البروفيسور أركون: ذو الوجهين

أحمد كوري

New member
إنضم
13/06/2008
المشاركات
153
مستوى التفاعل
0
النقاط
16
الإقامة
موريتانيا
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين حمدا يوافي نعمه ويكافئ مزيده.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد.

تقتضي المبادئ العقلية الصحيحة من الإنسان أن يكون حرا في أفكاره، صادقا في توجهاته، ثابتا على مبادئه، شجاعا في نصر ونشر الحق.
هكذا كان أنبياء الله الكرام - عليهم الصلاة والسلام - وأتباعهم الصالحون: تمسكوا بالحق في ساعة العسرة ودافعوا عنه في أحلك الظروف، ولم يتزحزحوا عنه قيد أنملة، ولم تُغْرِهم زهرة الحياة الدنيا، ولم يستسلموا لسيوف وسياط وسجون الجبابرة: )وكأين من نبيء قتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين(.
أما الإنسان الذي يتخذ النفاق دينا والتقية مذهبا والخور والجبن منهجا، ويخالف هنا المبادئ التي يتشدق بها هناك رَغَبا في الحطام، أو رَهَبا للملام، فما أبعده من اتباع القواعد العقلية الصحيحة:
ولا خير في ود امرئ متلون=إذا الريح مالت مال حيث تميل
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تجدون الناس معادن؛ فخيارهم فى الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا، وتجدون خير الناس في هذا الشأن أشدهم له كراهية قبل أن يقع فيه، وتجدون شر الناس يوم القيامة عند الله ذا الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه". (متفق عليه).
فبعض أكابر الصحابة – رضي الله عنهم – كانوا في الجاهلية أشد الناس غلوا في معاداة الإسلام، ثم صاروا بعد ما تبين لهم الحق أشد الناس دفاعا عنه وتفانيا في خدمته، ولم ينافقوا في الحالة الأولى ولا الثانية، لأنهم كانوا من أهل المبادئ.
أما المنافقون فقد بقوا مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء؛ يأتون المسلمين بوجه ويأتون الكفار بوجه، وصدق الله تعالى إذ يقول في وصفهم: )ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمومنين. يخادعون الله والذين آمنوا وما يخادعون إلا أنفسهم وما يشعرون. في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب اليم بما يكذبون. وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الارض قالوا إنما نحن مصلحون. ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون. وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنومن كما آمن السفهاء الا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون. وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا الى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون. الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون. أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين(.
من التناقض العجيب أن نجد بعض أدعياء العقلانية، ينبذون الأحكام العقلية الصحيحة وراء ظهورهم؛ فيدالسون ويوالسون، ويمثلون مسرحية ذي الوجهين؛ فيأتون المسلمين بوجه، ويأتون الغربيين بوجه، يظهرون أمام المسلمين وكأنهم مسلمون أتقياء، حرصاء على التمسك بالإسلام غُيُرٌ على الدفاع عنه وعلى تجديده، وبالمقابل يظهرون أمام الغربيين وكأنهم ملحدون دعاة إلى هدم الحضارة الإسلامية، مبشرون بالحضارة الغربية.
نجد نموذجا لهؤلاء في البروفيسور أركون؛ فإذا رجعنا إلى كتبه المنشورة في الغرب، نجد فيها آراء لا يمكن – حسب تعبير الشيخ محمد الغزالي – أن يكون صاحبها مؤمنا بالقرآن (انظر: وقفات مع محمد أركون من خلال إنتاجه وفكره – د. محمد بريش - مجلة الهدى – العدد: 14 – رمضان / ذو القعدة 1406- ماي / يوليوز 1986 - ص: 32)، لكن البروفيسور نفسه يصرح بأنه لا يمكن أن يبوح في العالم الإسلامي بآرائه هذه؛ كما يقول: (مجلة الهدى – المرجع السابق - ص: 26):
"فالحرية السياسية غير موجودة للأسف في الدول المعاصرة، كما أنه لا يسمح للمثقفين العرب بأن يكتبوا بحرية في صحف أوطانهم، وأقصد هنا الكتابة العلمية لا الكتابة السياسية. وإذا كتبت شيئا عن هذه الموضوعات فلا بد أن تراقب نفسك؛ لذلك لا يمكن أن تقول كل ما يجب أن يقال، ولا يمكن أن نطرح بعض المسائل بسبب الرقابة وهي أحيانا ذاتية. أنا مثلا كأستاذ وباحث أود أن أطرح بعض الأسئلة، لكني لا أستطيع أن أفعل ذلك كما يقتضي العلم، لأني أريد أن أبقى في اتصال مع العرب، كي نتقدم في حل بعض المشاكل دون أن تنقطع الصلة بين الباحث وسائر الناس. لهذا أقبل بالرغم من أني أتمتع بكل حريتي هنا كأستاذ في السوربون أن أفرض على نفسي هذا النوع من الرقابة؛ لأني أفهم أن الباحث لا يحق له أن يجرح نفوس الذين لا يزالون غير مستعدين ليفهموا ويدركوا بعض المشاكل التي يمكن أن تطرح. هذه الأمور كلها تجعل الفكر العربي لا يقدم على طرح المشاكل التي لا بد من طرحها في هذه الفترة، وعلى التخلي عن هذه المواقف الإديولوجية التي يفرضها نوع من الإجماع الاجتماعي والسياسي السائد عندنا. هذه هي العراقيل وهي – كما ترى – نفسية وابستمولوجية. هناك محرمات".
