د محمد الجبالي
Well-known member
الانفعال والتفاعل مع الصورة القرآنية
اتصلتُ بأحد زملائي هنا في ماليزيا أمس أسأله عن أحواله والصيام، فوجدته يتنعم برمضان والصيام.
وسألته أين تصلي التراويح؟
فقال: في المسجد
قلت: إماما أم مأموما؟
قال: إماما والحمد لله (وهو حافظ قارئ).
وبادرني قائلا: الليلة قرأتُ من سورة الأعراف، ومررتُ بقصة موسى وفرعون حين جمع السحرة والناس ليشهدوا قهرهم لموسى عند قول الله تعالى:
(قَالَ ٱلۡمَلَأُ مِن قَوۡمِ فِرۡعَوۡنَ إِنَّ هَـٰذَا لَسَـٰحِرٌ عَلِیمࣱ، یُرِیدُ أَن یُخۡرِجَكُم مِّنۡ أَرۡضِكُمۡۖ فَمَاذَا تَأۡمُرُونَ، قَالُوۤا۟ أَرۡجِهۡ وَأَخَاهُ وَأَرۡسِلۡ فِی ٱلۡمَدَاۤئنِ حَـٰشِرِینَ، یَأۡتُوكَ بِكُلِّ سَـٰحِرٍ عَلِیمࣲ، وَجَاۤءَ ٱلسَّحَرَةُ فِرۡعَوۡنَ قَالُوۤا۟ إِنَّ لَنَا لَأَجۡرًا إِن كُنَّا نَحۡنُ ٱلۡغَـٰلِبِینَ، قَالَ نَعَمۡ وَإِنَّكُمۡ لَمِنَ ٱلۡمُقَرَّبِینَ، قَالُوا۟ یَـٰمُوسَىٰۤ إِمَّاۤ أَن تُلۡقِیَ وَإِمَّاۤ أَن نَّكُونَ نَحۡنُ ٱلۡمُلۡقِینَ، قَالَ أَلۡقُوا۟ۖ فَلَمَّاۤ أَلۡقَوۡا۟ سَحَرُوۤا۟ أَعۡیُنَ ٱلنَّاسِ وَٱسۡتَرۡهَبُوهُمۡ وَجَاۤءُو بِسِحۡرٍ عَظِیمࣲ، وَأَوۡحَیۡنَاۤ إِلَىٰ مُوسَىٰۤ أَنۡ أَلۡقِ عَصَاكَۖ فَإِذَا هِیَ تَلۡقَفُ مَا یَأۡفِكُونَ، فَوَقَعَ ٱلۡحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا۟ یَعۡمَلُونَ، فَغُلِبُوا۟ هُنَالِكَ وَٱنقَلَبُوا۟ صَـٰغِرِینَ، وَأُلۡقِیَ ٱلسَّحَرَةُ سَـٰجِدِینَ)
[سورة الأعراف 109 – 120]
قال الرجل: قرأتُ الآيات وشعرتُ كأني أشاهد أحداث القصة أمام عيني، كأن موسى وفرعون وحاشيته وقومه والسحرة كأن الجميع أمام عينيّ أراهم، وأشاهد الصورة حية نابضة أمام عينيّ، لدرجة أني حين انتهيتُ من القصة كأني رأيتُ حسرة فرعون وقهره فأخذتني ابتسامة زادت وطالت معي حتى السجود.
فأعجبني كلامه وقلت له: نعم تلك الحال نتيجة طبيعية جدا لمن يقرأ قصص القرآن وأمثال القرآن منصرفا عما حوله ولا ينشغل فكره بشيء غيره.
حين لا ينشغل عقل وقلب قارئ القرآن بشيء آخر غير التلاوة فإنه حين يمر بقصص القرآن وبأمثاله سيجد نفسه داخل الصورة، يعيش أحداثها كاملة، متفاعلا معها، منفعلا بها.
وهذه خاصية خاصة بكتاب الله، فإنك وإن قرأتَ القرآن كله ألف مرة، حين تمر على قصصه وأمثاله تعيشها وتنفعل بها كمثل انفعالك بها أول مرة.
