أبومجاهدالعبيدي1
New member
- إنضم
- 02/04/2003
- المشاركات
- 1,760
- مستوى التفاعل
- 0
- النقاط
- 36
- الإقامة
- السعودية
- الموقع الالكتروني
- www.tafsir.org
[align=justify]الاختيار والترجيح وأثرهما في علم التفسير :
الناظر في أقوال السلف في تفسير القرآن ، والقارئ لكتب التفسير يجد أن الكثير من الآيات تحتمل أكثر من قول . وهذه الأقوال التي ترد في التفسير متفاوتة في القوة ، ومختلفة في المعنى ، كما أنه يوجد فيها أقوال يناقض بعضها بعضاً .
والكتب المصنفة في التفسير مشحونة بالغث والسمين ، وفيها الباطل الواضح والحق المبين ([1]) ، كما أنها مشتملة على أقوال في منزلة متوسطة بين المنزلتين .
والدارس للتفسير يحتاج للتمييز بين هذه الأقوال ، ويحرص على معرفة الصحيح من الضعيف ، والراجح من المرجوح ، كما أنه يبحث عن الأقوى من الأقوال ، والأقرب إلى المراد ليقدمه على غيره . وبهذا تتفاوت منازل أهل العلم بالتفسير ؛ فكما قيل : ليس الفقه أن تعلم الخير من الشر ، وإنما الفقه أن تعلم خير الخيرين ، وشر الشرين . وتلك مرتبة عالية من مراتب العلم ، يوفق الله U لها من شاء من عباده .
ومن هنا كانت الحاجة ماسة للترجيح بين الأقوال ، والاختيار للأقوى منها حتى يقدم على غيره ، ويوضع في منزلته .
فما المراد بكل من الاختيار والترجيح ؟ وما الفرق بينهما ؟ وما أثرهما في التفسير ؟
هذا ما أرجو إيضاحه من خلال الفقرات التالية :
1- تعريف الاختيار والترجيح ، والفرق بينهما :
أولاً : تعريف الاختيار :
الاختيار في اللغة مصدر اختار يختار ، و ( الخاء والياء والراء أصله العطف والميل )([2])، وخار الشيءَ واختاره : انتقاه ، واخْتَرْت فلاناً على فلان : عُدِّيَ بعلى لأَنه في معنى فَضَّلْتُ . والاختيار : الاصطفاء ، وكذلك التَّخَيُّرُ . ([3])
والاختيار كذلك : طلبُ ما هو خيرٌ ، وفعلُه . قال الله U : ﴿ وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾ (الدخان:32) ، أي : قدمناهم على غيرهم ، واصطفيناهم من بينهم . ([4])
قال شيخ الإسلام : ( والاختيار في لغة القرآن يراد به التفضيل ، والانتقاء ، والاصطفاء كما قال تعالى : ﴿ فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى = إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى = وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى ﴾(طه :11-13) ...)([5])
وتعريف الاختيار في الاصطلاح لا يختلف عنه كثيراً في اللغة ؛ وأكثر من يستعمل الاختيار كاصطلاح علمي له مدلوله أئمة القراءات ؛ فالاختيار عندهم يراد به : ( ملازمة إمام معتبر وجهاً أو أكثر من القراءات ؛ فينسب إليه على وجه الشهرة والمداومة ، لا على وجه الاختراع والرأي والاجتهاد .)([6])
ومعلوم أن اختلاف القراء يفترق عن اختلاف غيرهم من أهل العلوم الأخرى ؛ فإن اختلاف القراء يكون بين قراءات كلها حق وصواب .([7])وهذا يدل على أن اختيار أحدهم القراءة لا يعني ردّ أي قراءة ثابتة غيرها .
وأما الاختيار في اصطلاح المفسرين ؛ فلم أرَ من حرره من المتقدمين ، واستعمالُ المفسرين له يدل على أنه بمعنى الترجيح ، حيث يستعملونه في ترجيح قول على آخر ، سواء على وجه التقديم واختيار الأولى أم على وجه تصحيح القول المرجّح ، ورد القول الآخر .
