الباحث في الدراسات القرآنية بين ميوله وقدراته

إنضم
07/03/2012
المشاركات
71
مستوى التفاعل
1
النقاط
8
الإقامة
مكة المكرمة
الباحث بين ميوله وقدراته

أولا:مراعاة الأولويات وأعظم المقاصد

قال الله تعالى (مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَالَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ) سورة الشورى ٢٠

قال الطبري رحمه اللهرحمه الله يقول تعالى ذكره: من كان يريد بعمله الآخرة نـزد له في حرثه: يقول: نـزد لهفي عمله الحسن, فنجعل له بالواحدة عشرا, إلى ما شاء ربنا من الزيادة ( وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ

مِنْهَا ) يقول: ومن كان يريد بعمله الدنيا ولها يسعى لا للآخرة نؤته منها ما قسمنا له منها.

قال ابن قيم الجوزية رحمه اللهرحمه الله في قوله تعالى﴿ٱهۡدِنَا ٱلصِّرَ ٰ⁠طَ ٱلۡمُسۡتَقِیمَ﴾ الفاتحة٦

(ثم تأمَّلَ ضرورته وفاقته إلى قوله: ﴿اهْدِنا الصِّراطَ المُسْتَقِيمَ﴾ الذي مضمونه معرفة الحق وقصدهوإرادته والعمل به والثبات عليه والدعوة إليه والصبر على أذى المدعو، فباستكمال هذه المراتب الخمس تستكمل الهداية، وما نقص منها نقص من هدايته.

ولما كان العبد مفتقرًا إلى هذه الهداية في ظاهره وباطنه في جميع ما يأتيه ويذره... كانت حاجته إلى سؤال الهداية أعظم الحاجات، وفاقته إليها أشد الفاقات

الكلام على مسألة السماع" (101 - 102) ، وبنحوه في كتاب "الصلاة" (354) .

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه اللهرحمه الله : (وأما الإرادة الجازمة، من القادر : فلا توجد ، إلا ويُوجَدالفعل ، فإنه متى وُجِدت الإرادة التامة ، والقدرة التامة : وجب وجودُ الفعل، فإن ذلك هو سببه التام، فيمتنع عدمُ الفعل بعد وجود سببه التامّ،وحيثُ تعذَّرَ: فلخللٍ في القدرة ، أو في الإرادة)،جامع

المسائل، م 8: (60).الفتاوى ٧/ ٥٢٥-٥٢٧

ويقول شيخ الإسلام أيضا :

"ولهذا كان المشروع في حق كل ذي إرادة فاسدة من الفواحش والظلم والشرك والقول بلا علم ؛أحد أمرين:

1- إما إصلاح إرادته .

2- وإما منع قدرته .

فإنه إذا اجتمعت القدرة ، مع إرادته الفاسدة ، حصل الشر .

وأما ذو الإرادة الصالحة ، فتؤيد قدرته ، حتى يتمكن من فعل الصالحات .

وذو القدرة الذي لا يمكن سلب قدرته يسعى في إصلاح إرادته بحسب الإمكان .

فالمقصود : تقوية الإرادة الصالحة، والقدرة عليها ، بحسب الإمكان .

وتضعيف الإرادة الفاسدة ، والقدرة معها ، بحسب الإمكان .

ولا حول ولا قوة إلا بالله"، وهذا لا يصلح إلا بتوفيق الله وهدايته، ولذلك أمر الإنسان أن يسأل الله الهداية

«فالقلب إذا كان فيه إرادة، سرى ذلك إلى البدن ضرورةً، لا يمكن أن يتخلف البدن عما يريده القلب،ولهذا قال النبي ﷺ صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «ألا وإن في الجسد مضغة، إذاصلحت صلح لها سائر الجسد، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد»[1]،خ حديث٥٢ وم حد١٥٩٩،الفتاوى ٧ /١٨٧

ومن هنا نقول ينبغي للباحث وغيره أن تكون له أولا :إرادة صالحة خالصة صادقة ، يبتغي بعمله عامة ، وببحثه خاصة وجه الله تعالى،

وثانيا : تكون له قدرة على إجراء بحثه بأنواع القدرات المختلفة المطلوبة لإجراء البحث ، ومن ثم ميلا نحو موضوع بحثه بأبوابه وفصوله ومباحثه.

