الاستعارة ودلالتها التأثيرية قصيدة " عادل" للشاعر غازي القصيبي نموذجا

إنضم
21/02/2013
المشاركات
48
مستوى التفاعل
0
النقاط
6
العمر
42
الإقامة
المملكة العربية
بسم1
الاستعارة ودلالتها التأثيرية
قصيدة
" عادل"
للشاعر غازي القصيبي
نموذجا

تأليف
أيمن أبومصطفى
باحث مصري
[email protected]


النص التطبيقي:
هذا النص نُشر في جريدة الحياة اليوم السبت 7 / 1 / 2006 م - 7/ 12 / 1426هـ . وهو نص تأبيني لأخ الشاعر عادل الذي توفي قريباً.
يقول:
أخي! رُبَّ جُرحٍ في الأَضَالعِ لا يهْدا
أعانقهُ... والليلُ يُمطِرُني سُهدا
وأستصرخُ الذِكرى فتسكبُ صَابَها
ويا طالما استسقيتُ من نبعِها الشهدا
أخي! لستُ أدري أيّ سهميَّ قاتلي
غيابُك؟ أمْ أنّي بقيتُ هنا فردا؟
تفرّق أصحابُ الطريقِ... فلا أرى
أمامي سوى اللحدِ الذي يحضنُ اللحدا
على كل قبرٍ من دموعيَ قطرةٌ
وقافيةٌ تفدي المودِّعَ... لو يُفدى!
أصون عن الأنظار ضعفي... ورُبّما
تماسك مَنْ هَدّتْ قواعده هدّا
أعادل! هل حقاً تركتك في الثرى
وأهديتُ هذا القبر أنفَس ما يُهدى؟!
وهل عدتُ حقاً للديار التي خَلَت
ْوفيّاً لدُنيايَ التي تخفرُ العهدا؟!
مضيْتَ... كأنّا ما قضيْنا حياتنا
معاً... ولبسنا العمر بُرْداً طوى بُرْدا
كأنَّ الشبابَ الحُلوَ ما كان حوْلنا
يهبُّ كأنفاسِ الخمائلِ... أو أندى
كأنَّ المُنى ما سلّمتنا قيادها
فهِمنا على الآفاقِ نفرشُها ورْدا
كأنَّ الرؤى ما غَازَلَتْنا حِسانُها
وما زيّنتْ صعباً... ولا قرّبتْ بُعدا
كأنَّ الصِبا ما كان يغوي بنا الصبا
فلا فِتنة نادتْ... ولا شادِنٌ ندَّا
كأنّا خُلِقْنا في المشيب... يسومنا
من العقل... ما كنا نضيقُ به مُرْدا
يقول سهيلٌ: «ما لِعيْنِكَ لم تَفِضْ؟!»
فقلتُ له: «أكدتْ... وقلبيَ ما أكدى»
بكيتُ أخي حتّى ثوى الدمعُ في الحشا
وأجهش صدرٌ أصطلي نَوْحه وَجدا
فمن أجلِه الدّمعُ الذي سدَّ محجري
ومن أجلِهِ الدمعُ الذي استوطن الكِبْدا
إلى الله أشكو... لا إلى الناس... أنني
أكابد من عيشى العقاربَ... والرُبْدا
وأنّي إذا ما غَابَ خِلٌ... حسبتني
فقدتُ حُسامي... والعزيمةَ... والزندا
ويا ربّ! هذا راحلٌ كان صاحبي
وكان أخي... أُصفي ويُصفي ليَ الوِدّا
وكان صديقي... والشبابُ صَديقنا
وصادَقَني... والشّيبُ يحصُدنا حصْدا
وما فرَّ... والأعداءُ حولي كتائبٌ
وما خاف... والظلماءُ صاخبةٌ رعْدا
فيا ربُّ! نوِّر بالقُبول ضَريحه
وأسكنْهُ روضاً في جنانك مُمتدا
ويا ربُّ! هل للعبدِ إلاك ملجأ
ويا ربُّ! هل إلاّكَ من يرحمُ العبْدا؟