وقد عرّف الدكتور حسين الحربي الاختيار بقوله : ( والمراد بالاختيار في التفسير : الميل إلى أحد الأقوال في تفسير الآية ، مع تصحيح بقية الأقوال .)([8])
وفي هذا التعريف نظر لوجهين :
الأول : أن مجرد الميل إلى أحد الأقوال لا يصلح أن يكون سبباً للاختيار ؛ لأن الاختيار المعتبر لا يكون إلا بعد بذل الجهد ، والنظر في الأقوال التي يتخير منها ، ثم يختار ما يرى أنه الأولى والأقوى . فلا يكون للاختيار قيمة إلا إذا كان مبنياً على التروي والتفكر والنظر ، وليس ناشئاً عن ميل سابق أو هوى غالب .
جاء في تفسير الرازي : ( الاختيار هو أخذُ الخير من أمرين ، والأمران اللذان يقع فيهما الاختيار في الظاهر لا يكون للمختار أولاً ميل إلى أحدهما ، ثم يتفكر ويتروى ، ويأخذ ما يغلبه نظره على الآخر .)([9])
وقال ابن عاشور : ( فالاختيار هو تكلف طلب ما هو خير .)([10])
والوجه الثاني : قوله : ( مع تصحيح بقية الأقوال ) يحصر الاختيار في تفسير الآيات التي صحت جميع أقوالها . ومعلوم أن من الآيات ما يكون في تفسيرها عدة أقوال ، بعضها صحيح مقبول ، وبعضها ضعيف مردود ؛ فهذا القيد لا يناسب هذه الآيات ، ولا يصلح لها .
والأنسب في تعريف الاختيار أن يقال : هو تقديم أحد الأقوال المقبولة في تفسير الآية لسبب معتبر .
ثانياً : تعريف الترجيح :
الترجيح في اللغة مصدر رجّح ، و ( الراء والجيم والحاء أصل واحد ، يدل على رزانة وزيادة . يقال : رجح الشيءُ ، وهو راجح ، إذا رَزَن .)([11])
والترجيح في الاصطلاح : تقوية أحد الدليلين بوجه معتبر .([12])
وعرفه بعضهم : بالتقوية لأحد المتعارضين ، أو تغليب أحد المتقابلين .([13])
وفي اصطلاح الأصوليين : تقوية إحدى الإمارتين على الأخرى . وقيل : الترجيح إظهار الزيادة لأحد المثلين على الآخر . وقيل : بيان اختصاص الدليل بمزيد قوة عن مقابله ليُعمل بالأقوى .([14]) وقيل : تقوية أحد الدليلين المتعارضين .([15])
وأما المفسرون فليس للترجيح عندهم حدّ أو تعريف متفق عليه ، ولم أرَ من ذكر له تعريفاً من المتقدمين . واستعمالهم للترجيح في تفاسيرهم يدل على توسعهم في إطلاقه ، فهو عندهم يشمل كلّ تقديم لقول على آخر ، سواء كان تقديماً يلزم منه ردّ الأقوال الأخرى ، أم كان تقديماً لا يلزم منه ذلك .
وعلى هذه فالترجيح عند المفسرين يفترق عن الترجيح بين القراءات عند القراء ؛ فمن شرط جواز الترجيح بين القراءات المتواترة عند من يجيزه : عدم ردّ القراءة المرجوحة .([16])
وأما الترجيح الذي سرت عليه في هذا البحث فهو : تقوية أحد الأقوال في تفسير الآية لدليل ، أو لتضعيف ورد ما سواه .([17])
ثالثاً : الفرق بين الاختيار والترجيح :
سبق التنبيه على أن عمل المفسرين يدل على عدم تفريقهم بين الاختيار والترجيح ، وقد نهجت بعض الدرسات العلمية المتأخرة منهج التفريق بينهما ؛ لأن كل لفظ له دلالته في اللغة ، كما أنّ ذلك يفيد في التمييز بين الترجيحات الواردة في كتب التفسير ؛ فإنها ليست على مرتبة واحدة .
