التجويد العلمي والعملي بين النظرية والتطبيق

إنضم
10/08/2010
المشاركات
295
مستوى التفاعل
1
النقاط
18
التجويد العلمي والعملي بين النظرية والتطبيق
جمهور أهل العلم فرّقوا في مبحث حكم التجويد بين قسميه العلمي والعملي فقالوا بوجوب الأوّل وجوبا كفائيا وبوجوب الثاني وجوبا عينيّاً وفي المسألة أقوال ومذاهب أخرى سيأتي بيانها
وسنحاول من خلال هذا المطلب الوقوف على حقيقة هذا التفريق على مكانته في علم التجويد و على مدى مطابقته للواقع ...
التجويد العلمي هو قواعد العلم وجانبه النظري المسطّر في المؤلفات والكتب ...
أما التجويد العملي فهو قراءة القرآن الكريم وفق هذه القواعد دون الإخلال بشيء منها ...
إنّ السبب الأوّل والأهمّ ولا يبعد أن يكون الوحيد ... الذي دفعهم للتفريق بين القسمين هو حكمهما الشرعي المختلف ولا سببّ وجيه لاختلاف هذا الحكم إلاّ كون التجويد العملي حسب زعمهم يمكن تحصيله دون الوقوف على التجويد العلمي ... لهذا لم يأخذ حكمه وإلاّ فإنّ الأصل في الوسائل أن تأخذ حكم مقاصدها وغاياتها ... ولنا على هذه القسمة ملاحظات نسجلها في شكل نقاط لا بدّ من مراعاتها واستحضارها عند الوقوف على مباحثها ...
 سبق وأن قلنا في مباحث تعريف التجويد : "... هي قسمة وإن كانت وجيهة في أوّل الأمر لما كان لا يزال اللسان العربي مستقيم الطبع أو قريبا من ذلك لا يحتاج إلى كثيرِ دراسة ورياضة وعناية ليصل إلى تجويد الحروف وتصحيحها , أمّا اليوم وقد غلب على كلامنا لسان الأعاجم وامتزجت العربية الأصيلة برطانة اللهجات الدارجة فإنّه يصعب ويشقّ إن لم أقل يستحيل على الواحد منّا أن يتمكن من القراءة المجوّدة الصحيحة دون الوقوف على الجانب النظري من التجويد ودراسته وبحثه وفهمه واستيعابه ..." فيعود الأمر بذلك إلى الأصل وهو كون أحكام المقاصد والغايات تنسحب على وسائلها ولا داعي ولا مجال للتفريق حينها بين القسمين من جهة حكمهما الشرعي
 وقلنا أيضاً : "... إنّه ما من علم إلاّ وله جانب علمي وآخر عملي , لأنّ أصل العلم إنّما يقصد به العمل فالتفسير له قواعده وأحكامه والمقصود منه الفهم والتدبّر والفقه كذلك يقصد به العمل بأحكامه والأصول التمكن من الاستنباط ونحو ذلك ...فهل ذكروا هذه التفصيلات والتقسيمات في تعريفاتهم [وأحكامهم]...بل وهل اشترطوا العمل من أجل العلم هل اشترطوا لمن يريد أن يتعلم أحكام الحجّ أن يحجّ ولمن يتعلم أحكام الاستنباط أن يستنبط أبدا لم يشترط ذلك أحد1 بل الشرط كلّ الشرط أن لا يحجّ إلاّ من فقه الحجّ ولا يستنبط إلاّ من فقه الاستنباط ولا يجوّد إلاّ من فقه التجويد فأين الفرق بين علم التجويد وغيره من العلوم ـ من هذه الحيثية ـ حتى نشترط فيه ما لم نشترطه في غيره [ونضع له ـ وحده ـ تفصيلات وتقسيمات وأحكاما خاصّة لم نضعها لغيره ]..."
 إنّ العمل بالتجويد متوقف على العلم بقواعده , وقد يدّعي البعض أنّه يستطيع الاستغناء عن شيء منها وربّما كثير منها ويعوّض ذلك بما يسمعه من القراءة الصحيحة وهذا مردود من جهتين اثنين :
• الأولى : إنّه ادّعاء لا يصدّقه الواقع فمن يأتنا بهذا الذي يحسن التجويد ولا علمَ له بقواعده
• الثانية : إنّ الإحاطة بجميع مباحث التجويد ومسائله بمجرد السماع غير ممكن إذ كثير من الأحكام لا تأخذ بالسماع كالإشمام الذي لا علاقة له بالسمع أو كتلك المتعلقة بالرسم ثمّ إنّ القواعد الكلية والأصول لا يمكن العلم بها من خلال سماع جزئياتها وأفرادها ...إذ الجمع بين هذه الجزئيات يحتاج إلى نظرة كلّية لا تتحصّل إلاّ لمن له إلمام بقواعد التجويد
 حتّى لو سلّمنا أنّ التجويد العلمي يفرق عن العملي لا من حيث وجوبه ولكن من حيث تعيّن العملي دون العلمي كما هو مذهب الجمهور على ما سيأتي بيانه ... ما حكم الواجب الكفائي إذا لم تتأد هذه الكفاية ؟ أليس الإثم حينها يعمّ الأمّة كلّها ؟ والمقصود بالكفاية ليس حفظ العلم ـ والله أعلم ـ وإنّما وجود كفاية من العالمين به قادرين على تصحيح قراءة الناس ... ولا أحد يقول بتعميم الإثم ولكن المطلوب والمقصود من أهل العلم والشباب منهم على وجه الخصوص أن لا يزهدوا في تحصيل هذا العلم بحجة أنّه مستحبّ أو واجب كفائي وأنّ القراءة الصحيحة ممكنة دون تعلّمه والوقوف على مسائله ...
