك فيه – في ان هذا الشك هو المحرك الأول للإيمان . للشريعة . للحياة كلها ..
بينما يتشدق آخرون – من اتباع خاتم الانبياء – بإيمان يتخيلونه نهائيا، ويتمسكون بنظرة واحدة لمعنى الايمان مرت عليها القرون دون ان يطرأ عليها شك يعيد لها الحياة ، ويكفرون ويفسقون ويبدعون أشخاصا فضلوا بكل بساطة ان يعلنوا – مثل نبيهم – انهم احق بالشك من ابراهيم ..
والحديث، لهواة التشكيك، صحيح. بل ومتفق عليه( 3192،4263 البخاري،151 مسلم، 4026 ابن ماجة، 8311 مسند أحمد،11050،11253 السنن الكبرى،6208 ابن حبان).
* * *
.. ولعله اعمق من مجرد الصدفة ان يرد (السؤال) في حادثة أخرى مهمة في سيرة ابراهيم كما اوردها الخطاب القـراني: والتي ينفرد فيها مرة أخرى عن الرؤية التوراتية – فعندما يضع ابراهيم قومه في مواجهة مع خرافاتهم وتناقضاتهم وواقعهم – ويحطم الأوثان الا كبيرها .. يستغل السؤال كإستراتيجية لتأزيم الموقف المتأزم اصلا - (اذ قال لابيه وقومه ما هذه التماثيل التي انتم لها عاكفون . قالوا وجدنا اباءنا لها عابدين. قال لقد كنتم انتم وآباؤكم في ضلال مبين . قالوا اجئتنا بالحق ام انت من اللاعبين. قال بل ربكم رب السموات والأرض الذي فطرهن وانا على ذلكم من الشاهدين. وتالله لاكيدن أصنامكم بعد ان تولوا مدبرين فجعلهم جذاذا الا كبيرا لهم لعلهم إليه يرجعون. قالوا من فعل هذا بآلهتنا انه لمن الطامعين . قالوا سمعنا فتى يذكـرهم يقال له ابراهيم. قالوا فآتوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون. قالوا انت فعلت هذا بآلهتنا يا ابراهيم. قال بل فعله كبيرهم هذا فاسئسلوهم ان كانوا ينطقون. فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا انكم انتم الظالمون . ثم نكسوا رؤوسهم لقد علمت ما هؤلاء ينطقون ).. الانبياء 51-65.
فإبراهيم هنا يستخدم السؤال كوسيلة لهدم الأوثان الحقيقية ، اوثان الفكر التي تعشش داخل العقول – اكثر مما يفعل المعول الذي استخدمه لهدم التماثيل.. وبينما أبقي ابراهيم كبيرهم – (لعلهم إليه يرجعون) – في الخطة المرسومة، فإن (الرجوع) صار (إلى أنفسهم) – وبينما طلب منهم ابراهيم ان يسألوا الأوثان – فانهم سألوا أنفسهم – بالضبط كما كانت الخطة التي وضعها ابراهيم: ان يصير السؤال على ألسنتهم. على عقولهم. في أفكارهمورغم ان الخطة الإبراهيمية نجحت في زرع الشك في نفوس قومه، فإن أسس المجتمع وأركانه لا تتقوض بمجرد طرح السؤال .. فالدرب ، أطول واصعب .. عله ينفجر ليطيح بأوهامهم..
بأركان عقيدتهم .. بأسس مجتمعهم ..، انه الرشد الذي آتاه الله ، من قبلُ (الأنبياء 51) .
********
ان يبدأ ديكارت منهجه العلمي منطلقا من الشك ليكون مرتكزه الأساسي ، وليغير منطلقات البحث العلمي بعدها، مكونا المنهجية العقلانية في النظر العلمي البحت للأمور، وان يكون منهجه هذا من أهم الفتوحات العقلانية في الفكر الإنساني، امر ليس بمستغرب من صاحب منطق رياضي – فلسفي شغل المكانة التي شغلها ديكارت..
لكن ان تبدأ عقيدة ايمانية طريقها بالشك، وتركز عليه عبر مسيرتها باعتباره المفاعل والمجدد والوسط الذي تحقَّقَ فيه مشروعها الانساني والتاريخي، امر يبدو مستغربا جدا..
لكن هذا الاستغراب يظل منطلقا من نظرة تقليدية تعامل الاديان كوحدة واحدة على انها جميعا تتمحور حول ايمان غيبي اعمى يرتكز على الراحة النفسية بهذا الايمان الخالي من التساؤلات والشكوك. ايمان لا دخل للعقل فيه: نفس الايمان الذي تكون مع المعجزات الحسية التي اعتمد عليها انبياء الاديان الاخرى: اعجاز للحس وابهار للمشاعر..
