عزام عز الدين
New member
- إنضم
- 22/02/2006
- المشاركات
- 65
- مستوى التفاعل
- 0
- النقاط
- 6
المكان : مكة ،شعابها بالتحديد .
الزمان : القرن السادس الميلادي. قرن نموذجي للأوضاع السيئة التي تسقط فيها الإنسانية بين عصر وآخر. قرن غارق في ظلمة حالكة . الاستغلال يضرب بإطنابه في العلاقات بين البشر .
والحروب تصبغ وجه العالم بلون الدم . والأديان السماوية لم تعد سماوية بأي شكل من الأشكال وسقطت بين فكي الإفراط والتفريط ولم تنج من مظاهر الوثنية والشرك التي اقتبستها من المدنيات الأخرى ….
والمعادلة القديمة إياها : الأغنياء يزدادون غنى . والفقراء يزدادون فقراً .
والظلم . الظلم . الظلم .
المناسبة : فرصة البشرية الاخيرة ، لتغيير ذلك كله .
* * *
وذلك الرجل ، ينسحب من مجتمعه الجاهلي بكل تقاليده وعاداته ومكرساته ، ليدخل الغار ، متأملاً في ذلك كله ، ومتعبداً دون طقس معين …
وذلك الغار : حفرة في الجبل ، ظلمة ورطبة . تعطي لذلك الرجل ما يريده : عزلته السرية وتأملاته الخاصة . في ظلمة الغار يجد عزاء ومواساة للظلمات الأخرى التي يغرق فيها المجتمع … وفي رطوبته ما ينسي ولو مؤقتاً ذاك الجفاف الذي يطغي على العالم في طبيعة علاقاته وعاداته ….
ولم يكن هذا الرجل بدعاً من هؤلاء الرجال المنسحبين …
ففي كل مكان من أرجاء المعمورة كان هناك رجال يأبى رصيد فطرتهم الانخراط فيما انخرطت فيه مجتمعاتهم ، فينسحبون إلى الخلاء ، في غار او صومعة او كهف او دير ، ينسجون لحياتهم نسيجا خاصا من الزهد والتعبد والابتعاد عن المجتمع .
وكان كل منهم يستحيل كوكباً منفصلاً يدور في مداره الخاص بعيداً عن المجتمع ، عن الواقع ، وعن الزمن، …
.. وحتى تلك اللحظة ، كان يبدو لظاهر العيان أن ذلك الرجل المتعبد في غار حراء مرشح ليكون واحداً من هؤلاء الرجال المنسحبين اللذين تصير حياتهم فيما بعد مداراً خاصة لا علاقة لها بما حولها ..
حتى تلك اللحظة : بدا ذلك الرجل أنهُ سيكون واحداً من تلك الأقلية المستنكرة ، مثل الأحناف أو بعض النصارى من العرب ، ممن لا يصل استنكارهم إلى درجة التمرد ، وبالذات لا يصل لدرجة محاولة تغيير الأوضاع ..
* * *
حتى تلك اللحظة ، كان كل شيء يسير بشكل يسر الشيطان لأنه يحقق قسمهُ العتيق " فبعزتك لأغوينهم أجمعين " .
كانت الأديان قد فقدت محتواها الإنساني والروحي معاً . وصارت مجرد طقوس وشعائر لا تغني شيئاً فضلاً عن انحرافاتها الوثنية .
وهؤلاء الزهاد المنسحبون : لا صوت لهم ولا دعوة . مجرد أناس على هامش المجتمع .. والمجتمعات البشرية تسير في خطاها المحمومة نحو هاويتها ، لاهيةً عن مصيرها بحروبها وعبثها وشهواتها .
.. كانت السماء صامتة – مكفهرة .
.. وكانت الصحراء خرساء كما لو كانت تخفي في أعماقها سراً دفيناً .
* * *
كل ذلك كان قبل لحظات ، وكان يمكن أن يستمر دهوراً أخرى .
لكن حدث – خلال لحظة – ما غير ذلك كله ..
لم يعد ذلك الأنسحاب هروباً وعزلة : بل صار إنفتاحاً نحو العالم كله ..
الغار ، من ظلمته أنبعث نور غطى وجه العالم أجمع ..
.. وذلك الرجل الذي كان مرشحاً ليصير واحداً من أولئك الزهاد المنفصلين عن المجتمع والواقع والتأريخ ..ذلك الرجل صار أمة .
عندما جاءت تلك اللحظة .
اللحظة – الذروة .
* * *
من الصعب أن نطبق نظرية بحذافيرها على تلك اللحظة . من الصعب أن نجد مصطلحاً محدداً، يتلبس تلك الذروة أو يتقمصها ..
منعطف ؟ منحنى ؟ . ولادة جديدة ؟
كل تلك كلمات . تناور وتدور حول المعاني . تصف ولا تصف . تنجح وتفشل ..
كل ما نستطيع قوله هو أن أساساً جديداً للعلاقات قد بدء . العلاقات بين الإنسان والمجتمع .
والإنسان والكون . الإنسان وخالقه …
بالضبط : ان وعياً جديداً قد بذرت بذرته في تلك اللحظة .
ولادة للوعي الإنساني ؟ ربما !
* * *
كل ذلك حدث عندما جاء الملك للغار وقال لذلك الرجل تلك الكلمة الهائلة الرهيبة : إقرأ …
* * *
إقرأ …
بعد صمت طويل – دام حوالي خمسة قرون . جاءت كلمة السماء : إقرأ .
إقرأ : إنها أول كلمة اختارها الله ليعرف نفسه الى نبيه . بل الى آخر أنبيائه … وهي لا تشبه ابداً الكلمات الأخرى التي قيلت للأنبياء الآخرين …
ففي كل الرسالات السابقة كان الخطاب الإلهي يعتمد على أعجاز( حسي ) . عصا تسعى ، يد بيضاء ، طير يعود إلى الحياة …
في كل الرسالات السابقة كان الله يخاطب في الإنسان حواسه …
لكنه في هذه المرة ، ربما لأنها المرة الأخيرة ، اختار – عز وجل – طريقة اخرى . مضمون آخر ، وصيغة أخرى …
انه يخاطب أول ما يخاطب العقل الإنساني هذه المرة . دونما اعتماد على الحواس الإنسانية . انه يؤسس للغة جديدة في العلاقة بين الله والإنسان . لغة تعتمد على العقل ..
بعدما ثبت للبشر فشل اللغات الأخرى في العلاقة بينهم وبين الله .
لذلك تأتي إقرأ : صيغة ورمز لعلاقة جديدة . بطاقة مختلفة لتعريف مختلف يقدم بها الله وحيه الالهي .
واي كلمة ، تلك هي إقرأ .
* * *
إقرأ : كلمة السر – الذي لم يعد سراً بل صار جهراً في العقيدة الجديدة ، دونما ابهار او اساطير او معجزات تشبه القصص الخرافية …
…. وبينما تنام شعوب على خيالات كلمة السر التي تفتح مغارات الكنوز ،فأن كلمة السر هذه قيلت في الغار ثلاث مرات لرجل أمي ولأمته من بعده ففتحت أبواب العلم وافاق المعرفة ، وجنيت كنوز وكنوز للانسانية عبر القرون التي سادت فيها حضارة إقرأ .