هذا على عكس ما نرى في حياتنا، فإنك إن قرأتَ قصة ما، أو رواية ما، فلا تكاد ترغب في قراءتها ثانية، وكذلك إن شاهدتَ فيلما ما، أو مسلسلا ما، فلا ترغب في أن تشاهده ثانية.
أما القرآن وقصصه وأمثاله فإنك تمر عليها تجدها كأنها جديدة متجددة؛ ذلك لأنه تأخذ قلب القارئ المتأمل، وتأخذ عقله، فينفعل بها، ويتفاعل معها، وكأنه يقرؤها لأول مرة.
تلك متعة خاصة يجدها القارئ الناظر الذي لا ينشغل بشيء أثناء التلاوة، إنها لذة عجيبة يجدها القارئ المتأمل الذي يقرأ بقلبه وعقله.
وهذه المتعة وتلك اللذة ليست وقفا على الماهرين بالقرآن، لا ، إن عوام المسلمين حين يقرءون قصص القرآن وأمثاله منصرفين عما حولهم لا ينشغلون بشيء أثناء التلاوة سيعيشون أحداث القصص كأنهم جزء منها، يشهدونها شخوصها وتفاعلاتها وينفعلون ويتفاعلون معها.
إن عوام الناس حين يقرءون: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ)
ليسوا في حاجة للبلاغة والنحو لكي يقع الأثر في قلوبهم، سيعيشون الصورة في خيالهم، ستقع الرهبة في قلوبهم.
والقصص القرآني أيسر فهما على عوام المسلمين، وأمثاله وصوره ومجازاته أشد وقعا في قلوبهم من القصص.
إن المعاني واضحة لعقولهم، ومنها تنفذ إلى قلوبهم، فإنهم ليسوا في حاجة لعلوم البلاغة وغيرها ليدركوا ويتفاعلوا وينفعلوا بقوله عز وجل:
(وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا (48) وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا)
إنهم ليسوا في حاجة للبلاغة ولا للنحو حين يقرءون:
(وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ)
إنهم إن صرفوا قلوبهم للتلاوة حين يقرءون:
(وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ) فسوف تنخلع لها القلوب رهبا.
والله أعلم
د. محمد الجبالي
اتصلتُ بأحد زملائي هنا في ماليزيا أمس أسأله عن أحواله والصيام، فوجدته يتنعم برمضان والصيام.
وسألته أين تصلي التراويح؟
فقال: في المسجد
قلت: إماما أم مأموما؟
قال: إماما والحمد لله (وهو حافظ قارئ).
وبادرني قائلا: الليلة قرأتُ من سورة الأعراف، ومررتُ بقصة موسى وفرعون حين جمع السحرة والناس ليشهدوا قهرهم لموسى عند قول الله تعالى:
(قَالَ ٱلۡمَلَأُ مِن قَوۡمِ فِرۡعَوۡنَ إِنَّ هَـٰذَا لَسَـٰحِرٌ عَلِیمࣱ، یُرِیدُ أَن یُخۡرِجَكُم مِّنۡ أَرۡضِكُمۡۖ فَمَاذَا تَأۡمُرُونَ، قَالُوۤا۟ أَرۡجِهۡ وَأَخَاهُ وَأَرۡسِلۡ فِی ٱلۡمَدَاۤئنِ حَـٰشِرِینَ، یَأۡتُوكَ بِكُلِّ سَـٰحِرٍ عَلِیمࣲ، وَجَاۤءَ ٱلسَّحَرَةُ فِرۡعَوۡنَ قَالُوۤا۟ إِنَّ لَنَا لَأَجۡرًا إِن كُنَّا نَحۡنُ ٱلۡغَـٰلِبِینَ، قَالَ نَعَمۡ وَإِنَّكُمۡ لَمِنَ ٱلۡمُقَرَّبِینَ، قَالُوا۟ یَـٰمُوسَىٰۤ إِمَّاۤ أَن تُلۡقِیَ وَإِمَّاۤ أَن نَّكُونَ نَحۡنُ ٱلۡمُلۡقِینَ، قَالَ أَلۡقُوا۟ۖ فَلَمَّاۤ أَلۡقَوۡا۟ سَحَرُوۤا۟ أَعۡیُنَ ٱلنَّاسِ وَٱسۡتَرۡهَبُوهُمۡ وَجَاۤءُو بِسِحۡرٍ عَظِیمࣲ، وَأَوۡحَیۡنَاۤ إِلَىٰ مُوسَىٰۤ أَنۡ أَلۡقِ عَصَاكَۖ فَإِذَا هِیَ تَلۡقَفُ مَا یَأۡفِكُونَ، فَوَقَعَ ٱلۡحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا۟ یَعۡمَلُونَ، فَغُلِبُوا۟ هُنَالِكَ وَٱنقَلَبُوا۟ صَـٰغِرِینَ، وَأُلۡقِیَ ٱلسَّحَرَةُ سَـٰجِدِینَ)
[سورة الأعراف 109 – 120]
قال الرجل: قرأتُ الآيات وشعرتُ كأني أشاهد أحداث القصة أمام عيني، كأن موسى وفرعون وحاشيته وقومه والسحرة كأن الجميع أمام عينيّ أراهم، وأشاهد الصورة حية نابضة أمام عينيّ، لدرجة أني حين انتهيتُ من القصة كأني رأيتُ حسرة فرعون وقهره فأخذتني ابتسامة زادت وطالت معي حتى السجود.