 حتى ولو سلّمنا جدلاً أنّ العمل بالتجويد ممكن دون العلم بقواعده وأحكامه فإنّ هذا الذي يقرأ القرآن ويجوّده بمجرد التلقي سرعان ما يلحن فيه ويقرأه بما لم ينزل به إذ لا يمكنه حفظ وضبط ما لا علم له به سوى نقل كنقل الببغاء لن يبرح أن تلحقه آفة الخلط والنسيان يقول الإمام مكي بن أبي طالب القيسي رحمه الله : "القراء يتفاضلون في العلم بالتجويد فمنهم من يعلمه روايةً وقياساً وتمييزا فذلك الحاذق الفطن . ومنهم من يعرفه سماعاً وتقليداً فذلك الوهن الضعيف . لا يلبث أن يشكّ ويدخله التحريف والتصحيف , إذا لم يبن على أصل ولا نقل على فهم"2 ِ ويقول أبو بكر بن مجاهد في وصف حملة القرآن : "مِن حملةِ القرآن : المعرِبُ العالمُ بوجوه الإعرابِ والقراءاتِ العارف باللغات ومعاني الكلام , العالم البصير بعيب لفظ القراءةِ المنتقد للآثار.3 فذلك الإمام الذي يفزعُ إليه حفاظُ القرآن من كلّ مصرٍ من أمصار الإسلام . ومنهم : من يُعرِبُ ولا يلحن ولا علمَ عنده غير ذلك . فذلك كالأعرابي الذي يقرأُ بلغته ولا يقدرُ على تحويل لسانه فهو مطبوع على كلامه .4 ومنهم: من يُؤدّي ما سمعه ممّن أخذ عنه وليس عنده إلاّ الأداء لما تعلّم لأنّه لا يعرفُ الإعراب ولا غيره . فذلك الحافظُ فلا يلبثُ مثله أن ينسى إذا طال عهده , فيضيع الإعراب لشدّة تشابهه عليه , وكثرة ضمّه وفتحه وكسره في الآية الواحدة , لأنّه لا يعتمد على علم العربية . ولا به بصر بالمعاني يرجع إليه , وإنّما اعتماده على حفظه وسماعه . وقد ينسى الحافظ فيضيع السّماعَ , ويشتبه عليه الحروف , فيقرأ بلحنٍ لا يعرفه , وتدعوه الشبهة إلى أن يرويه عن غيره , ويبرّئ نفسه , وعسى أن يكون عند الناس مصدَّقاً , فيحمل ذلك عنه, وقد نسيه وأوهم فيه وحبسَ نفسه على لزومه والإصرار عليه . أو يكون قد قرأ على من نسيَ وضيّعَ الإعرابَ , ودخلته الشبهة فتوهّم . فذلك لا يَقلَّدُ القراءةَ ولا يحتجُّ بنقلِه ..."5 والخلاصة أنّ هذا الذي تمكّن من التجويد العملي دون الوقوف والنظر في التجويد العلمي لن يسلم من الخطأ والنسيان أو على الأقلّ لا ينبغي أنْ نأتمن ونطمئن لحفظه الخالي والمجرد من الضبط والدراية والوعي ...بل قد يتعدى خطره ويعظم إذا لحن أو نسي دون أن يتفطّن هو أو من يقلده وينقل عنه هذا الخطأ والنسيان ـ وكيف يتفطّن للخطأ وهو لا يملك آليات المعرفة والتمييز ـ فينقلب الباطلُ حقّاً والخطأ صواباً ... فيُحرّف كتاب الله ويعدلُ عنه والعياذ بالله ...
 ثمّ إنّ من كمال المقرئِ وتمام الإقراءِ الجمع بين التنظير والتطبيق بين العلم والعمل يقول مكي رحمه الله : "فنقلُ القرآن فطنةً ودرايةً أحسن منه سماعاً وروايةً , فالرواية لها نقلها والدراية لها ضبطها وعلمها , فإذا اجتمع للمقرئ النقلُ والفطنة والدرايةُ وجبت له الإمامة وصحّت عليه القراءة , إن كان له مع ذلك ديانة"6 ويقول الحافظ أبو عمرو الداني رحمه الله :" وقراء القرآن متفاضلون في العلم بالتجويد والمعرفة بالتحقيق فمنهم من يعلم ذلك قياساً وتميزاً وهو الحاذق النبيه، ومنهم من يعلمه سماعاً وتقليداً وهو الغبي الفهيه، والعلم فطنة ودراية آكد منه سماعاً ورواية، وللدراية ضبطها ونظمها وللرواية نقلها وتعلمها، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم ."7
 إنّ هذا الذي فرضناه تمكّن من التجويد العملي دون النظر في التجويد العلمي لا يمكنه أنْ يعلّمَ غيره وهو واجب إثمه لا يرتفع ولا يندفع عن الأمّة حتى يحصل فيه الكفاية ... كما أنّه لا يؤتمن على القرآن من نقله ـ كما تقدّم ـ فما فائدة موهبته تلك التي لا تتعداه لغيره.
 بعضهم علّق وجوب التجويد بما اتفق القراء عليه دون ما اختلفوا فيه يقول ابن حجر الهيثمي رحمه الله :"يجب وجوبا شرعيا على القارئ أن يراعي في قراءته الفاتحةِ وغيرِها ما أجمع القراءُ على وجوبه دون ما اهتلفوا فيه..."8 , ولا يمكن التحقق ممّا اتفق عليه القراء وممّا اختلفوا فيه إلاّ بالوقف على كتبهم ومنقولاتهم لا بمجرد السماع ـ والله أعلم ـ
 ولهذه الأسباب جميعها نصّ غير واحد من أهل العلم على وجوب التجويد العلمي كالعملي , سواء كلّه بالنسبة لطلبة العلم وأهله أو الجزء الذي لا يمكن تصحيح القراءة إلاّ به بالنسبة لعموم المسلمين ...يقول الشيخ محمود علي بسّة :" وأمّا حكم تعليمه فهو فرض كفاية بالنسبة إلى عامة المسلمين, وفرض عين بالنسبة إلى رجال الدين من العلماء والقراء, ومهما يكن من شيء , فإنه يأثم تاركه منهم ويتعرض لعقاب الله..."9 ونفس الكلام قاله الشيخ محمد مكي نصر الجرسي يقول الشيخ الحصري رحمه الله :"...وأما بالنسبة لأهل العلم فمعرفته واجبة على الكفاية , ليكون في الأمة طائفةٌ من أهل العلم تقوم بتعلّم وتعليم هذه الأحكام لمن يريد أن يتعلّمها , فإذا قامت طائفةٌ منهم بهذه المهمة سقط الإثم والحرج عن باقيهم , وإذا لم تقم طائفة منهم بما ذُكر أثموا جميعاً ."10 ويقول أحمد الطويل :"معرفة قواعد التجويد وأحكامه فرض كفاية على الأمة , إذا قام به بعض المسلمين سقط الإثم عن الباقين , إلاّ إذا لم يتأتّ التجويد العملي إلاّ بمعرفة التجويد العلمي , فإنّه يأخذ حكمه , فما لا يتمّ الواجب إلاّ به فهو واجب ."11 ونحو ذلك في الشرح العصري لمحمد بن محمود حوّا12 بل و في جلّ كتب التجويد الحديثة منها على وجه الخصوص فالقدماء قلّ من فرّق بين القسمين

