البواعث الفكرية والمنهجية: في سلسلة الدراسات القرآنية لطه جابر العلواني

المستصفى

New member
إنضم
16/07/2006
المشاركات
48
مستوى التفاعل
0
النقاط
6
البواعث الفكرية والمنهجية: في سلسلة الدراسات القرآنية لطه جابر العلواني

د.سليمان محمد الدقور​

الدكتور طه جابر العلواني باحث موسوعي، تتسم أبحاثه بالشمولية؛ إذ عمل على مراجعة التراث الإسلامي وتنقيته ممّا علق به من شوائب وأغاليط، لحقت به على مدار تاريخه الطويل الحافل. لذا، فهو يُعَدّ بحقٍّ أحد روّاد الفكر الإسلامي المعاصر، وواحداً من أهم مجدّدي هذا الفكر، الذين ألَّفوا في الفقه، ومقاصد الشريعة. وقد اهتم في دراساته بترسيخ قيمة النظرة التجديدية في التعاليم الدينية، لتأسيس البديل الحضاري الإسلامي العالمي.
ويُعَدّ فهم القرآن وتفسيره سياقاً مؤثّراً في مؤَلَّفاته وأبحاثه. لذا، شكَّلت الدراسات القرآنية حيّزاً واسعاً واهتماماً بالغاً فيها؛ ما حفزني إلى قراءة بواعثه الفكرية ونتاجاته العلمية في هذه المؤَلَّفات.
أولى العلواني الدراسات القرآنية جُلّ اهتمامه؛ نظراً لاعتقاده الراسخ بضرورة العودة إلى النبع الصافي والمعين الأول، ويقينه بأنّ القرآن هو المحرّك الرئيس لهذه الأمّة، وأن لا نهوض لها من دون استلهام معانيه وهديه في حلّ مشكلات النفس والمجتمع والعالَم، فسعى في دراساته القرآنية إلى المقاربة بين المنهج والمنهجية المعرفية القرآنية، وإفساح المجال أمام الباحثين لاستكناه دلالات الألفاظ في القرآن الكريم، وتثوير آياته، وسبر وحدته؛ بغية مداومة النظر والتفكُّر والتدبُّر والتبصُّر، ليكون آيات لأولي النُّهى والألباب.
وسأعمل في هذه القراءة على الكشف عن الخارطة الفكرية لنتاج العلواني القرآني، ورسم معالمها الرئيسة عن طريق تعرّف سلسلته القرآنية، وباعثه على تأليفها، وطبيعتها، وأهم ثوابتها، مع التأكيد على أنّ قراءة نتاج عالِم بمجموعه أصعب وأشق من قراءة مُؤَلَّف بعينه.
أولاً: التعريف بسلسلة دراسات العلواني القرآنية، والباعث على تأليفها
هي مجموعة من المؤَلَّفات التي تناولت العديد من القضايا القرآنية، بهدف تعرف المنهجية المعرفية القرآنية، وهي مؤَلَّفات يربط بينها موضوعها الرئيس؛ وهو "علوم القرآن"، الذي يمهِّد الطريق أمام الباحثين لتقصّي المنهجية المعرفية القرآنية، عن طريق إثبات:
1. حاكمية القرآن الكريم، وكيفية استحضارها:
يكون ذلك بإعادة صياغة علاقتنا بالقرآن الكريم، عن طريق تفعيل دور القرآن في إنقاذ البشرية، والاحتكام إليه في حلّ أزماتها؛ ما يعني أنّ للقرآن منهجه، ومنطقه، وسننه، وأساليبه، وعاداته، وقدرته على استيعاب الزمان والمكان، وتجاوزه لهما، وهيمنته عليهما.