ثم بعد ذلك ثالثا :فعل البحث وآدائه ، مع حفظ هذه النية والإرادة في البحث ومعاهدتها ودوامهاوتصويبها والجدية وعدم الحياد عنه ، وزيادة مؤهلات القدرات المطلوبة فيه.

-وبلا شك قد يقول الباحث قد ابتغي بهذا البحث وجه الله ، وابتغى درجة علمية، أو وظيفة .. فماهو الحل ؟

وهذا حله كما ذكر الإمام الشاطبى رحمه الله رحمه الله: عدم انفكاك أفعال العبد وأعماله عن حظوظ النفس وحظوظ الدنيا، فى قاعدة هامة مؤداها: " على المتعلم أن يدرك أن للعلم قصدا أصليا هو عبادة الله ، وقصدا تابعا، كالسعى نحو المال والمنزلة الرفيعة، لكن القصد التابع لا بد أن يكون خادما للقصدالأصلى". الموافقات للشاطبى بتصرف 1/ 36


ثانيا: العناية بالدقة في الاختيار

اختيار موضوع البحث بدقة : تظهر مهارة الباحث في اختياره لموضوع بحثٍ يتناسب مع قدراته وميوله.

ولذا لا بد أن يحدد الباحث قدراته ، ويحدد ميوله ويضبطها.

إذ إنه سيرتبط ببحثه مدة زمنية قد تصل عند بعضهم إلى عدة سنوات ، وعليه لضمان صحةالاختيار أن يسأل نفسه الأسئلة التالية:

-هل سيكون ببحثه هذا قادرا على الوفاء بحق خالقه أولا، ثم بحق من تلزمه رعايتهم ؟

إذ إن بعض الباحثين قد يختار موضوعا لا يناسب قدراته ، ولكنه يميل إليه ، فيترتب على سوء اختياره هذا بادئ ذي بدء تفريط في حق الله عليه ، أو حق من يلزمه رعايته أو صلته وبره ثانيا .

-هل سيكون بحثه عامة نافعا له ابتداء ،ونافعا لغيره ؟

- هل يستحق هذا الموضوع ما يبذل فيه من جهد؟

- هل من الممكن كتابة رسالة عن هذا الموضوع؟

- هل يتفق هذا الموضوع مع ميوله واستعداداته؟

- هل مراجعه متاحة؟

- هل يمكن الحصول عليها؟

- هل يمكن إنجازه في الوقت المحدد؟

- هل سبق تناوله بالدراسة؟ وما هي الإضافة أو الجوانب الجديدة التي سيدرسها ؟

-هل تستحق هذه الجوانب الدراسة؟

- هل من المتوقع أن يتوصل الباحث في هذا الموضوع على نتائج نظرية أو تطبيقيـة ذات قيمة في تقدمه و تقدم الأمة ؟

فلو كانت الإجابة بلا، فعلى الباحث حينها أن يقوم باختيار موضوع آخر .


ثالثا: مراعاة القدرات

إن القدرات المتعلقة بالبحث بصورة خاصة هي:

١- قدرات علمية.

٢- قدرات بحثية .

٢- قدرات كتابية.

٣- قدرات لغوية.

وهذه القدرات مهمة في اختيار الأنسب للباحث .

فبعض الباحثين قد يختار موضوعا لأجل الحصول على درجة علمية ، وفي مدة زمنية محددة،فيتسرع

أو يضطر لاختيار أي موضوع لأجل تسجيل الرسالة.

وقد يضطر بعض الطلبة إلى اختيار مواضيع لا توافقهم سواء من حيث القدرات أو الميول ،

فيحصل في ذلك قصور شديد ، وخلل بيّن .