ومن خلال التعريفين السابقين للاختيار والترجيح ، الّذَيْن اعتمدتهما في هذه الدراسة يتضح أن بينهما فرقاً من وجهين :
أحدهما : أن الترجيح تقوية لأحد الأقوال ؛ ليُعلم الأقوى ؛ فيُعمل به ، ويُطرح الآخر . بخلاف الاختيار ؛ فإنه ميل إلى المختار ، وليس فيه طرح للأقوال الأخرى .
ومما يؤيد هذا التفريق ما ذكره الأصوليون في مسائل الترجيح ؛ فقد نص بعضهم على أنه إذا تحقق الترجيح وجب العمل بالراجح وإهمال الآخر .([18])
كما يؤيده أيضاً ما اتفق عليه الأصوليون من كون الجمع بين الدليلين أولى من الترجيح ؛ لأن في الترجيح إسقاطاً لأحدهما .([19])
والثاني : أن الترجيح يكون بين الأقوال المقبولة وغير المقبولة ، والصحيحة والضعيفة . وأما الاختيار فلا يكون إلا بين الأقوال المقبولة في تفسير الآية .
ويُبنى على هذا أن الاختلاف بين الأقوال في الترجيح يكون في الغالب من اختلاف التضاد ، بخلاف الاختيار ؛ فإن الاختلاف بين الأقوال فيه إنما يكون من اختلاف التنوع .
2- أثر الاختيارات والترجيحات في علم التفسير :
لدراسة الاختيارات والترجيحات ، ومعرفة الأقوال الراجحة والمختارة في تفسير الآيات أهمية في التفسير من وجوه :
الوجه الأول : أن تحقيق أقوال المفسرين ، والتمييز بينها ، ومعرفة مراتبها من مقاصد علم التفسير . وقد نص على ذلك بعض المفسرين ، ومنهم ابن جزي الكلبي ؛ فقد ذكر في مقدمة تفسيره أن من مقاصد تصنيفه : تحقيق أقوال المفسرين السقيم منها والصحيح ، وتمييز الراجح من المرجوح . قال مبيناً وجه هذه المقصد : ( وذلك أن أقوال الناس على مراتب ، فمنها الصحيح الذي يعول عليه ، ومنها الباطل الذي لا يلتفت إليه ، ومنها ما يحتمل الصحة والفساد ، ثم إن هذا الاحتمال قد يكون متساوياً أو متفاوتاً ، والتفاوت قد يكون قليلاً أو كثيراً ..) ([20])
وهذا الذي ذكره ابن جزي لا يتحقق ، ولا يعلم إلا بدراسة مواضع الخلاف وتحقيق مراتب الأقوال ، وبيان منزلتها . وهذا هو المقصود الأهم من دراسة الاختيارات والترجيحات .
الوجه الثاني : أن دراسة الاختيارات والترجيحات ، وبيان الراجح من الأقوال والروايات يعدّ أحسن طرق حكاية الخلاف . قال الإمام ابن تيمية تعليقاً على قول الله تعالى : ﴿ سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً ﴾ (الكهف:22) ، بعد أن بيّن أنها اشتملت على الأدب في هذا المقام – مقام حكاية الخلاف - : ( فهذا أحسن ما يكون في حكاية الخلاف : أن يستوعب الأقوال في ذلك المقام ، وأن ينبه على الصحيح منها ، ويبطل الباطل ، ويذكر فائدة الخلاف وثمرته لئلا يطول النزاع والخلاف فيما لا فائدة تحته ، فيشتغل به عن الأهم .
فأما من حكى خلافاً في مسألة ، ولم يستوعب أقوال الناس فيها ، فهو ناقص ؛ إذ قد يكون الصواب في الذي تركه . أو يحكي الخلاف ويطلقه ، ولا ينبه على الصحيح من الأقوال ؛ فهو ناقص أيضاً . فإن صحح غير الصحيح عامداً فقد تعمد الكذب ، أو جاهلاً فقد أخطأ .