أما الايمان بالاسلام – الذي اعتمد اصلا على التفاعل العقلاني مع الخطاب القراني، فلا بد ان يكون تقييمه بمقاييس مختلفة : فلا يعود اعتماد السؤال والتركيز على الشك وأحقية المسلمين به مسألة تثير الاستغراب، بل تنسجم أصلا مع نسيج الدين المختلف وطبيعته المتميزة التي تخرجه عن دائرة النظرة التقليدية للدين ودوره : الراحة والطمأنينة عبر الصلاة والتعبد والتنسك، وتجعله اقرب لمنهاج الحياة المتكامل منه إلى طريقة للصلاة والوعظ والزهد.
وعندما يكون الدين منهاجا وطريقا للحياة والنظرة إليها وطريقة لتفكير أفراده، فان ابتداءه بالتساؤل وتتويجه بالشك هو تأسيس لطريقة تفكير تكون بعمق العقيدة وتمتزج لتكون عقول وأفكار أفرادها: انها عقيدة لا تذبل لان التساؤل ينعشها ولا تموت لان الشك يبعثها من جديد – فتظل متجددة وقوية أمام التبدلات والتغيرات المستمرة..
وللأسف فان ذلك التساؤل الإبراهيمي الذي ابتدأ به الاسلام، وذلك الشك الذي نحن أحق به من ابراهيم – والذي أوصل إلى ذروة طمأنينة القلب – ظلا مجرد آيات قرآنية (أخرى) دون ان تتاح لهما فرصة التأصيل والتأسيس في الفكر الإسلامي ودون ان تتجذر لهما داخل العقل المسلم المتكون جذور عميقة وروابط متينة – فقد سارت رياح التاريخ بعكس ما تشاء سفن العقيدة، وانتجت ظروف وملابسات تاريخية أرضية فكرية غريبة عن منهج التساؤل والشك الذي بدأ به دين الاسلام الحنيفي . لقد انتجت هذه الظروف فكر يمجد اليقين المتوارث ويحقر التساؤل ويعده بدعة مآلها إلى النار.. والاسوء انه يتخفي بالآيات والأحاديث ويتخذهما كغطاء ووسيلة..
ولنا عودة لاحقة لهذه الظروف والملابسات التي لم تؤثر على الفكر الإسلامي فحسب، بل على الشخصية والعقل المسلمين.. وعلى الفرد المسلم الذي تكون عبر العصور وورث عبء التاريخ الثقيل
مقتبس من كتاب البوصلة القرآنية للدكنور أحمد خيري العمري دار الفكر دمشق
لقد اعتمد الخطاب القرآني على نموذج تاريخي عريق ليدخل من خلاله التساؤل إلى عقيدة أولئك الذين أخذوه بقوة من شباب مكة في الجيل الأول ..
وكان هذا النموذج الذي يمثله القرآن لتحرير العنصر الأول من عناصر التفكير الإسلامي هو نبي الله ابراهيم الخليل عليه السلام..
هناك 3 : هوامش ينبغي تسجيلها على اختيار ابراهيم دون غيره ..
الهامش الأول. ان العرب تنسب نفسها جميعا إلى ابراهيم عبر ابنه إسماعيل، الذي شارك أباه في بناء الكعبة – محج العرب عبر التاريخ - والنسب عند العرب بالغ الاهمية حتى انهم كانوا يعدون من لا نسب له ليس عربيا.. ، لذلك اعتمد الخطاب القرآني جدَهم الاكبر لتوصيل مفهوم العقيدة الجديدة – القديمة – (العقيدة الحنيفية الأصيلة).
الهامش الثاني. ان ابراهيم بالذات يحتل نفس المكانة المميزة عند اهل الكتاب سواء كانوا نصارى أو يهود .. والذين كان لهم وجود وتأثير في الجزيرة باشكال متعددة ومختلفة. سواء عبر وجودهم وإمكانياتهم المادية – التجارية المختلفة، - مثل اليهود – أو عبر وجود كيانات ودول كبرى تدين بالنصرانية وتجاور الجزيرة (الروم – الحبشة). فاختيار ابراهيم كان يمنح صلة وصل عميقة الجذور لا بالنسب العربي فحسب، بل بالعلاقات بين الأمم، وبالذات بأمم أهل الكتاب التي كانت تعتبر نفسها – عن حق – ارقى من بقية الشعوب الامية – والتي كان العرب من ضمنها ..