2.كيفية تعاطي (تعامل) الإنسان (النسبي) مع القرآن (المطلق):
وذلك لاستنتاج المنهج القرآني المتكامل (النموذج المعرفي الكلّي) القادر على حلّ مشكلات الوجود الإنساني، وأزماته الفكرية والحضارية. ولتحقيق هذا الباعث، كانت دراساته القرآنية شاملةً الأسسَ المحورية المشكِّلة لأبعاد القرآن المعرفية، التي يمكن وضعها في بُعْدين أساسيين، هما:
أ. الدراسات الخارجية: وهي دراسات عن القرآن الكريم تُعنى بدراسة العلوم المتعلّقة به، ومراجعة تراثنا فيها، وتنقيتها من الشوائب، عن طريق: محاكمتها إلى القرآن الكريم، وإعادة كتابتها على الوجه الذي يساعد على تقديم القرآن المجيد لأبناء هذا العصر، بوصفه كتاب استخلاف وعمران.
وبالنظر إلى مؤَلَّفات العلواني التي تناولت الدراسات الخارجية، وهي: كتاب الجمع بين القراءتين: قراءة الوحي وقراءة الكون، وكتاب نحو موقف قرآني من النسخ، وكتاب أفلا يتدبرون القرآن، وكتاب نحو موقف قرآني من إشكالية المحكم والمتشابه، يُلحَظ أنّ العلواني سعى من هذه الدراسات إلى استشراف منظومة القرآن الكريم، وتتبُّع منهجية القرآن المعرفية المستوعبة للكون وحركته، والكشف عن الطريقة الصحيحة في قراءة القرآن الكريم، والأخذ بها، والعدول عن الطريقة التجزيئية في قراءته.
ب. الدراسات الداخلية: هي دراسات تسبر غور القرآن الكريم بقصد استنطاقه وبيان دوره في:
- تعرّف الأبعاد المكوّنة للكون والإنسان على المستوى الفردي والحضاري.
- تعرّف علاقة الإنسان بالكون، وكيفية التعامل معه.
- بناء فكر الإنسان.
- حلّ أزمات العصر ومشكلاته.
ومن مؤَلَّفاته التي اهتمت بذلك: كتاب "أزمة الإنسانية ودور القرآن الكريم في الخلاص منها"، و"الوحدة البنائية للقرآن المجيد"، و"لسان القرآن ومستقبل الأمّة القطب".
ولتحقيق هذين البُعْدين الرئيسين في دراساته، كان لزاماً توفر معالم منهجية منضبطة تربط بين الأهداف المرجوّ تحقيقها من كلا البُعْدين.
ثانياً: معالم دراساته المنهجية
تضمّنت دراسات العلواني عدداً من المعالم المنهجية، أهمها:
1. بروز منهج التسلسل في كتاباته:
وذلك بالتأصيل للفكرة أو المشكلة، ثمّ مناقشتها، ثمّ العمل على إيجاد حلّ لها، ويتجلّى ذلك في الآتي:
أ. تتابع السلسلة وتدرّجها في الوصول إلى "المنهجية القرآنية": فقد عمد إلى ذكر مرتكزات السلسلة في كتابه الأول، والتمهيد لكلّ جزء منها في الجزء السابق له. ففي كتابه "أزمة الإنسانية" نوَّه بأنّ الحلّ في تجاوز الأمّة القطب والعالَم بأسره الأزماتِ الفكريةَ والثقافية، هو ابتغاء القرآن المجيد، والعروج إلى عليائه، فهو الأقدر على أن يُعالِج - بمنهجيته القائمة على "الجمع بين القراءتين"- مشكلات الوجود الإنساني.
ب. التسلسل المنهجي في طرح القضية أو المشكلة وحلّها: وتمثَّل ذلك في حلّ جميع الإشكاليات المطروحة في سلسلته، ومنها ظاهرة النسخ؛ إذ ذكر التأصيل التاريخي لها، ثمّ حدّد طبيعتها، وأدلتها، ثمّ ناقش الأدلة، مُبرِزاً رأيه فيها.
2.التزام المنهج العلمي في معالجة قضاياه: فقد عمد العلواني إلى الأدلة والبراهين التفسيرية في محاورته للنصوص لتثبيت مقولاته وآرائه.