ولا يدري احد على وجه التحديد في أي مرحلة من مراحل العلم سنكون اليوم لو لم تقال تلك الكلمة – السر …
لكن الذي حدث ان تلك الكلمة التي قيلت في الغار همساً ، صارت شعاراً لحضارة ، ومنهاجاً لحياة ، واول ما انزل من كتاب سيتخذ من الفعل ذاته ( قرأ) اسماً يتلى ويتعبد به في صور وعقول اتباعه …
* * *
وكلمة إقرأ لم تكن أول كلمة أنزلت من الوحي فحسب .
بل كانت أول فعل أمر أصدره الله إلي رسوله الأخير ، والى أمته من بعده ، بطبيعة الحال .أي إنها كانت ببساطة شديدة . ودونما تشنجات فقهيه – اول فرض فُرِضَ على محمد (صلى الله عليه وسلم) .
القراءة : أول فرض في الإسلام ، قبل الصلاة والصوم والزكاة والحج .
وبعبارة أخرى : كانت كلمة ( إقرأ) الشاملة هي المدخل الذي فُرِضَتْ عبره كل الفرائض الأخرى …
وبعبارة أوضح و أدق : كان العلم – بمعناه الشمولي والواسع هو الإطار الذي من خلاله أخذت كل الفرائض الإسلامية موقعها الذي حددته الشريعة فيما بعد …
والحديث عن علاقة الإسلام بالعلم بات حديثاً مكرراً استهلكت فيه المعاني ونفذت وهو حديث يرتكز على الاستشهاد بعدد من الآيات القرآنية التي تشيد بالعلم والعلماء، وعلى كثرة تكرار لفظة علم ومشتقاتها (البالغة حوالي 439 مرة ) في القران الكريم – ليستنتج ان الإسلام ( حث ) على العلم ، وان هذا الحث هو التغيير المنطقي للطفرة العلمية التي أنجزتها الحضارة الإسلامية …
للوهلة الأولى ، تبدو مقدمات الاستشهاد ونتائجه صحيحة. لكن عندما يفكر المرء ان الوحي الإلهي بدء باقرأ، فانه يقر ان الأمر اكثر من مجرد حث ، وان الطفرة العلمية الإسلامية اكثر من مجرد استجابة لهذا الحث …
عندما يبتدئ الوحي باقرا ، فالأمر اكثر من الاستحباب واكثر حتى من الوجوب . انه يقع في منطقة خارج التقسيمات الاصطلاحية التقليدية – ويقع في منطقة عميقة جدا في البناء الإسلامي : في الأساس ، في الأركان ، في القاعدة .
وهذا ما كان واضحا ، دونما تنظير فكري – بل كواقع يومي معاش لأفراد الجيل الأول ، وهو الذي شكل الدفعة العلمية الكبيرة التي أنجزتها الحضارة الإسلامية ….
أما أن نتصور ان ( الحث ) والأوامر الإسلامية بطلب العلم قد حققت ذلك الوثوب وتلك الطفرة – فهو أمر اقرب الى السذاجة منه الى النظر والتحقيق العلمي …
لقد كان الإسلام لغة جديدة . روحاً جديدة . مضموناً جديداً بصياغة جديدة للعلاقات الإنسانية مع بعضها ومع الله ….
وكانت المفردة الاولى التي تكونت في هذه اللغه الجديدة – بالابجدية الجديدة – هي كلمة إقرأ.
* * *
لكن الرجل الذي أنزلت عليه إقرأ كان امياً .
وقد ظل علماؤنا لفترة طويلة يفسرون ذلك انه من ادلة النبوة واوجه الاعجاز – في مواجهة المشككين بصدق نبوة محمد ( عليه الصلاة والسلام ) …
لكن الانطلاق من أرضية التصديق بالنبوة يمنح ذلك التناقض الظاهري بين إقرأ وبين أمية النبي أفقا واسعا للتأمل وفضاءاً رحباً للتعليق …
انه يحرر القراءة من أسوارها الأبجدية وحدودها اللغوية – على سعتها – ليطلقها في عالم المعاني شديدة الثراء والخصوبة …
انه يحرر القراءة من المفاهيم الجامدة للتلقين الغبي الى قراءة ما هو غير مكتوب في بطون الكتب …
انه دعوة لقراءة كتاب الكون المفتوح ، المتمثل في كل ذرة من ذرات الخليقة …والمتجسد في كل حبة رمل ونسمة هواء وثمرة شجر …
انه دعوة للقراءة في كتاب النفس الإنسانية : في كل نزعة خير ونزوة شر ، وعاطفة حب تهف بها النفس نحو الجمال والسمو او تسقط بها نحو الرذيلة او الانحدار …
والمتأمل في اللفظ المجرد ( إقرأ) في اللغة العربية يجد في ثراء المعاني المرتبطة بها زوايا جديدة للنظر نحو الأمر الأول بل الفرض الأول الذي نزل في الغار …
فمشتقات قرأ ترد بمعاني : الحمل . الجمع ، من المجموع . الفقه . المدة الزمنية . وكل واحدة من هذه المعاني تمنح (إقرأ) بعداً جديداً يوضح رؤيتنا لما حدث في الغار يومها …
فالقراءة – بمعنى " ما – هي حمل أيضاً " ، وهو حمل ينتج من اللقاء الخصيب بين العقل الإنساني والواقع الإنساني ، ذلك اللقاء الذي ينتج بذرة الوعي وجنين الأمل … في حمل قد يدوم عقوداً او قرون …او يجهض …
وهي ترتبط بالجمع – قراءة شمولية متوازنة تنظر الى العالم كله برؤية تكاملية غير تجزيئية …
وهي عين الفقه – الفهم – الذي يغوص عميقاً بحثاً عن الجذور ، والذي يبحث عن الأسباب لا عن الظواهر ، ويشخص الأمراض ولا يحدد الأعراض فقط …ومرتبطة بالفترة الزمنية – لأنها ليست مطلقة ، خارج الزمان والمكان وذات صلاحية غير منتهية بل – وبسبب ارتباطها بالواقع ومتغيراته – تحتاج إلى عين بشرية جديدة وعقل بشري جديد باستمرار ، ليقرأ من جديد …
وهكذا فإقراْ هي دعوة لقراءة الكون بأجمعه . الخليقة بأجمعها . والتاريخ . والنفس البشرية …
إنها دعوة استقراء واستنباط وتبحر عميق في العلاقة الحتمية بين الأسباب والمسببات وهي ذات الدعوة التي تمخضت فيما بعد بما يسمى اليوم بالمنهج التجريبي في العلوم – والتي كانت من أهم ركائز الانطلاقة الإسلامية في الحركة العلمية . والتي تعتمد على الملاحظة والاستنتاج لكنها بدأت حقا في الواقع اليومي المعاش ، من (إقرأ ) التي بدأت بملاحظة الظواهر البسيطة المحيطة بالفرد البسيط ولا تنتهي حتى بالكون العميق …
إنها فتح لأبواب العقل نحو الجهات الأربع : شمال وجنوب ، شرق وغرب . تتخطى الأبعاد الثلاثة بل وحتى البعد الرابع : الزمن .