الهامش الثالث: ان الصورة التي يطرح من خلالها ابراهيم هي صورة أصيلة، ولا وجود لها في التوراة أو في الكتابات الإنجيلية. وذلك بالتأكيد يزيدها رسوخا وعمقا ضمن نسيج الخطاب القرآني المتميز عن التوراة والانجيل. فبينما تبدأ القصة التوراتية وابراهيم يغادر ارض بابل، يعود بنا الخطاب القرآني إلى صبا ابراهيم وبواكير وعيه ليعرفنا على جذور القصة الغير محكية في التوراة..
وقبل ان نسترسل علينا ان نؤكد ان هذه القصة لا تأخذ اهميتها الحقيقية الا عبر فهم المكانة المميزة التي احتلها ابراهيم في الخطاب القرآني فهو الذي قال فيه الخطاب المنزل ( ان ابراهيم كان امة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين ) النحل 120 (ولقد آتينا ابراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين) الأنبياء 150 (قد كانت لكم أسوة حسنة في ابراهيم والذين معه) الممتحنة 4 ( واذ ابتلى ابراهيم ربه بكلمات فاتمهن قال اني جاعلك للناس إماما .. ) البقرة 124 ( ومن يرغب عن ملة ابراهيم الا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه حنيفا وما كان من المشركين ) آل عمران 95 ..
من هذه الحقيقة المميزة للوضع الابراهيمي في السياق القرآني يمكن ان نفهم كيف بنى الخطاب القرآني عنصر التفكير الأول عليه ..
* * *
كيف صار ابراهيم – أبو الأنبياء وأبو العرب وصاحب الملة الحنفية – نبياً ؟.
ما هي التربة التي رأى الله عز وجل انها صارت خصبة معدة لاستقبال حكمة النبوة ومسؤولية الرسالة ؟.
ما هي العوامل النفسية – السلوكية التي جعلته مهيئاً ليكون الأب الروحي للأديان السماوية الثلاثة ؟.
يجيبنا الخطاب القرآني عن هذه التساؤلات بطريقة موجزة وموحية .. كالعادة.
(واذ قال ابراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناما آلهة أنى أريك وقومك في ضلال مبين. وكذلك نري ابراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين. فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربى فلما أفل قال لا احب الآفلين. فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربى فلما افل قال لئن لم يهدني ربى لأكونن من القوم الضالين. فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا اكبر فلما افلت قال يا قوم إني برئ مما تشركون. إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما انا من المشركين) الإنعام (74-79).
هـذا الحوار الذي دار بين ابراهيم وأبيه أولاً ، وبين إبراهيم والكون ثانياً، وبين إبراهيم ونفسه ثالثاً – لم يكن مجرد حوار عادى دار ذات ليلة بين اب وابنه، بل كان اعمق من ذلك وخارجا عن المقاييس الزمنية والتاريخية. انه حوار في عمق الوعي الانساني والتجربة البشرية بأسرها، حوار شكل منعطفا مهماً في تاريخ الفكر الانساني واكتملت انعطافته بظهور الاديان السماوية المرتبطة بشكل أو بآخر إلى إبراهيم.. ينطلق ابراهيم في هذا الحوار التاريخي من الشك بالمسلمات التقليدية في مجتمعه*1، ثم عندما يجن الليل عليه، يبدأ بالبحث المباشر عن اله هذا الكون..
والثالوث الذي تقلـب ابراهيم بينه تلك الليلة حتى الصباح لم يكن ثالوثا اعتباطيا، فالقمر والزهرة والشمس هي من العبادات شديـدة الانتشار عند الاقوام السامية عموما (ان لم يكن عند غيرها ايضاً). على اختلاف في تقديم القمر على الشمس عند الساميين الغربيين والعرب الجنوبيين ، والعكس عند العـرب الشماليين .. وقد ظلت هذه العبادة قائمة حتى ظهور الإسلام: ومن أسماء العرب المعروفة: عبد شمس، ومن القبائل المعروفة التي تعبدت للشمس بنى تميم. وكذلك بنو اد: ضبة ، تميم ، وعدي ، وعطل ، وثور. ويقال ان اللات – الصنم المعروف الذي تعبـد له المشركون والوارد ذكره في القرآن – كان رمزا للشمس، والمعروف ان قريش كانت تصلي صلاة للشمس وعند الضحى.. والقمر ايضا كان معبودا معروفا عند الجاهليين خاصة عند السبأيين*2 اذ هو إلههم الأكبر – واتخذوا الثور رمزا مقدسا له كما تدل على ذلك النصوص الثمودية وغيرها .. ورغم ان الزهرة – وتسمى عثتر – كانت اكثر كوكب تعبد له العرب، الا انهم تعبدوا لكواكب أخرى مثل: الدبران، العيوق، والشعرى (التي ورد ذكرها في القرآن) والثريا، والمرزم.. الخ*3.
