عمر المقبل
New member
- إنضم
- 06/07/2003
- المشاركات
- 805
- مستوى التفاعل
- 0
- النقاط
- 16
البعد الدعوي والتربوي للقرآن المكي والمدني (2/2)
سبق أن أشرت في البعد الدعوي والتربوي للقرآن المكي والمدني (1/2) إلى مسألتين مهمتين:
الأولى: أن في تقسيم القرآن إلى مكي ومدني حكمة تظهر في أساليب ومضامين الخطابين، وأن على الدعاة والمربين أن يستفيدوا من ثمرة هذا التفاوت في تربيتهم ودعوتهم.
الثانية: تطبيقات الأئمة علمياً وعملياً لهذا التفاوت.
وسنكمل في هذا الجزء الثاني بقية المعالم والأبعاد التربوية والدعوية لهذا التقسيم:
ثالثاً: على الداعية إلى الله، والمربي، والمعلم في حقله التعليمي - في المسجد أو المدرسة أو القناة - أن يراعي أحوال المخاطَبين، والبداءة بالأهم فالأهم، ومراعاة المتغيرات التي أثّرت في واقع الناس بسبب هذا الانفتاح الإعلامي، وسهولة التنقل في الأسفار، والذي فتحَ الأعين والأفكار على ألوان من الأفكار والثقافات؛ جعلت قياد الناس يحتاج إلى أسلوب وحكمة، وبُعد نظر.
وفي هذا القصة المشهورة بين عبدالملك بن عمر بن عبدالعزيز حين قال لوالده - بعد أن تولّى الخلافة -: يا أبت! ما منعك أن تمضي لما تريد من العدل؟ فوالله ما كنت أبالي لو غَلَتْ بي وبك القدور في ذلك! قال: يا بني! إنما أنا أروّض الناس رياضة الصعب، إني لأريد أن أحيي الأمر من العدل، فأؤخر ذلك حتى أخرج معه طمعاً من طمع الدنيا، فينفروا من هذه ويسكنوا لهذه"([1])، فانظر إلى مقولة عمر هذه وما فيها من العلم والعقل!
يقول هذا وهو في القرن الأوّل، الذي ما زال فيه بقايا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فضلاً عن وجود سادات التابعين، والغالب في الأمة الإسلامية القوة، وصلاح عامة الناس، فكيف بمن يأتي بعده؟ ويقول عمرُ هذا وهو ولي الأمر، الذي له السمع والطاعة بالمعروف، فكيف بمن ليس كذلك؟
ألا ما أحوجنا إلى هذا الفقه في النظر في الواقع، وعدم الاستعجال في تحصيل النتائج لقناعة الإنسان بأن رأيه حقٌّ! فلقد كان المسلمون - في العهد المكي - ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم هم أهل الحق بلا ريب، ولا توجد طائفة سواهم، ومع هذا أُمروا بالصبر وعدم الاستعجال، حتى قامت دولة الإسلام بعد بضع عشرة سنة.
رابعاً: انتشار برامج الفتوى، وسهولة الوصول إلى المعلومة؛ مكّنت الناس من الاطلاع على أقوال فقيهة في عدد غير قليل من المسائل الشرعية، التي قد تكون مخالفةً للسائد من الفتوى في البلد الذي يعيش فيه الإنسان، ورأوا أن وجود أقوال في المذاهب الفقهية، أو قال به أحد العلماء - وإن كان قولاً مرجوحاً أو شاذاً - يسوّغ لهم الأخذ بها.
ومهما كان غرض الآخذ بتلك الأقوال والآراء - بحسن قصد أو بهوى - فإن من المهم مراعاة هذا المعنى في باب الاحتساب على المخالف.
فإذا كانت الفتوى قد يراعي فيها المفتي ظرفاً زمانياً أو مكانياً؛ فكذلك التعامل مع المستفتين.
خامساً: في حلقات تحفيظ القرآن من يبدأ بحفظ المدني؛ وعلى رأسه السبع الطوال - فكلها مدنية إلا الأنعام والأعراف - وهذا خلل يخالف منهج السلف الذين كانوا يحرصون على تعليم وحفظ المفصَّل لأولادهم، والآثار عنهم في هذا كثيرة؛ عن عمر، والبراء، وابن عباس - رضي الله عنهم - وما ذاك إلا لسببين:
1 ـ لوضوح أغلب آيات المفصّل، وأحكامه، وندرة النسخ فيه.
2 ـ لتركيزه على تربية القلب على الأصول الكبار: تعظيم الله، وتعليق القلب بالآخرة، والعناية بجانب الأخلاق مع النفس ومع الآخرين.
فخليق بأهل القرآن ومعلمي الحِلَق الاستفادة من هذا التدرج الذي لم يقع إلا لحكمة.
بل أستطيع القول باطمئنان: إن من أراد أن يربي من تحت يده تربية قرآنية؛ فليبدأ بالمكي قبل المدني، فالإيمان قبل القرآن - كما قال الصحابة - أي: بناءُ الإيمان ثم التوسع في معرفة الأحكام، فمن استقرّ الإيمان في قلبه سهل عليه الانقياد لأمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ومن عكس فستكون النتيجة مكلّفة، والواقع أكبر برهان.
اللهم فقّهنا بمعاني كلامك وكلام رسولك صلى الله عليه وسلم، وارزقنا العمل بهما.
ــــــــ
([1]) حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (5/ 354).
رابط المقالة: البعد الدعوي والتربوي للقرآن المكي والمدني 2/2 - الموقع الرسمي للدكتور/ عمر بن عبد الله المقبل