وكذلك من نصب الخلاف فيما لا فائدة تحته ، أو حكى أقوالاً متعددة لفظاً ويرجع حاصلها إلى قول أو قولين معنى ؛ فقد ضيع الزمان ، وتكثّر بما ليس بصحيح ، فهو كلابس ثوبي زور([21]) . والله الموفق للصواب .)([22])
الوجه الثالث : دراسة مواضع الخلاف في التفسير ، وبيان الصحيح من الأقوال وتحديد الراجح منها هو السبيل الأمثل لتنقية كتب التفسير من رديء الأقاويل ، وضعيف الروايات ، وشواذ المسائل . وهذه التنقية من أهم ما ينبغي أن يعتني به أهل العلم المتخصصون ؛ حتى يقوموا بواجب النصح للمسلمين ، بتعليمهم معاني كلام الله تعالى على الوجه الأكمل .
كما أن اختيار القول الأقوى معنى ، والأفصح لفظاً ، والأكثر دلالة على المقصود من الأقوال المقبولة في تفسير الآيات يفيد في حمل كلام الله عز وجل على أكمل الوجوه .
ومما للاختيار أهمية كبيرة فيه : تصنيف التفاسير المختصرة التي تدعو الحاجة والمصلحة إلى الاقتصار فيها على قول واحد ؛ فلا شك أن معرفة مراتب الأقوال تفيد في هذا الباب كثيراً ؛ لأنها تعين المصنف على اختيار أفضل الأقوال في تفسيره .
الوجه الرابع : من الفوائد المهمة لدراسة الاختيارات والترجيحات في التفسير أنها تُكسب الباحث خبرة بكتب التفسير ، وتعطيه تصوراً صحيحاً عنها ؛ فيتعرف بذلك على قيمة كل كتاب ، وميزات كل تفسير . كما أن ذلك يفيد في معرفة مراتب المفسرين من حيث مكانتهم في التفسير ، وقيمة ترجيحاتهم واختياراتهم .
الحواشي السفلية --------------------------------------------------------------------------------
([1] ) انظر مقدمة في أصول التفسير للإمام ابن تيمية ص25 .
([2] ) معجم مقاييس اللغة لابن فارس 2/232 .
([3] ) انظر لسان العرب لابن منظور ، مادة » خير « .
([4] ) انظر مفردات ألفاظ القرآن للراغب الأصفهاني ص301 ، وعمدة الحفاظ للسمين الحلبي 1/630 .
([5] ) جامع الرسائل 1/137 .
([6] ) معجم الاصطلاحات في علمي التجويد والقراءات للدكتور إبراهيم بن سعيد الدوسري ص21 .
([7] ) انظر النشر في القراءات العشر لابن الجزري 1/52 .
([8] ) رسالة : ترجيحات الإمام ابن جرير في التفسير للدكتور حسين الحربي ص66
([9] ) التفسير الكبير 19/134 .
([10] ) التحرير والتنوير 16/198 .
([11] ) معجم مقاييس اللغة لابن فارس 2/489 .
([12] ) انظر كتاب التعاريف للمناوي 1/170 .
([13] ) المصدر السابق 1/170 .
([14] ) انظر البحر المحيط للزركشي 8/145 .
([15] ) انظر مذكرة أصول الفقه للشنقيطي ص538 .
([16] ) انظر معجم مصطلحات علمي التجويد والقراءات للدكتور إبراهيم بن سعيد الدوسري ص40-41 .
([17] ) ذكره الدكتور حسين الحربي في كتابه قواعد الترجيح عند المفسرين 1/35 بلفظ : ( تقوية أحد الأقوال في تفسير الآية لدليل أو قاعدة تقويه ، أو لتضعيف أو ردّ ما سواه ) .
([18] ) انظر تقرير ذلك في البحر المحيط للزركشي 8 /145 .
([19] ) انظر الجامع لأحكام القرآن 10/305 .
([20] ) انظر التسهيل لعلوم التنزيل 1/5 .
([21] ) ثبت في صحيح البخاري في كتاب النكاح ، باب : المتشبع بما لم ينل ... عن أسماء أن امرأة قالت : يارسول الله ، إن لي ضرةً ، فهل عليّ جناح إن تشبعت من زوجي غير الذي يعطيني ؟ فقال رسول الله r : » المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور « رقم 5219 . وأخرجه مسلم أيضاً في كتاب اللباس والزينة ، رقم 2129 عن عائشة ، ورقم 2130 عن أسماء .