3.التركيز والعمق في طرح الفكرة، وعدم تشعيبها: وذلك بطرح فكرة رئيسة في كلّ مؤَلَّف، ثمّ دراستها بطريقة تأصيلية عميقة من دون تشعّب وتداخل.
وباتّباع هذه الأسس المنهجية العلمية، استطاع العلواني إرساء عدد من المعايير والثوابت للدراسات القرآنية. ولكن يتعيّن -قبل عرض هذه المعايير- التعريف ببعض المصطلحات التي أثارها في دراساته، وارتكز عليها في تحديد معايير هذه الدراسات وثوابتها، ومن هذه المصطلحات:
• التدبير: وهو "التخطيط للخروج من الأزمات والمشكلات، ويفترض أن يكون ناتجاً وحاصلاً ينتج عن التدبر، فلا تدبير بدون تدبر، بل ارتجال وتخبط."
• منهجية القرآن المعرفية: وهو "المنهج الذي يقدمه لنا القرآن المجيد في شكل محددات وسن قوانين يمكن استنباطها من استقراء آيات الكتاب الكريم تلاوة وتدبراً وتنـزيلاً وتفكراً وتعقلاً وتذكراً، ثم التعامل مع هذه المحددات تعاملاً يسمح لنا بأن نجعل منها محددات تصديق وهيمنة، وضبط لسائر خطواتنا المعرفية، للتخلّص من المأزق المعرفي المعاصر، والأزمة العالمية المعاصرة."
• المنهج التوحيدي للمعرفة: هو المنهج القائم على الربط بين القرآن والكون والإنسان؛ أي التوحيد بين اللاهوت والملكوت والناسوت، والإفادة من المعارف والعلوم في إيضاح العلاقة بين الخالق والكون والإنسان.
ثالثاً: معايير الدراسات القرآنية وثوابتها
يوجد العديد من المعاير الرئيسة التي يمكن استنباطها من دراسات العلواني القرآنية، وهي تمثِّل المحدّداتِ الأساسية التي تقوم عليها المنهجية المعرفية القرآنية. وفيما يأتي أبرزها:
1. التدبر والتأمل في القرآن الكريم حتى قيام الساعة:
يتميَّز عطاء القرآن بأنّه متجدِّد، لا ينضب ولا يخلق. وما دام عطاؤه متجدِّداً فستبقى فرائض التدبر والتأمل والتفكر قائمة، مع تنوّع مداخل القراءة وتجدّدها؛ ذلك أنّ التدبر هو الكاشف عن مكنون القرآن المتكشف عبر الزمان، وَفقاً للسقف المعرفي والعلمي.
2. الجمع بين القراءتين:
وهي الرؤية الكلّية للقرآن الكريم التي تَرُدّ دعوى الفصام المزعوم بين معطيات الوحي ونتائج المعرفة الموضوعية.
ويتجلّى هذا المعيار في قراءة الكتابين: القرآن والكون، ومقابلتهما، والكشف عن التكامل والتفاعل بينهما، وإبراز المنهجية المنطلقة منهما، بقراءة كتاب الوحي المقروء، ونعني به "القرآن الكريم"؛ لأنّه الكتاب الكوني الذي يعادِل الوجود الكوني وحركته، ويستوعبه بأبعاده الكونية، وهذه هي القراءة الغيبية –قراءة كتاب الوحي: القرآن الكريم- الناشئة من إطار الوحي. وقراءة كتاب الكون المتحرّك المتضمّن ظاهرَ الوجود كلّه، وهذه هي القراءة الموضوعية –قراءة الكون بموجوداته المتنوعة- المنطلقة من الكون وعناصره باتجاه الوحي.
