الاخفاء الحقيقي بين الرواية والدراية

صلاح بلعلا

New member
إنضم
18/05/2014
المشاركات
67
مستوى التفاعل
0
النقاط
6
الإقامة
اليمن
الاخفاء الحقيقي بين الرواية والدراية
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن ولاه.
أما بعد:
فإن علم التجويد من العلوم العظيمة التي اهتم بها العلماء قديما وحديثا، وتزداد أهمية هذا العلم كونه من العلوم التي وصلت إلينا عن طريق الرواية والسند المتصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ومع أهمية الرواية في التلقي إلا أننا لا نكتفي بها في إثبات الأحكام وكيفية أداءها، بل لا بد أن تستند هذه الرواية إلى قواعد نظرية منصوص عليها في كتب التجويد المعتبرة، كما قال الإمام مكي بن أبي طالب: "وما نُقِلَ بتلاوةٍ ولم يُؤَيِّدْهُ نصُّ كتابٍ، فالوهْمُ والغَلَطُ مُمْكِنٌ مِمَّن نقَلَهُ، إذ هو بَشَرٌ، وإنَّما تَعَلَّقَ القُرَّاءُ بنصوصِ الكتب؛ لأنَّها عندهم أثبَتُ في الحِفظ، لأنَّ الحِفظَ يَدْخُلُه الوهمُ والشكُّ، فليس روايةٌ يَصْحَبُها النَّقْلُ والنصُّ في الكتبِ من تأليف المتقدِّمين والمتأخِّرين مثلَ روايةٍ لا يَصْحَبُها غير أن يقولَ ناقِلُها: كذلك قرَأتُ، ولا يَدْخُلُ قَولُهُ بنصِّ كتاب" (تمكين المد، ص 48).
وفي هذه المقالة نناقش مسألة من المسائل التجويدية المهمة، وهي جديرة بالمناقشة، ألا وهي مسألة الإخفاء الحقيقي، فإن القراء المتأخرون متفاوتون في أداء هذا الحكم التجويدي، كما أن تعريفهم للأخفاء فيه شيء من الغموض, وهذا الغموض في تعريفه أدى إلى تفاوت في أدائه.
 
أولا: إظهار النون الساكنة:
اشتهر عند علماء التجويد المتأخرون أن الإخفاء: حالة بين الإظهار والادغام، ولا شك أن هذا التعريف لا يخلو من غموض، ولا يمكننا الوصول إلى معرفة حقيقة الاخفاء إلا بعد معرفة حقيقة الإظهار والإدغام.
والإظهار حكم يجب عند اجتماع حرفين تباعدا، وحقيقته البيان لأن الحرف الساكن إذا إلتقى بحرف بعيد منه يسهل فصله عنه ويتحقق بيانه منه بخفة ويسر، ويمكن تلخيص ضوابط الإظهار في النقاط الآتية:
1) سبب الإظهار: التباعد بين مخرج الحرف الأول ومخرج الحرف الثاني.
2) يعمل مخرج الحرف الأول ثم يعمل مخرج الحرف الثاني عند الإظهار بخفة وسهولة دون ثقل وصعوبة.
3) يجب الفصل بين الحرفين، بحيث لا يتأثر الحرف الاول بصفات الحرف الثاني.
4) يجب بيان مخرج الحرف الأول مع بيان صفاته الذاتية والعارضة.
5) حروف الإظهار: الهمزة والهاء والعين والحاء والغين والخاء.
6) مراتب الإظهار ذكرها الإمام الداني فقال: "بيان النون الساكنة والتنوين على ضربين: بتعمد وبغير تعمد. فالتي يتعمد بيانها عندهن ثلاثة: الهمزة والغين والخاء، ألا ترى أنه متى لم يتعمد ذلك عندهن فلم يتكلف انقلبت حركة الهمزة عليها وذهبت هي من اللفظ، وخفيا عند الغين والخاء... والتي لا يتعمد البيان عندهن _ إذ لا بد منه ضرورة _ ثلاثة أيضا: الهاء والعين والحاء" (شرح الخاقانية، 487)، وقد روى الإمام الداني هذه المراتب عن الامام ابن مجاهد، ولا شك أن هذه المراتب ليس لها أثر في الأداء الصوتي، فلا فرق في إظهار النون الساكنة بين (من خير) و (من علم)، والفرق الذي يقصده الإمام الداني هو أن الأولى تحتاج تعمد واهتمام وانتباه، لأن الغفلة عنها قد تؤدي إلى إخفائها، وهي من باب "واحذر لدى واو وفاء ان تختفي"، أما المرتبة الثانية فلا تحتاج إلى تعمد واهتمام وانتباه، لأن إخفاءها غير وارد، وهذا هو أثر القرب والبعد الذي أراده الداني كما بينه أيضا الأمام القرطبي (الموضح، 127).
 