الهوامش :
1 هذا الكلام إنّما ذكر في فصل التعريف ردّاً على من أدرج في تعريف التجويد العمل به فلا يتأتى العلم بالتجويد إلاّ بتطبيقه
2مكي بن أبي طالب القيسي (437هـ) : الرعاية لتجويد القراءة وتحقيق لفظ التلاوة ؛ دار الصحابة للتراث 1422هـ 2002م ص22
3 يلاحظ ها هنا أنّ اصطلاح التجويد لم يكن قد ظهر بعد بل والعلم ذاته لم يكن قد استقل عن علوم اللغة والقراءات فهو مندرج في قوله (وجوه الإعراب) وفي قوله (القراءات) وظاهر أتمّ الظهور في قوله (عيب لفظ القراءة...) والله أعلم .
4 ولم يعد لم يقرأ القراءة الصحيحة بطبعه وسجيّته على السليقة وجود في زماننا هذا ولا في الأزمنة المتقدمة بعد أن دخل اللحن اللسان العربي عندما اختلط المسلمون بغيرهم من الأعاجم
5 المرجع نفسه ص23
6 المرجع السابق ص22
7 نقلا من: محمد بن سيدي محمد محمد الأمين ؛ الوجيز في حكم تجويد الكتاب العزيز , نسخة إلكترونية , مبحث تاريخ التجويد
8 الشرح العصري ص49
9 العميد ص8 والوصف الأخير قاله دون التفريق فيه بين قسمي التجويد وانظر : محمد مكي نصر الجرسي . نهاية القول المفيد في علم التجويد , مكتبة الصفا الطبعة الأولى 1999م ص6
10محمود خليل الحصري (1401هـ) :أحكام قراءة القرآن ؛المكتبة المكية بالاشتراك مع دار البشائر الإسلامية بتحقيق محمد طلحة بلال ,ط2 ص27
11تيسير علم التجويد ص9
12الصفحة 49
 