وكلاهما يدل على الآخر، ويرشد إليه، ويقود إلى قواعده وسننه. فالقرآن يقود إلى الكون، ويمارس دوره في الهداية فيه، ويوظّفه في أوجه كثيرة؛ لتسخير مكوّناته، وتوضيح قضاياه. وكذا الحال بالنسبة إلى الكون؛ فهو يقود إلى القرآن ليسقط أسئلته عليه، ويستعين به لإرشاد الإنسان إلى كيفية التعامل معه، والإفادة منه، وتسخيره. وبذا، يتوصل القارئ إلى "الفهم التكاملي المتبادل، والتفاعل المثمر بين الإنسان والكون".
إنّ الالتزام بهذه المنهجية (الجمع بين القراءتين) يوصلنا إلى التعامل مع القرآن الكريم من ذات المنطلقات التي كان رسول الله  يتعامل بها؛ إذ يُتعامَل معه بوصفه كلام الله تعالى المطلق، المصدق، المهيمن، الحاكم على كلّ ما عداه، وبوصفه الخطاب العالمي الذي يتيح تجاوز الأزمات الفكرية والثقافية، والصراعات والتناقضات الطائفية والأممية. علماً بأنّه ينبغي التدبر في كلتا القراءتين؛ إذ لا قراءة حقيقية من دون تدبر يُفضي إلى التدبير.
وباعتماد "الجمع بين القراءتين" نستطيع أن نبني منهجاً توحيديّاً للمعرفة، يقوم على عدد من الخطوات، هي:
أ. إعادة بناء الرؤية الإسلامية المعرفية القائمة على أركان العقيدةكما جاء بها القرآن، ومقوّمات خصائص التصور الإسلامي المنبثق منها؛ ليتضح "النظام المعرفي الإسلامي"، القادر على الإجابة عن الأسئلة الكلّية النهائية.
ب. إعادة الفحص والتشكيل والبناء لقواعد المناهج الإسلامية في مجالاتها المختلفة، وذلك بعرضها على "المنهجية المعرفية القرآنية"، وتعديلها بنورها، وعلى هدى منها.
ت. بناء منهج للتعامل مع القرآن المجيد، ومعرفة مداخل قراءته عن طريق هذه الرؤية المنهجية التحليلية. وقد يقتضي ذلك إعادة بناء نظريات علوم القرآن -المطلوبة لهذا الغرض- وتركيبها، وتجاوز بعض الموروث -في هذا المجال- من تلك المعارف، التي أدّت دورها في خدمة النصّ القرآني.
ث. بناء منهج للتعامل مع السنّة النبوية المطهرة، بوصفها مصدراً مبيِّناً للقرآن المجيد، وتطبيقاً لما جاء به، وتنـزيلاً له في الواقع المتحرّك.
ج. إعادة دراسة تراثنا الإسلامي، وفهمه، وقراءته قراءة نقدية تحليلية معرفية، ومقايسته إلى منهج التصديق والهيمنة القرآنيين.
ح. بناء منهج للتعامل مع التراث المعاصر.
وقد شكَّلت هذه الخطواتُ الست الرؤيةَ الكلّية لفكر المعهد العالمي للفكر الإسلامي، الذي فعَّلها في مشروع إسلامية المعرفة.
3. الإيمان بالوحدة البنائية للقرآن:
يُقصَد بذلك "أن القرآن المجيد واحد لا يَقبل بناؤُه وإحكامُ آياتِه التعدُّدَ أو التجزئةَ في آياته، أو التعضيةَ، بحيث يُقبل بعضُه ويُرفض بعضُه الآخر، كما لا يَقبلُ التناقضَ أو التعارضَ، فهو بمثابة الكلمة الواحدة، أو الجملة الواحدة، أو الآية الواحدة، وإن كانت قد تعددت آياته وسوره وأجزاؤه وأحزابه."
وهذه الوحدة البنائية المتولِّدة من دقة نظم القرآن الكريم، سارية في القرآن كلّه، وماثلة في مختلف أجزائه؛ إذ يعتقد العلواني أنّ القرآن -بجملته- يقوم على ثلاثة أعمدة، هي: التوحيد، والتزكية، والعمران بصورة عامة. وهذه النظرة تماثِل ما أورده الشيخ الغزالي -مثلاً- من تقسيم في كتابه "المحاور الخمسة للقرآن الكريم": الله الواحد، والكون الدال على خالقه، والقصص القرآني، والبعث والجزاء، وميدان التربية والتشريع.