الكلمة الأولى : إقرأ . في العمق . في العمق جداً . مثل حقنة في العضلة للوعي الإنساني ، للعقل الإنساني . بل للنوع الإنساني كله …
* * *
ولو تابعنا الحديث الذي روته السيدة عائشة والذي أورده البخاري في صحيحه لوجدنا نصا شديد الخصوبة يحدثنا فيه الرجل نفسه عن تجربته الهائلة الأولى مع الوحي …والذي يتضح من متابعة الحديث ، ان النبي عليه افضل الصلاة والسلام كان يعي- وان كان بغموض- منذ اللحظة الأولى ضخامة الكلمة التي أنزلت عليه . كان يعلم إنها تتجاوز حدود القراءة الاعتيادية إلى أفق غير منظور ، فهو ينكر الطلب "ما أنا بقارئ " –ثلاثا– وهو يرجع بها و يرجف بها فؤاده ويقول " لقد خشيت على نفسي " – وقبلها يطلب " زملوني زملوني " فزملوه حتى " ذهب عنه الروع " .
كل ذلك يؤكد بشكل قاطع انه عليه افضل الصلاة والسلام كان يدرك منذ اللحظات الأولى لرسالته أهمية ما جرى له وأهمية ما نزل به الوحي . ولم ينقل عنه أبداً انه استشكل أمر القراءة وهو الأمي – وهذا يعني انه كان يعي ان أمر القراءة يتجاوز الشكل الحرفي – الأبجدي – الى معنى الوعي والاستقراء كله ثم اكد له ورقة بن نوفل ما كان يدور في وعيه : " هذا الناموس الذي نزل الله على موسى" ولم تكن سوى ثلاث آيات لكن ورقة وجد فيها الناموس ، ووجدها سحيقة القدم عميقة الجذر تتصل بموسى – بعمق التاريخ . ثم قال منبهاً : " ليتني اكون حياً اذ يخرجك قومك " ولعل محمداً كان يعلم الجواب – او يخالجه – اذ سأل: او مخرجيَّ هم ؟ لضخامة الكلمة – الناموس التي ألقيت عليه ، فيجيبه ورقة ما يجيبه ، وضمن الجواب ً نعم …ً .
* * *
وعندما نزل وحي السماء : إقرأ، بعد ذلك الصمت الطويل لم يحدث شيء.
لم تنطفئ الشمس. لم ينشق القمر. لم تتعطل قوانين الفيزياء ولا لحظة واحدة .لم تسقط الشهب والنجوم ولم يتصدع إيوان كسرى ولا عرش قيصر .
… لم يحدث شيء على الإطلاق .
ولم يسمع أحد خارج الغار هذه الكلمة الهمسة التي جاء بها الملك إلى محمد ولو انه لم ينقل الخبر لما عرف أحد .
.. لم يحدث شيء غير طبيعي بتاتا،ً فقط كلمات قيلت في أذن الرجل وقلبه في غار مظلم في شعاب مكة .
ظل الحال على ما هو عليه : الشمس تشرق وتغيب في مواعيدها والكون كله سائر على الخطة المحكمة المرسومة له بإتقان دون ان يتأثر بما حدث .
.. هذه المرة- وهي المرة الأخيرة بالمناسبة- لن يكون هناك أي داع لتحدي قوانين الفيزياء… الأكثر من ذلك ان هذه الرسالة ستكون في حقيقتها صلحاً مع هذه القوانين لا تحدياً.
هذه المرة سيكون التغيير في الداخل، في العقل، في القلب، في الوعي، سيكون التغيير في الإنسان وهو الذي سيفعل الباقي .
ماذا كان سيفيد لو انشق القمر او تصدع إيوان كسرى او انطفأت الشمس ؟.
المهم ان ينشأ وعي جديد لمفاهيم جديدة ليكون مجتمعاً اخراً هو الذي يصدع إيوان كسرى او عرش قيصر .
لذلك نقول بفخر : لم يحدث شيء بتاتاً .
وكان ذلك منسجماً اشد الانسجام مع فحوى ومضمون الكلمة الاولى .
إقرأ .
* * *
كانت تلك هي الولادة الجديدة للوعي الإنساني . وللعقل الإنساني التي حدثت في غار حراء .
اما المخاض – مخاض الوعي – فسيستمر فترة طويلة تتجاوز حتى الـ 23 عاما التي كونت عمر الدعوة …
وعبر القرون سيعاني المخاض كثيرون ، أولئك يجددون الوعي المسلم والفكر المسلم ، بل يبعثون للامة دينها ( كما جاء في الحديث الصحيح …) انهم يمنحون للقراءة أبعادها المتجددة المتفاعلة مع إرهاصات الواقع وتراكمات الخبرة الإنسانية …
من جاهلية مشركي مكة الى نظام العولمة المهيمنة ، يظل جوهر المخاض واحداً . إنها ( إقرأ) .حتى وان غفلنا عنها لقرون ، تخفت أحياناً ويكون صوت الضجيج أعلى من همسة الغار ، لكنها هناك موجودة ، في الأعماق ، وإذا أنصتنا قليلاً لنبض الوعي ، فستكون همسة الغار أعلى من كل الأصوات ، أقوى من كل الأصوات … ابلغ من كل الأصوات ….
* * *
رغم سعة الافق الذي انطلقت فيه تلك الكلمة – إقرأ- الا إنها مع ذلك مبنية على قواعد وأسس متينة ، والاهم من ذلك : ثابتة .
ولعلنا هنا يجب ان نسجل ان الثبات ليس عيبا نخجل منه ونتجاهله – كما هو المعتاد اليوم في عصر يفخر بانه عصر المتغيرات السريعة . نعم . هناك متغيرات ، ولكن هناك ايضا ثوابت . ونحن لا نخجل اذ نقر : في ديننا ثوابت . في عقيدتنا ثوابت . في حضارتنا ثوابت وفي مفاهيمنا ثوابت .
ولذلك فقرائتنا أيضاً مستندة الى ثوابت . وهذه الثوابت هي قاعدة رؤية واساس لنظر ، انها العصب البصري الذي يغذي العين التي تقرأ ، والبصيرة التي تستوعب … وهذه الثوابت لا تمارس دوراً انتقائياً سلطوياً فوقياً على موضوع القراءة – او النظر …
فالعالم كله ، الخليقة كلها ، بل تفاصيلها وكل تدرجاتها ، تظل ميداناً مفتوحاً لإقرأ …
لكن الانطلاق نحو ذلك يظل محكوماً بالقواعد القرآنية . بالرؤية القرآنية .
بالمقاصد الثابتة للشريعة التي تتوجه نحو ما هو ثابت – وهي مقاصد مستقاة من القران نفسه … فاقرأ تتكامل وتتحد – بالقران –عبر القران تتوضح زوايا الرؤية ويصير القران نفسه قراءة للعالم والخليقة والكون ككل …
* * *
حسب أحدث الإحصاءات : 40 % من المسلمين ممن فوق سن الـ 15 عاماً هم أميون . أي ان هناك اليوم اكثر من ربع مليار مسلم بالغ ويعاني من الأمية . والامية هنا هي الأمية الأبجدية – والتي هي أمية فك الخط. والـ 60 % البالغين الذين يفكون الخط هم في اغلب الأحوال – لا يفكون اكثر من الخط ، و(إقرأ) بالنسبة لهم ليست اكثر من أحرف أبجدية لا تعني اكثر من الأصوات التي تترجمها …
ونسبة الامية هذه مصحوبة بارقام اخرى مفزعة توثق اوضاع التخلف والتردي التي يعيش فيها مسلمو اليوم .. ولعلنا لا نحتاج الى ارقام واحصائيات لنعرف اننا متخلفون . لعل نظرة واحدة حولنا تكفي لاستيعاب ذلك.