([22] ) مقدمة في أصول التفسير لابن تيمية ص89-90 .[/align]
الناظر في أقوال السلف في تفسير القرآن ، والقارئ لكتب التفسير يجد أن الكثير من الآيات تحتمل أكثر من قول . وهذه الأقوال التي ترد في التفسير متفاوتة في القوة ، ومختلفة في المعنى ، كما أنه يوجد فيها أقوال يناقض بعضها بعضاً .
والكتب المصنفة في التفسير مشحونة بالغث والسمين ، وفيها الباطل الواضح والحق المبين ([1]) ، كما أنها مشتملة على أقوال في منزلة متوسطة بين المنزلتين .
والدارس للتفسير يحتاج للتمييز بين هذه الأقوال ، ويحرص على معرفة الصحيح من الضعيف ، والراجح من المرجوح ، كما أنه يبحث عن الأقوى من الأقوال ، والأقرب إلى المراد ليقدمه على غيره . وبهذا تتفاوت منازل أهل العلم بالتفسير ؛ فكما قيل : ليس الفقه أن تعلم الخير من الشر ، وإنما الفقه أن تعلم خير الخيرين ، وشر الشرين . وتلك مرتبة عالية من مراتب العلم ، يوفق الله U لها من شاء من عباده .
ومن هنا كانت الحاجة ماسة للترجيح بين الأقوال ، والاختيار للأقوى منها حتى يقدم على غيره ، ويوضع في منزلته .
فما المراد بكل من الاختيار والترجيح ؟ وما الفرق بينهما ؟ وما أثرهما في التفسير ؟
هذا ما أرجو إيضاحه من خلال الفقرات التالية :
1- تعريف الاختيار والترجيح ، والفرق بينهما :
أولاً : تعريف الاختيار :
الاختيار في اللغة مصدر اختار يختار ، و ( الخاء والياء والراء أصله العطف والميل )([2])، وخار الشيءَ واختاره : انتقاه ، واخْتَرْت فلاناً على فلان : عُدِّيَ بعلى لأَنه في معنى فَضَّلْتُ . والاختيار : الاصطفاء ، وكذلك التَّخَيُّرُ . ([3])
والاختيار كذلك : طلبُ ما هو خيرٌ ، وفعلُه . قال الله U : ﴿ وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾ (الدخان:32) ، أي : قدمناهم على غيرهم ، واصطفيناهم من بينهم . ([4])
قال شيخ الإسلام : ( والاختيار في لغة القرآن يراد به التفضيل ، والانتقاء ، والاصطفاء كما قال تعالى : ﴿ فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى = إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى = وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى ﴾(طه :11-13) ...)([5])
وتعريف الاختيار في الاصطلاح لا يختلف عنه كثيراً في اللغة ؛ وأكثر من يستعمل الاختيار كاصطلاح علمي له مدلوله أئمة القراءات ؛ فالاختيار عندهم يراد به : ( ملازمة إمام معتبر وجهاً أو أكثر من القراءات ؛ فينسب إليه على وجه الشهرة والمداومة ، لا على وجه الاختراع والرأي والاجتهاد .)([6])
ومعلوم أن اختلاف القراء يفترق عن اختلاف غيرهم من أهل العلوم الأخرى ؛ فإن اختلاف القراء يكون بين قراءات كلها حق وصواب .([7])وهذا يدل على أن اختيار أحدهم القراءة لا يعني ردّ أي قراءة ثابتة غيرها .
وأما الاختيار في اصطلاح المفسرين ؛ فلم أرَ من حرره من المتقدمين ، واستعمالُ المفسرين له يدل على أنه بمعنى الترجيح ، حيث يستعملونه في ترجيح قول على آخر ، سواء على وجه التقديم واختيار الأولى أم على وجه تصحيح القول المرجّح ، ورد القول الآخر .
