الانحراف في التفسير

إنضم
04/06/2011
المشاركات
3
مستوى التفاعل
0
النقاط
1
الانحراف في التفسير
الدكتور رائد عبد دراج​
أستاذ مادة طرائق التدريس وعلوم القرآن الكريم​
إنَّ القرآن خاطب الله-I- به من كان في زمن التنزيل لا لخصوصية في أشخاصهم، بل لأنهم من أفراد النوع الإنساني، فالنص القرآني مستعلٍ على كل زمان ومكان، أما إفهام الناس للمراد من آياته فليس فيها حجة على أحد، بل التكليف الواقع على كل مسلم عالماً كان أو جاهلاً أن يتوجه إلى القرآن بعقله وقلبه متأملاً متدبراً كلٌ بحسب طاقته، وينبغي على المفسر أن يحيط بأربعة عشر قرناً من التراث التفسيري مستفيداً منه غير متقيد ولا متأثر، ليصل إلى النص القرآني مباشرة فيتعامل معه تعامل المجتهد، وليس هذا بالأمر السهل، وما كل صعب يترك، ولذلك كان كل مفسر بين خيارين اثنين:
الأول: أن يتعامل مع آراء المفسرين لأنَّهم أقرب إلى عصر التنزيل، وأعلم باللغة وأساليبها، ولكنهم أبناء عصرهم، فصلة أقوالهم بعصرنا معدومة.
الثاني: أن يتعامل مع النص مباشرة، وهو أقل من سلفه علماً، ولكنه أعلم بظروف عصره وحاجات وقته([1]).
لقد لقي القرآن على وضاءته صدوداً على مر التاريخ من كثير من الناس، لاسيما أصحاب الأهواء والنحل المنحرفة، ومنذ القديم والكتاب يكتبون، فمنهم المنصف، ومنهم غير ذلك، غير أنه والحق يقال إن أولئك الكاتبين غير المنصفين لديهم جملة من المعارف -التي وظفت توظيفاً منحرفاً- تشعر بها وأنت تقرأ، وإن كانوا سلكوا بها غير ما ينبغي من الصراط المستقيم. هذا وقد برزت طائفة من هؤلاء غير المنصفين الذين خلت أبحاثهم وكتاباتهم من مناهج العلماء وموضوعيتهم، فامتلأت كتبهم وأبحاثهم بالتعدي أحيانا وبالتشفي أحيانا أخرى، كل هذا نكاية منهم لهذا الدين وأهله أو الحصول على مآرب يبتغونها من وراء ذلك([2]).
ولعل رواج مثل هذه المناهج المنحرفة مرجعه حالة الفتور النقدي من قبل الباحثين ونظرتهم إلى كتب التفسير نظرة تقديس لأنها تبيان لمعاني كلام رب العالمين، ويغيب عن بالهم أن القائمين عليها بشر غير معصومين، وأن الشوائب قد تدخلها من باب واسع بدافع الجهل، وبدافع الهوى، أو إعلاء شأن العقل وتحكيمه في كل شيء، حتى في نصوص الشرع مما يمكّن له السيادة المطلقة، ويمكن إدراك هذه البصمة من الدعوة للإيمان بالحسيّات واستبعاد المغيبات. وفي جعل العقل مصدراً من مصادر التشريع على قدم المساواة بنصوص الوحي. بل وبتأويل ما يتعارض معه([3]).
ولا ينكر احد أن فضاء مناهج التفسير تتنازع فيه تيارات تراوحت بين الارتجال والسطحية في التعامل مع النص القرآني وبين الإيغال في التدقيق التخصصي، وبين هذين البعدين تفاوتت مقاربات النص في العمق؛ ما جعل سؤال المنهج في التعامل مع القرآن سؤالاً مركزياً، والبحث عن وسطية في التفسير أصبحت هي الأخرى موضع تجاذبات جديدة. اليوم وبعد أن أخفقت محاولات العلمانيين ومدعي التجديد. في تغريب فكر الأمة، وبعد أن أخفق الفكر الحداثي، وبعد أن أصبح واضحاً أن الأمة تعود إلى فكرها، وثقافتها، وحضارتها، نجد أن كهّان فكر الحداثة الغربي في بلادنا يسعون إلى الالتفاف على النص القرآني، لزعزعة أسس الفكرة الإسلامية([4]).