والمتفحِّص مثل هذه التقسيمات الموضوعية الأساسية التي يقوم عليها القرآن بحسب رأي كلّ عالِم، يرى أنّها تشكِّل نظرته الخاصة وتصوّره الذاتي لمجمل قضايا القرآن الكريم الرئيسة.
وممّا يؤكِّد سعة مجال التدبر والتقاء وحدة البناء القرآني في نسق واحد، محاولتي الخاصة تقديمَ صورة جديدة لمجمل هذه الموضوعات وَفق معادلة سمّيتها "معادلة الهداية في القرآن"، وهي تعرض وسائل الهداية، وطرقها، ومظاهرها، ومجالاتها، وقيمها، وثمارها، ممّا يعين على فهم خطاب القرآن الكريم.
ويمكن توضيح هذه المعادلة بالخارطة المفاهيمية الآتية:
تقوم هذه المعادلة على خمسة عناصر هي: وسائل الهداية وطرائقها، ومظاهرها، ومجالاتها، وقيمها، وثمارها.
وتتمثل وسائل الهداية وطرائقها في: التعريف بالله سبحانه، والتعريف بالإنسان، والتعريف بالكون، والقراءة التشريعية، والقصص، والسنن، والجزاء والحساب.
وتتمثل مظاهر الهداية في: مرجعية الوحي، والاستقلالية في شخصية الإنسان، والتحفيز والإبداع، والتقدم والنجاح.
وتتمثل مجالات الهداية في: التعريف بالله عز وجل، وبالإنسان من حيث ذاته وواقعه.
وتتمثل قيم الهداية في: الحرية والجهاد والولاء والأخوة والإيواء والنصرة.
أما ثمار الهداية، فهي ذات بعدين: البعد الدنيوي الماثل في الرشد الحضاري والشهود الحضاري، مما يؤدي إلى الأمة الوسط؛ والبعد الأخروي الماثل في الجنة.
تُظهِر هذه الخارطة أنّ التوحيد –على مستوى السورة- يمثِّل العمود الأساس لمعظم سور القرآن المجيد، وحوله تدور أوتاد التزكية والعمران. وقد يكون عمود السورة هو التزكية التي تربط بالتوحيد والعمران، وقد يكون عمودها العمران الذي يربط بالتزكية والتوحيد، وهكذا نجد أنّ الأعمدة الثلاث حاضرة في القرآن كلّه.
وتُعَدّ الوحدة البنائية منظومةَ القرآن الداخلية التي تحفظه، وتعصمه من التغيير والتحريف، وينتج من الإيمان بها رفض القول بالنسخ والمتشابه؛ أي لا نسخ، ولا تشابه بمعنى الغموض في المعنى في القرآن الكريم، فالقرآن كلّه ثابت معصوم من الاختلاف، مُحكَمٌ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، بَيِّنٌ لا التباس فيه ولا اشتباه، وهو كلّه يشبه بعضه بعضاً، لا اختلاف فيه ولا تناقض.
4. مراعاة إطلاقية القرآن الكريم، وعالمية خطابه، وتفوق لسانه العربي على اللسان العربي المألوف:
فلسان القرآن عربي لا يخالطه دخيل أو أعجمي. واللسان العربي هو لسان محايد، لم يحمل قبل القرآن رسالة دينية، كما لم يُحمَّل بمعانٍ فلسفية أو معرفية قد تُزاحِم المعاني التي يحملها الخطاب القرآني. وبذا، فإنّ عربية لسان القرآن تُعَدّ لازماً من لوازم الوحدة البنائية للقرآن الكريم وتيسيره، وبيانه؛ فالقول بوجود ألفاظ أعجمية أو معرّبة فيه، يعني أنّ مرجعيته اللسانية باتت مشتّتة؛ ما يجعل الغموض والالتباس صفة لصيقة لا تزايله، كما يدخل الشكوك في قدسية النصّ القرآني.