وقد عرّف الدكتور حسين الحربي الاختيار بقوله : ( والمراد بالاختيار في التفسير : الميل إلى أحد الأقوال في تفسير الآية ، مع تصحيح بقية الأقوال .)([8])
وفي هذا التعريف نظر لوجهين :
الأول : أن مجرد الميل إلى أحد الأقوال لا يصلح أن يكون سبباً للاختيار ؛ لأن الاختيار المعتبر لا يكون إلا بعد بذل الجهد ، والنظر في الأقوال التي يتخير منها ، ثم يختار ما يرى أنه الأولى والأقوى . فلا يكون للاختيار قيمة إلا إذا كان مبنياً على التروي والتفكر والنظر ، وليس ناشئاً عن ميل سابق أو هوى غالب .
جاء في تفسير الرازي : ( الاختيار هو أخذُ الخير من أمرين ، والأمران اللذان يقع فيهما الاختيار في الظاهر لا يكون للمختار أولاً ميل إلى أحدهما ، ثم يتفكر ويتروى ، ويأخذ ما يغلبه نظره على الآخر .)([9])
وقال ابن عاشور : ( فالاختيار هو تكلف طلب ما هو خير .)([10])
والوجه الثاني : قوله : ( مع تصحيح بقية الأقوال ) يحصر الاختيار في تفسير الآيات التي صحت جميع أقوالها . ومعلوم أن من الآيات ما يكون في تفسيرها عدة أقوال ، بعضها صحيح مقبول ، وبعضها ضعيف مردود ؛ فهذا القيد لا يناسب هذه الآيات ، ولا يصلح لها .
والأنسب في تعريف الاختيار أن يقال : هو تقديم أحد الأقوال المقبولة في تفسير الآية لسبب معتبر .
ثانياً : تعريف الترجيح :
الترجيح في اللغة مصدر رجّح ، و ( الراء والجيم والحاء أصل واحد ، يدل على رزانة وزيادة . يقال : رجح الشيءُ ، وهو راجح ، إذا رَزَن .)([11])
والترجيح في الاصطلاح : تقوية أحد الدليلين بوجه معتبر .([12])
وعرفه بعضهم : بالتقوية لأحد المتعارضين ، أو تغليب أحد المتقابلين .([13])
وفي اصطلاح الأصوليين : تقوية إحدى الإمارتين على الأخرى . وقيل : الترجيح إظهار الزيادة لأحد المثلين على الآخر . وقيل : بيان اختصاص الدليل بمزيد قوة عن مقابله ليُعمل بالأقوى .([14]) وقيل : تقوية أحد الدليلين المتعارضين .([15])
وأما المفسرون فليس للترجيح عندهم حدّ أو تعريف متفق عليه ، ولم أرَ من ذكر له تعريفاً من المتقدمين . واستعمالهم للترجيح في تفاسيرهم يدل على توسعهم في إطلاقه ، فهو عندهم يشمل كلّ تقديم لقول على آخر ، سواء كان تقديماً يلزم منه ردّ الأقوال الأخرى ، أم كان تقديماً لا يلزم منه ذلك .
وعلى هذه فالترجيح عند المفسرين يفترق عن الترجيح بين القراءات عند القراء ؛ فمن شرط جواز الترجيح بين القراءات المتواترة عند من يجيزه : عدم ردّ القراءة المرجوحة .([16])
وأما الترجيح الذي سرت عليه في هذا البحث فهو : تقوية أحد الأقوال في تفسير الآية لدليل ، أو لتضعيف ورد ما سواه .([17])
ثالثاً : الفرق بين الاختيار والترجيح :
سبق التنبيه على أن عمل المفسرين يدل على عدم تفريقهم بين الاختيار والترجيح ، وقد نهجت بعض الدرسات العلمية المتأخرة منهج التفريق بينهما ؛ لأن كل لفظ له دلالته في اللغة ، كما أنّ ذلك يفيد في التمييز بين الترجيحات الواردة في كتب التفسير ؛ فإنها ليست على مرتبة واحدة .
ومن خلال التعريفين السابقين للاختيار والترجيح ، الّذَيْن اعتمدتهما في هذه الدراسة يتضح أن بينهما فرقاً من وجهين :
أحدهما : أن الترجيح تقوية لأحد الأقوال ؛ ليُعلم الأقوى ؛ فيُعمل به ، ويُطرح الآخر . بخلاف الاختيار ؛ فإنه ميل إلى المختار ، وليس فيه طرح للأقوال الأخرى .