أخي الكريم: فرق واضح بين التجويد العلمي الذي هو المعرفة بالقواعد النظرية في علم التجويد وحفظها واستظهارها، والتجويد العملي الذي هو: تطبيق أحكام التجويد على قراءة القرآن.
وكثير من الناس متقن للجانب النظري، ولكنه غير متقن للجانب التطبيقي العملي، والعكس صحيح، ولذلك تجد كثيرا من الأطفال يطبق الأحكام من المدود وأحكام النون الساكنة والتنوين، وأحكام الميم الساكنة، وغيرها، ولو سألته عن تعريف المد أو الغنة أو الإظهار أو الإقلاب...الخ = لما عرف لذلك جواباً، وهذا معلوم لكل أحد، وقد عرفته من نفسي وأنا طفل صغير، حيث تعلمت التجويد العملي قبل أن أعرف حرفا واحدا في النظري، وأمثالي كثر جدا، بل أقول: إن ذلك هو الأصل في تعليم التجويد للصغار خاصة، والله أعلم.
 
شكر وتساؤل للأستاذ ضيف الله الشمراني

شكر وتساؤل للأستاذ ضيف الله الشمراني

شكر الله للأستاذ الفاضل اهتمامه وملحوظاته
المثال الذي قدّمه الأستاذ عن الصبية الذين يحفظون القرآن مجوّدا صحيحا دون أدنى معرفة بأحكام التجويد النظرية ؛ صحيح معروف ومشهور لكن هل هذه المعرفة تستغرق القرآن كلّه ؟ وهل يؤمن معها الوهم والخلط واللبس ؟ وهل تكفي هذه المعرفة العملية لأحكام التجويد حتى يعدّ هذا الطفل عالما بالتجويد ؟ وهل يستغني هذا الطفل بمعرفته التطبيقية العملية عن تعلم الأحكام النظرية بعد بلوغه أم لا بدّ من تعلّم الأحكام النظرية لتثبيت أحكامه العملية ؟
اعتقد ـ والله أعلم ـ أنّ الأجوبة على هذه الأسئلة من الناحية النظرية قد تختلف عند الكثيرين منّا لكن ما أطلبه من المتصفحين الكرام أن يجيبوا انطلاقا من تجاربهم الخاصة ... فجلّنا تعلم التجويد عمليا قبل أن يتعلمه نظريا وعلميا ... ولكن هل ما تعلمناه في صبانا (عمليا) أغنانا عن وجوب وفرضية تعلم الجانب النظري ؟ حتى نتأكّد من إمكانية الإحاطة بأحكام التجويد إحاطة تامة تبرئ الذمة فقط من خلال قسمه العملي دون العلمي أي دون تعلمه نظريا بقواعده ومسائله ومباحثه .
ما أطرحه هنا مجرد رأي وتساؤل أرجو من الأساتذة الكرام أن يفيدونا بما حباهم الله به من علم في هذه المسألة ...
والله يهدي إلى سواء السبيل ...
 