5. الربط بين الإقرار النظري والاستحضار الفعلي:
يرى العلواني أنّ هذه العلوم وقعت في مآزق عدّة بسبب هذا الفصام؛ الذي أفضى إلى عدد من الأخطار والعوائق التي حالت دون فهم النصّ القرآني، وتمثَّلت في هيمنة نسبية البشر على مطلق الكتاب، وتقييده إلى مدركاتها الظرفية ومحدّداتها الزمانية والمكانية وسقوفها المعرفية، وقياسه على الكتب التي سبقته، استناداً إلى الاعتقاد بوجود تشابه بين بعض موضوعات الخطاب القرآني وقضاياه، والكتب السابقة عليه، ممّا فتح الباب واسعاً أمام دخول الإسرائيليات التي تصادمت مع العقل فيما يخصّ التراث الإسلامي، وعملت على حجب العقول عن نور الخطاب القرآني وفهمه.
رابعاً: خلاصة الضوابط المنهجية لجهوده في الدراسات القرآنية
إنّ اعتماد العلواني المحدّداتِ الرئيسة الآنفة الذكر في دراساته، أفضى إلى مجموعة من النتاجات العلمية والمعرفية والمنهجية، يمكن توضيحها على النحو الآتي:
1. اشتمال القرآن الكريم على المنهج بمحدّداته كلّها، وكذا الشريعة بتفاصيلها؛ فكما أنّ الله -تبارك وتعالى- أكمل لنا الدين، وأتمّ علينا النعمة، وفصّل لنا الشريعة، فقد أودع كتابه "المنهاج" الذي ينماز بالتصديق على سائر ما وصلت إليه البشرية من مناهج الهيمنة عليها.
2.عدم إمكانية صوغ تعريف حدّي للقرآن الكريم؛ ذلك أنّ القرآن مطلق، والإنسان في أيٍّ من عصوره نسبي، والنسبي لا يحيط بالمطلق.
3.الدفاع عن القرآن الكريم في معركته، هو واجب كلّ عربي، سواء أكان مسلماً أم نصرانيّاً؛ ذلك أنّ هذه المعركة هي معركة الإنسانية ضد خصومها وأعدائها، ومعركة الدين ضد الإلحاد والشرك، ومعركة القيم والأخلاق ضد التحلّل والفجور. فالقرآن للمسلم هو مصدر دين وهداية يوصله إلى الحقيقة، وللنصراني مصدر ثقافته ولغته ووعيه بذاته القومية.
4.التدبر هو أساس قراءة القرآن الكريم، ووسيلة تحقيق الوعي الإنساني وشحذه؛ لتأدية دوره بأفضل شكل وأحسنه في إخراج الأمّة من حالة الغثائية، والالتحاق بالدواب الذين لا يعقلون. علماً بأنّ دور القرآن في التأثير يتنوّع بتنوعّ القارئ، واستعدادات التلقي لديه، وما يتصف به. يُذكَر أنّ المؤثّرات التي تشكِّل الخلفية المعرفية والإدراكية لقراءة القرآن الكريم، تتفاوت من عصر إلى عصر – وهو ما سمّاه الدكتور العلواني بالسقف المعرفي –، كما أنّها تتفاوت في العصر الواحد طبقاً لمحدّدات أخرى؛ مجتمعية، وفردية، وطبقية، وفكرية، ولا يمكن التقليل من تأثيرها، أو توهّم إمكانية التجرّد منها.
5.التدبر الأمثل لكتاب الله يلزمه التنـزيل على القلب، مع استحضار عدد من الأمور، أبرزها:
- تحرُّر العقول من الهيمنة والقهر الذي عليها؛ ذلك أنّها تتعامل مع كتاب مهيمن لا يقهر.
