--التاويليات الجديدة وقراءة النص القرءاني

محمد بنعمر

New member
إنضم
07/06/2011
المشاركات
440
مستوى التفاعل
0
النقاط
16
--التاويليات الجديدة وقراءة النص القرءاني
اعداد:
محمد بنعمر بن الطاهر
-عضو بفريق قراءة النص مركز الدراسات والبحوث وجدةالمغرب.
1-اهمية النص في الثقافة العربية الاسلامية-
يكتسي النص أهمية كبيرة وبالغة في التراث العربي الإسلامي، إلى درجة أن الثقافة العربية الإسلامية تنعت عند كثير من الدارسين والباحثين بثقافة النص . بموجب المحورية والموقع الذي حضي به النص في هذه الثقافة من حيث الاشتغال والاهتمام والعناية والمتابعة ....
ونظرا لهذه الأهمية التي يحظى بها النص الشرعي في بنية الثقافة العربية الإسلامية .فإن الهاجس الذي شغل هذه الثقافة ،هو هاجس تفسير النص، وبيان دلالته اللغوية والشرعية.وتمثل مقاصده الأصلية والتبعية ،الكلية والجزئية،ووضع الأصول والضوابط التي يرجع إليها المفسر في سياق تفسيره للص القرءاني ....
فلا اختلاف إذا نحن أقررنا بان تفسير القرءان الكريم ،كان هو الشغل الشاغل للعلماء، على امتداد التاريخ الطويل .كلٌّ حسب في مجال اختصاصه، وكل في مجال حاجاته . لأن فهم المراد والقصد من النص القرءاني ،كان دائما هو الهدف الأول، والغاية الكبرى؛والمبتغى النهائي من عملية التفسير، لما لهذه العملية من الآثار والثمار، والنتائج على تصرفات وأفعال المكلف....
وبمقتضى هذه المرجعية الكبرى التي نالها النص في فضاء الثقافة العربية الإسلامية، فإن كثيرا من الدارسين والمشتغلين بمناهج تحليل الخطاب ، وتفسير النص ـ شرعيا كان أم لغويا، اختاروا وصف الثقافة العربية الإسلامية بأنها ثقافة نص، وهذا الوصف يعود أساسا إلى كون الثقافة الإسلامية قامت في أصولها الأولى على الاشتغال على النص المؤسس الذي هو القرآن الكريم: والسنة النبوية ...
ومحورية النص في فضاء الثقافة الإسلامية. قاد جميع العلوم خاصة اللغوية والبيانية ،والبلاغية والدلالية والمعجمية ،والأسلوبية إلى خدمة النص في عدد من مستوياته، ومكوناته سواء على مستوى التوثيق ،والتحقيق، أو على مستوى البيان، والتفسير والقراءة.
ومن ابرز العلوم التي اتجهت إلى تفسير النص القرءاني، واستمداد المعنى من النص ،علم التفسير الذي اكتسب موقعا خاصا ، و مكانا متميزا، وحضي بعناية بين علوم التراث، إذ ظل علم التفسير مجال اشتغال ،واهتمام علماء الإسلام على مر العصور، لأن فهم المراد من النص القرءاني ، كان هو الهدف الأولى، والغاية الكبرى؛ لما لهذه العملية من الآثار والثمار والنتائج على القيم التي جاءها بها القرءان الكريم....
فلا غرو بهذا الاعتبار والاختيار والتوجه ، أن تتجه العناية والاهتمام إلى علم التفسير،من حيث العناية والاهتمام ،وهو ما جعل علم التفسير عند كثير من المفسرين من اشرف العلوم .......[1].