ان الكواكب والنجوم والأصنام لم تنفرد بعبادتها الأقوام السامية فحسب، بل شاعت عبادتها في كل أنحاء الارض عبر التاريـخ. مع اختلافات متنوعة في التفاصيل لكن الحيرة الإبراهيمية والحوار الإبراهيمي يخرج بهذا عن اطاره الفردي – ليكتسب أبعاداً حضارية – إنسانية عميقة موغلة في القدم: انه بحواره مع ابيه يمثل تمرد جيل جديد على الافكار التقليدية والمسلمات الاجتماعية البالية. والاب هنا هو رمز لكل السلطات والمؤسسات الاجتماعية التي تكرس بقاء التقاليد والمسلمات والأعراف وتوفر لها الحماية والاستمرارية..
وحوار ابراهيم مع الكون يمثل نضوج العقل الانساني ومحاولته فك اسرار الخليقـة بالاعتماد على العقل.
انه يمثل الحيرة والشك الوجوديتين أمام الحياة والموت والوجود ككل، وهو يمثل بالوقت نفسه – محاولة الاعتماد على العقل للخروج من هذه الحيرة وهذا الشك، وذلك برفض كل المسلمات والبديهيات التقليدية.. والبدء من جديد، من نقطة جديدة.. نحو هدف جديد وبأساليب مختلفة وغير تقليدية..
تلك الليلـة التي قضاها ابراهيم متقلبا حائرا على فراش الشك والتساؤلات المزدحمة كانت ليلة طويلة جدا، ولم تنته عندما أشرقت الشمس. اذ انه ظل حائرا يبحث فيها عن ربه .. لكنها انتهت عندما اشرق العقل في داخله. عندما وجد الاجابة عن تساؤلاته فيه. عندما وجد ان الجسر نحو الخلاص موجود في أعماقه، فقط عليه ان يخطو نحوه الخطوة الأولى، متحررا من كل الأحكام التقليدية والنظرة المسبقة والتقاليد البالية- المسيطرة فقط لأنها تنتمي للأولين..
تلك الخطوة بدأت بالشك بهذه المسلمات في عقل ابراهيم. بدأت بالتساؤلات المزلزلة التي اقتلعت فكرة الأصنام والأوثان من عقل ابراهيم..
انـه الشك. التساؤل الذي سرى مثل التيار الكهربائي ليمنح الحياة والروح إلى العقل الأول: عقل الإنسان الذي سيصير ابا روحيا – بل وجسديا إلى حد كبير – لثلاث أمم وثلاثة أديان سماوية.. انه العقل الذي كون تلك التربة الخصبة المهيئة لاستقبال الوحى الالهي ..
لقد كانت الشرارة الاولى التي مهدت لنزول الكلمة الالهية هي شرارة احتكاك العقل بالواقع ومعطياته بعيدا عن الأحكام المسبقة والنظرة التقليدية.. انه العقل الذي سبق الوحى بل ومهد له وعبد له الطريق، انه العقل الذي مثل البوتقة التي انصهر فيها الوحى الالهي وتفاعل وتكامل معها.. هل كان يمكن للوحى ان يتنزل على عقل خامل لا شك فيه ولا تساؤلات، هل كان يمكن ان ينمو الايمان في عقل لم يعرف الشك ولم يتقلب بحثا عن يقين، ولم يشك بالمسلمات ولم يلحد بالشرك الغبي المتوارث..
لا طبعا. الايمان يبدأ من الشك. واليقين يبدأ من السؤال. والوحي الإلهي لم ينزل الا على عقل شكاك، اذ لا يكتمل الايمان الا هناك.
هذا المحور شديد الاهمية هو الذي ركز عليه الخطاب القرآني، فإبراهيم – بنص الخطاب – هو أول المسلمين. والإسلام – هو ملـة ابراهيم الحنيف الذي لم يكن من المشركين، والرسالة الجديدة هي تتمة لرسالة ابراهيم الاولى والاصلية..
وعنـدما تكون رسالة ابراهيم قد بدأت من تخوم الشك والتساؤلات، ولم ينزل الوحى الا بعد خوضه لتلك التجربة المثمرة: تجربة الشك والتساؤلات، فإن هذه البداية، تدمغ – بطريقة ما – الرسالة الإسلامية ككل، باعتبارها الوريث الشرعي للرسالة الإبراهيمية ..