ثانيا: إدغام النون الساكنة:
الإدغام هو حكم يجب عند اجتماع حرفين تقاربا، وحقيقته كما قال الإمام الداني: "دفن الحرف الاول في الثاني، وادخاله فيه ادخالا شديدا، وذلك أن ترتفع لسانك بالحرفين بعد ادغامك الاول في الثاني رفعه واحدة، لا فصل بينهما بوقف ولا بغيره، فيصيران بتداخلهما كحرف واحد لا مهلة بين بعضه وبعضه، ويشتد الحرف، ويلزم اللسان موضعا واحدا" (شرح الخاقانية، 287)، وفي موضع اخر استخدم الأمام الداني مصطلح "ادخال حرف ساكن في حرف متحرك"، وروى الإمام الداني عن ابن مجاهد: "الادغام تقريب الحرف من الحرف اذا قرب مخرجه من مخرجه من اللسان، كراهية ان يعمل اللسان في حرف مرتين فيتقل عليه" (شرح الخاقانية، 287)، وكل المصطلحات التي استخدمها العلماء في الادغام مؤداها واحد مثل: الدفن والادخال والقلب والتقريب والتوصيل، ويمكن تلخيص ضوابط الإدغام في النقاط الآتية:
1) سبب الإدغام: التقارب بين مخرج الحرف الأول ومخرج الحرف الثاني.
2) يبطل العمل بمخرج الحرف الأول وينتقل العمل والاعتماد إلى مخرج الحرف الثاني طلبا للخفة والسهولة، لأن عمل المخرج مرتين مستثقل يشبه مشي المقيد.
3) يجب الاتصال بين الحرفين، بحيث يتأثر الحرف الاول بصفات الحرف الثاني.
4) يزول مخرج الحرف الأول كما تزول صفاته، لأن الحرف الأول ينقلب إلى جنس الحرف الثاني.
5) حروف الإدغام: اشتهر عند علماء التجويد أن حروف الإدغام تجمعها كلمة (يرملون)، لكن هذا يحتاج إلى مناقشة وبيان، وقد فصل الإمام الداني ذلك فقال: "اعلم ان النون والتنوين يدغمان في الراء واللام بغير غنة فيقلبان من جنسهما قلبا صحيحا ويدخلان فيها ادخالا شديدا ويصير مخرجهما من مخرجهما وهذا حقيقة باب الادغام" (شرح الخاقانية، 493)، وقال أيضا: " النون والتنوين عند الواو والياء لا يقلبان من جنس ما بعدهما ولا يدخلان فيهما من اجل ظهور صوتهما ... واذا كان كذلك فليس ذلك بادغام صحيح وانما هو ضرب من الاخفاء" (شرح الخاقانية، 494)، وقال الإما السخاوي: "ما بقية معه الغنة فهو إخفاء" وهو قول جلة أهل الاداء وأكابرهم، ويدخل في هذا النون والميم, وخلاصة ما سبق أن حروف الإدغام المحض: اللام والراء، والبقية ( الإدغام الناقص+ الإقلاب ) فهي ضرب من الاخفاء.
 
