التجربة الشعورية عند ابن عقيل الظاهري بين القرآن والغناء.

إنضم
31/05/2006
المشاركات
107
مستوى التفاعل
0
النقاط
16
أحبتي الكرام:
في هذا اليوم قرأت مقالاً للعلامة أبي عبدالرحمن بن عقيل الظاهري بشأن ماانتشر من فتوى إباحة الغناء وقد كان مقالاً رصيناً في غاية الأدب ,غير أن ما أثَّر فيَّ كثيراً هو ذلك الصدق الذي ارتوت به كلماته وهو يصف تجربته مع الغناء في أيامه السابقه ,وكيف كان سبباً في الصد عن كتاب الله وتلاوته وتدبره ,إنه درس عظيم يغني عن كثير من التطويل في صفحات الكتب أوعلى خشب المنابر ,لاأرى أني أستطيع وصف وقع كلامه على نفسي ولكن إليكم نص كلامه ليكون الحال كما قال الرازي رحمه الله "ومن جرَّب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي"

قال أبو عبدالرحمن: مارستُ الغناء استماعاً لا سماعاً حقبة ليست بقليلة من عمري، وأصحاب هذه الممارسة يُسَمِّيهم أخوال بعض أولادي: (الصُّيَّع الضُّيَّع)، ولكنني تفاديت ذلك بأن يكون استماعي في سويعات ليست مهيأة لقراءة أو كتابة أو عبادة، وأكثر ما يكون ذلك مع بعض السامرين، أو في بعض الردهات، أو بالاستماع من الراديو، ولا أُضَيِّع عزائمي الدنيوية والشرعية بالانمياع مع الغناء؛ وإنما آخذ منه مقدار ما أنشط للعمل الجاد، وعندما أنشب في كتابة بحث وأحس بخمول أستمع إلى التسجيل بصوت خافت.. وهناك سويعات صرفتها للغناء مستمعاً ودارساً وملتقطاً ما يُفاد منه للجماليات ولا سيما العَروض، وذلك عندما كنت مراقباً في التلفاز، وفي إجازاتي التي أمضيتها بكفر أبو صير.. وكنت محتفياً بأجمل الجميل مما يؤدِّيه أساطين الطرب العربي الأصيل منذ جيل الطرب الشرقي إلى جيل عبدالوهاب ورياض.. ومع انهماكي في الاستماع بالطرب فلو خلصتْ تلك الحقبة لهذا لكنت في ترح ما بعده ترح، ولكنني أتحيَّف من تلك الحقبة أُويقات لتزكية الروح والقلب مع جدٍّ في البحث والكتابة والقراءة لم يمنع منه استماعي الغناء.. وما كان هذا في بداية الأمر اختياراً مني، ولكنني تورطتُ معرفةً باستدلالات الإمام ابن حزم على إباحة الغناء مع تصريحه بأن ترك سماعه أفضل، وتورطتُ ممارسةً بمجالسة الظرفاء.. وعندما اتبعتُ الإمام ابن حزم، رحمه الله تعالى، وكنت في حيوية الشباب ومنتهى الحماس للإعجاب بالإمام ابن حزم رحمه الله تعالى - ولا يزال إعجابي باقياً -: أخذتُ قوله تقليداً، ولخصت في كتابي (تحرير بعض المسائل على مذهب الأصحاب) ما كنت أزعمه من أن النصوص الشرعية في الغناء:

وأما من ناحية تجربتي فقد كان يهزنا الحماس إذا سمعنا مثل (أيها العربي الأبي) بصوت مطرب العرب محمد عبدالوهاب؛ لأن لنا سمعةً فوق القِشَّة تَعِدَ بوحدة عربية من المحيط إلى الخليج؛ وهكذا قصيدة السودان بصوت السِّت. ونستمتع بالصوت الجميل وبعض المعاني الملامسة لأشواق الروح في مواضع من (حديث الروح) و(إلى عرفات الله), و(ولد الهدى) و(ريم على القاع)، ثم تشمئز نفوسنا عند سماع الغلوِّ والتوسُّل المحرَّم، ونتعاطف مع مشاعر العُشَّاق إذا سمعنا مثل (عندما يأتي المساء) و(ساعة ما بشوفك جنبي)، وكلاهما لعبدالوهاب.. ولم نجترم من (الإثم) ثّمَّ إلا سماع المعازف.. ثم جاءت العثرات التي لا (لعاً) لها عندما جاء عشق الصورة، والهيام مع الأوهام، واستعباد القلب بمثل (الصوت الدافئ)، وما أشبه ذلك من مُكرِّسات التعبيد؛ وبهذه التجربة المخذولة - بحمد الله - علمت أن مثل هذا الغناء بَريدُ الفاحشة أو أنه تمنٍّ لها، وقد سجلتُ ذلك على نفسي بقولي:
وفي ضَيْعةِ الأوهام همتُ مُخَدَّراً