-2-علم التفسير:العناية والاشتغال:
في التراث الإسلامي ملاحظة بارزة ،وقوية تأخذ كل مهتم ومشتغل ،ومتابع للدراسات والبحوث القرآنية بشكل عام. وتفسير القرءان بشكل خاص .و هذه الملاحظة هي محورية البحث في القرآن الكريم، و في تفسيره ، وفي جميع العلوم المتعلقة به ، أو المتفرعة عنه. أو المتداخلة معه ، كما يتجسد هذا الاهتمام المتزايد ، بما تحقق باستمرار من البحوث والدراسات، و ما أنجز من الكتابات ،والندوات والمؤتمرات واللقاءات البحثية ، التي تنجز، وتعقد باستمرار، وبشكل مستمر ، وبدون انقطاع ، حول القرءان الكريم ،و حول علومه ،وتفسيره ، وطريق تدريسه و منهجية تلقينه ....
بحيث أنتج علماء الأمة الإسلامية عدة بحوث ،و أعدوا عدة دراسات، و أنجزوا عدة فهارس، و حققوا عدة معاجم، و وضعوا عدة موسوعات ذات صلة قوية ،ومباشرة بالبحث في القرآن الكريم، وفي تفسيره ،وفي علومه، و في طرائق تدريسه ...
فهذه العناية الكبيرة بالقرءان الكريم من حيث التوثيق والتحقيق ،والاستمداد، والبيان يمكن إعدادها واعتبارها من تجليات ومظاهر الإعجاز الذي امتاز واتصف به القرءان الكريم....[2].

-3-التاويليات الجديدة السياق والتاريخ
لكن رغم ما تحقق من تراكم في البحوث القرءانية ،وفي الدراسات التفسيرية بشكل عام ، على امتداد التاريخ الطويل للأمة الإسلامية ، فانه مع ذلك ظهرت في الثقافة العربية الإسلامية المعاصرة، عدة اتجاهات تأويلية، تسعى إلى تفسير النص القرءاني بمناهج جديدة ، غير معهودة ولا مألوفة بين المفسرين القدماء الذين عملوا على تقريب خطاب الخالق إلى المخلوق، موظفة في سبيل ذلك ،جملة من العلوم ومستثمرة مجموعة من المعارف...
نبعا لهذا الاختيار،فقد ظهر اتجاه حداثي في قراءة الخطاب القرآني يسعى إلى التحلل من كل الضوابط العلمية، والتجرد القواعد الحاكمة للتفسير والتأويل والتمثل في اشتغال المعنى في النص وعدم التقيد بحدود التأويل كما هي مؤصلة ومتعارف عليها في كتب علم أصول الفقه وعلوم القرآن.
وهذه الاتجاهات التأويلية كانت تهدف إلى تطبيق مبادئ ، واليات التأويليات المعاصرة ، ومناهج تحليل الخطاب اللساني ،و نقل مفاهيم ومصطلحات العلوم الإنسانية على النص القرءاني بطريقة اسقاطية ،بدون أن تراعي الفوارق القائمة بين النص والمنهج ،وبدون إن يضع أصحاب هذا الاختيار هذا الاعتبار العلمي والمنهجي ،و هو المعطى التفارقي و التبايني بين النص المقروء، الذي هو النص القرءاني الكريم ،وبين المنهج الدخيل المطبق في مقاربة هذا النص و قراءته ...وهو منهج مستخلص من اللغات الغربية و تحكمه خلفيات ومرجعيات فلسفية ....[3]