اننا متخلفون . نعرف هذا ونقر به . ولكن اعترافنا هذا لا يلغي تخلفنا ولا يوضح اسبابه ولا يقلل من حجم المسؤولية الملقاة على عاتقنا .مسؤولية المفارقة المتولدة من اننا ندين بدين كان اول ما انزل منه : إقرأ.
* * *
لكن اكثر جوانب المأساة بروزا هي موقف حملة القران والدعاة من اول كلمة انزلها عز وجل على الرسول الكريم …
فرغم انتشار الصحوة الإسلامية – كما يسمونها اليوم – فان هناك قصورا واضحا في علاقتها مع إقرأ… وهو القصور الذي ينعكس على علاقتها بالمجتمع والواقع والتاريخ والمستقبل ، بل على علاقتها مع نفسها كظاهرة صحوة ، وعلى علاقتها بالإسلام ، ككل …
إنها نقطة الخلل المركزية التي تمحورت حولها كل مشاكل الرؤية والتطبيق التي تعاني منها الصحوة … ويعاني منها الفكر الإسلامي …
ذلك ان مفهوم إقرأ ظل مفهوماً ثانوياً ومرتبطاً بالقراءة التقليدية الجاهزة للمجلدات والكتب التي سطرها الاولون فحسب . وكانت هذه القراءة – الا فيما ندر – تلقيناً تقليدياً، لا حواراً بين الاجيال وبين الواقع الحاضر – والماضي ، بل كانت قراءة تحاول اقسار الماضي على الحاضر ولو بالقوة . وتفرض فهم رجال وعلماء عاشوا في القرن الخامس او السادس الهجري على ظروف القرن الخامس عشر …
وكان ذلك تحجيراً لواسع . وتقزيما لمارد . واغتيالاً لروح الإبداع . لصحوة الأمل في النفوس …
ومن هذا الخلل الكبير لفهم ( إقرأ) نتجت ظواهراً فكرية مؤسفة في الصحوة – الأمل . رغم ان هذا الخلل نفسه نتج عن مجموعة ظروف وملابسات تاريخية واجتماعية قديمة تعود الى عصر الانحطاط لكن النتيجة النهائية للفهم الجامد لكلمة إقرأ كانت استمرار التكريس لقيم ومفاهيم عصر الانحطاط بل تحويلها الى بديهيات، مسلمات لا غنى عنها ….
* * *
نفس الآيات الثلاثة التي أنزلت أول مرة في الغار كانت تحمل إشارة الى خلق الإنسان من علق . والعلق مضغة الدم ، وهي طور من الأطوار الجنينية التي يمر بها الإنسان ، وقد ذُكِرتْ هذه الأطوار بتفصيل اكبر في آيات أخرى من سور مختلفة .لكن موقعها هنا بعد إقرأ مباشرة ، وقبل إقرأ مباشرة ، يثير الانتباه والتأمل ، للوهلة الأولى – على الأقل .
لكن لا عجب ، فالعلقة دور من أدوار التطور التي يمر بها الإنسان – إلى ان يصير أنساناً ، بالضبط كما تمر بقية المخلوقات بأدوار وأطوار تختلف او تتشابه مع الأطوار الإنسانية بحسب موقعها من خارطة الخليقة :القطة والكلب والفيل والنملة وحتى الديناصور مروا جميعا باطوار معينة – مثلما مر الانسان …
لكن تطور الإنسان لا ينتهي بانتهاء هذه الأدوار الجنينية كما ينتهي تطور بقية الحيوانات . انه لا يكتمل انساناً الا بخطوة أخرى … بطور آخر … وبينما يمر الإنسان بتلك الأطوار السابقة رغماً عنه – كما تمر الحيوانات الاخرى بها . فان هذا الطور الاخير لا يمر الا بإرادته ووعيه انه يختاره او لا يختاره . يكمل درب التطور ، او يظل حيث هو …
وهذا الطور، بل هذه الحرية في الاختيار ، وتسليم الوعي والارادة لهذه المسؤولية هو أول ما يميز الإنسان عن بقية المخلوقات ….
وهذا الطور هو الوعي ذاته . انه " إقرأ " التي تحاصر الإنسان – العلقة في الآيات الثلاثة الأولى التي أنزلت في الغار …
" إقرأ " هي الطور الإنساني الأخير الذي به يكتمل تطور الإنسان – ويتميز عن بقية المخلوقات …
انها الحلقة المفقودة التي طال البحث عنها – في تطور الإنسان – وهي موجودة لا في الحفريات وعظام الجماجم القديمة وبحوث الانثروبولوجيا . إنها موجودة في وعيه . في عقله . في قراره بان يكون إنساناً … والذي لا بد وان يمر باقرأ…
إقرأ هي تلك الطفرة النوعية التي يختار الإنسان ان يقفزها ليتخطى الحواجز والعقبات التي تعوقه عن إنسانيته . عن وعي المعاني العميقة الكامنة في كل ذرة من ذرات الكون وكل حركة من حركات التاريخ ، عن ان يكون كما اراده الله ان يكون : خليفة على الأرض …..
يقف الإنسان – بعد ان اكمل تطوره الطبيعي الخارج عن إرادته – ليقرر هل يكمل ، ويستجيب لهمسة الغار ، ويصعد ذلك السلم المضيء الملون – سلم التطور الإنساني الحقيقي .سلم إقرأ ، وكل درجة من درجات السلم يصعدها تغوص به الى عمق الحقيقة والوعي والإرادة , وتزيده اقتراباً من دوره ومسؤوليته الحقيقيين .
او ان يقف – مكتفيا بتطوره الجنيني – فيقف على حافة السلم ، قدر الطحالب والدواب .
* * *
…. و(إقرأ) تمثلت في منجزات حضارية مختلفة ومتنوعة – كانت في حقيقتها جوهر الحضارة التي ارتكزت على همسة الغار …
فمرة تمثلت في فقه متجدد – قائد- يتجدد مع تطورات المجتمع والظروف . ومرة تمثلت في عدالة اجتماعية شملت كل مواطنيها في البلدان المفتوحة ايضاً …
وتمثلت في صراع متأجج بين قوى متناحرة ، ومتنافرة : الأولى التزمت بـ (إقرأ) المتجددة الفهم للمقاصد والثانية حاولت الزام قراءة واحدة – جاهلية غالباً- على الواقع والمجتمع …ورغم اختلاف الشعارات ، وتبدلها بين الحين والاخر … فان إقرأ، كانت دوماً هناك في العمق ، خلف الكواليس وخلف الستار .
وعندما اختفت ( إقرأ) ، صارت مجرد كلمة دون المعاني والافاق والمقاصد ، صار الصراع يمثل – رؤى جامدة ومتوارثة : دون ذلك الفهم ، دون ذلك التجدد ، دون تلك المقاصد أي باختصار : دون ذلك الاسلام – الحقيقي .
* * *
في البدء كانت إقرأ ؟
لا . ليس في البدء فقط . انها في البداية والنهاية وفيما بينهما .
إنها الأمر الأول – الفرض الأول غير القابل للاستئناف او النسخ . والذي لا يكسب فعاليته وحيويته الا باستمراره على كل الأوامر التالية – بل كل الأمور التالية – والتي لا تكتسب – هي الأخرى – فعاليتها الا بالتعامل مع الأمر الأول : إقرأ…
لذلك فان إقرأ ليست مجرد بداية تاريخية لنزول الوحي . إنها البداية والنهاية وما بينهما . إنها جوهر الحكاية بأكملها . الحكاية التي لم تنته بعد …
* * *
مقتبس من كتاب البوصلة القرآنية-للدكتور احمد خيري العمري الصادر عن دار الفكر دمشق
الزمان : القرن السادس الميلادي. قرن نموذجي للأوضاع السيئة التي تسقط فيها الإنسانية بين عصر وآخر. قرن غارق في ظلمة حالكة . الاستغلال يضرب بإطنابه في العلاقات بين البشر .