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
العلوم البشرية تبدأ بالجانب العملي حتى إذا تنبه المهتمون شرعوا في وضع ملاحظاتهم التي توصلوا إليها من تتبعهم لهذا الجانب العملي ووضع قواعد اللغة وتدوين الملاحظات الفلكية من الأمثلة الواضحة على ذلك . والتجويد ـ أعني الأداء الموافق لمعايير الصحة في نطق الأصوات العربية متمثلة في تلاوة القرآن ـ أمر سابق على تدوين المعلومات الصوتية ؛ فهذه المعلومات مستقاة من تتبع الناطقين العرب الفصحاء ممن عاصرهم المهتمون بأمر التلاوة القرآنية ، وأسبقهم فيما وصل إلينا من تاريخ نشأة العلوم اللغوية هو الخليل بن أحمد رحمه الله ، وما نقله عنه تلميذه سيبويه رحمه الله هو المادة العلمية لعدد من علوم اللغة العربية : الأصوات ، الصرف ، النحو .
والوضع الصحيح لعلاقة الدرس النظري للعلم ممثلا في الأحكام والاستنتاجات بالأداء العملي لا بد من بقائها على هذه الصورة ؛ فالأداء هو المصدر والتدوين هو نتيجة لما لاحظه المهتمون بالأمر ، وليس من المتصوَّر أن تكون الملاحظات المدوَّنة حاكمة على الأداء بعامة بل يقتصر ذلك على تصويب الأخطاء ؛ كالشأن في النحو والصرف ، بل إذا نظرنا في الفلك وجدنا أن الملاحظات لا تتحكَّم فيما يجري في فضاء السموات ، ومهما يبلغ الفلكيّ من المعرفة بما كتبه السابقون فليس في مقدرته تعديل مسار كوكب ولا نجم ولا التحكم في مواقيت شيء من ذلك ولا مساراته .
هكذا تكون العلاقة بين الأداء العملي والتدوين النظري ، والأداء أوضح في نقل المعرفة ؛ لأن الوصف اللفظي للظواهر قد يقصُر عن نقل الكيفية الصحيحة للأداء ، وهذا من أسباب الخلاف اللفظي في تحديد مفهوم ظاهرتَي القلب والإخفاء ، وقد كفتنا التسجيلات الصوتية لعدد من القراء الضابطين مشقة التمثيل اللفظي للظاهرتين : فالرجوع المدقّق لهذه التسجيلات يساعد في تجلية الأمر إذا غابت العصبية .
 

هكذا تكون العلاقة بين الأداء العملي والتدوين النظري ، والأداء أوضح في نقل المعرفة ؛ لأن الوصف اللفظي للظواهر قد يقصُر عن نقل الكيفية الصحيحة للأداء ، وهذا من أسباب الخلاف اللفظي في تحديد مفهوم ظاهرتَي القلب والإخفاء ، وقد كفتنا التسجيلات الصوتية لعدد من القراء الضابطين مشقة التمثيل اللفظي للظاهرتين : فالرجوع المدقّق لهذه التسجيلات يساعد في تجلية الأمر إذا غابت العصبية .
السلام عليكم
شيخنا الكريم إذا كان هناك علاقة بين الأداء العملي والتدوين النظري في حيز معين ، لا يلزم منه أن يكون التدوين النظري شاملا الأداء العملي بالدقة المطلوبة ، فلا يخفي علي فضيلتكم أن الأصوات لا توصف بالضبط ولكن تقرّب .
أما قضية التسجيلات فهل تقصد المرتلة أم المجودة ؟
فإن كانت الأولي ففيها الأداء الصحيح لطريقة الإخفاء .
وإن كانت الثانية ـ أي المصاحف المجودة للشيخ محمد رفعت والشعشاعي وشعيشع وغيرهم فقد بين الشيخ أيمن سويد ـ حفظه الله ـ خطأ قراءتهم للقلب وإخفاء الميم وأن أداءهم مائل إلي أو قريب من الكز ولو كان مكان القراء قديما لقال عن الإخفاء ميم مظهرة مع الغنة ... ففي كلامه في هذا الموضع خاصة انصاف وإظهار للحقيقة .
ولكم أرق التحيات والأمنيات ، وكل عام وأنتم بخير
والسلام عليكم
 