الإسلام اذن بدأ من الشك، من التساؤل المطلق أمام الحقائق الكونية. من رفض القبول المسبق الغبي الخالي من التمحيص والبحث..
ولذلك يعلق الخطاب القرآني على رحلة الشك التي خاضها ابراهيم لتكون التربة الصالحة لنزول الوحي (وتلك حجتنا اتيناها ابراهيم على قومه نرفع درجات من نشـاء ان ربك حكيم عليم).. الانعام 83 – الحجة هي العقل، عقـل ابراهيم المنفرد السابق على نزول الوحي، هو الحجة الاولى، وتأمل ارتباط هذه الحجة بالحكمة والعلم في اختيار هذين الصفتين دون غيرهما لوصفه عز وجل، فالحكمة والعلم مرتبطتان بل وناتجتان عن العقل – الحجة التي اقامها الله على البشرية، وابراهيم على نفسه اولا وعلى قومه ثانيا..
* * *
لكن علاقـة الشك والتساؤل بالايمان في منهجية الخطاب القرآني ليست علاقة أولية تبدأ حتى تنتهي. فالسؤال هنا ليس إضاءة برق خاطفة تضئ الدرب لوهلة ثم تنتهي إلى الأبد ..
علاقة التساؤل بالايمان – في الخطاب القرآني – علاقة صميمية ومترابطة ولا تنتهي بالوصول إلى يقين نهائي يتحول مع تقدم الوقت الي يقين غبي ومتوارث حاله حال البديهيات والمسلمات التقليدية ..
وعلى العكس مما هو متوقع من عقيدة دينية، فان الخطاب القرآني يقدم ابا الأنبياء – ابراهيم – وبعد ان يكتمل عقلـه مع الوحى الالهي ويصبـح الرسول الذي أصبحه، يقدمه القران في لحظة عميقة، لحظة يحاول من خلالها إعادة النظر واعادة التقييم، ويصل من خلالها، إلى ذروة الايمان التي لا يمكن الوصول اليها الا عبر الشك ..
(واذ قال ابراهيم ربى أرنى كيف تحيى الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ اربعة من الطير فصرهن اليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءً ثم ادعهن يأتينك سعيا واعلم ان الله عزيز حكيم) البقرة 260 . فابراهيم لم تمنعه مكانة الوحى الالهي التي يتلقاها، والمكانة الرسولية التي تبوأها من ان يعلن صراحة عن حاجته إلى إعادة النظر، عن عدم طمأنية تشوب افكاره وقلبه وعقله، عن تساؤل يقترب من الحدود الخطرة، وعن شك لا يزال يحتاج معه إلى بحث ..
وبالشك وحده وصل إلى اليقين النهائي، وصل إلى طمأنية القلب، الذروة العالية من الايمان التي كان يصبو اليها. هل وصلها بالمزيد من التعبد ؟ الاستغفار ؟ بالتحنث والانقطاع للعبادة ؟ ابداً. ولعله ما كان يصلها ابدا لو استخدم هذه الوسائل. لكنه وصل بالشك. بالتساؤل الذي لا يمثل مجرد محطة عابرة في ايمان ابى الرسل والأنبياء، بل يمثل العلامة الاهم – قرآنياً – في مسيرته الرسولية ..
.. ومن الواضح عبر السياق الوارد في الخطاب القرآني ان هذا التساؤل الإبراهيمي كان بعد نزول الوحى عليه لا كما كان في السياق الأول الذي مهد لنزول الوحى ..
ولعل هذه النقطة تتوضح اكثر إذا ما استرجعنا ان هذا السياق نزل في الفترة المدنية على العكس من السياق الاول المكي النزول ..، فهنا ايضا يذكر الخطاب في أوج الفترة المدنية – فترة نزول آيات الأحكام وتقوية أسس نشوء الدولة الإسلامية – بأهمية إعادة النظر وتجديد التقييم وربط ذروة الايمان بحالة التساؤل والشك الإيجابيتين والتي تسهم في تأصيل الايمان وتعميق جذوره، لا الإطاحة به كما قد يتصور البعض ..
ويستخدم الخطاب القرآني – نموذجا آخر – لتعميق فكرة التساؤل في ذهنية المتلقي قيد التكوين، وهو نموذج لا يقل مكانة عن ابراهيم –ولعل ذكره قد ورد اكثر مما ورد ابراهيم.
انه موسى عليه السلام – رسول آخر من أولى العزم وكليم الله – كما يلقبه الموروث الإسلامي- وصاحب شريعة وحفيد آخر من أحفاد الرسول الأول ابراهيم..