والحروب تصبغ وجه العالم بلون الدم . والأديان السماوية لم تعد سماوية بأي شكل من الأشكال وسقطت بين فكي الإفراط والتفريط ولم تنج من مظاهر الوثنية والشرك التي اقتبستها من المدنيات الأخرى ….
والمعادلة القديمة إياها : الأغنياء يزدادون غنى . والفقراء يزدادون فقراً .
والظلم . الظلم . الظلم .
المناسبة : فرصة البشرية الاخيرة ، لتغيير ذلك كله .
* * *
وذلك الرجل ، ينسحب من مجتمعه الجاهلي بكل تقاليده وعاداته ومكرساته ، ليدخل الغار ، متأملاً في ذلك كله ، ومتعبداً دون طقس معين …
وذلك الغار : حفرة في الجبل ، ظلمة ورطبة . تعطي لذلك الرجل ما يريده : عزلته السرية وتأملاته الخاصة . في ظلمة الغار يجد عزاء ومواساة للظلمات الأخرى التي يغرق فيها المجتمع … وفي رطوبته ما ينسي ولو مؤقتاً ذاك الجفاف الذي يطغي على العالم في طبيعة علاقاته وعاداته ….
ولم يكن هذا الرجل بدعاً من هؤلاء الرجال المنسحبين …
ففي كل مكان من أرجاء المعمورة كان هناك رجال يأبى رصيد فطرتهم الانخراط فيما انخرطت فيه مجتمعاتهم ، فينسحبون إلى الخلاء ، في غار او صومعة او كهف او دير ، ينسجون لحياتهم نسيجا خاصا من الزهد والتعبد والابتعاد عن المجتمع .
وكان كل منهم يستحيل كوكباً منفصلاً يدور في مداره الخاص بعيداً عن المجتمع ، عن الواقع ، وعن الزمن، …
.. وحتى تلك اللحظة ، كان يبدو لظاهر العيان أن ذلك الرجل المتعبد في غار حراء مرشح ليكون واحداً من هؤلاء الرجال المنسحبين اللذين تصير حياتهم فيما بعد مداراً خاصة لا علاقة لها بما حولها ..
حتى تلك اللحظة : بدا ذلك الرجل أنهُ سيكون واحداً من تلك الأقلية المستنكرة ، مثل الأحناف أو بعض النصارى من العرب ، ممن لا يصل استنكارهم إلى درجة التمرد ، وبالذات لا يصل لدرجة محاولة تغيير الأوضاع ..
* * *
حتى تلك اللحظة ، كان كل شيء يسير بشكل يسر الشيطان لأنه يحقق قسمهُ العتيق " فبعزتك لأغوينهم أجمعين " .
كانت الأديان قد فقدت محتواها الإنساني والروحي معاً . وصارت مجرد طقوس وشعائر لا تغني شيئاً فضلاً عن انحرافاتها الوثنية .
وهؤلاء الزهاد المنسحبون : لا صوت لهم ولا دعوة . مجرد أناس على هامش المجتمع .. والمجتمعات البشرية تسير في خطاها المحمومة نحو هاويتها ، لاهيةً عن مصيرها بحروبها وعبثها وشهواتها .
.. كانت السماء صامتة – مكفهرة .
.. وكانت الصحراء خرساء كما لو كانت تخفي في أعماقها سراً دفيناً .
* * *
كل ذلك كان قبل لحظات ، وكان يمكن أن يستمر دهوراً أخرى .
لكن حدث – خلال لحظة – ما غير ذلك كله ..
لم يعد ذلك الأنسحاب هروباً وعزلة : بل صار إنفتاحاً نحو العالم كله ..
الغار ، من ظلمته أنبعث نور غطى وجه العالم أجمع ..
.. وذلك الرجل الذي كان مرشحاً ليصير واحداً من أولئك الزهاد المنفصلين عن المجتمع والواقع والتأريخ ..ذلك الرجل صار أمة .
عندما جاءت تلك اللحظة .
اللحظة – الذروة .
* * *
من الصعب أن نطبق نظرية بحذافيرها على تلك اللحظة . من الصعب أن نجد مصطلحاً محدداً، يتلبس تلك الذروة أو يتقمصها ..
منعطف ؟ منحنى ؟ . ولادة جديدة ؟
كل تلك كلمات . تناور وتدور حول المعاني . تصف ولا تصف . تنجح وتفشل ..
كل ما نستطيع قوله هو أن أساساً جديداً للعلاقات قد بدء . العلاقات بين الإنسان والمجتمع .
والإنسان والكون . الإنسان وخالقه …
بالضبط : ان وعياً جديداً قد بذرت بذرته في تلك اللحظة .
ولادة للوعي الإنساني ؟ ربما !
* * *
كل ذلك حدث عندما جاء الملك للغار وقال لذلك الرجل تلك الكلمة الهائلة الرهيبة : إقرأ …
* * *
إقرأ …
بعد صمت طويل – دام حوالي خمسة قرون . جاءت كلمة السماء : إقرأ .
إقرأ : إنها أول كلمة اختارها الله ليعرف نفسه الى نبيه . بل الى آخر أنبيائه … وهي لا تشبه ابداً الكلمات الأخرى التي قيلت للأنبياء الآخرين …
ففي كل الرسالات السابقة كان الخطاب الإلهي يعتمد على أعجاز( حسي ) . عصا تسعى ، يد بيضاء ، طير يعود إلى الحياة …
في كل الرسالات السابقة كان الله يخاطب في الإنسان حواسه …
لكنه في هذه المرة ، ربما لأنها المرة الأخيرة ، اختار – عز وجل – طريقة اخرى . مضمون آخر ، وصيغة أخرى …
انه يخاطب أول ما يخاطب العقل الإنساني هذه المرة . دونما اعتماد على الحواس الإنسانية . انه يؤسس للغة جديدة في العلاقة بين الله والإنسان . لغة تعتمد على العقل ..
بعدما ثبت للبشر فشل اللغات الأخرى في العلاقة بينهم وبين الله .
لذلك تأتي إقرأ : صيغة ورمز لعلاقة جديدة . بطاقة مختلفة لتعريف مختلف يقدم بها الله وحيه الالهي .
واي كلمة ، تلك هي إقرأ .
* * *
إقرأ : كلمة السر – الذي لم يعد سراً بل صار جهراً في العقيدة الجديدة ، دونما ابهار او اساطير او معجزات تشبه القصص الخرافية …
…. وبينما تنام شعوب على خيالات كلمة السر التي تفتح مغارات الكنوز ،فأن كلمة السر هذه قيلت في الغار ثلاث مرات لرجل أمي ولأمته من بعده ففتحت أبواب العلم وافاق المعرفة ، وجنيت كنوز وكنوز للانسانية عبر القرون التي سادت فيها حضارة إقرأ .
ولا يدري احد على وجه التحديد في أي مرحلة من مراحل العلم سنكون اليوم لو لم تقال تلك الكلمة – السر …
لكن الذي حدث ان تلك الكلمة التي قيلت في الغار همساً ، صارت شعاراً لحضارة ، ومنهاجاً لحياة ، واول ما انزل من كتاب سيتخذ من الفعل ذاته ( قرأ) اسماً يتلى ويتعبد به في صور وعقول اتباعه …
* * *
وكلمة إقرأ لم تكن أول كلمة أنزلت من الوحي فحسب .