- الوعي بحقيقة أنّ القرآن الكريم هو كتاب الأنبياء والمرسلين كافة، وأنّه يضم بين دفتيه جميع رسالاتهم؛ فهو أُمّ الكتاب الجامع لكلّ كلّيات الكتب الأخرى وأصولها.
- تميُّز القرآن بخصيصتين رئيستين، هما: تيسيره الذكرَ لئلاّ يُحال بينه وبين أيّ فصيل من الناس أو قبيل في العالَم عبر العصور، وإشاعته وإذاعته. وربط المؤمنين به كافة بطريق التعبّد، وقراءته في الصلاة، وجعله حكماً حكيماً محكماً.
6. سبيل الخلاص من الأزمات الإنسانية، يكون بدراسة المآسي الإنسانية الراهنة، وصياغتها بصورة أسئلة واضحة، والتوجّه بها إلى القرآن الكريم لإيجاد حلول لها. فضلاً عن مراجعة التراث التفسيري، وتنقيته من الإسرائيليات، وصياغة التفاسير صياغة عمرانية.
7. وجوب العمل على بناء الوعي بالقرآن الكريم، وذلك عن طريق:
أ. إدراك أنّ القرآن الكريم ينطلق في معاركه التي يخوضها من موقف قوة وتحدٍّ وإعجاز.
ب. اكتشاف الرؤية الكونية القرآنية؛ وهي رؤية قائمة على استيعاب "إطلاقية القرآن"، والكون المطلق وحركته بصورة موضوعية تشمل جوانبه كلّها، وكذا استيعاب "الإنسان المطلق" من حيث حقيقته الإنسانية، لا الأفراد الذين تتجسّد فيهم تلك الحقيقة على نحوٍ نسبي.
ت. مراجعة تراثنا في علوم القرآن؛ لتنقيته ممّا أحاق به أو أضيف إليه، ومحاكمته إلى القرآن المجيد ذاته؛ للتصديق عليه، والهيمنة على ما فيه.
ث. إشاعة الدراسات المقارنة بين الكتب الثلاثة (التوراة، والإنجيل، والقرآن)، وذلك بدراسة تاريخ كلّ منها، وطرق نقله وحفظه، والمقارنة بين مفاهيم كلّ منها وتصوّراتها للدين والألوهية والربوبية والنبوة والوحي والدنيا والآخرة، وتصوّر كلّ منها للإنسان والكون، وأثر كلّ منها في أهم القضايا القديمة والحديثة.
ج. دراسة القرآن بصورة ميسرة تراعي في تفاصيلها: الأعمار، والمستويات، والجنس، واختلاف البيئات وما إليها، مع العناية بتفسير المفردات القرآنية.
ح. تطوير مدارس "تحفيظ القرآن" لتصبح مراكز لإيجاد إنسان القرآن، وإحداث التنمية العقلية والنفسية بالقرآن.
8. معالجة أهم أسباب القطيعة بين المسلمين وتراثهم؛ المتمثِّلة في تهميش "لسان القرآن"، وهو ما أدّى إلى انعدام الإبداع، وتراجع القدرات الفكرية والاجتهادية، وسلوك سبيل التدهور الحضاري، والدخول في الأزمات الثقافية.
9. اتساع الفجوة بين الإعجاز العلمي والجمع بين القراءتين؛ إذ عمل الإعجاز العلمي على اتساع الشقّة، ووضع الحواجز بين العقل المسلم و"الجمع بين القراءتين"، وإبرازها منهجاً أو محدّداً منهجيّاً، يقوم على تلقي الإعجاز العلمي من دون حاجة إلى الجمع بين القراءتين.