فقد نبتت نابتة في هذا الزمان أخذت على عاتقها إعادة قراءة وتفسير النصوص الشرعية من القرآن والسنة حسب ما تمليه عليهم عقولهم وأهواؤهم، تحت شعار القراءة العصرية للقرآن دون التقيد بالضوابط والقيود والشروط التي اجتمع عليها علماء الأمة، وارتضوها خلفا بعد سلف، بل تفلتوا حتى من عقال اللغة ودلالاتها ومنطقها الذي تواتر عن العرب قبل الإسلام. مما يجعل الباحث حائراً بل ساخراً من الاجتهادات والتأويلات الفجة التي خرج بها هؤلاء القوم([5]). ومن شعاراتهم أنَّ النص الديني ليس حكراً على الإسلاميين، وبإمكان كل إنسان أن يفسر القرآن، وأن يجتهد في الدين! ونحن بدورنا نقول: نعم بإمكان كل إنسان أن يجتهد بشرطين:
الأول: أن يكون مؤمناً بالأسس، لأن الدين أمانة، وليس بإمكاننا أن نأخذ من إنسانٍ يسعى إلى هدم أسس الدين.
والثاني: أن يكون من أهل الاجتهاد، أي أن تتوافر فيه الشروط المطلوبة، وهذا شرط يطلب في كل علم: في الطب، وفي الصيدلة، والأدب، والفلسفة ويمكنهم إذا لم تتوافر فيهم هذه الشروط أن يتكلموا كما يشاءون، وهم يعلمون تماماً أن لا أحد يصغي لكلامهم؛ لأنَّ الناس يسهل أن تميّز بعقولها وقلوبها، والواقع يشهد بذلك.
ويبدو للباحث أنَّ هذه الدعاوى لفتح باب القول في تفسير القرآن لمن هب ودب ما هي إلا امتداداً لتلك الأفواه التي نادت ولا زالت لإثارة الضبابية حول القرآن، وإضعاف مكانته وتفريغ القرآن من مركزيته الخالدة عبر التأريخ، واختزال دوره الرئيس في صياغة الهداية للبشرية التائهة عن وحي ربها.
من أمثال هؤلاء الذين يريدون أن تفقد الأمة الإسلامية موطن عزها ووجودها المبشر وليم جيفورد بالكراف إذ يقول: (متى توارى القرآن ومدينة مكة عن بلاد العرب، يمكننا حينئذ أن نرى العربي يتدرج في طريق الحضارة الغربية بعيداً عن محمد وكتابه) ([6]).
ويقول المبشر تاكلي: (يجب أن نستخدم القرآن، وهو أمضى سلاح في الإسلام، ضد الإسلام نفسه، حتى نقضى عليه تماماً، يجب أن نبين للمسلمين أن الصحيح في القرآن ليس جديداً، وأن الجديد فيه ليس صحيحاً)([7]).
لذا بدا لي أنَّ أفرد في هذه الدراسة فصلاً يعالج هذا المنهج المنحرف في التفسير الحديث غير المنضبط بالضوابط المنهجية العلمية الخاصة بالتفسير، لاسيما وان هذا المنهج فرضته ثقافة العصر، والتفلت الثقافي، والعلمي من ميزان العقل، والشطط في استعمال الرأي دون ضابط الشرع.
إنَّ المنطق الإسلامي لا ينكر التجديد ومواكبة المتغيرات في المجالات كافة وما الاجتهاد في ميدان التفسير إلا صورة من صور دفع الإسلام الإنسان نحو إعمال الفكر المتزن، وإفساح المجال للعقل أن يأخذ دوره في التفكير في مجال طاقته وإمكانيته، إنَّما ينكره أن يهيم النّاس في فضاء ليس له حدود يدخلهم في تيه التصورات الهائمة بلا قواعد منضبطة، أو منهج علمي رصين يعصم من الزلل، ويحفظ من التردي نحو الانحراف.
إنَّ المنهج المنحرف في التفسير صورة لذلك العقل الهائم الذي يريد أن يلبس القرآن جلباب الحداثة بغير هدى، أو أن يأخذ بيد الإنسانية نحو هاوية التأويل المنفلت من عقال العصمة الإلهية. لذا تعالت الصيحات، وتضافرت الجهود من الباحثين والدارسين لبيان السبيل الأمثل لمسايرة الزمان بثقافته، وتغيراته ومشكلاته، وحاجاته الراهنة إنَّما يكون بالتمسك بكتاب الله -I- من غير إفراط ولا تفريط، فالوسطية من سمات الأمة المسلمة؛ فهي الخيرية الكبرى التي امتازت بها أمة القرآن، فالوسطية في إفساح المجال للعقل أن يمارس ما كلف به من التفكر والتدبر والتأمل في فهم كتاب الله -I- على وفق ما قرره علماء الأمة العارفين هو ما يتحقق به الفهم السليم المعصوم من الخطأ والانحراف.