بل كانت أول فعل أمر أصدره الله إلي رسوله الأخير ، والى أمته من بعده ، بطبيعة الحال .أي إنها كانت ببساطة شديدة . ودونما تشنجات فقهيه – اول فرض فُرِضَ على محمد (صلى الله عليه وسلم) .
القراءة : أول فرض في الإسلام ، قبل الصلاة والصوم والزكاة والحج .
وبعبارة أخرى : كانت كلمة ( إقرأ) الشاملة هي المدخل الذي فُرِضَتْ عبره كل الفرائض الأخرى …
وبعبارة أوضح و أدق : كان العلم – بمعناه الشمولي والواسع هو الإطار الذي من خلاله أخذت كل الفرائض الإسلامية موقعها الذي حددته الشريعة فيما بعد …
والحديث عن علاقة الإسلام بالعلم بات حديثاً مكرراً استهلكت فيه المعاني ونفذت وهو حديث يرتكز على الاستشهاد بعدد من الآيات القرآنية التي تشيد بالعلم والعلماء، وعلى كثرة تكرار لفظة علم ومشتقاتها (البالغة حوالي 439 مرة ) في القران الكريم – ليستنتج ان الإسلام ( حث ) على العلم ، وان هذا الحث هو التغيير المنطقي للطفرة العلمية التي أنجزتها الحضارة الإسلامية …
للوهلة الأولى ، تبدو مقدمات الاستشهاد ونتائجه صحيحة. لكن عندما يفكر المرء ان الوحي الإلهي بدء باقرأ، فانه يقر ان الأمر اكثر من مجرد حث ، وان الطفرة العلمية الإسلامية اكثر من مجرد استجابة لهذا الحث …
عندما يبتدئ الوحي باقرا ، فالأمر اكثر من الاستحباب واكثر حتى من الوجوب . انه يقع في منطقة خارج التقسيمات الاصطلاحية التقليدية – ويقع في منطقة عميقة جدا في البناء الإسلامي : في الأساس ، في الأركان ، في القاعدة .
وهذا ما كان واضحا ، دونما تنظير فكري – بل كواقع يومي معاش لأفراد الجيل الأول ، وهو الذي شكل الدفعة العلمية الكبيرة التي أنجزتها الحضارة الإسلامية ….
أما أن نتصور ان ( الحث ) والأوامر الإسلامية بطلب العلم قد حققت ذلك الوثوب وتلك الطفرة – فهو أمر اقرب الى السذاجة منه الى النظر والتحقيق العلمي …
لقد كان الإسلام لغة جديدة . روحاً جديدة . مضموناً جديداً بصياغة جديدة للعلاقات الإنسانية مع بعضها ومع الله ….
وكانت المفردة الاولى التي تكونت في هذه اللغه الجديدة – بالابجدية الجديدة – هي كلمة إقرأ.
* * *
لكن الرجل الذي أنزلت عليه إقرأ كان امياً .
وقد ظل علماؤنا لفترة طويلة يفسرون ذلك انه من ادلة النبوة واوجه الاعجاز – في مواجهة المشككين بصدق نبوة محمد ( عليه الصلاة والسلام ) …
لكن الانطلاق من أرضية التصديق بالنبوة يمنح ذلك التناقض الظاهري بين إقرأ وبين أمية النبي أفقا واسعا للتأمل وفضاءاً رحباً للتعليق …
انه يحرر القراءة من أسوارها الأبجدية وحدودها اللغوية – على سعتها – ليطلقها في عالم المعاني شديدة الثراء والخصوبة …
انه يحرر القراءة من المفاهيم الجامدة للتلقين الغبي الى قراءة ما هو غير مكتوب في بطون الكتب …
انه دعوة لقراءة كتاب الكون المفتوح ، المتمثل في كل ذرة من ذرات الخليقة …والمتجسد في كل حبة رمل ونسمة هواء وثمرة شجر …
انه دعوة للقراءة في كتاب النفس الإنسانية : في كل نزعة خير ونزوة شر ، وعاطفة حب تهف بها النفس نحو الجمال والسمو او تسقط بها نحو الرذيلة او الانحدار …
والمتأمل في اللفظ المجرد ( إقرأ) في اللغة العربية يجد في ثراء المعاني المرتبطة بها زوايا جديدة للنظر نحو الأمر الأول بل الفرض الأول الذي نزل في الغار …
فمشتقات قرأ ترد بمعاني : الحمل . الجمع ، من المجموع . الفقه . المدة الزمنية . وكل واحدة من هذه المعاني تمنح (إقرأ) بعداً جديداً يوضح رؤيتنا لما حدث في الغار يومها …
فالقراءة – بمعنى " ما – هي حمل أيضاً " ، وهو حمل ينتج من اللقاء الخصيب بين العقل الإنساني والواقع الإنساني ، ذلك اللقاء الذي ينتج بذرة الوعي وجنين الأمل … في حمل قد يدوم عقوداً او قرون …او يجهض …
وهي ترتبط بالجمع – قراءة شمولية متوازنة تنظر الى العالم كله برؤية تكاملية غير تجزيئية …
وهي عين الفقه – الفهم – الذي يغوص عميقاً بحثاً عن الجذور ، والذي يبحث عن الأسباب لا عن الظواهر ، ويشخص الأمراض ولا يحدد الأعراض فقط …ومرتبطة بالفترة الزمنية – لأنها ليست مطلقة ، خارج الزمان والمكان وذات صلاحية غير منتهية بل – وبسبب ارتباطها بالواقع ومتغيراته – تحتاج إلى عين بشرية جديدة وعقل بشري جديد باستمرار ، ليقرأ من جديد …
وهكذا فإقراْ هي دعوة لقراءة الكون بأجمعه . الخليقة بأجمعها . والتاريخ . والنفس البشرية …
إنها دعوة استقراء واستنباط وتبحر عميق في العلاقة الحتمية بين الأسباب والمسببات وهي ذات الدعوة التي تمخضت فيما بعد بما يسمى اليوم بالمنهج التجريبي في العلوم – والتي كانت من أهم ركائز الانطلاقة الإسلامية في الحركة العلمية . والتي تعتمد على الملاحظة والاستنتاج لكنها بدأت حقا في الواقع اليومي المعاش ، من (إقرأ ) التي بدأت بملاحظة الظواهر البسيطة المحيطة بالفرد البسيط ولا تنتهي حتى بالكون العميق …
إنها فتح لأبواب العقل نحو الجهات الأربع : شمال وجنوب ، شرق وغرب . تتخطى الأبعاد الثلاثة بل وحتى البعد الرابع : الزمن .
الكلمة الأولى : إقرأ . في العمق . في العمق جداً . مثل حقنة في العضلة للوعي الإنساني ، للعقل الإنساني . بل للنوع الإنساني كله …
* * *
ولو تابعنا الحديث الذي روته السيدة عائشة والذي أورده البخاري في صحيحه لوجدنا نصا شديد الخصوبة يحدثنا فيه الرجل نفسه عن تجربته الهائلة الأولى مع الوحي …والذي يتضح من متابعة الحديث ، ان النبي عليه افضل الصلاة والسلام كان يعي- وان كان بغموض- منذ اللحظة الأولى ضخامة الكلمة التي أنزلت عليه . كان يعلم إنها تتجاوز حدود القراءة الاعتيادية إلى أفق غير منظور ، فهو ينكر الطلب "ما أنا بقارئ " –ثلاثا– وهو يرجع بها و يرجف بها فؤاده ويقول " لقد خشيت على نفسي " – وقبلها يطلب " زملوني زملوني " فزملوه حتى " ذهب عنه الروع " .