بصوتٍ حنون ذي شجون وتصفيدِ

يجيش بأنات الجوى مُتمظْهراً

ولم يشكُ حرماناً ولا كَرْبَ مفؤود

فصفَّق قلبي في حنايا جوانحي

دهاه وداد ظِلُّه غير ممدود

أُعلِّل نفساً في سراديب ظُلْمة

بكذب الأماني أو بأضباع تجعيد

وعلمت أن الغناء ينبت النفاق في القلب، وقد صح ذلك عن ابن مسعود من كلامه - رضي الله عنه -، وليس كل نفاق هو نفاق أهل الدرك الأسفل من النار، ولكنه من خصالهم التي قد يعفو الله عنها برحمته، وقد يعذب عليها بعدله؛ فأول علامات النفاق أننا نخفي استمتاعنا عن الصلحاء، وأننا نتظاهر بأننا نُروِّح عن قلوبنا، ونكتم ما في تلك القلوب من حب محرم ولو أتيح بالحلال فهو لا يليق لفساد ذلك الوسط المحبوب.. وأن قلوبنا مشحونة بالأماني المحرمة، وأن قلوبنا مستعبَدة، وأن ذلك صدنا عما حرم الله علينا هجره، وهو القرآن والذكر الحكيم.. وأتحدى أن يوجد هائم مع الطرب وله صلاة تهجد تدوم له أسابيع في العام غير شهر رمضان.. وأتحدى أن يوجد هائم مع الطرب يصح له بعض الانتظام مع تلاوة القرآن إلا في رمضان أو بعض الجمع إن ذهب مبكراً، أو في نفحات يشعر فيها بِبُعْدِه عن ربه.. وفي كلمات الغناء مجون وتجديف وهز وغمز؛ فكيف يكون مباحاً بإطلاق.. وأما غناء هذا العصر - عصر الأصباغ والطقطوقة والكلمة العامية المتلعثمة والصور والأزياء - فهو قبل استفتاء الشرع محرَّم فنياً وجمالياً؛ لقبحه، وناهيك عن دعوى خُلُوِّه من العناصر الجمالية؛ فيكون حينئذ بارداً لا قبيحاً؛ فالحمد لله شكراً شكراً الذي أسرع بفيئتي قبل لقائي له، ومنحني التمييز بين مواضع الإحسان والإساءة في تأرجحات عمري المضطربة، فأسأل الله الثبات حتى الممات، وحسن الخاتمة، وأسأله جلت قدرته برحمته وبجميع أسمائه الحسنى ما علمت منها وما لم أعلم أن يعفو عني وعن إخواني المسلمين، وأن يخفف حسابنا، وأن يستر علينا عند لقائه؛ إذ يكون حياؤنا منه عن قبائحنا أشد إن وجدت عندنا مِسْحة من الحياء منه سبحانه في دنيانا، ونسأله أن لا يفضحنا بقبائحنا يوم يقوم الأشهاد ولا سيما عند من نستحيي منهم ونرجو أن نحشر في زمرتهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.. إنه عفو غفور، رحيم وودود.
"المقال في جريدة الجزيرة عدد هذا اليوم".
 
أبو عبدالرحمن بن عقيل الظاهري وفقه الله يكتب هذا بعد تجربة طويلة نسأل الله أن يحسن ختامه وختامنا جميعاً، والمكابرة لا خير فيها، والرجوع للحق له لذة روحية وعقلية محروم منها كثير من الناس الذين يصرون على الباطل وهم يستكبرون .
وقد سبق أن نقلتُ ثلاث حلقات متتالية لأبي عبدالرحمن بن عقيل الظاهري في الملتقى نشرها في جريدة الجزيرة حول هذا الموضوع .
 
مقال جيد عميق مؤثر، أحسب أنه خرج من نفس تقية منيبة. وإن من نعمة الله على هذا العالم الأديب الكبير أن وفقه لكتابة هذه المراجعات الصادقة في هذا الوقت بعد كتاباته ومشاركاته الذائعة وشهرته الواسعة، وهذه سمة أهل الصدق والأمانة، متى ما ظهر لهم الحق انقادوا إليه غير آبهين بلوم لائم، أو نقد آثم.

أسأل الله أن يطيل في عمره في طاعته ومرضاته، وأن يثبتنا وأياه على صراطه المستقيم، إنه سميع مجيب.
 
عودة
أعلى