فبعضهم قد يختار بحثا يحتاج للقدرة البحثية وهي غير متوفرة فيه، وقد لا يكون لديه قدرات علمية ومعرفية كبيرة تمكنه من الخوض في الأبحاث الدقيقة فيسلك ذاك الطريق رغم ضعفه، فإماأن لا يتمكن من

إكماله ، أو يخرجه بطريقة غير مناسبة.

كالبحث في الترجيحات أو التعقبات وهو ضعيف علميا ومعرفيا ؛ بل وليس لديه قدرة على الحل والتفنيد ..

وقد لا تكون لديه قدرة كتابية ولا لغوية سليمة ،ولا بيانية أو بلاغية ، وهو يكتب بحثا في موضوع يفتقر إلى قَلَمٍ أدبي رفيع ، وقدرة لغوية جيدة ، فيتعثر أيضا.

وقد يفتقر بعض الطلبة كذلك لقدرات أخرى ليست بحثية محضة ، بل قد تكون مالية ، أو مهنية ونحو ذلك ، فكل ذلك على الباحث مراعاته .

رابعا : مراعاة الميول والإرادات

يقول العلماء: " النية والإرادة والقصد عبارات متواردة على معنى واحد. (منهاج القاصدين 387).

وتعرف النية بأنها: انبعاث النفس وميلها إلى ما ظهر لها أنه مصلحة لها إما في الحال أو المآل. لكن النية تجرى مجرى الفتوح من الله تعالى. وليست النية داخلة تحت الاختيار، فقد تتيسر في بعض الأوقات،وقد تتعذر، لكنها تتيسر في الغالب لمن يميل قلبه إلى الدين لا الدنيا (منهاج القاصدين 389).

لا بد من وجود الميول العلمية لدى الباحث بشكل عام ، ومن وجود ميول خاصة تجاه الموضوع الذي اختاره .

وتظهر الميول العلمية في سلوك الباحث عموما في عدة صور:

(١) ملء وقت فراغه بالنشاطات العلمية، بل طالب العلم لا يفرغ حقيقة.

(٢) التوسع في القراءات العلمية تجعله ميالاً لقراءات علمية برغبة واهتمام لتتسع دائرة معارفه في مجال بحثه.

وبعض الباحثين ممكن يكتب بحثا لأجل درجة علمية فحسب، أو ممن ليس لديه ميول علمية ، تجدفي كتابته ما يدل على عدم ميوله العلمية، فبحثه يفتقر لجوانب علمية متممة قد غفل عنها .

(٣) استطلاع القضايا الإنسانية والاجتماعية التي تكون صلب المشكلات البحثية.

(٤) الالتحاق بالجمعيات العلمية المتخصصة في مجاله، لمناقشة الموضوعات والقضايا العلمية،والكتابة عنها في المجلات المتخصصة.

(٥)عمل الاستبانات والإحصائيات والخرائط الذهنية والمؤلفات العلمية ونحو ذلك .

(٦) الاهتمام بمناهج البحث.

خصائص الميول العلمية:

تتصف الميول العلمية بخصائص عديدة، أهمها:

(١) تتكون وتنمو وتتطور وتتغير عند الفرد من خلال تفاعله مع البيئة العلمية والمادية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية.

(٢) تميل إلى الاستقرار النسبي والثبات بمجرد تشكيلها وتكوينها -بإذن الله وتوفيقه-.

(٣) قابلة للقياس والتقويم من خلال الاستجابات اللفظية وغير اللفظية، والنشاطات العلمية .

(٤) مقترنة بسلوك الفرد، لذا، يتوقع من الفرد الذي لديه ميول واهتمامات علمية، القيام بنشاطات علمية مختلفة بشكل أفضل من النشاطات الأخرى.