ثالثا: إخفاء النون الساكنة:
قال الأمام الداني في المنظومة المنبهة:
وما بقي من أحرف القرآن **** فالنون والتنوين يخفيان
في كلها وذاك ضرب صعب **** أعني بذا الإخفاء وهو لقب
وقال أيضا : وذا لعمري من دقيق العلم **** وصعبه فاهمه يا ذا الفهم
والإخفاء حكم يجب عند اجتماع حرفين لم يتقاربا ولم يتباعدا، وحقيقته كما قال الإمام الداني: "ان يؤتى بهما لا مظهرين ولا مدغمين ، وغنتهما مع ذلك ظاهرة باسرها، لان مخرجهما من الخيشوم خاصة، ولا حظ لهما في اللسان، لانه لما أمكن استعمال الخيشوم وحده فيهما ثم استعمال الفم فيما بعدهما كان اخف من استعمال الفم في اخراجهما، ثم يعاد الى الفم بعدهما، لان ذلك كمشي المقيد اذا رفع رجله من موضع ثم عاد اليه، فلذلك عدلوا عن ذلك" (شرح الخاقانية، 494)، وقال الإمام القرطبي: " ومعنى خفائها ما قدمنها من اتصال النون بمخارج هذه الحروف واستتارها بها وزوالها من طرف اللسان، وخروج الصوت من الانف من غير معالجة بالفم (الموضح، 170)، ويمكن تلخيص ضوابط الإدغام في النقاط الآتية:
1) سبب الإدغام: عدم التقارب وعدم التباعد بين مخرج الحرف الأول ومخرج الحرف الثاني.
2) يبطل العمل بمخرج الحرف الأول وينتقل العمل والاعتماد إلى مخرج الحرف الثاني طلبا للخفة والسهولة، لأن عمل المخرج مرتين مستثقل يشبه مشي المقيد، كما قال الإمام القرطبي: "والإخفاء في طلب الخفة كالإدغام ... وهو معنى قول سيبويه: كان أخف عليهم أن لا يستعملوا ألسنتهم إلا مرة واحدة" (الموضح، 171)، وهذا ما أشار أليه الداني في ما سبق وفي المنظومة المنبهة:
مخرجه من الخياشيم فقط **** ولفظه من داخل الفم سقط
كراهة الإعمال للعضوين **** كالكره للحديث مرتين
والقصد فيه طلب التسهيل **** للفظ عند الحدر والترتيل
وذاك مما يوجب الإدغام **** في كل حرف بدليل قاما
3) يجب الاتصال بين الحرفين، بحيث يتأثر الحرف الاول بصفات الحرف الثاني، فالنون المخفاه تتبع ما بعدها وتتأثر بصفاته وخاصة التفخيم والترقيق وكذلك الشدة والرخاوة، وذلك بسبب الاتصال بينهما، فلو كان بينهما فرجة وفاصل لما تأثرت النون المخفاه بما بعدها.
4) يزول مخرج الحرف الأول وينتقل الاعتماد إلى مخرج الحرف الثاني مع بقاء الغنة ظاهرة في الخياشيم.
5) حروف الإخفاء: هي بقية الحروف باستثناء حروف الاظهار الستة ، وحرفي الإدغام اللام والراء.
6) مراتب الاخفاء: ذكر العلماء ثلاثة مراتب للاخفاء، حروف قريبة من النون وحروف بعيده منها وحروف متوسطة، والذي يظهر أن أثر هذه المراتب نظري وليس أدائي كما سبق بيانه في مراتب الإظهار.
 