شكرا للأساتذة الكرام ...شكرا لكم على هذه الفوائد القيّمة :
الأستاذ أبو هاني :
العلوم البشرية تبدأ بالجانب العملي حتى إذا تنبه المهتمون شرعوا في وضع ملاحظاتهم التي توصلوا إليها من تتبعهم لهذا الجانب العملي ووضع قواعد اللغة وتدوين الملاحظات الفلكية من الأمثلة الواضحة على ذلك . والتجويد ـ أعني الأداء الموافق لمعايير الصحة في نطق الأصوات العربية متمثلة في تلاوة القرآن ـ أمر سابق على تدوين المعلومات الصوتية ؛ فهذه المعلومات مستقاة من تتبع الناطقين العرب الفصحاء ممن عاصرهم المهتمون بأمر التلاوة القرآنية ، وأسبقهم فيما وصل إلينا من تاريخ نشأة العلوم اللغوية هو الخليل بن أحمد رحمه الله ، وما نقله عنه تلميذه سيبويه رحمه الله هو المادة العلمية لعدد من علوم اللغة العربية : الأصوات ، الصرف ، النحو .
الأستاذ عبد الحكيم عبد الرزاق :
إذا كان هناك علاقة بين الأداء العملي والتدوين النظري في حيز معين ، لا يلزم منه أن يكون التدوين النظري شاملا الأداء العملي بالدقة المطلوبة ، فلا يخفي علي فضيلتكم أن الأصوات لا توصف بالضبط ولكن تقرّب .
لكن السؤال الذي أريد طرحه على الأساتذة الكرام ليفيدونا هو :
هل يمكن (اليوم) (واقعا وعمليا) تحصيل (علم) التجويد (كلّ علم التجويد ) من خلال جانبه العملي الأدائي فقط ؟ أفيدونا جزاكم الله خير الجزاء ...
اليوم : حتى لا يندرج في السؤال العهد الذي سبق التدوين
واقعا وعمليا : حتى لا يندرج الجانب النظري التصوري فقط
علم , كلّ علم التجويد : المقصود ما تبرأ به ذمة الفرد المسلم في قراءة القرآن وذمة الأمة بنقل وحفظ علم من علومها الشرعية
 