http://vb.tafsir.net/newthread.php?do=newthread&f=13#_ftnref1([1]) ينظر: الحسن، مصطفى محمد، منطلقات التجديد في تفسير الإمام محمد عبده، مجلة عكاض، العدد 2055، 2007م، ص10.

http://vb.tafsir.net/newthread.php?do=newthread&f=13#_ftnref2([2]) ينظر: الذهبي، محمد حسين، بحوث في علوم التفسير والفقه والدعوة، دار الحديث، القاهرة، 1426هـ، 2005م، ص199.

http://vb.tafsir.net/newthread.php?do=newthread&f=13#_ftnref3([3]) ينظر: أبو علبة، عبد الرحيم فارس، شوائب التفسير في القرن الرابع عشر الهجري، كلية الشريعة، بيروت، لبنان، 1430هـ، ص5. و ينظر: دراز، محمد عبد الله، النبأ العظيم، نظرات جديدة في القرآن، دار القلم، كويت، ط2، 1390هـ،1970م، ص21.

http://vb.tafsir.net/newthread.php?do=newthread&f=13#_ftnref4([4]) ينظر: حب الله، حيدر، الفكر الإسلامي وتكوين النظرية التربوية، مجلة المنهاج، العدد32، بيروت، لبنان ،2005م ، ص17.

http://vb.tafsir.net/newthread.php?do=newthread&f=13#_ftnref5([5]) ينظر: بويداين، إبراهيم محمد طه، التأويل بين ضوابط الأصوليين وقراءات المعاصرين، جامعة القدس، (رسالة ماجستير)،2001م، ص168. وينظر: هريمة، يوسف، نشأة التفسير التجزيئي، مجلة الوقت، العدد582، 1428هـ، 2007م، ص6.

http://vb.tafsir.net/newthread.php?do=newthread&f=13#_ftnref6([6]) العالم، جلال، قادة الغرب يقولون دمّروا الإسلام أبيدوا أهله، طرابلس، ليبيا، 1974م، ص34.

http://vb.tafsir.net/newthread.php?do=newthread&f=13#_ftnref7([7]) العالم، قادة الغرب يقولون دمّروا الإسلام أبيدوا أهله، ص34.
 
تحية طيبة

تحية طيبة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد أخي الحبيب ..
أوافقك الرأي في معظم ما قلت وبارك الله لك وفيك وجزيت صالحة فوالله لقد أثار هؤلاء المحدثون في عيوننا نقعا وكادوا والله يقطعون خيوط النور بيننا وبين القرآن بطرحهم المزخرف المطلي بالذهب وهو صدئ ..
ولكن استوقفتني كلمة منك فقد قلت ما نصه "وينبغي على المفسر أن يحيط بأربعة عشر قرناً من التراث التفسيري مستفيداً منه غير متقيد ولا متأثر، ليصل إلى النص القرآني مباشرة فيتعامل معه تعامل المجتهد" .
والرأي عندي أن على المفسر أن يحيط علما بفهم الجيل الأول للقرآن , ذاك الفهم الذي نهض بهم وسمى حتى ملأوا عين الدنيا وسمعها , وما بعد فهمهم فنافلة إذ يغلب عليه طابع التأثر بالمتغيرات الاجماعية والثقافية والفكرية لكل عصر , ثم خبرني بالله ماذا فاتنا إذا نحن استطعنا أن نبلع في فهم القرآن والتعامل معه ما بلغه ذاك الجيل الفريد ماذا علينا , بل ما الذي فاتنا إن بلغنا تلك الغاية الرفيعة ؟؟.
لا بل إني لأخاف على طالب العلم إن هو أخذ بمقترحك ودخل صومعته وأخذ يفلي أربعة عشر قرنا من التفسير , ولكل مفسر منهج وطريقة وأسلوب ..
تحياتي الطيبة وأشكرك
أخوكم علي
 
وفقك الله ورعاك .
موضوع مهم وقد كتب فيه كتابات موسعة جديرة بالنظر والاستفادة ، كرسالة (أسباب الخطأ في التفسير) وغيرها من كتب اصول التفسير التي تقرر المنهجية الصحيحة للتفسير .
ومما لفت نظري قولك :( ... وحاجاته الراهنة إنَّما يكون بالتمسك بكتاب الله من غير إفراط ولا تفريط).
والتمسك الصحيح بالقرآن الكريم ليس فيه إفراط ، بل هو الوسطية عينها، وإنما لعلك تقصد أن هناك من يدَّعى التمسك بالقرآن فيفهمه فهماً خاطئاً يؤدي به إلى الإفراط والتشديد وينسب ذلك الفهم إلى القرآن والتمسك به فهذا صحيح .
 
عودة
أعلى