فالانسياق المباشر من وراء تقمص هذه المناهج الجديدة في التفسير، بدون مراعاة الخلفيات والتوجهات في نشأتها ، اوفي مرجعيتها ، من شانه إن يحمل كثيرا من المخاطر، و أن يوقع كثيرا المغالطات ،والانزلاقات التي قد تخفي المعنى ، وتحجبه عن متلقي النص .......
بحيث قد يؤدي هذا الاختيار إلى إخراج النص عن أهدافه ومقاصده الكبرى التي من اجلها نزل.....ويجعله نصا عقيما ،يفتقد وصف الامتداد الزماني والمكاني الذي يعد من ابرز أوصاف النص القرؤاني، وخصائصه... ....
كما أن الهدف من هذا الاختيار، هو إلغاء القانون والمعيار الضابط لقراءة النصوص عامة ، والدينية خاصة. بحيث صادر أصحاب هذا الاتجاه القواعد و المعايير الناظمة لتلقي النصوص ،واكتساب المعاني منها ....واعتبروا آن السلطة في قراءة النصوص هي للقارئ بمفرده. بحيث لا يشاركه احد في قراءته وتلقيه للنص....
وهو ما يجعل المعنى نسبيا في جميع النصوص ،بما في ذلك النصوص الدينية والشرعية والقانونية ...[4].
وهذه النسبية في المعاني تتعدى المجال الديني ، لتمس حتى التخاطبات البشرية العادية ، وهو ما يجعل المعنى المحمول المقصود في النص المقروء متباعدا بين المرسل للخطاب والمتلقي له ، وملتبسا ومحتجبا عن السامع بصفة عامة .
بحيث أن كل طرف من هذه الإطراف يؤوله، ويحمله حسب حاجته ودوافعه ،واختياراته ومقتضياته ،وأرائه الشخصية....
ومما انطلق منه أصحاب هذه القراءات الجديدة للنصوص الدينية في مصادرتهم للتراث التفسيري القديم بجميع مدارسه ، واتجاهاته ،بسبب آن هذه التفاسير القديمة تنطلق من هذا المعطى الذي يشكل ثابتا ،وهو آن هناك معنى واحدا في النص أودعه الله في كتابه ،وما على المفسر إلا أن يعمل على ااستمداده من النص، مما يجعل سلطته في قراءة النص نسبية ،بل غائبة في تلقيه للنص ، فهو بهذا الاختيار أسير لسلطة النص التي تحكمه قواعد ضابطة لتلقي النص...
من هنا دعا القارئ الحداثي إلى استكشاف المعاني العميقة ،وتحصيل الدلالة التي لم يصل إليها المفسرون القدماء، حتى وان أدى به ذلك إلى مصادرة الأصول، و تخطي الضوابط التي يقوم عليها التفسير ..
كما آن الاتجاه الحداثي في القراءة والتفسير يصرح بشكل واضح وعلني ،أن الطريقة القويمة في قراءة الخطاب القرآني، وتدبر معانيه والوقوف على مقاصده هي القراءة المتحررة من ثقل التقليد،والعارية عن الأصول ، و البعيدة عن شروط التفسير،والمتخطية للأصول،والضوابط التي ساد ت بين المفسرين القدماء في ممارستهم للتأويل. فالضرورة المنهجية الجديدة تقتضي تخطي جميع الموروث الثقافي الذي أنتجه المفسرون والمحدثون والإخباريون على امتدادات لتاريخ الطويل ....[5].

