(التجديد في التفسير حاجة ضرورية) بقلم محمد البويسفي
12-7-2008المسلمون اليوم يجدون أنفسهم أحوج ما يكونون للعودة إلى القرآن الكريم قراءة وتدبرا واستنباطا، من أجل استئناف السير الحضاري, وتقويم ما ظهر من اعوجاج وتحريف في الفهم والسلوك، باعتبارالقرآن الكريم مصدرا مرجعيا في التشريع والمعرفة والأخلاق, وقد صار التجديد في الدين أمرا ضروريا، بل إنه يفرض نفسه بإلحاح، وإن أي تجديد لابد أن يتوجه إلى تجديد الفهم قبل أي شيء آخر، و أمراض الأمة الأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية التي ظهرت في الأمة ما هي في الحقيقة إلا أعراضا في فهم الدين، وخاصة في فهم نصوص الشريعة قرآنا وسنة.
فلابد من مراجعة شاملة ونقد الذات نقدا منهجيا جريئا للوقوف على مواطن الخلل في العقل الإسلامي, الذي صار لاينتج فما بالك أن يرسل، وأغلق باب الاجتهاد واكتفى بالتقليد.
و كتاب الله تعالى -كما قرره الأصوليون- قطعي الثبوت ظني الدلالة، و ظنية الدلالة هذه مرجعها طبيعة القرآن المعجز، ذلك أن منه الواضح أو البيّن -كما قال الطوفي في الإكسير- الذي تفهمه العرب من لغتها لبيانه ووضوحه, فهذا لا حاجة له إلى تفسير, و من القرآن ما هو غير واضح, إما لاشتراك أو غرابة أو ظهور تشبيه, و هذا القسم هو المحتاج إلى التفسير و البيان.
الأول: أنزله الله تعالى ليتعبد عامة الناس بتطبيقه لوضوحه و بيانه، و الثاني: أنزله الله لحكم متعددة منها ليتعبد العلماء بالاجتهاد فيه, و الاستنباط منه، لذلك أثنى الله على العلماء من عباده، و ليتعبد عامة الناس بتقليد العلماء فيما قرروه فيه(1).
وقد بذل العلماء غاية جهدهم في فهم كتاب الله تعالى، و توجيه الفهم و حمايته من التحريف, وأخطر تحريف هو تحريف الفهم و التلاعب به, أما تحريف النص القرآني، فهذا مستحيل لتكفل الله تعالى بحفظ كتابه, قال تعالى: "إنّا نحن نزلنا الذكر و إنّا له لحافظون" سورة الحجر 9.
والذي يدفع إلى تحريف الفهم و التأويل الفاسد, هو موقع النص القرآني في أمة الإسلام بكل طوائفها و مذاهبها، إذ أن النص هو محور الفكر الإسلامي منذ النشأة إلى اليوم، وكل ما أنتجه الفكر الإسلامي لا يعدو أن يكون إما موثقاً للنص, أو مساعداً على فهمه, أو مستنبطاً منه.
وقد دأبت الحركات الإصلاحية, و التيارات الفكرية على استمداد مشروعيتها من النص، فلا تقبل فكرة أو دعوى ما لم يشهد لها النص بالصلاحية, ولذلك نرى الكل يلوذ بالنص و يلجأ إليه لاستمداد المشروعية,و هذا ما أعطانا فهوما متعددة للقرآن الكريم قد تصل إلى حد التناقض,حتى قال قاضي البصرة عبيد الله بن الحسن: "كل ما جاء به القرآن حق، و يدل على الاختلاف، فالقول بالقدر صحيح و له أصل في الكتاب، و القول بالإجبار صحيح وله أصل في الكتاب، و من قال بهذا فهو مصيب، و من قال بهذا فهو مصيب لأن الآية الواحدة ربما دلت على وجهين مختلفين, و احتملت معنيين متضادين"(2).
والذي جعل مثل هذه الفهوم تكثر وتتعدد إلى حد الفوضى, و ضياع الحقيقة الشرعية بين أهل الأهواء و الضلالات, هو عدم وجود أصول و قواعد للتفسير تضبط الفهم عن الله تعالى، و هذا ما جعل إمام أهل السنة الإمام أحمد بن حنبل يقول ثلاثة لا أصل لها منها: التفسير، و إن كان يقصد من حيث السند.
وقال ابن تيمية: "إن الكتب المصنفة في التفسير مشحونة بالغث والسمين, والباطل الواضح والحق المبين"(3).
فمثلا الحديث له أصول تضبط نقله، و كل المحاولات التي أرادت العبث بالسنة باءت بالفشل, و كذلك الفقه له أصوله التي تضبط عملية الاستنباط و التشريع,لكن التفسير بقي بلا أصول و لا قواعد تضبط وتحكم العملية التفسيرية، حتى إن البعض نزع عنه صفة العلمية، و قال إنه لم يرتقي بعد إلى مستوى العلم، بمعنى أنه يفتقر إلى الجانب التنظيري التأطيري، فبقي مجال فوضى.
وقد وقف الإمام الطوفي على إشكال علم التفسير فقال: "إنه لم يزل يتلجلج في صدري إشكال علم التفسير, وما أطبق عليه أصحاب التفاسير، ولم أجد أحدا منهم كشفه في ما ألفه, ولا نحاه في ما نحاه، فتقاضتني النفس الطالبة للتحقيق, الناكبة عن جمر الطريق, لوضع قانون يعوّل عليه ويصار في هذا الفن إليه"(4), إلا أنه لم يفعل وليته فعل.