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أما عن تحصيل فن التجويد ـ كما سمَّاه أهله قديما ـ والمراد الأداء العملي فهذا ممكن بل هو المنشود أصلا ؛ فالتلقي والعرض هما أساس الأمر في المهارات التطبيقية ، وصغار المتلقِّين مثال واضح اليوم وفي كل وقت .
وأما الجانب النظري فما نشأ إلا لتثبيت الصورة العملية في شكل كتابي وهذا في الغالب لا ينقل الصورة تامة ، وقد قيل قديما إن من الأمور ما تدركه المعرفة ولا تحيط به الصفة أي الوصف اللفظي ، وهذا ملموس في محاولة التعبير عن درجات الألوان والأصوات والطعوم ، والتعبير عن القيَم الجمالية في الشعر مثلا .
وأما عن التلاوات التي سُمِّيت مرتلة ففي كثير منها وقع تدخلٌ فرَضَ وجهة نظر واحدة أنكرها كثير من الضابطين ؛ ذلك أن الأمر وُكِل إلى مَن أعاد قولا قديما وألزم القارئين اتباعه ، هذا في تسجيلات المصريين ومن أخذ عنهم ، ولكن سلِم من ذلك ما سجَّله الشيوخ عبد الله خياط ، وعبد الله الخليفي ، وعبد الله السبيِّل ، وأغلب تلاوات علي عبد الله جابر من أئمة المسجد الحرام رحمهم الله فإنهم فيما يبدو لم يتأثروا بذلك القول .
وأما ما سُمِّي بالمجوَّد ـ والواقع أن جميع التلاوات يصدق عليها أنه مجوَّدة ومرتَّلة ـ فالرجوع إلى تسجيلات القراء الذين توفاهم الله ولم يؤدوا التلاوة المرتلة هو خير معيار ، ومثلها التسجيلات المبكرة لمن أدوا المرتلة ؛ فمن الأولين : منصور الشامي الدمنهوري ، وعبد العظيم زاهر ، ومحمد الصيفي ، وعبد الرحمن الدَّرَوِي ، ومحمد فريد السنديوني ، وكامل يوسف البهتيمي ، وعلي محمود ، ومحمد رفعت ، وعلي حزَيِّن ، ومن الآخرين : محمود خليل الحصري ، ومحمود عبد الحكم ، ومحمد صديق المنشاوي .
وأما كلمة الكزّ فهي مصدر الخلاف القديم الحديث ؛ ذلك أن صوت الميم يتكون بتلامس الشفتين بحيث يمتنع مرور النفَس من بينهما واتجاهه إلى الخيشوم لتصدر منه الغنّة ، ودرجة التلامس لا دخل لها في الأمر ؛ فسواء أكان التلامس رقيقا أم كان قويا نتج صوت الميم من الخيشوم أي تجويف الأنف ، وبداية التصور الذي أحدث البلبلة كانت بالتحذير من كز الشفتين وهذا لا يؤث في نطق الميم ، ولكن تضخمت كرة الثلج حتى انتهى الأمر بالتحذير من إغلاق الشفتين ألبتة بل الإلزام بتركهما منفرجتين مع خلاف في مقدار الفُرجة ، وإلى القائل بأنه لا يلزم من عدم التصريح بذلك قديما عدم وجوده أقول : لنكن في جانب السلامة ؛ فعدم التصريح بذلك يكون الأَوْلى معه الأخذ بالإغلاق وليس الأخذ بما لم يرد به تصريح !
وأما أن الدكتور أيمن سويد حكم بخطإ قارئين من القدامى فلا علمَ لي بذلك ، وعلاقتي به شخصية وقد لقيته بمكة منذ بضع سنوات والذي أعرفه من تباحثي معه أنه لا يُقِرّ الفرجة بين الشفتين .
وأما الإخفاء فلي حديث آخر بشأنه فإنه أضعف ما في كتب التجويد .
 
أشرتُ في المشاركة السابقة إلى أن الإخفاء في كتب التجويد هو أضعف المصطلحات حظا من البيان ، وللتوضيح أقول :
التعريفات المشهورة التي تسوقها كتب التجويد للإخفاء تتمثل في أنه :
” حال بين الإظهار والإدغام “ ، أو هو ” النطق بالنون والتنوين بصفة بين الإظهار والإدغام ، بلا تشديد ، مع بقاء الغُنَّة “ ، أو هو ” إخفاء الحرف الأول في الحرف الثاني مع بقاء صفة الغنة “ أو هو إخفاء الحرف الأول عند الحرف الثاني مع بقاء صفة الغنة أو أننا خلطنا بعض النون في الحرف الذي بعدها ، وأبقينا بعضها ظاهرًا في النطق ، وحرصنا على إظهار صفتها التي هي الغنة ، ولذلك فإنك إذا نطقت يالنون المخفاة فإنك تنطق بها من الخيشوم ، فلا يرتفع اللسان بمخرجها ، ولا يلتصق بأصول الثنايا “ ووجه الضعف في هذه التعريفات أن الصفة أو الحال التي بين الإظهار والإدغام ، وخلْط بعض النون بما بعدها ونطق بعضها الآخر ، هذه البعضية وتلك البينية مما يوصف بأنه غير دقيق ، وليس له معيار ولا ضابط .
ولعل الكلمات الأخيرة في التعريف الأخير تكون جزءًا من المفتاح المناسب لوصف كيفية أداء الإخفاء .
وأكمل الحديث في مشاركة آتية إن شاء الله .
 