4-التاويليات الجديد ة والسياق التاريخي
إن التأويليات المشتغلة على نقد النص، إنما نشأت خصيصا لدراسة النصوص الدينية القديمة ، والحكم على قيمتها التاريخية ، من خلال رصد الأخطاء ، و متابعة المغالطات المحمولة في هذه الكتب المقدسة بسب التحريف والتصحيف الذي مس نصوصها الأصلية في تاريخها الطويل ...
ومن اجل إيجاد الحل لهذا التحريف والتصحيف الذي مس النص القديم ، اختارت هذه المناهج منح السلطة لقارئ النص من اجل أن يمارس سلطته على النص ،لان هذا العمل من شانه أن يبعد ا لتحريف على النصوص الدينية، عن طريق إخضاع هذه النصوص لسلطة القارئ، والتقليص من سلطة القواعد الحاكمة والضابطة لتلقي النصوص الدينية بصفة عامة ....
ولقد تجسد هذا المشروع مع الفيلسوف الهولندي سبينوزا" ت1677م" في القرن السابع عشر .وهو الذي أراد انقاد النص الديني المسيحي من هذه المغالطات والأخطاء الكبيرة والتحريفات الكثيرة التي مني بها ....وإصلاح وإبعاد التصحيف، والتحريف في الكتاب المقدس، حتى وان أدى هذا الإصلاح إلى اقتراح معان جديدة لا يطيقها النص الأصلي، وخارجة عن النص الأصلي...
لقد أسفر هذا النقد الذي مارسه الفيلسوف الهولندي سبينوزا بأنواعه ومستوياته المتعددة عن نتائج هامة، إذ تبين أن النصوص الدينية اليهودية والمسيحية لم يكتبها مؤلف واحد في عصر واحد لجمهور واحد بل كتبها مؤلفون كثيرون في عصور متعاقبة لأناس عاشوا في ظروف مختلفة وأحقاب متباعدة وأن تدوين هذه النصوص يمتد على مدى قرونوبالتالي فهي تعكس أو تعبر عن تجارب في الحياة مختلفة ومتنوعة . ومن هنا كان ضرورة اختلاف التفسير، وتنوعه وعدم التقيد بوجهة نظر واحدة ،أو الرضوخ لأية سلطة أخرى غير سلطة العقل والمنهجية العلمية... [6].
إن هذا العمل الذي قام به هذا الفيلسوف لم يكن الهدف نقض الكتاب المقدس ، وبيان التحريف. وإنما كان نقد هذا الكتاب من خلال إيجاد مخارج لهذا التحريف الكبير الذي منيت به الكتب السماوية القديمة...
ولإيجاد المشروعية لهذا المنهج الغريب. دعا دعاته والمناصرون له إلى التحرر الكامل من جميع الأفكار المكتسبة ، والآراء المعهودة، والقيم المألوفة ، والتجرد من كل القبليات التي تلقاها القارئ في ثقافته، ،أو اكتسبها من تراثه ،لعتلدهل في مراحل تعليمه الذي هوا لتراث العربي الإسلامي..[7].
لكن اكبر منعطف لهذا المنهج المنقول الغير الماصول ، هو انتقاله من نقد النص البشري إلى نقد النص الديني ، و العمل مع أنصار هذا الاتجاه إلى إسقاط هذا المنهج بالقوة على النص القرءاني ،بدون النظر إلى السياق التداولي لهذه المنهج ، أو الاعتبارات الاببستولجية والاديلوجية التي كانت من وراء نشأة هذا المنهج ...[8]
فأصحاب هذه المشاريع استمدوا أدواتهم ، و استنبطوا آلياتهم المنهجية من فضاء المناهج الغربية ذات الصلة المباشرة بنقد النص الديني الذي نشا في الغرب.....[9]..
فقد كانت النية المحمولة في هذا المناهج التأويلية الجديدة هو رفع القداسة، والتعالي على النص القرءاني ، والحد من امتداداته في الزمان والمكان .،وذلك بجعل النص القرءاني الذي هو وحي نصا مماثلا ومتجانسا مع النصوص التي يبدعها البشر ، فالنصوص عند أصحاب هذا الاتجاه ، جميعها متماثلة ومتجانسة....بغض النظر عن مصدريتها ،وعن أصلها، بحيث يتساوى فيها النص الديني بالنص البشري....