والذي أراه هو أنّ البحث في الإعجاز العلمي قد يكون سبيلاً من سبل تحقيق الجمع بين القراءتين؛ شرط ألاّ تكون قراءة الإعجاز العلمي منفصلة أو منبتة عن قراءة الكون الكلّية؛ وذلك لتحقيق الانسجام بينهما، خاصة أنّهما متّحدان في المصدر، ويؤولان في شأنهما إلى الله تعالى. فالسير بهذا النهج في التدبر يزيد من تأييدنا للإعجاز العلمي المبني على الحقائق العلمية الثابتة.
10. انتفاء ظاهرة النسخ والمتشابه في القرآن الكريم. فالقرآن العظيم كلّه من سورة الفاتحة حتى سورة الناس، محكم مثبت لم يعتريه نسخ بأيّ صورة من الصور؛ ذلك أنّ النسخ تحكُّم في النصّ؛ أي إن القارئ هو الذي يتدخل في النص من حيث اثبات حكم أو نفيه، وهذا لا يقبل، والتشابه نفي لصفة البيان عن النصّ وجعلها صفة خارجية يضفيها المفسِّر عليه، وهذا غير جائز. وأرى أن العلواني بهذا يحسم لنفسه قضيةً ما زالت تأخذ حيِّزاً من النقاش لدى كثير من العلماء والباحثين.
11. هدف نـزول القرآن منجّماً في عصر النـزول لم يكن لربط تلك النجوم القرآنية ببيئة ذلك العصر، وإنّما لتكوين الأمّة القطب.
12.كمون أهم الأخطاء التي نعانيها اليوم –بحسب العلواني- في تراثنا التفسيري، في الآتي:
- تجاهل خصائص الخطاب القرآني بوصفه خطاباً إلهيّاً.
- تجاهل وحدة الخطاب القرآني البنائية، وانتهاج نهج التعضية (الذي عابه القرآن الكريم على الجاحدين به من المشركين وأهل الكتاب)، واعتماد أسلوب الاستشهاد بالاجتزاء منه لدعم المقولات المختلفة والمتناقضة. وقد ظهر ذلك جليّاً في عصر الفقهاء؛ بلجوئهم إلى الاستجابة لمستجدات الحياة المتسارعة، وإعطاء الأحكام المناسبة للنوازل. فمثل هذه البحوث كانت تتطلّب النظر في الدليل الجزئي التفصيلي لا في القرآن كلّه، بوصفه مصدراً منشِئاً بكلّيته، ودليلاً شاملاً، ممّا رسَّخ منهج التعضية. فبحث الخاص والعام، والمطلق والمقيّد، والأمر والنهي، وصيغ العموم وصيغ الخصوص، ومقتضى اللفظ والمفهوم، والمشترك والمؤوّل، والنصّ والظاهر والمفسّر؛ كلّ ذلك يمثِّل مباحث تتعلّق بالألفاظ المفردة أو دلالتها وسائر العوارض الذاتية المتعلّقة بها، من دون النظر في المناسبات والروابط وشبكات العلاقات بين الكلمات في إطار الآية، أو الآيات في إطار السورة، أو السور في إطار القرآن كلّه.
ويتيبن لنا مما سبق بأن ثمة أهمية كبيرة للجهود التي قام بها الدكتور العلواني في الدعوة إلى القيم الكلّية، التي تمثلت في: التوجّه إلى القرآن الكريم لحلّ أزمات العالَم، وإعادة صياغة التفاسير صياغة عمرانية، ومراجعة التراث الإسلامي وتنقيته ممّا علق به من شوائب، والتخلّص من عوائق التدبر، وإعداد قاموس قرآني مفاهيمي.
وبذلك استطاع الدكتور العلواني وضع يده على أصل المشكلة التي تعانيها الأمّة فيما يخصّ موروثها الإسلامي، فتناولها بالبحث والاستقصاء والتحليل؛ مُنقِّحاً تراثها؛ ومُوضِّحاً معالم المنهج القرآني؛ وساعياً إلى تقريبه من مسلمي هذا العصر؛ لتجاوز الأزمات الإنسانية التي يقارعها العالَم أجمع.


المصدر : إسلامية المعرفة .
 
عودة
أعلى