فموسى سأل الله ما لا يسال عادة – وهو ان يراه (ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب ارني انظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فان استقر مكانه فسوف تراني فتجل ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا فلما أفـاق قال سبحانك ربى تبت اليك وانا أول المؤمنين).. الأعراف 143. وهذا السؤال كانت له معطيات واقعية منسجمة مع الرؤية التجسيمية التي كان العبرانيون يؤمنون بها – أي ان سؤال موسى لم يكن ترفاً جدلياً بل محض انسجام مع الواقع ومتطلباته.. وفي كلتا الحالتين، -ابراهيم وموسى- ياتي الجواب الالهي بصورة عملية بليغة – الطير الذي يعود إلى الحياة والجبل الذي يندك – وهما مثالان على أجوبة إلهية لتساؤلات وشكوك انسانية على السنة الرسل.. والمثالان يعطياننا معا صورة رائعة لرؤية قرآنية مغايرة تماما. فالأسئلة والشكوك هنا لا تساور الكفار واعداء الرسل. بل تأتي على السنة الرسل وتجوب في أفكارهم وعقولهم، وهم لا يترددون في الإفصاح عنها لذاك الذي يعلم ما في الصدور – والعقول ..
.. والأجوبة الالهية لا تأتي بشكل صواعق تحرق حناجر الرسل الذين تجرءوا ونطقوا بالشك، أو بزلازل تبيد القرى وتفني عقب الرسل، كما عودتنا الرؤية التوراتية، كما انها لا تأتي باجوبة نظرية: حكم بليغة أو أمثال مأثورة لتسكت الأجوبة وتقمعها وتقيد العقل الذي صدرت عنه بأسوار التأويلات والمجازاة والتهويلات..
بل تأتي الأجوبة لتوجه السؤال نحو الطبيعة: مظاهرها وظواهرها. اشكالها وقوانينها. الطير والجبل شكلان من اشكال الطبيعة جاء الوحي الالهي ليوجه السؤال الرسولى نحوهما، ففيهما الجواب.. وهنا – مرة أخرى- يكون للعقل الذي سأل دورٌ في الجواب عن هذا السؤال. ان السؤال الذي عذب ابراهيم وآرق موسى لن يجد جوابا مباشرا من قبل الوحى الالهي بطريقة تجعله مجرد شاهد سلبي بل سيأتي الجواب بطريقة تستدرج العقل نفسه في إبداع الجواب وتكوينه. تدربه على عمليات عقلية مؤسسة على المشاهدة والتجربة والاستنتاج، ليصل بنفسه إلى الجواب الذي طرحه ..
وهنا بالذات تتوضح أهمية (طمأنينة القلب) التي حازها ابراهيم و(ألاولوية على المؤمنين) التي حازها موسى.. ان هذه المرتبة لم تأتِ اعتباطا: لم تكن هبة إلهية دونما جهد بذله العقل الانساني، لقد كانت نتيجة لبحث وجهد وتأملات، ولم تكن – بالتأكيد – نتيجة لتسبيح أو استغفار لفظي أو تكرار لصلوات معينة طوال الوقت.
الشك، إذن ، التساؤل، قد يفتح باب اليقين النهائي، لا الضياع والإلحاد كما يحاول البعض ان يوهمنا..
وبالنسبة للخطاب القرآني ، الذي عمل على تشكيل عقل الفرد المسلم وتكوين شخصيته، فان هذه المسالة كانت بالغة الاهمية والتأثير. لقد كرست هذه الرؤية مسالة التساؤل في عقل الفرد المسلم عبر المثل القرآني وبدون مبالغات في الخطابة.
انه التساؤل الذي منه بدأ الايمان الأول : إيمان الجد – ابراهيم.
* * *
.. ونحن أحق بالشك من ابراهيم !!
عبارة عادية، قد لا تلفت الكثير من الانتباه، إذا قالها أي واحد منا ، من آلاف – بل ملايين الناس العاديين المتأرجحين في إيمانهم بين شك ويقين أو ايمان تقليدي متوارث.. لكن قائل العبارة ليس شخصا عاديا. انه الرسول (ص) نفسه. بل وخاتم الرسل والوريث النهائي لشريعة أبي الأنبياء ، ابراهيم.
انه الرسول(ص): لا يبرر، لا يبحث عن تأويل يبرئ إبراهيم من تهمة الشك، لا يبحث في ألفاظ العربية عن معنى يخبأ خلفه شك ابراهيم. لا يخرج شك ابراهيم عن معناه الحقيقي ليحوله إلى مجاز آخر من المجازات العقيمة خالية المعاني. لا يستغفر له عن شكه. لا يعده خطيئة. ولا يصدر أحكاماً بناءً عليه..