ومن الجدير بالذكر أن البروفيسور أركون أدلى بهذا التصريح في مقابلة أجرتها معه مجلة الوطن العربي (العدد: 385، بتاريخ: 29 يونيو إلى 5 يوليوز 1984 – ص: 55)، وكانت المقابلة بعنوان: "محمد أركون يتهم: غارودي يجهل الإسلام"؛ فقد كان البروفيسور أركون مستاء من إسلام رجاء غارودي!! واتهمه بأن سبب إسلامه هو جهله بالإسلام!!
نعم إن البروفيسور أركون لا يمكن أن يظهر وجهه الغربي للعالم الإسلامي، رَغَبا ورَهَبا!! رَغَبا في بدل زيارة الجامعات وفي تعويضات المؤتمرات والندوات التي تقيمها مراكز البحوث والجامعات، ورَهَبا من ردات فعل أئمة المسلمين وعامتهم إذا اطلعوا على وجهه الغربي. ومن هنا فقد اتخذ الطريق الأسهل: أن يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه.
من آيات هذا التهريج التنكري الذي ينتهجه البروفيسور أركون قصته مع فضيلة الشيخ الدكتور محمد بريش؛ فقد كتب د. محمد بريش دراسة قيمة عن فكر البروفيسور أركون، ونشرها في مجلة الهدى (مجلة ثقافية إسلامية كانت تصدر بالمغرب)، وقد عبر د. محمد بريش عن هدفه من نشر الدراسة بقوله (مجلة الهدى – المصدر السابق - ص: 32): "نشير إلى أننا حين أقدمنا على التعريف بمحمد أركون لم نفعل ذلك للقدح فيه ولا لتكفيره أو تجريحه، وإنما كانت غايتنا الأساسية إطلاع جمهور الإسلاميين ومثقفيهم على الخصوص، الذين لا يتبعون إصدارات المفكرين العرب باللغات الأجنبية، ولا الصحف والمجلات ذات النزعة اليسارية أو "التقدمية"، على صفحة من صفحات ذلك التيار الجديد الراغب في قلب الدين رأسا على عقب وإعادة النظر في بناياته كلها والإتيان عليها من القواعد تحت شعار الاستفادة من العلوم الإنسانية الحديثة ومناهج البحث المعاصر، والذي يريد أن يفرض علينا تجديدا غريبا في الدين يتجلى في ممارسة علمانية للإسلام ... آملين أن نكون قد أفدنا القارئ المسلم على وجه العموم، وطالب أو أستاذ الفكر الإسلامي والدراسات الإسلامية على وجه الخصوص".
وقد آتى نشر هذه الدراسة أكله، وكان من نتائجها أن وعى كثير من المثقفين والعامة بالوجه الغربي للبروفيسور أركون، ونتجت عن ذلك ردة فعل مستنكرة في الأوساط الإسلامية، وصلت أصداؤها إلى البروفيسور أركون، فخاف من أن يتطور الأمر أكثر؛ فسارع بكتابة رسالة إلى د. محمد بريش، يعتذر فيها ويتنصل من ما كتب من ما يسيء إلى الإسلام والمسلمين، ويقول إنه مستعد للتراجع عنه!! وكان د. محمد بريش في قمة الورع والالتزام بالمنهجية العلمية والأخلاقية حين توقف تأثما عن نشر سائر حلقات هذه الدراسة، مع الأسف الشديد. ذلك أنه قد فهم من رسالة البروفيسور أركون أنه قد تاب وآمن وتراجع عن وجهه الغربي، والإسلام يجب ما قبله؛ فلم يستسغ د. محمد بريش أن يمضي في نقد فكر تراجع صاحبه عنه. كما يقول د. محمد بريش (على هذا الرابط)
"وبدأ نشر المقالات في مجلة "الهدى" التي كنت أرأس تحريرها على مدى خمسة أعداد، ثم توقف لسببين:
الأول: كاتبني الأستاذ الفاضل [يعني: البروفيسور أركون] راغبا في الاطلاع على المقالات المنشورة، وأنه مستعد للتراجع عن كل ما يمكن أن يسيء إلى الإسلام أو يفهم منه ذلك. فما كان لي أن أنسب له شيئا من الفكر لم يعد يتبناه، فليس لذلك من فائدة في بلورة الفكر وتطوير النقد ...".
لكن الواقع أثبت مع الأسف أن البروفيسور أركون لم يزل كما كان، وأن هذا التراجع ليس إلا مجرد فصل من مسرحية ذي الوجهين الذي ظل يمثلها هنا وهناك.
ولعل هذا هو السر في اختلاف الناس في تحديد منهج وخط البروفيسور أركون؛ فمنهم من ينخدع بوجهه الذي يأتي به المسلمين فيحسبه مؤمنا غيورا، ومنهم من اطلع على وجهه الآخر الذي يأتي به الغربيين.
فما أبعد البروفيسور أركون من الإمام مالك الذي امتحنه والي المدينة بعد أن نهاه عن التحديث بحديث، ثم دس إليه من يسأله عنه فحدث به على رؤوس الناس!!
وما أبعده من الإمام أحمد الذي امتحن المحنة المشهورة، فلم يجب؛ لأن عقائد العامة كانت معلقة في عنقه!!
بل ما أبعده – وهو من أدعياء العقلانية - من الفيلسوف اليوناني سقراط الذي أقدم على الموت طائعا، أنفة من أن يفر أو يخالف مبادئه. كما قال أمير الشعراء أحمد شوقي:
سُقراطُ أَعطى الكَأسَ وَهيَ مَنِيَّةٌ=شَفَتَيْ مُحِبٍّ يَشتَهي التقبيلا
عَرَضوا الحَياةَ عَلَيهِ وَهيَ غَباوَةٌ=فَأَبى وَآثَرَ أَن يَموتَ نَبيلا
إِنَّ الشجاعَةَ في القُلوبِ كَثيرَةٌ=وَوَجَدتُ شُجعانَ العُقولِ قَليلا
 