أهمية الميول العلمية في حياة الباحث:

تتمتع الميول العلمية في حياة الباحث بأهمية كبيرة تتمثل في مساعدته على: الشعور بالراحة والسكينة والسعادة نحو ما يميل إليه، فقد يمضي الساعات الطوال وهو يبحث ويقرأ، ويُخرجالأحاديث ويدرسها، ويستقصي المسائل ويحصرها ،

دون شعور بالملل أو النصب ، بل يجد فيذلك متعة نفسه ، وراحة فؤاده ( ولذا هنا يلزمه معاهدة قلبه ، ومتابعة إخلاصه لله )

-وكل هذه الميول تهيؤه لاختيار موضوع بحثه الذي يناسبه أو يتفق مع ميوله ورغباته وقابليته واستعداداته وقدراته، وتعطيه فرصة أكبر للنجاح في تحقيق ما يسعى إليه، مما لو اختار بحثاً لايميل

إليه، وكذا تعطيه القدرة على التكيف الشخصي مع المسائل والمباحث المدروسة، بينما نقص الميول والاهتمامات نحوها، قد يؤدي إلى عزوفه عن القيام بدور هام في بحثه.

ينبغي التأكيد هنا على جانب مهم

وهو أن على الباحث عدم اختيار موضوعات يتعصب لها لهوى مجرد ، أو تتنافى مع عقيدته، وأنيجرد نفسه عند الاختيار من أي هوى أو تحيز .

وإن يبدأ بحثه خاليا من أي ضغوط أو تأثير غير منضبط.

وأن يكون مستعدا ليبحث ، وليعلن النتائج التي يتوصل إليها من خلال البحث .

فإن الباحث يبدأ بحثه للبحث عن الحقائق بموضوعية ، ويدرسها كذا بمصداقية ، فيقرأ، ويجمعالمادة، ويتفهمها، ويقارن بعضها بالبعض الآخر ، لتوصله القراءة والدراسة إلى الحقيقة ، دون أن تؤثر عليه الأهواء أو تسيره الميول، فهو لهذا يبدأ دراسته بصورة موضوعية منصفة ،فما يكتبه هو بحث ، وهو لهذا لا يتجاهل وسيلة تساعده على بلوغ هذا الهدف، وهو مستعد أن يغير رأيا له من قبلُ كان باطلا، متى وصل من خلال بحثه إلى الحق ، وإن استلزم ذلك كثيرا من العناء والنصب والتنازل .

تلك هي القدرة البحثية والعلمية، لا يقودها أو يؤثر فيها هوى أو تحيز باطل أو شهوة مقيتة.

ومن هنا يتضح أنه لاينبغي أن يختار الباحث لدراسته موضوعا وهو ينوي أن يثبته، أو ينوي أن يعارضه بإطلاق، بل يجب أن يختار الموضوع الذي يمكنه أن يثبته أو يعارضه تبعا لما تَحصَّل عليه من بينات ودلالات .

وأخيرا

قد يكون عند بعض الباحثين والطلبة ميولا علمية لا تقابلها قدرات ، وقد يكون الأمر بالعكس ،لديهم قدرات لا توافقها ميول وإرادت.

فينبغي مراعاة القدرات ، وتحديد الميول قبل اختيار الأبحاث .

ومن خلال المناقشات العلمية يظهر لدى بعض المناقشين ضعف هذه الجوانب لدى الباحثين ، ويبدو لهم جليا كيف أقحم بعض الطلبة أنفسهم في أبحاث لم تكن موافقة لقدراتهم أو ميولهم.

لذا لا بد من الاختيار وفق الميول والقدرات.

ووفقكم الله وسددكم وزادكم من فضله .

والحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أ. د.إبتسام الجابري




 
هذه قضية مهمة في مجال البحث العلمي، شكرا لك يا دكتورة على طرحها.
وقد لمسنا هذا في بعض المشاريع البحثية التي تُفتح في بعض الجامعات، حيث يدخل فيها مَنْ لا يحسُنها ولا يميلُ إليها، ولكن استغلالاً للفرصة، وكسلاً عن البحث عن موضوع يناسب قدراته وميوله، وهكذا من يبحث في الموضوعات المقترحة من غيره؛ لعدم وجود أفكار بحثية مناسبة له.
 
عودة
أعلى