على العكس من ذلك: انه يعلن ببساطة ، أحقية المسلمين بهذا الشك. أي ان هذا الشك، صار موضعا للتنافس والمسابقة بدلا من ان يكون تهمة مدفوعة، والمسلمون، ورثة ابراهيم الذي بدء إيمانه من التساؤل والشك في المكرسات التقليدية، احق بهذا الميراث من غيرهم. كنز الايمان ومفتاحه الأول: التساؤل. والشك الذي يجدد هذا الإيمان ويفتح له أفاقا أوسع ومديات ارحب: قد يكون اليقين من بينها، لكنه يظل ابدا يقينا متجددا بالشك الذي يتفاعل معه ويفاعله، يظل يقينا متصاعدا حيويا فاعلا .. ولولا الشك لتحول اليقين إلى مجرد موروث مكرس غبي وملئ بالضجر والرتابة .. لولا الشك الذي نحن أحق به من ابراهيم !!
ونستنتج من راوي الحديث: ابى هريرة ، الذي اسلم قبل ثلاث سنوات فقط من وفاة الرسول (ص)، ان هذا الحديث لم يرد في فترة مبكرة من الفترة المدنية، ناهيك عن كون الآية التي تروى قصة الشك مدنية أصلا..
أي ان الرسول – الذي أعلن احقيته واتباعه بالشك، لم يكن، عندما أعلن هذا الإعلان، في مرحلة مبكرة من عمره الرسولي وبدء نزول الوحي عليه. بل كان الوحي ينزل عليه منذ عشرين سنة – على اقل تقدير ..
انه الشك الإيجابي والتساؤل الفعال. ذاك الذي يصير جزء من طبيعة تفكير ومنهجية حياة. ذاك الذي يقتلع جذورا هشة ليزرع مكانها جذورا اعمق واقوى.. انه الشك الناضج: ذاك الذي يعني بالملاحظة والتجربة واعادة النظر والاستنتاج..
انه شك الانبياء ، الممتزج بيقين – لا شك فيه – في ان هذا الشك هو المحرك الأول للإيمان . للشريعة . للحياة كلها ..
بينما يتشدق آخرون – من اتباع خاتم الانبياء – بإيمان يتخيلونه نهائيا، ويتمسكون بنظرة واحدة لمعنى الايمان مرت عليها القرون دون ان يطرأ عليها شك يعيد لها الحياة ، ويكفرون ويفسقون ويبدعون أشخاصا فضلوا بكل بساطة ان يعلنوا – مثل نبيهم – انهم احق بالشك من ابراهيم ..
والحديث، لهواة التشكيك، صحيح. بل ومتفق عليه( 3192،4263 البخاري،151 مسلم، 4026 ابن ماجة، 8311 مسند أحمد،11050،11253 السنن الكبرى،6208 ابن حبان).
* * *
.. ولعله اعمق من مجرد الصدفة ان يرد (السؤال) في حادثة أخرى مهمة في سيرة ابراهيم كما اوردها الخطاب القـراني: والتي ينفرد فيها مرة أخرى عن الرؤية التوراتية – فعندما يضع ابراهيم قومه في مواجهة مع خرافاتهم وتناقضاتهم وواقعهم – ويحطم الأوثان الا كبيرها .. يستغل السؤال كإستراتيجية لتأزيم الموقف المتأزم اصلا - (اذ قال لابيه وقومه ما هذه التماثيل التي انتم لها عاكفون . قالوا وجدنا اباءنا لها عابدين. قال لقد كنتم انتم وآباؤكم في ضلال مبين . قالوا اجئتنا بالحق ام انت من اللاعبين. قال بل ربكم رب السموات والأرض الذي فطرهن وانا على ذلكم من الشاهدين. وتالله لاكيدن أصنامكم بعد ان تولوا مدبرين فجعلهم جذاذا الا كبيرا لهم لعلهم إليه يرجعون. قالوا من فعل هذا بآلهتنا انه لمن الطامعين . قالوا سمعنا فتى يذكـرهم يقال له ابراهيم. قالوا فآتوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون. قالوا انت فعلت هذا بآلهتنا يا ابراهيم. قال بل فعله كبيرهم هذا فاسئسلوهم ان كانوا ينطقون. فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا انكم انتم الظالمون . ثم نكسوا رؤوسهم لقد علمت ما هؤلاء ينطقون ).. الانبياء 51-65.