ومما يؤيد هذا التفريق ما ذكره الأصوليون في مسائل الترجيح ؛ فقد نص بعضهم على أنه إذا تحقق الترجيح وجب العمل بالراجح وإهمال الآخر .([18])
كما يؤيده أيضاً ما اتفق عليه الأصوليون من كون الجمع بين الدليلين أولى من الترجيح ؛ لأن في الترجيح إسقاطاً لأحدهما .([19])
والثاني : أن الترجيح يكون بين الأقوال المقبولة وغير المقبولة ، والصحيحة والضعيفة . وأما الاختيار فلا يكون إلا بين الأقوال المقبولة في تفسير الآية .
ويُبنى على هذا أن الاختلاف بين الأقوال في الترجيح يكون في الغالب من اختلاف التضاد ، بخلاف الاختيار ؛ فإن الاختلاف بين الأقوال فيه إنما يكون من اختلاف التنوع .
2- أثر الاختيارات والترجيحات في علم التفسير :
لدراسة الاختيارات والترجيحات ، ومعرفة الأقوال الراجحة والمختارة في تفسير الآيات أهمية في التفسير من وجوه :
الوجه الأول : أن تحقيق أقوال المفسرين ، والتمييز بينها ، ومعرفة مراتبها من مقاصد علم التفسير . وقد نص على ذلك بعض المفسرين ، ومنهم ابن جزي الكلبي ؛ فقد ذكر في مقدمة تفسيره أن من مقاصد تصنيفه : تحقيق أقوال المفسرين السقيم منها والصحيح ، وتمييز الراجح من المرجوح . قال مبيناً وجه هذه المقصد : ( وذلك أن أقوال الناس على مراتب ، فمنها الصحيح الذي يعول عليه ، ومنها الباطل الذي لا يلتفت إليه ، ومنها ما يحتمل الصحة والفساد ، ثم إن هذا الاحتمال قد يكون متساوياً أو متفاوتاً ، والتفاوت قد يكون قليلاً أو كثيراً ..) ([20])
وهذا الذي ذكره ابن جزي لا يتحقق ، ولا يعلم إلا بدراسة مواضع الخلاف وتحقيق مراتب الأقوال ، وبيان منزلتها . وهذا هو المقصود الأهم من دراسة الاختيارات والترجيحات .
الوجه الثاني : أن دراسة الاختيارات والترجيحات ، وبيان الراجح من الأقوال والروايات يعدّ أحسن طرق حكاية الخلاف . قال الإمام ابن تيمية تعليقاً على قول الله تعالى : ﴿ سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً ﴾ (الكهف:22) ، بعد أن بيّن أنها اشتملت على الأدب في هذا المقام – مقام حكاية الخلاف - : ( فهذا أحسن ما يكون في حكاية الخلاف : أن يستوعب الأقوال في ذلك المقام ، وأن ينبه على الصحيح منها ، ويبطل الباطل ، ويذكر فائدة الخلاف وثمرته لئلا يطول النزاع والخلاف فيما لا فائدة تحته ، فيشتغل به عن الأهم .
فأما من حكى خلافاً في مسألة ، ولم يستوعب أقوال الناس فيها ، فهو ناقص ؛ إذ قد يكون الصواب في الذي تركه . أو يحكي الخلاف ويطلقه ، ولا ينبه على الصحيح من الأقوال ؛ فهو ناقص أيضاً . فإن صحح غير الصحيح عامداً فقد تعمد الكذب ، أو جاهلاً فقد أخطأ .
وكذلك من نصب الخلاف فيما لا فائدة تحته ، أو حكى أقوالاً متعددة لفظاً ويرجع حاصلها إلى قول أو قولين معنى ؛ فقد ضيع الزمان ، وتكثّر بما ليس بصحيح ، فهو كلابس ثوبي زور([21]) . والله الموفق للصواب .)([22])
الوجه الثالث : دراسة مواضع الخلاف في التفسير ، وبيان الصحيح من الأقوال وتحديد الراجح منها هو السبيل الأمثل لتنقية كتب التفسير من رديء الأقاويل ، وضعيف الروايات ، وشواذ المسائل . وهذه التنقية من أهم ما ينبغي أن يعتني به أهل العلم المتخصصون ؛ حتى يقوموا بواجب النصح للمسلمين ، بتعليمهم معاني كلام الله تعالى على الوجه الأكمل .