والحقيقة التي أثبتها كثير من الدارسين، أن هذا الاتجاه هو امتداد للاتجاهات التحريفية التي عرفها تاريخ الإسلام في احد مراحله تاريخه الطويل خاصة في علم التفسير...[10].
لكن يبقى هذا المنهج الوافد إلينا منهجا ملفقا غريبا ، يغتال نفسه بنفسه قبل أن يغتال النص ، بحيث لا تشم فيه رائحة الإبداع، وإنما الرائحة التي تفوح منه هي اغتيال المعنى في النص...ومصادرة الأصول والكليات والضوابط المتفق عليها بين علماء التفسير المشهود لهم بالكفاءة العلمية...
إن ما يحمله هذا المنهج الملفق ،انه لا يخضع لقانون اللغة في التواصل ،ولا يحتكم إلى اصطلاح التخاطب التي بها تكتب النصوص ،وبها يتواصل القارئ مع للنص .
ومصادرة كتب التفسير بعود إن هذه التفاسير القديمة مارست سلطة قوية على قارئ النص ،وعلى كل من يريد التفسير من خلال تكريسها لسلطة النموذج في التفسير الذي مارسه الشافعي ت204ه على التفسير...
فلما كان سلطة النموذج في التفسير من حيث التأصيل والتقعيد تنسب إلى الإمام الشافعي ت204ه،فقد تعرض الأمام الشافعي لنقد شديد من لدن المناصرين لهذا الاتجاه، لأنه عمل على تأصيل منهج متكامل به تقرا ، وتفسر النصوص الشرعية....[11].
-القراءةالحداثيىة ومصادرة التراث التفسيري
لقد ظل القرءان الكريم موضع عناية واهتمام من قبل علماء الإسلام ،ولقي عناية كبيرة تنظيرا وتطبيقا، وبذلت في تفسيره جهودا كبيرة، أسفرت عن هذه الجهود على ثروة علمية مباركة، وأنتجت جملة من العلوم المنهجية الخادمة للنص الشرعي ، في جميع جوانبه ،والمستمدة منه، مثل أصول التفسير، وأصول الفقه، وعلم التفسير ، وعلوم القرآن، وعلوم الحديث، وعلوم الآلة، وغيرها من العلوم والفنون المسددة للفهم والمرشدة لفقه النص ،والضابطة للنظر في القرءان الكريم...
لقد لجا أصحاب هذا الاتجاه إلى إقصاء وتهميش كل ما قدمه المفسرون القدماء من اجتهادات . وما أسهموا به من مساهمات ،ومشاركات رائدة ومتميزة في تفسيرهم لكتاب الله. وهي مساهمات ومشاركات مشهود لها بالانضباط ،والتقيد بالأصول والقواعد التي لها علاقة مباشرة بتفسير النص القرآني ....
بالمقابل حملت دعوة أصحاب القراءات الحداثية أن العلوم المعاصرة من لسانيات ومناهج تحليل الخطاب بمقدورها أن تجعل الخطاب القرآني خطابا متجددا منفتحا لكل التأويلات والقراءات رغم اختلاف العصور والأزمان وهو ما يسير لكل جيل أن يقرا النص القرءاني حسب حاجاته وفق قيم زمنه وعصره .وهذا القيد يعني أن القارئ يجب عليه مراعاة الظرفية الزمانية والمكانية التي تتم فيها قراءة النص القرءاني وهو ما يجعل القراءة الجديدة تتعامل مع القرءان الكريم حسب سياقه المكاني والزماني و كأن القرءان نص أنزل إلينا من جديد.."[12].
واضعا في الاعتبار وبدون الرجوع أو الاهتداء إلى مساهمات ومشاركات علماء التفسير السابقين خاصة علماء التفسير الرواد مع وضع في الاعتبار
والذي استند إليه أصحاب هذا الاتجاه أن النص الديني بصفة عامة والقرآني بصفة خاصة نصوص في طبيعتها حاملة للتأويل من حيث اتساع دلالة معانيها. وهذا ما يرشحها لأن تكون قابلة لأكثر من معنى ومنفتحة لأكثر من قراءة قابلة لان تحمل أكثر من دلالة بسبب تعدد الفهوم واختلاف مستويات المتلقين لهذه النصوص بسبب تنوع سياقات وظروف القراءة[13].
والمبدأ الذي استند إليه أصحاب القراءة الجديدة للخطاب القرآني أن في مجال النقد تستوي النصوص وتتماثل بصرف النظر عن جنسها أو نوعها أو مصدرها. فالنصوص التي تستمد شرعيتها من الوحي تتماثل مع النصوص التي تصدر عن البشر.