فإبراهيم هنا يستخدم السؤال كوسيلة لهدم الأوثان الحقيقية ، اوثان الفكر التي تعشش داخل العقول – اكثر مما يفعل المعول الذي استخدمه لهدم التماثيل.. وبينما أبقي ابراهيم كبيرهم – (لعلهم إليه يرجعون) – في الخطة المرسومة، فإن (الرجوع) صار (إلى أنفسهم) – وبينما طلب منهم ابراهيم ان يسألوا الأوثان – فانهم سألوا أنفسهم – بالضبط كما كانت الخطة التي وضعها ابراهيم: ان يصير السؤال على ألسنتهم. على عقولهم. في أفكارهمورغم ان الخطة الإبراهيمية نجحت في زرع الشك في نفوس قومه، فإن أسس المجتمع وأركانه لا تتقوض بمجرد طرح السؤال .. فالدرب ، أطول واصعب .. عله ينفجر ليطيح بأوهامهم..
بأركان عقيدتهم .. بأسس مجتمعهم ..، انه الرشد الذي آتاه الله ، من قبلُ (الأنبياء 51) .
********
ان يبدأ ديكارت منهجه العلمي منطلقا من الشك ليكون مرتكزه الأساسي ، وليغير منطلقات البحث العلمي بعدها، مكونا المنهجية العقلانية في النظر العلمي البحت للأمور، وان يكون منهجه هذا من أهم الفتوحات العقلانية في الفكر الإنساني، امر ليس بمستغرب من صاحب منطق رياضي – فلسفي شغل المكانة التي شغلها ديكارت..
لكن ان تبدأ عقيدة ايمانية طريقها بالشك، وتركز عليه عبر مسيرتها باعتباره المفاعل والمجدد والوسط الذي تحقَّقَ فيه مشروعها الانساني والتاريخي، امر يبدو مستغربا جدا..
لكن هذا الاستغراب يظل منطلقا من نظرة تقليدية تعامل الاديان كوحدة واحدة على انها جميعا تتمحور حول ايمان غيبي اعمى يرتكز على الراحة النفسية بهذا الايمان الخالي من التساؤلات والشكوك. ايمان لا دخل للعقل فيه: نفس الايمان الذي تكون مع المعجزات الحسية التي اعتمد عليها انبياء الاديان الاخرى: اعجاز للحس وابهار للمشاعر..
أما الايمان بالاسلام – الذي اعتمد اصلا على التفاعل العقلاني مع الخطاب القراني، فلا بد ان يكون تقييمه بمقاييس مختلفة : فلا يعود اعتماد السؤال والتركيز على الشك وأحقية المسلمين به مسألة تثير الاستغراب، بل تنسجم أصلا مع نسيج الدين المختلف وطبيعته المتميزة التي تخرجه عن دائرة النظرة التقليدية للدين ودوره : الراحة والطمأنينة عبر الصلاة والتعبد والتنسك، وتجعله اقرب لمنهاج الحياة المتكامل منه إلى طريقة للصلاة والوعظ والزهد.
وعندما يكون الدين منهاجا وطريقا للحياة والنظرة إليها وطريقة لتفكير أفراده، فان ابتداءه بالتساؤل وتتويجه بالشك هو تأسيس لطريقة تفكير تكون بعمق العقيدة وتمتزج لتكون عقول وأفكار أفرادها: انها عقيدة لا تذبل لان التساؤل ينعشها ولا تموت لان الشك يبعثها من جديد – فتظل متجددة وقوية أمام التبدلات والتغيرات المستمرة..
وللأسف فان ذلك التساؤل الإبراهيمي الذي ابتدأ به الاسلام، وذلك الشك الذي نحن أحق به من ابراهيم – والذي أوصل إلى ذروة طمأنينة القلب – ظلا مجرد آيات قرآنية (أخرى) دون ان تتاح لهما فرصة التأصيل والتأسيس في الفكر الإسلامي ودون ان تتجذر لهما داخل العقل المسلم المتكون جذور عميقة وروابط متينة – فقد سارت رياح التاريخ بعكس ما تشاء سفن العقيدة، وانتجت ظروف وملابسات تاريخية أرضية فكرية غريبة عن منهج التساؤل والشك الذي بدأ به دين الاسلام الحنيفي . لقد انتجت هذه الظروف فكر يمجد اليقين المتوارث ويحقر التساؤل ويعده بدعة مآلها إلى النار.. والاسوء انه يتخفي بالآيات والأحاديث ويتخذهما كغطاء ووسيلة..
ولنا عودة لاحقة لهذه الظروف والملابسات التي لم تؤثر على الفكر الإسلامي فحسب، بل على الشخصية والعقل المسلمين.. وعلى الفرد المسلم الذي تكون عبر العصور وورث عبء التاريخ الثقيل
مقتبس من كتاب البوصلة القرآنية للدكنور أحمد خيري العمري دار الفكر دمشق