كما أن اختيار القول الأقوى معنى ، والأفصح لفظاً ، والأكثر دلالة على المقصود من الأقوال المقبولة في تفسير الآيات يفيد في حمل كلام الله عز وجل على أكمل الوجوه .
ومما للاختيار أهمية كبيرة فيه : تصنيف التفاسير المختصرة التي تدعو الحاجة والمصلحة إلى الاقتصار فيها على قول واحد ؛ فلا شك أن معرفة مراتب الأقوال تفيد في هذا الباب كثيراً ؛ لأنها تعين المصنف على اختيار أفضل الأقوال في تفسيره .
الوجه الرابع : من الفوائد المهمة لدراسة الاختيارات والترجيحات في التفسير أنها تُكسب الباحث خبرة بكتب التفسير ، وتعطيه تصوراً صحيحاً عنها ؛ فيتعرف بذلك على قيمة كل كتاب ، وميزات كل تفسير . كما أن ذلك يفيد في معرفة مراتب المفسرين من حيث مكانتهم في التفسير ، وقيمة ترجيحاتهم واختياراتهم .
الحواشي السفلية --------------------------------------------------------------------------------
([1] ) انظر مقدمة في أصول التفسير للإمام ابن تيمية ص25 .
([2] ) معجم مقاييس اللغة لابن فارس 2/232 .
([3] ) انظر لسان العرب لابن منظور ، مادة » خير « .
([4] ) انظر مفردات ألفاظ القرآن للراغب الأصفهاني ص301 ، وعمدة الحفاظ للسمين الحلبي 1/630 .
([5] ) جامع الرسائل 1/137 .
([6] ) معجم الاصطلاحات في علمي التجويد والقراءات للدكتور إبراهيم بن سعيد الدوسري ص21 .
([7] ) انظر النشر في القراءات العشر لابن الجزري 1/52 .
([8] ) رسالة : ترجيحات الإمام ابن جرير في التفسير للدكتور حسين الحربي ص66
([9] ) التفسير الكبير 19/134 .
([10] ) التحرير والتنوير 16/198 .
([11] ) معجم مقاييس اللغة لابن فارس 2/489 .
([12] ) انظر كتاب التعاريف للمناوي 1/170 .
([13] ) المصدر السابق 1/170 .
([14] ) انظر البحر المحيط للزركشي 8/145 .
([15] ) انظر مذكرة أصول الفقه للشنقيطي ص538 .
([16] ) انظر معجم مصطلحات علمي التجويد والقراءات للدكتور إبراهيم بن سعيد الدوسري ص40-41 .
([17] ) ذكره الدكتور حسين الحربي في كتابه قواعد الترجيح عند المفسرين 1/35 بلفظ : ( تقوية أحد الأقوال في تفسير الآية لدليل أو قاعدة تقويه ، أو لتضعيف أو ردّ ما سواه ) .
([18] ) انظر تقرير ذلك في البحر المحيط للزركشي 8 /145 .
([19] ) انظر الجامع لأحكام القرآن 10/305 .
([20] ) انظر التسهيل لعلوم التنزيل 1/5 .
([21] ) ثبت في صحيح البخاري في كتاب النكاح ، باب : المتشبع بما لم ينل ... عن أسماء أن امرأة قالت : يارسول الله ، إن لي ضرةً ، فهل عليّ جناح إن تشبعت من زوجي غير الذي يعطيني ؟ فقال رسول الله r : » المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور « رقم 5219 . وأخرجه مسلم أيضاً في كتاب اللباس والزينة ، رقم 2129 عن عائشة ، ورقم 2130 عن أسماء .
([22] ) مقدمة في أصول التفسير لابن تيمية ص89-90 .[/align]