كل ذلك يؤكد بشكل قاطع انه عليه افضل الصلاة والسلام كان يدرك منذ اللحظات الأولى لرسالته أهمية ما جرى له وأهمية ما نزل به الوحي . ولم ينقل عنه أبداً انه استشكل أمر القراءة وهو الأمي – وهذا يعني انه كان يعي ان أمر القراءة يتجاوز الشكل الحرفي – الأبجدي – الى معنى الوعي والاستقراء كله ثم اكد له ورقة بن نوفل ما كان يدور في وعيه : " هذا الناموس الذي نزل الله على موسى" ولم تكن سوى ثلاث آيات لكن ورقة وجد فيها الناموس ، ووجدها سحيقة القدم عميقة الجذر تتصل بموسى – بعمق التاريخ . ثم قال منبهاً : " ليتني اكون حياً اذ يخرجك قومك " ولعل محمداً كان يعلم الجواب – او يخالجه – اذ سأل: او مخرجيَّ هم ؟ لضخامة الكلمة – الناموس التي ألقيت عليه ، فيجيبه ورقة ما يجيبه ، وضمن الجواب ً نعم …ً .
* * *
وعندما نزل وحي السماء : إقرأ، بعد ذلك الصمت الطويل لم يحدث شيء.
لم تنطفئ الشمس. لم ينشق القمر. لم تتعطل قوانين الفيزياء ولا لحظة واحدة .لم تسقط الشهب والنجوم ولم يتصدع إيوان كسرى ولا عرش قيصر .
… لم يحدث شيء على الإطلاق .
ولم يسمع أحد خارج الغار هذه الكلمة الهمسة التي جاء بها الملك إلى محمد ولو انه لم ينقل الخبر لما عرف أحد .
.. لم يحدث شيء غير طبيعي بتاتا،ً فقط كلمات قيلت في أذن الرجل وقلبه في غار مظلم في شعاب مكة .
ظل الحال على ما هو عليه : الشمس تشرق وتغيب في مواعيدها والكون كله سائر على الخطة المحكمة المرسومة له بإتقان دون ان يتأثر بما حدث .
.. هذه المرة- وهي المرة الأخيرة بالمناسبة- لن يكون هناك أي داع لتحدي قوانين الفيزياء… الأكثر من ذلك ان هذه الرسالة ستكون في حقيقتها صلحاً مع هذه القوانين لا تحدياً.
هذه المرة سيكون التغيير في الداخل، في العقل، في القلب، في الوعي، سيكون التغيير في الإنسان وهو الذي سيفعل الباقي .
ماذا كان سيفيد لو انشق القمر او تصدع إيوان كسرى او انطفأت الشمس ؟.
المهم ان ينشأ وعي جديد لمفاهيم جديدة ليكون مجتمعاً اخراً هو الذي يصدع إيوان كسرى او عرش قيصر .
لذلك نقول بفخر : لم يحدث شيء بتاتاً .
وكان ذلك منسجماً اشد الانسجام مع فحوى ومضمون الكلمة الاولى .
إقرأ .
* * *
كانت تلك هي الولادة الجديدة للوعي الإنساني . وللعقل الإنساني التي حدثت في غار حراء .
اما المخاض – مخاض الوعي – فسيستمر فترة طويلة تتجاوز حتى الـ 23 عاما التي كونت عمر الدعوة …
وعبر القرون سيعاني المخاض كثيرون ، أولئك يجددون الوعي المسلم والفكر المسلم ، بل يبعثون للامة دينها ( كما جاء في الحديث الصحيح …) انهم يمنحون للقراءة أبعادها المتجددة المتفاعلة مع إرهاصات الواقع وتراكمات الخبرة الإنسانية …
من جاهلية مشركي مكة الى نظام العولمة المهيمنة ، يظل جوهر المخاض واحداً . إنها ( إقرأ) .حتى وان غفلنا عنها لقرون ، تخفت أحياناً ويكون صوت الضجيج أعلى من همسة الغار ، لكنها هناك موجودة ، في الأعماق ، وإذا أنصتنا قليلاً لنبض الوعي ، فستكون همسة الغار أعلى من كل الأصوات ، أقوى من كل الأصوات … ابلغ من كل الأصوات ….
* * *
رغم سعة الافق الذي انطلقت فيه تلك الكلمة – إقرأ- الا إنها مع ذلك مبنية على قواعد وأسس متينة ، والاهم من ذلك : ثابتة .
ولعلنا هنا يجب ان نسجل ان الثبات ليس عيبا نخجل منه ونتجاهله – كما هو المعتاد اليوم في عصر يفخر بانه عصر المتغيرات السريعة . نعم . هناك متغيرات ، ولكن هناك ايضا ثوابت . ونحن لا نخجل اذ نقر : في ديننا ثوابت . في عقيدتنا ثوابت . في حضارتنا ثوابت وفي مفاهيمنا ثوابت .
ولذلك فقرائتنا أيضاً مستندة الى ثوابت . وهذه الثوابت هي قاعدة رؤية واساس لنظر ، انها العصب البصري الذي يغذي العين التي تقرأ ، والبصيرة التي تستوعب … وهذه الثوابت لا تمارس دوراً انتقائياً سلطوياً فوقياً على موضوع القراءة – او النظر …
فالعالم كله ، الخليقة كلها ، بل تفاصيلها وكل تدرجاتها ، تظل ميداناً مفتوحاً لإقرأ …
لكن الانطلاق نحو ذلك يظل محكوماً بالقواعد القرآنية . بالرؤية القرآنية .
بالمقاصد الثابتة للشريعة التي تتوجه نحو ما هو ثابت – وهي مقاصد مستقاة من القران نفسه … فاقرأ تتكامل وتتحد – بالقران –عبر القران تتوضح زوايا الرؤية ويصير القران نفسه قراءة للعالم والخليقة والكون ككل …
* * *
حسب أحدث الإحصاءات : 40 % من المسلمين ممن فوق سن الـ 15 عاماً هم أميون . أي ان هناك اليوم اكثر من ربع مليار مسلم بالغ ويعاني من الأمية . والامية هنا هي الأمية الأبجدية – والتي هي أمية فك الخط. والـ 60 % البالغين الذين يفكون الخط هم في اغلب الأحوال – لا يفكون اكثر من الخط ، و(إقرأ) بالنسبة لهم ليست اكثر من أحرف أبجدية لا تعني اكثر من الأصوات التي تترجمها …
ونسبة الامية هذه مصحوبة بارقام اخرى مفزعة توثق اوضاع التخلف والتردي التي يعيش فيها مسلمو اليوم .. ولعلنا لا نحتاج الى ارقام واحصائيات لنعرف اننا متخلفون . لعل نظرة واحدة حولنا تكفي لاستيعاب ذلك.
اننا متخلفون . نعرف هذا ونقر به . ولكن اعترافنا هذا لا يلغي تخلفنا ولا يوضح اسبابه ولا يقلل من حجم المسؤولية الملقاة على عاتقنا .مسؤولية المفارقة المتولدة من اننا ندين بدين كان اول ما انزل منه : إقرأ.