وهذه التسوية بين النصوص تلزم إخضاع هذه النصوص، ووضعها في محك النظر والنقد والتفكيك كل هذا من أجل رفع القداسة ،والتعالي عن النص الديني. وجعله يستوي ويتماثل مع النص البشري في المصدر والمرجع..
والمنطلق المعرفي لأصحاب القراءة الحداثية أن ما دون عن القرآن الكريم بما في ذلك كتب التفسير قد مارست قراءة إيمانية على النص القرآني فهي تستند إلى مسلمات ومبادئ معرفية ومنهجية سلطتها على النص بالقوة ،غير قابلة للنقاش أو المراجعة أو التقويم. وهذا ما يحول ويمنع من ممارسة قراءة نقدية مبدعة للنصوص الدينية ، منفتحة على القيم الجديدة وذلك بالاعتماد على مناهج تحليل الخطاب الديني واللغويات المعاصرة...
ولتجاوز هذا الإشكال وحتى نصل إلى إخضاع النص الديني للمناهج الألسنية المعاصرة فإنه من الواجب التحرر من كل المسلمات التي تلقاها القارئ من محيطه وبيئته خاصة ما تعلق بالمسلمات التي لها صلة بالدين الإسلامي.ومن أوليات هذا التحرر الانطلاق من هذه القاعدة " ففي نقد النص تستوي النصوص رغم اختلاف المرجع والجنس والمصدر. وهذا ما يجعل النص الديني يستوي مع النص البشري. وهو ما يلزم عنه بالضرورة إلغاء المقدس ورفع التعالي عن النص الديني وجعل العقل حاكما على النص وموجها لحمولته الدلالية. وليس النص حاكما على العقل[14]. وهذا ما يجعل النص فاقدا لسلطته اللغوية والدلالية...و غير محكوم بأي تعاقد مع القارئ خاصة ما كان من قبيل القواعد الضابطة للتخاطب. ..
فالمصدر الإلهي لا يخرج النصوص الدينية عن بيئتها ،ولا يميزها عن النصوص البشرية" لأنها تجسدت في التاريخ واللغة وتوجهت بمطوقها إلى البشر في واقع تاريخي محددا .لأنها محكومة بجدلية الثبات والتغير...[15].
والأخطر في هذا الاتجاه هو الدعوة إلى إخضاع النصوص ،وقراءتها بالمنهج التاريخي.والقصد من هذا المنهج هو الحد من امتدادات القرءان الكريم في بعده الزماني و فضائه المكاني،وتقييد هذا ا لنص القرءاني بزمنه الخاص به...[16] .
وهذا يعني أن النص القرءاني جاء استجابة للحظته التاريخية....[17]
ولا غرابة إذا قلنا إن الإمام الشافعي الذي يعد من ابرز الوجوه العلمية المؤصلة للمنهج الأصولي الضابط للفهم والاستدلال تعرض لنقد شديد ،وتهجم عنيف من لدن المناصرين والمتزعمين لهذا التوجه[18]. لأنه من أوائل علماء الأصول الذين أصلوا منهجا منضبطا لقراءة النص وتفسيره واستنباط الأحكام الشرعية منه، زاوج في هذا المنهج بين المنقول والمعقول.وظل نموذجه في التفسير يحتفظ بسلطة مرجعية قوية لكل من يتوخى تفسير النص القرءاني...
لقد حصن هذا المنهج النص من كل تحلل من القواعد، و من عدم التقيد بضوابط التفسير وهو ما يؤدي بالقارئ إلى اختراق النصوص والعبث بدلالتها .وإهدار السياق الذي من أجله نزلت ، وإخراج المعاني والدلالات عما هو متواضع ومجمع عليه. وهذا ما يسهل من محاصرة النص والحد من امتداداته عبر الزمان والمكان .
ومن ثم فلا مجال إذن من التحرر من سلطة النص عند الحداثيين إلا باختراق سلطة النموذج المخصص للتفسير التأويل الذي وضعه ،وأسسه وارسي دعائمه ،الإمام الشافعي ،وقعده في كتابه المشهور الرسالة....[19]
هذا النموذج هو الذي احتفظ بمرجعية كبرى بين جميع المشغلين بقضايا التفسير والتأويل.وظل المرجع ،والسلطة المؤطرة ،والموجهة لكل المفسرين ،والمشتغلين بالتفسير على مر العصور.....