رابعا: مقارنة بين الإظهار والإخفاء والإدغام:
الجدول الآتي يعرض بعض جوانب الاتفاق والاختلاف بين الاحكام الثلاثة:
[TABLE="width: 625, align: right"]
[TR]
[TD]الحكم
[/TD]
[TD]السبب
[/TD]
[TD]المخرج
[/TD]
[TD]الصفة
[/TD]
[TD]اعمال المخرجين
[/TD]
[TD]اتصال الحرفين
[/TD]
[TD]الثمرة
[/TD]
[/TR]
[TR]
[TD]الإظهار
[/TD]
[TD]التباعد
[/TD]
[TD]يبقى
[/TD]
[TD]تبقى
[/TD]
[TD]مرتين
[/TD]
[TD]منفصلين
[/TD]
[TD]الخفة (الأصل)
[/TD]
[/TR]
[TR]
[TD]الإخفاء
[/TD]
[TD]التوسط
[/TD]
[TD]يزول
[/TD]
[TD]تبقى
[/TD]
[TD]مرة في الثاني
[/TD]
[TD]متصلين
[/TD]
[TD]الخفة (الفرع)
[/TD]
[/TR]
[TR]
[TD]الإدغام
[/TD]
[TD]التقارب
[/TD]
[TD]يزول
[/TD]
[TD]تزول
[/TD]
[TD]مرة في الثاني
[/TD]
[TD]متصلين
[/TD]
[TD]الخفة (الفرع)
[/TD]
[/TR]
[/TABLE]

يتبين من المقارنة التي يعرضها الجدول السابق ان الأخفاء يتفق مع الإظهار في بقاء الصفة وهي الغنة، ويختلف معه في زوال المخرج، فهو يشبة الإظهار من هذا الجانب، بينما الإخفاء يتفق مع الإدغام في زوال المخرج ويختلف معه في بقاء الصفة، فهو يشبة الإدغام من هذا الجانب، وهذا التفصيل يفسر لنا معنى قولهم: الإخفاء حالة بين الإظهار والإدغام، قال الإمام الداني: "الاخفاء والادغام نوعان مختلفان ... وإن كانا من جهة الاشتقاق كالشيء الواحد، إذ ان الاخفاء الستر والادغام التغطية" (شرح الخاقانية، 290)، وقال في المنظومة المنبهة:
وليس كالإدغام في الحقيقة **** بينهما منزلة دقيقة
وفيما جدول آخر يعرض مخارج الحروف ويحدد قربها وبعدها من النون:
[TABLE="align: right"]
[TR]
[TD="colspan: 3"]الحلق
[/TD]
[TD]
[/TD]
[TD="colspan: 7"]اللسان
[/TD]
[TD]
[/TD]
[TD="colspan: 2"]الشفتان
[/TD]
[/TR]
[TR]
[TD]ء
ه
[/TD]
[TD]ع
ح
[/TD]
[TD]غ
خ
[/TD]
[TD]ق
ك
[/TD]
[TD]ج
ش
(ي)
[/TD]
[TD]ض
[/TD]
[TD]ل
(ن)
ر
[/TD]
[TD]ط
د
ت
[/TD]
[TD]ص
س
ز
[/TD]
[TD]ظ
ذ
ث
[/TD]
[TD]ف
[/TD]
[TD](و)
(ب)
(م)
[/TD]
[/TR]
[TR]
[TD][/TD]
[TD][/TD]
[TD][/TD]
[TD][/TD]
[TD][/TD]
[TD][/TD]
[TD][/TD]
[TD][/TD]
[TD][/TD]
[TD][/TD]
[TD][/TD]
[TD][/TD]
[TD][/TD]
[TD][/TD]
[/TR]
[/TABLE]

يتبين من المقارنة التي يعرضها الجدول السابق: أن قاعدة القرب والبعد من النون متحققه بشكل ظاهر، فحروف الحلق بعيد من النون فوجب الإظهار، وحرفي اللام والراء قريبة من النون بل هي في نفس المخرج على قول فوجب الإدغام، وبقية الحروف واقعة في حالة وسط بين البعد والقرب فلزم الإخفاء.
كما يبين الجدول أن الياء والواو والميم والباء وقعت مع حروف الإخفاء فوجب الإخفاء وليس الإدغام، علما أن هناك حروف أقرب منها إلى النون عند تطبيق قاعدة القرب والبعد من النون، فهي أولى بالإدغام منها.
والخلاصة: أن أحكام النون الساكنة والتنوين ثلاثة: الإظهار عند حروف الحلق الستة، والإدغام المحض عند اللام والراء، والإخفاء وما يلحق به عند البقية.
تمت المقالة بحمد الله
المقالة القادمة بإذن الله: ( زمن غنة الإخفاء الحقيقي بين الرواية والدراية )
 
عودة
أعلى