حول الاستعارة :
يقول برْوُسْتْ عن الاستعارة " إن الاستعارة هي وحدها التي تمنح الخلود للأسلوب( )" فهي "أحد اعمدة الكلام وعليها المعول في التوسع والتصرف وبها يتوصل إلى تزيين اللفظ وتحسين النظم والنثر" ( ) .
ويقول الجرجاني ( عبد القاهر) : وإذا تأمَّلتَ أقسام الصَّنعة التي بها يكون الكلام في حَدَّ البلاغة، ومعها يستحِق وصفَ البراعة، وجدتَها تفتقر إلى أن تُعيرها حُلاها، وتَقصُرُ عن أن تُنازعها مداها وصادفتها نجوماً هي بدرها، ورَوضاً هي زَهْرها، وعرائسَ ما لم تُعِرْها حَلْيها فهي عواطل، وكواعبَ ما لم تُحَسِّنها فليس لها في الحسن حظٌّ كامل، فإنك لترى بها الجمادَ حيّاً ناطقاً، والأعجمَ فصيحاً، والأجسامَ الخُرسَ مُبينةً، والمعاني الخفيّةَ باديةً جليّةً( )" فلقد أولى عبد القاهر الاستعارة اتماما بالغا ، جعل الدكتور محمد الولي يرى أن الاستعارة قد هيمنت على كل كتاب أسرار البلاغة ، ثم راجعها في كتاب دلائل الإعجاز( ) .
ولكون الاستعارة أكثر إثارة لانتباه المتلقي وأكثر قدرة على التأثير فيه بقدر ما تحققه من غرابة وانحراف عن العادي المألوف يقول ابن سينا : واعلم أن الرونق المستفاد بالاستعارة والتبديل سببه الاستغراب والتعجب . وما يتبع ذلك من الهيبة والاستعظام والروعة ، كما يستشعره الإنسان من مشاهدة الناس الغرباء ، فإنه يحتشمهم احتشاما لا يحتشم مثله المعارف،( )" وقد عبر عن هذا المعنى أيضا ريتشاردز فقال: " إن الاستعارة شيء خاص واستثنائي في الاستعمال اللغوي إنّها انحراف عن اللفظ الاعتيادي للاستعمال" ( ) وقد رأى لا يكوف LAKOFF وجونسن Johnson أن الاستعارة تتجاوز من حيث أهميتها تلك الأسلوبية الجمالية إلى وظيفة فهم العالم وفهم أنفسنا . ..فهي تتحكم في سلوكاتنا اليومية البسيطة بكل تفاصيلها ، فتصوراتنا تُبَنْيَن ما ندركه و تُبَنْيَِن أيضا الطريقة التي نتعامل بواسطتها مع العالم ، كما تُبَنْيِنُ كيفية ارتباطنا بالناس. ود درس الباحثان الاستعارة دون أن يستعملا لفظة (حجاج) ولكننا نجد في مؤلفهما فصلا بيَّنا فيه البعد الحجاجي الذي اشتملت عليه استعارات الرئيس الأمريكي السابق ( كرتر) ، "إذ لم تكن الاستعارة فقط وسيلة لإدراك الحقيقة ، بل إنها شكلت مسوغا لتغيير سياسي واقتصادي( ) "
وفي هذا التحليل سنحاول بقدر الإمكان إجراء تحليل لدور الصورة الاستعارية عند غازي عبد الرحمن القصيبي في قصيدة من قصائد ديوانه "حديقة الغروب "
التحليل الفني لدور الاستعارة:
إن علماء النفس قد رأوا أن حدوث التأثير للاستعارة التي تحركنا وتؤججنا بالمشاعر يكمن في تلك الأفكار المضغوطة ، والعواطف الكامنة خلف الاستعارة ...وترجع أهمية الصورة الاستعارية إلى قدرتها على الإيحاء والإيماء ، واعتمادها على التلميح بدل التصريح ، ويعني الإيحاء تلك الطاقة المعنوية المتولدة من الابنية الفنية للصورة الجزئية في إطارها الكلي ..ويستطيع التصوير الاستعاري ، بما يحمل من عناصر إيحائية أن يعطيك الكثير من من المعاني باليسير من اللفظ ، حتى تخرج من الصدفة الواحدة عدة من الدرر، وتجني من الغصن الواحد أنواعا من الثمر( )"
فالإيجاز أحد وظائف الاستعارة وميزاتها الكبرى، لكنه نوع خاص من الإيجاز لا يعتمد على قلة الألفاظ فحسب ، ولكنه في الوقت نفسه يراعي علاقات قوية دقيقة بين أشياء تحتاج في التعبير التقريري إلى غبارات لتفصيلها ، بينما تجمعها الاستعارة في اختصار جميل لتؤدي المعنى ،وتصبح مصدر جمال في ذاتها.
وسوف نحاول أن ندرك دور الاستعارة في بيان مدى حزن الشاعر لفراق أخيه ، حيث اشتملت القصيدة على ما يقاب تسع عشرة استعارة وهي مكونة من اثنين وعشرين بيتا ، وقد دفعني ذلك إلى سؤال :