* * *
لكن اكثر جوانب المأساة بروزا هي موقف حملة القران والدعاة من اول كلمة انزلها عز وجل على الرسول الكريم …
فرغم انتشار الصحوة الإسلامية – كما يسمونها اليوم – فان هناك قصورا واضحا في علاقتها مع إقرأ… وهو القصور الذي ينعكس على علاقتها بالمجتمع والواقع والتاريخ والمستقبل ، بل على علاقتها مع نفسها كظاهرة صحوة ، وعلى علاقتها بالإسلام ، ككل …
إنها نقطة الخلل المركزية التي تمحورت حولها كل مشاكل الرؤية والتطبيق التي تعاني منها الصحوة … ويعاني منها الفكر الإسلامي …
ذلك ان مفهوم إقرأ ظل مفهوماً ثانوياً ومرتبطاً بالقراءة التقليدية الجاهزة للمجلدات والكتب التي سطرها الاولون فحسب . وكانت هذه القراءة – الا فيما ندر – تلقيناً تقليدياً، لا حواراً بين الاجيال وبين الواقع الحاضر – والماضي ، بل كانت قراءة تحاول اقسار الماضي على الحاضر ولو بالقوة . وتفرض فهم رجال وعلماء عاشوا في القرن الخامس او السادس الهجري على ظروف القرن الخامس عشر …
وكان ذلك تحجيراً لواسع . وتقزيما لمارد . واغتيالاً لروح الإبداع . لصحوة الأمل في النفوس …
ومن هذا الخلل الكبير لفهم ( إقرأ) نتجت ظواهراً فكرية مؤسفة في الصحوة – الأمل . رغم ان هذا الخلل نفسه نتج عن مجموعة ظروف وملابسات تاريخية واجتماعية قديمة تعود الى عصر الانحطاط لكن النتيجة النهائية للفهم الجامد لكلمة إقرأ كانت استمرار التكريس لقيم ومفاهيم عصر الانحطاط بل تحويلها الى بديهيات، مسلمات لا غنى عنها ….
* * *
نفس الآيات الثلاثة التي أنزلت أول مرة في الغار كانت تحمل إشارة الى خلق الإنسان من علق . والعلق مضغة الدم ، وهي طور من الأطوار الجنينية التي يمر بها الإنسان ، وقد ذُكِرتْ هذه الأطوار بتفصيل اكبر في آيات أخرى من سور مختلفة .لكن موقعها هنا بعد إقرأ مباشرة ، وقبل إقرأ مباشرة ، يثير الانتباه والتأمل ، للوهلة الأولى – على الأقل .
لكن لا عجب ، فالعلقة دور من أدوار التطور التي يمر بها الإنسان – إلى ان يصير أنساناً ، بالضبط كما تمر بقية المخلوقات بأدوار وأطوار تختلف او تتشابه مع الأطوار الإنسانية بحسب موقعها من خارطة الخليقة :القطة والكلب والفيل والنملة وحتى الديناصور مروا جميعا باطوار معينة – مثلما مر الانسان …
لكن تطور الإنسان لا ينتهي بانتهاء هذه الأدوار الجنينية كما ينتهي تطور بقية الحيوانات . انه لا يكتمل انساناً الا بخطوة أخرى … بطور آخر … وبينما يمر الإنسان بتلك الأطوار السابقة رغماً عنه – كما تمر الحيوانات الاخرى بها . فان هذا الطور الاخير لا يمر الا بإرادته ووعيه انه يختاره او لا يختاره . يكمل درب التطور ، او يظل حيث هو …
وهذا الطور، بل هذه الحرية في الاختيار ، وتسليم الوعي والارادة لهذه المسؤولية هو أول ما يميز الإنسان عن بقية المخلوقات ….
وهذا الطور هو الوعي ذاته . انه " إقرأ " التي تحاصر الإنسان – العلقة في الآيات الثلاثة الأولى التي أنزلت في الغار …
" إقرأ " هي الطور الإنساني الأخير الذي به يكتمل تطور الإنسان – ويتميز عن بقية المخلوقات …
انها الحلقة المفقودة التي طال البحث عنها – في تطور الإنسان – وهي موجودة لا في الحفريات وعظام الجماجم القديمة وبحوث الانثروبولوجيا . إنها موجودة في وعيه . في عقله . في قراره بان يكون إنساناً … والذي لا بد وان يمر باقرأ…
إقرأ هي تلك الطفرة النوعية التي يختار الإنسان ان يقفزها ليتخطى الحواجز والعقبات التي تعوقه عن إنسانيته . عن وعي المعاني العميقة الكامنة في كل ذرة من ذرات الكون وكل حركة من حركات التاريخ ، عن ان يكون كما اراده الله ان يكون : خليفة على الأرض …..
يقف الإنسان – بعد ان اكمل تطوره الطبيعي الخارج عن إرادته – ليقرر هل يكمل ، ويستجيب لهمسة الغار ، ويصعد ذلك السلم المضيء الملون – سلم التطور الإنساني الحقيقي .سلم إقرأ ، وكل درجة من درجات السلم يصعدها تغوص به الى عمق الحقيقة والوعي والإرادة , وتزيده اقتراباً من دوره ومسؤوليته الحقيقيين .
او ان يقف – مكتفيا بتطوره الجنيني – فيقف على حافة السلم ، قدر الطحالب والدواب .
* * *
…. و(إقرأ) تمثلت في منجزات حضارية مختلفة ومتنوعة – كانت في حقيقتها جوهر الحضارة التي ارتكزت على همسة الغار …
فمرة تمثلت في فقه متجدد – قائد- يتجدد مع تطورات المجتمع والظروف . ومرة تمثلت في عدالة اجتماعية شملت كل مواطنيها في البلدان المفتوحة ايضاً …
وتمثلت في صراع متأجج بين قوى متناحرة ، ومتنافرة : الأولى التزمت بـ (إقرأ) المتجددة الفهم للمقاصد والثانية حاولت الزام قراءة واحدة – جاهلية غالباً- على الواقع والمجتمع …ورغم اختلاف الشعارات ، وتبدلها بين الحين والاخر … فان إقرأ، كانت دوماً هناك في العمق ، خلف الكواليس وخلف الستار .
وعندما اختفت ( إقرأ) ، صارت مجرد كلمة دون المعاني والافاق والمقاصد ، صار الصراع يمثل – رؤى جامدة ومتوارثة : دون ذلك الفهم ، دون ذلك التجدد ، دون تلك المقاصد أي باختصار : دون ذلك الاسلام – الحقيقي .
* * *
في البدء كانت إقرأ ؟
لا . ليس في البدء فقط . انها في البداية والنهاية وفيما بينهما .
إنها الأمر الأول – الفرض الأول غير القابل للاستئناف او النسخ . والذي لا يكسب فعاليته وحيويته الا باستمراره على كل الأوامر التالية – بل كل الأمور التالية – والتي لا تكتسب – هي الأخرى – فعاليتها الا بالتعامل مع الأمر الأول : إقرأ…
لذلك فان إقرأ ليست مجرد بداية تاريخية لنزول الوحي . إنها البداية والنهاية وما بينهما . إنها جوهر الحكاية بأكملها . الحكاية التي لم تنته بعد …
* * *
مقتبس من كتاب البوصلة القرآنية-للدكتور احمد خيري العمري الصادر عن دار الفكر دمشق