فأعجبني كلامه وقلت له: نعم تلك الحال نتيجة طبيعية جدا لمن يقرأ قصص القرآن وأمثال القرآن منصرفا عما حوله ولا ينشغل فكره بشيء غيره.
حين لا ينشغل عقل وقلب قارئ القرآن بشيء آخر غير التلاوة فإنه حين يمر بقصص القرآن وبأمثاله سيجد نفسه داخل الصورة، يعيش أحداثها كاملة، متفاعلا معها، منفعلا بها.
وهذه خاصية خاصة بكتاب الله، فإنك وإن قرأتَ القرآن كله ألف مرة، حين تمر على قصصه وأمثاله تعيشها وتنفعل بها كمثل انفعالك بها أول مرة.
هذا على عكس ما نرى في حياتنا، فإنك إن قرأتَ قصة ما، أو رواية ما، فلا تكاد ترغب في قراءتها ثانية، وكذلك إن شاهدتَ فيلما ما، أو مسلسلا ما، فلا ترغب في أن تشاهده ثانية.
أما القرآن وقصصه وأمثاله فإنك تمر عليها تجدها كأنها جديدة متجددة؛ ذلك لأنه تأخذ قلب القارئ المتأمل، وتأخذ عقله، فينفعل بها، ويتفاعل معها، وكأنه يقرؤها لأول مرة.
تلك متعة خاصة يجدها القارئ الناظر الذي لا ينشغل بشيء أثناء التلاوة، إنها لذة عجيبة يجدها القارئ المتأمل الذي يقرأ بقلبه وعقله.
وهذه المتعة وتلك اللذة ليست وقفا على الماهرين بالقرآن، لا ، إن عوام المسلمين حين يقرءون قصص القرآن وأمثاله منصرفين عما حولهم لا ينشغلون بشيء أثناء التلاوة سيعيشون أحداث القصص كأنهم جزء منها، يشهدونها شخوصها وتفاعلاتها وينفعلون ويتفاعلون معها.
إن عوام الناس حين يقرءون: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ)
ليسوا في حاجة للبلاغة والنحو لكي يقع الأثر في قلوبهم، سيعيشون الصورة في خيالهم، ستقع الرهبة في قلوبهم.
والقصص القرآني أيسر فهما على عوام المسلمين، وأمثاله وصوره ومجازاته أشد وقعا في قلوبهم من القصص.
إن المعاني واضحة لعقولهم، ومنها تنفذ إلى قلوبهم، فإنهم ليسوا في حاجة لعلوم البلاغة وغيرها ليدركوا ويتفاعلوا وينفعلوا بقوله عز وجل:
(وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا (48) وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا)
إنهم ليسوا في حاجة للبلاغة ولا للنحو حين يقرءون:
(وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ)
إنهم إن صرفوا قلوبهم للتلاوة حين يقرءون:
(وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ) فسوف تنخلع لها القلوب رهبا.
والله أعلم
د. محمد الجبالي