أُكملُ ما يتعلق بالإخفاء ، وإن لم أجد من الأعضاء تجاوبًا !!!
لو أن القارئ الدقيق الملاحظة أدرك كيفية نطق النون الساكنة قبل الفاء في كلمة الأنفال مثلا لوجد أن الشفة السفلى تتجه نحو الثنيتين العُليَين استعدادًا مبكِّرًا لنطق الفاء في أثناء انسياب صوت الغنة من الأنف وبغير أن يكون طرف اللسان في الموضع الخاص بنطق النون ، وفي نطق النون الساكنة قبل الذال والثاء والظاء يتحرك طرف اللسان ليقترب من أسفل الثنيتين العليين استعدادًا مبكرًا لنطق كل واحد من هذه الأصوات الثلاثة ، وفي نطق النون الساكنة قبل الكاف يتراجع مؤخر اللسان استعدادًا مبكرًا لنطق الكاف فيغلق ممر الهاء في الفم ويجعله ينساب إلى الخيشوم ممثلا إخفاء النون الساكنة بغير اتصال طرف اللسان بموضع نطق النون المتحركة . وهذا يوضح ما عناه المؤلفون بكلمة عند التي وردت في أحد تعريفات الإخفاء : ( هو إخفاء الحرف الأول عند الحرف الثاني مع بقاء صفة الغنة ) وهو أيضا يوضح معنى العبارة التي تقول : إن الغنة تتبع ما بعدها أي من حيث موضع عمل أعضاء النطق ومن بينها اللسان ، وقد بلغ عدد مواضع نطق النون بالنظر إلى هذا نحو ثمانية عشر موضعا : منها 15 تتعلق بالإخفاء ، وواحد خاص بالقلب والإدغام في الميم ، واثنان يتعلقان بالإدغام في الراء وفي اللام ، وربما كان العدد فوق ذلك .
من هذا التفصيل يتضح أن القول بتعليق اللسان في فراغ الفم وجعله معطلا عن المشاركة في إنتاج الأصوات ليس على صحة مطلقة بل إن له مشاركة متغيرة بحسب ما بعد النون الساكنة .
قد يحتاج القول إلى زيادة بيان ، وربما يكتفي الإخوة المتابعون بما قدمت .
وسلام الله عليكم جميعًا ورحمته وبركاته .
 
أُكملُ ما يتعلق بالإخفاء ، وإن لم أجد من الأعضاء تجاوبًا !!!


وفقك الله يا أبا هاني على ما تفضلت به ، ولعلمك فإنني أقدر ما تكتبه كثيراً وأنتفع به وأهتم به ، لعلمي بتضلعك من هذا العلم ، وليتك تتكرم فتكتب في التوقيع ما يعرف الإخوة بك ، فأنت تكتب بكنيتك فقط ، والقراء لا يعلمون أنك أستاذ جليل متخصص في الصوتيات والدراسات المتعلقة بالتجويد منذ سنوات طويلة .
 
شكر الله لك أيها الأخ الفاضل ، وتلبية لمطلبك أعرِّف نفسي إلى أهل المنتدى الكرام :
اسمي : محمد عبد الله جبر سلومة ، تقاعدت وأنا أستاذ مشارك متخصص في العلوم اللغوية ( العربية ثم ما جدَّ ) بقسم اللغة العربية بكلية الآداب بجامعة الإسكندرية بمصر ، وفي السنوات الثماني الأخيرة عملت بمعهد تعليم اللغة العربية بجامة الإمام بالرياض حيث أشرفت على عدد من رسائل الماجستير في تعليم العربية للناطقين بغيرها وشاركت في مناقشة غيرها وقدَّمت ما أعانني الله به من جهد في تعليم العربية للوافدين من أبناء المسلمين للالتحاق بالجامعة .
كانت دراستي لعلم الأصوات phonetics وعلم وظائف الأصوات phonology هي التي أوضحت لي معالم التجويد ؛ وتبينتُ الدرجة العظيمة من اليسر والسهولة في تفسير ما حوته كتب التجويد وعبارات معلّميه إذا أدرك المتعلِّم مبادئ ذينك العِلمين ؛ فمعرفة كيفية صدور الأصوات اللغوية ، وتأثر بعضها ببعض عند تجاورها ، وميل الناطق إلى بذل أقل جهد تفسِّر ظاهرتي الإدغام والقلب ومعظم حالات الإخفاء ، وبذلك تكاد مسائل التجويد تنحصر في حالات النون الساكنة وشيء من مقادير المدود .
تحياتي إلى شخصك الكريم وإلى الإخوة افضلاء في ملتقى التجويد . أعاد الله على أمة الإسلام أعيادهم وهم في عزة ومنعة .
 
عودة
أعلى