-المرجع والتوجه الحداثي في قراءة النص
إن الاتجاه االحداثي في القراءة كان ينطلق من مجموعة من المبادئ التي يراها مسلمة وأساسية في قراءة النصوص . وهذه المبادئ تسعى إلى مصادرة كل ما ينتمي إلى الفضاء الديني الإسلامي .بما في ذلك مصادرة مناهج التفسير المعهودة بين المفسرين .فهم يعارضون بالمرة جميع مناهج القدماء في تفسير النص ،لكونها مناهج تنتمي إلى الفضاء الإسلامي،...
مما جعلها تسقط في إسقاطات مذهلة،واشكالات معرفية ومنهجية خطيرة....
لقد علل أصحاب هذا الاتجاه اختيارهم في أخذهم بهذا المنهج ،ومناصرتهم له بهذه المبررات التي من أبرزها :

ا-مصادرة القواعد والمعايير الحاكمة للتخاطب لنسبيتها
إن القراءات الحداثية تسعى إلى إيجاد بدائل منهجية في قراءة النص ، تمنح فيه السلطة لقارئ النص من اجل أن يمارس هذا القارئ سلطته على النص، حتى وان كان لا يمتلك المعايير والقواعد التي يقرا بها النص . ويجعل من النص ممرا، ومعبرا لإيصال اختياراته، وقناعته وآرائه الشخصية لقارئ هذا النص ، .وذلك عن طريق مصادرة القواعد والأصول والمعايير التي ترجع في قراءة النصوص...
كما إن التأويليات الجديدة كانت تسعى جاهدة إلى إفراغ النص من معيارته ، ومن المعاني لمحمولة فيه، وتجريده من قواعده التي بموجبها يفهم هذا النص. وإحلال محله القارئ التي تعترف له التأويليات الجديدة بالسلطة، وبالقدرة في التعامل مع النص ،وحتى وان كان هذا القارئ لا يمتلك الآليات والشروط الأساسية قراءة النص....".[20]..
وقد علق الشيخ البوطي على هذا التوجه الفاسد في إخراج المعاني عن معهودها في التخاطب بسبب عدم الاحتكام إلى اصطلاح التخاطب في تلقي المعنى من النص فقال :" فقد يخرج الجاني بدون عقوبة، ولا متابعة .مادام النص يحمل معان نسبية، ولا يجد فيها القاضي طريقا وسبيلا في الفهم ، قد يسوي القاضي فيها بين الجاني والمجنى عليه...إنها من الحماقات الكبرى التي جاءت لتبشر بها هذه المنهجيات الجديدة المسماة بالحداثية....[21].
ب-معيارية المعنى في النص
ينطلق أصحاب القراءة الجديدة لقرءان الكريم من إن التفاسير القديمة احتكمت إلى المعايير والقواعد في قراءتها للنصوص مما أدى بها إلى الإصرار على المعنى الواحد، وصادرت التعدد في المعاني "إذ ينطلق التفسير التراثي من ان هنا ك معنى واحدا في النص وان مهمة المفسر هي اكتشاف ذلك المعنى اعتمادا على مجموعة من المعارف بعضها لغوي وبعضها ديني...:[22]
كما اعتبروا مناهج المفسرين القدماء،لا تكشف عن المعنى الحقيقي في النص ،لأنها تناصر المعنى الواحد ،وتصادر التعدد في المعنى....
فالمفسر القديم كان عمله متجها إلى إصابة هذا المعنى الواحد، لان القواعد التي يتمسك بها لا تمنحه الحرية في إصابة أكثر من معنى في النص....
فلابد من هذا الاختيار،وهو مناصرة التعدد في المعاني من خلال جعل النص واحد ومعانيه متعددة.[23].
واستند المناصرون للتعدد في المعنى إلى هذا النص الذي يقول فيه ابن قتيبة :"ولو كان القرءان كله ظاهرا مكشوفا لاستوى في معرفنه العالم والجاهل ، ولبطل التفاهم بين الناس ،ولسقطت المحنة وماتت الخواطر الفكرة .....".[24]
ج-تقطيع النص القرءاني
من سمات مشاريع القراءات الجديدة أنها تسعى إلى تجزيء الوحدة التكاملية للقرءان الكريم عن طريق تحويل النص القرءاني إلى نصوص جزئية،بدعوى التفكيك ،وليس الجمع،وهذا من تجليات الخلل المنهجي في تعاطي أصحاب القراءات الحديدة مع النص القرءاني....[25]
-تركيب واستنتاج
لقد أحسن الدكتور طه عبد الرحمان الوصف عندما قال وهو يصف هذه المناهج المنعونة بالجديدة، اوالحداثية في قراءة النص القرءاني
:"....إنهم يريدون قراءة جديدة وحداثية للقرءان. ولكنها هي قراءة مقلدة ،وليس لها من الحداثة ،في أي شيء نتفق معها من حيث أننا نحتاج في نهوض الإسلام إلى تجديد القرءان. ولكن تجديد نبغي أن نبدع فيه فنأتي من عندنا بأدوات، واليات يحددها تاريخنا، وتراثنا على هده الأدوات والآليات التي نبتكرها يمكن أن نعيد بها قراءة القرءان ،ولا نقوم باستنساخ الأدوات الغربية ،وإسقاطها على النص القرءاني......"...
كما اخذ الدكتور طه عبد الرحمان على أصحاب المشاريع الحداثية عدم مراعاتهم لمبدأ التباين، والتفارق المنهجي ، والتقاطع بين المرجعيات المشيدة لهذه المناهج المسما ة والمنعوتة بالحداثية ....
فهذه المناهج سعت إلى إنقاذ ما يمكن إنقاذه من التصحيف والتحريف واضطراب العبارة ،وقلق الصياغة ، و غموض الكلمة الأسلوب ، والتركيب والدلالة في الكتاب المقدس،وهو المعطى الغائب في الإسلام الذي طل كتابه القرءان الكريم سليما ومحصنا من جميع أشكال التحريف....
هذه الاعتبارات تعني ان التلقي السليم للنص القرءاني ، من اجل تمثل القصد منه ،لا يتحقق إلا بالا خذ بمجموعة من الشروط، و التقيد بالضوابط، المؤسسة للمعنى. كما هي مؤصلة بين العلماء ،و مقننة في جميع كتب أصول التفسير. وهي متاحة لكل من جمع الشروط ،وامتلك الضوابط،واستوفى القيود...
من جهة أخرى فان الأخذ بهذه الضوابط لا يعني الضر نمن استعمال النظر في التفسير والقراءة. فالمجال مفتوحا على كل من استوفى الشروط ،و جمع الأصول كما سبق الذكر...