لماذا آثر الشاعر الأسلوب الاستعاري؟
وهل استطاعت الاستعارة أن تؤدي دورها الدلالي خلال القصيدة ؟
وسأحاول أن أضع الجواب خلال التحليل:
يبدأ الشاعر مخاطبا أخاه خطاب حنو وتحنان مستخدما أسلوب النداء"أخي" الذي حذفت أداته لما فيه من دلالة على القرب والحب والشوق والممزوج بالألم ، ثم تأتي الاستعارة"جرح في الأضالع لا يهدا" التي جعلت الحزن جرحا ثم جعلت هذا الجرح ثائرا مثيرا الألم ،ورغم مرارة الجرح إلا أنه لايفارقه فجرحه هو أخوه الذي فارقه .
ثم تأتي استعارة الليل"والليل يمطرني سهدا" الذي جاء هو الآخر بظلامه ليمطره مطر الحزن والألم ، "لقد اجتمع الكل على قلب الشاعر : فقد أخيه وألم النفس والليل الذي أسقط عليه وابل الألم.
وليت الأمر يقف ند هذا الحد فالشاعر انطلق نحو الذكريات ليجد عندها هروبا من الألم"وأستصرخ الذكريات" لكنها هي الأخرى أخلفت المأمول منها ، فقد آذته بما تحمله من ذكريات أخيه.
وهاهو يكرر النداء وفي تكراره دلالة على الحزن والأسى ، وقد تفرق أصحاب الشاعر وواحدا وراء الآخر حتى أصبح بلا صاحب ، وتأتي الاستعارة هنا لتعبر عن الموقف أدق تعبير "تفرق أصحاب الطريق فلا أرى أمامي سوى اللحد الذي يحضن اللحدا" فاللحد هو من يحضن أخاه حنوا عليه ولكنه في غاية الأمر بالنسبة للشاعر لحد يحمل داخل طياته معاني الحزن والأسى.
ويبدو أن الشاعر أصيب بفقد أصحابه فهو القائل"على كل قبر من دموعي قطرة وقافية تفدي المودع لو يفدى" فدموعه وأشعاره المعبرة عن هذه الحوادث المفجعة كثيرة بحيث إنها لو كان فداء لما تأخرت بل كانت كافية ، ولكن الاستعارة هنا تحمل معنى اليأس من أن يعود الراحلون.
وما أعنف الأسى بقلب هذا الشعر وجسده ، فهو الذي يخفي لواعجه ودموعه عن الناس لكي يظهر أمامهم ثابتا وهو من هدت قواعده"أصون عن الأنظار دمعي وربما...تماسك من هدت قواعده هدا".
ويأتي بعد ذلك النداء باسمه "أعادل " ليظهر ما في قلب الشاعر من نيران الفراق والألم ، ويسأل سؤلا الملهوف المفزوع"أعادل أحقا تركتك في الثرى؟؟؟" وتأتي الاستعارة لتجسد هذا المعنى "وأهديت هذا القبر أنفس ما يهدى" رغم أن الهدية لاتتناسب مع هذا الجو من الحزن والأسى ، ولكن ربما أراد الشاعر أن يبين نفاسة أخيه وعظمة قدره فقط.
وتصور الاستعارة مدى تأثر الشاعر برحيل أخيه ورؤيته السوداء للدنيا ،فهاهو يقول"إلى الله أشكو لا إلى الناس أنني ..أكابد من عيشي العقارب والربدا"فالهموم والمتاعب والصعاب والأحزان عقارب ، ونحن ندرك ما يحمله الذهن من تصور للعقارب من أذى وضرر.
وربما كانت الاستعارة أقدر على التعبير من الشبيه في هذه المواطن ، لما تحمله من طاقة دلالية مضغوطة فهي قائمة على الحذف (حذف أحد طرفي التشبيه) .
ولعلنا نلاحظ أثرها في بيان التأثر والأسى، "جرح في الأضالع لا يهدا" "والليل يمطرني سهدا" "أستصرخ الذكرى" اللحد الذي يحضن اللحدا" أصون عن الأنظار دمعي" "هدت قواعده هدا" "أهديت القبر أنفس ما يهدى" ....
فالاستعارة طريقة من طرق إثبات المعنى ،إيحاءاتها النفسية تتمثل فى شعور المتلقى بشدة الشبه وقوة الرابطة بين طرفيها ،ومن ثم فقد يكون الارتياح قائما فى نفس المتلقى من خلال ذلك التلاحم الشديد.
فالاستعارة هنا هي عماد الصورة بل أستطيع أن أؤكد أن الاستعارة هنا هي الموقف النفسي ، أو الموقف النفسي ظهر في الاستعارة ، فهاهي تحرك العواطف وتجعل القاريء يرى مشهد الفراق وتلقي القبر للفقيد والألم الذي بدا في عيني الرجل ....إلخ.
 
عودة
أعلى