أشكر د. أحمد كوري على هذا المقال الماتع، والذي يكشف حقيقة من حقائق تدليس دعاة العقلانية !
وللإسف فإن منطلقات بعض العقلانيين وكثير من شعاراتهم إنما هي مواقف تكتيكية وليست منطلقات موضوعية أو منطقية، فهذا أركون لا يريد أن يخرج ما أكنته نفسه لئلا يخسر . لقد قرأت هذا النص أكثر من مرة متعجباً من حاله:

أنا مثلا كأستاذ وباحث أود أن أطرح بعض الأسئلة، لكني لا أستطيع أن أفعل ذلك كما يقتضي العلم، لأني أريد أن أبقى في اتصال مع العرب، كي نتقدم في حل بعض المشاكل دون أن تنقطع الصلة بين الباحث وسائر الناس. لهذا أقبل بالرغم من أني أتمتع بكل حريتي هنا كأستاذ في السوربون أن أفرض على نفسي هذا النوع من الرقابة؛ لأني أفهم أن الباحث لا يحق له أن يجرح نفوس الذين لا يزالون غير مستعدين ليفهموا ويدركوا بعض المشاكل التي يمكن أن تطرح.
فالحمد لله الذي عافانا مما ابتلي به هو وغيره .
 
جزاكم الله خيرا فضيلة الشيخ، على الاهتمام والمشاركة والإفادة، وشكرا جزيلا لكم.
 
عودة
أعلى