[1] -زاد المسير لابن الجوزي :1/11

[2] -الإعجاز البياني ومسائل نافع بن الأزرق لعائشة بنت الشاظئ:65

[3] -الخلفيات الفلسفية لمشاريع القراءات الحداثية لفاطمة الزهراء الناصري:145

[4] -جنون القراءة الحداثية للدكتور الشيخ سعيد رمضان البوطي:12

[5] -يراجع :التيار العلماني الحديث وموقفه من تفسير القرءان الكريم لمنى بهي الدين الشافعي.دار البشائر:2008.

[6] في قضايا الفكر والدين لمحمد عابد الجابري محاورة .مجلة مقدمات العدد:10+-السنة:1997.

[7] -محمد اركون وتحليل الخطاب الديني : النص القرءاني نموذجا لمحمد اندلسي . مجلة الأزمنة الحديثة.العدد:3-4.2011.

[8] - الأسس المنهجية للقراءة الحداثية للنص القرءاني لفؤاد بوعلي :123


[9] -يراجع بحث :طه عبد الرحمان قارئا لمحمد عابد الجابري.مجلة الأزمنة الحديثة :العدد:3-4.غشت :2011.

[10] -الاتجاهات المنحرفة في تفسير القرءان الكريم : دوافعها ودفعها محمد حسين للذهبي:142

[11] -الإمام الشافعي وتأسيس الاديولوجيا الوسطية لناصر ابوزيد:84

[12]- نحو قراءة جديدة للخطاب القرآني ليوسف صديق، برنامج مسارات قناة الجزيرة، صيف 2006.

[13]- النص الديني والاتجاهات الحديثة، مجلة مرفأ الكلمة، ع 5 – 2005. منتدى مرفأ الكلمة للحوار والـتأصيل الإسلامي، مدينة قم، طهران.

[14]- للوقوف على المزالق المعرفية والمنهجية التي وقعت فيها هذه القراءات يستحسن الرجوع إلى مداخلات الندوة العلمية التي شهدتها كلية الآداب بوجدة وكانت في موضوع: الخطاب القرآني والقراءات الحداثية": أبريل 2007.
وكذا أعمال مؤتمر مجمع الفقه الإسلامي بدبي :ابريل :2005. وكان في موضوع: "القراءات الجديدة للقرءان الكريم والنصوص الدينية"..

[15]- نقد الخطاب الديني:118.

[16] -العلمانيون والقرءان الكريم : تاريخية النص للدكتور احمد الطعان إصدار دار ابن حزم بالرياص:2007 .

[17] -تاريخية التفسير القرءاني للباحثة نائلة السليني:221.منشورات كلية الاداب ميوبة تونس:2010.

[18]- الإمام الشافعي وتأسيس الإيديولوجية الوسيسطية لناصر أبو زيد، مكتبة الدبولي، ط2، 1996.

[19] - النص وآليات الفهم في علوم القرآن لمحمدالحيرش:241

[20] -أفق التأويل في الفكر الفكر الإسلامي المعاصر للدكتور محمد حمزة:45مؤسسة الانتشار 2011.

[21] - قراءة في ضوابط التأويل وأبعادها المنهجي في الدراسات القرآنية المعاصرة د. رقية طه جابر :124

[22] - مفهوم النص دراسات في علوم القرءان لناصر ابوزيد :223


[23]- جنون القراءة الحداثية للدكتور الشيخ سعيد رمضان البوطي:12

[24]--تأويل مشكل القرءان لابن قتيبة:223

[25] -الحاجة إلى التفسير لعبد العزيز برغوث محلة الإحياء العدد:-27- السنة:20008.
 
قراءة وافية لهذا الاتجاه الحداثي - الغربي

لكن كنتُ أتمنى لو عرضت أمثلة على بعض تطبيقاتهم على النص القرآني، فقد قرأتُ بعض كتبهم كالجابري ووجدتها عبارة عن نظريات بدون أمثلة وتطبيقات لما يريدون الوصول إليه.
 
لعل مانقله الأستاذ بنعمر -سلمت أنامله- عن د. عبدالرحمن طه ووردت فيه كلمة منعونة يقصد بها معنونة..
 
عودة
أعلى