وفي عصرنا الحالي, وفي محاولة بناء أصول وقواعد علم التفسير, أشار الدارسون المعاصرون إلى أن مباحث هذا العلم مبثوثة في علوم شرعية متنوعة, منها: علم أصول الفقه, والتفسير, واللغة العربية, فعلم أصول الفقه مؤهل لضبط العملية التفسيرية، على اعتبار أنه علم محكم البناء من حيث مصطلحاته و قواعده و مناهجه، و أن الأساس الذي بني عليه من حيث التدوين و التصنيف، إنما هو حل لمشكلة الفهم اللغوي الخاص، للدليل الشرعي, سواء من حيث مقاصده الدلالية، أو متعارضاته الإشكالية(5).
كما أنه امتاز بضبط قواعد الدلالة, حاصرا طرقها: منطوقا ومفهوما، و مرتبا مراتبها: نصا و ظهورا و إجمالا، و مفصلا فيما يتصل بالأحكام من وجوهها: الأمر والنهي، و العموم والخصوص، والإطلاق والتقييد، ومحددا شروط التأويل و قواعد الترجيح(6).
وقد أكد السكّاكي في "مفتاح العلوم", على أن علم أصول الفقه, والبلاغة مؤهلين لضبط العملية التفسيرية، حيث قال: "ولله در التنزيل، لايتأمل العالم آية إلا أدرك لطائف لا تسع الحصر... لأن المقصود لم يكن مجرد الإرشاد لكيفية اجتناء ثمرات علمي المعاني و البيان، و أن لا علم في باب التفسير بعد علم الأصول أقرأ منهما على المرء لمراد الله من كلامه(7).
أما اللغة العربية فلأن النص القرآني هو نص لغوي، و أن الله عز و جل خاطب العرب بلسانهم, و على معهودهم في التخاطب و الكلام, وأن علماء العربية وهم يقعّدون قواعد النحو و الإعراب, كان في حسبانهم تحدي فهم الخطاب الشرعي, خاصة مع ظهور اللحن الصوتي و الصرفي, و أيضا المفهومي في ظل اتساع الرقعة الإسلامية, و دخول أمم أعجمية في الإسلام, وقل نفس الأمر في نشوء علم البلاغة, إذ كان تحدي الإعجاز القرآني حاضرا في أذهانهم.
فتحدي فهم و بيان معاني و أسرار القرآن الكريم كان حاضرا منذ زمن التأسيس و التقعيد اللغوي, وإن النص -أي نص- هو بناء لغوي قائم على قواعد اللغة و نظامها، مما يعطي للتحليل اللغوي أهميته في الكشف عن المعنى, لهذا فقد عد العلماء علوم اللغة أول العلوم التي يحتاج إليها مفسر القرآن, بل جزم الكافيجي بأن قواعد التفسير"مكتسبة من تتبع لغة العرب"(8).
والمقصود باللغة جميع مستويات الدرس اللغوي العربي: " كالأصوات، والصرف، والنحو", إذ إنها مجتمعة, تكوّن أداة التحليل اللغوية الكبرى، ذلك أن هذه المستويات ترى منفصلة من حيث الصناعة، لأغراض منهجية فقط, في حين أنها تكون في مجملها الوسيلة الناجحة الكبرى لتحليل النصوص"(9).
أما مافي كتب التفاسير، فالمقصود بها القواعد التي يضعها المفسّر, و هو يمارس عملية التفسير, في محاولة للتأصيل لمفهوم يريد تأصيله، أو في نقده لتفسير اختل فيه ضابط من الضوابط، أوفي مجالات أخرى(10)
ويمكن أن نقول: إن هذه العلوم تحتوي على مباحث وقواعد لعلم أصول التفسير، لكن تحتاج إلى بناء نظري منظّم, يحدّد و ينظم العلاقة بين مكوناته، متى و كيف نُعمل هذه القاعدة أو هذا الأصل؟, و ما هي مستويات ذلك؟, و هل كل القواعد على مستوى واحد في الكفاية التفسيرية؟...أي فلسفة علم التفسير، ليرتقي إلى مستوى العلوم الناضجة, من حيث المصطلحات و القواعد و المناهج.
وإيجاد علم أصول التفسير يكفينا همّ العبث بالنصوص الشرعية, و ليِّ أعناقها، كما يضبط لنا عملية الفهم عن الله تعالى, واستنباط الأحكام الشرعية من مظانها؛ بل يكون قانونا محكما فيما يسمى بمقاصد الشريعة، ذلك أن القصد يفهم من اللفظ, ومن النص الشرعي، فيجيبنا علم أصول التفسير عن السؤال العلمي: كيف دلك هذا اللفظ أو هذا النص, على هذا المعنى أو هذا الحكم؟, و قس على ذلك من القضايا والمستجدات الطارئة على الفكر الإسلامي اليوم، كمسألة السنن التاريخية والاجتماعية في القرآن الكريم، وقضايا التشريع الجنائي، والنوازل الفقهية في الطب و غيره.
رابط الموضوع :
http://www.alqlm.com/index.cfm?method=home.con&contentID=427
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
الهامش:
(1) الإكسير في علم التفسير للطوفي ص/33 و ما بعدها.
(2) تأويل مختلف الحديث لإبن قتيبة ص/ 55.
(3) مقدمة في أصول التفسير ص/33.
(4) الإكسير في علم التفسير للطوفي ص/ 27.
(5) المصطلح الأصولي, د/ فريد الأنصاري, ص/124 - 425 بتصرف.
(6) التفسير اللغوي للقرآن الكريم، ص/ 96.
(7) مفتاح العلوم للسكاكي ص/421.
(8) المرجع السابق ص/ 7 - 8 بتصرف.
(9) تحليل النصوص: المفهوم و الضوابط, د/ حسين كنوان مجلة التسامح - العدد 11- السنة الثالثة, ص/134.
(10) المرجع السابق, ص/ 19.
المصدر :شبكة القلم الفكرية