الإنصاف في أحكام الاعتكاف

إنضم
11/01/2012
المشاركات
3,868
مستوى التفاعل
11
النقاط
38
العمر
67
الإقامة
الدوحة - قطر
الإنصاف في أحكام الاعتكاف

في الصحيحين عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ النَّبِيَّ e كَانَ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ U، ثُمَّ اعْتَكَفَ أَزْوَاجُهُ مِنْ بَعْدِهِ ([1]). وفيهما عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ e كَانَ يَعْتَكِفُ فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ ([2]). قال ابن رجب – رحمه الله: وإنما كان النبي e يعتكف في هذه العشر التي يطلب فيها ليلة القدر، قطعا لأشغاله وتفريغا لباله وتخليا لمناجاة ربه وذكره ودعائه ( [3] ) .
معنى الاعتكاف

لغـة : لزوم الشيء وحبس النفس عليه، برًا كان أو إثما، ومنه قوله تعالى: ] فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ [ ( الأعراف : 138 ) ، وقوله : ] مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ [ (الأنبياء: 52) ، أي : التي أقمتم ودمتم على عبادتها .
ومعناه شرعًا : لزوم المسجد من شخص مخصوص على صفة مخصوصة ، للاجتهاد في طاعة الله تعالى.
حقيقة الاعتكاف

قال ابن رجب - رحمه الله : حقيقة الاعتكاف قطع العلائق عن الخلائق للاتصال بخدمة الخالق ، وكلما قويت المعرفة بالله والمحبة له والأنس به ، أورثت صاحبها الانقطاع إلى الله بالكلية ؛ وقد كان بعضهم يعتزل في بيته خاليًا بربه ، فقيل له : أما تستوحش ؟ قال : كيف أستوحش وهو يقول : " أنا جليس من ذكرني ؟ " ( [4] ) .
حكمة تشريع الاعتكاف

قال الإمام ابن القيم - رحمه الله : لما كان صلاح القلب واستقامته على طريق سيره إلى الله تعالى ، متوقفاً على جمعيته على الله ، ولم شعه بإقباله بالكلية على الله تعالى، فإن شعث القلب لا يلمه إلا الإقبال على الله تعالى ، وكان فضول الطعام والشراب ، وفضول مخالطة الأنام ، وفضول الكلام ، وفضول المنام ، مما يزيده شعثًا ، ويشتته في كل وادٍ ، ويقطعه عن سيره إلى الله تعالى ، أو يضعفه ؛ اقتضت رحمة العزيز الرحيم بعباده أن شرع لهم من الصوم ما يذهب فضول الطعام والشراب ، ويستفرغ من القلب أخلاط الشهوات المعوقة عن سيره إلى الله تعالى ، وشرع لهم الاعتكاف الذي مقصوده وروحه عكوف القلب على الله تعالى، والخلوة به والانقطاع عن الاشتغال بالخلق والاشتغال به وحده، بحيث يصير ذكره وحبه والإقبال عليه في محل هموم القلب وخطراته فيستولى عليه بدلها([5]) .
حكم الاعتكاف

الاعتكاف قربة مندوبة ، ويتأكد في رمضان ، وآكده في العشر الأخيرة منه ؛ ولا يجب إلا بالنذر .
ودليله قول الله تعالى : ) أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ( (البقرة: 125) . وقال تعالى: ] وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ [ (البقرة: 187) ؛ وروى البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ e قَالَ : كَانَ النَّبِيُّ e يَعْتَكِفُ فِي كُلِّ رَمَضَانٍ عَشْرَةَ أَيَّامٍ ، فَلَمَّا كَانَ الْعَامُ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ اعْتَكَفَ عِشْرِينَ يَوْمًا ([6]) .
وأجمع العلماء على مشروعيته، وأنه مستحب وليس بواجب .
وأما وجوبه بالنذر فلما أخرجه البخاري وأهل السنن عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عَنْ النَّبِيِّ e قَالَ : " مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَهُ فَلَا يَعْصِهِ " ([7]) .
وفي الصحيحين عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رضي الله عنهما - أَنَّ عُمَرَ قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي نَذَرْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ أَعْتَكِفَ لَيْلَةً فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، قَالَ: " أَوْفِ بِنَذْرِكَ " ( [8] ) .
شروط الاعتكاف

للاعتكاف شروط لصحته وهي ستة : الإسلام ، والعقل ، والتمييز ، والنية ، والمسجد ، والطهارة من الجنابة والحيض والنفاس .
واختلف في اشتراط الصيام وتحديد المدة للمعتكف ، والراجح عدم اشتراطهما ، أما الأول لحديث عمر المتقدم أنه نذر أن يعتكف ليلة ، فأمره النبي e أن يوف بنذره ، ومعلوم أن الليلة لا صيام فيها. وأما الثاني فلأنه لم يأت به دليل ، والشرط لا يثبت إلا بدليل ، فلو قصد المسجد ونوى الاعتكاف مدة لبثه فيه لصح اعتكافه ، والعلم عند الله تعالى .
ما يستحب للمعتكف

1- الاشتغال بالطاعات كالصلاة وتلاوة القرآن والذكر والدعاء .
2- اجتناب ما لا يعنيه من الأقوال ، فيجتنب الجدال والمراء والسباب ونحو ذلك.
3- أن يلزم مكانًا من المسجد ، لما ثبت في صحيح مسلم : قَالَ نَافِعٌ : وَقَدْ أَرَانِي عَبْدُ اللهِ t الْمَكَانَ الَّذِي كَانَ يَعْتَكِفُ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ e مِنَ الْمَسْجِدِ ([9]) .
وعن عَائِشَةَ - رَضِي اللَّهم عَنْهَا – قَالَتْ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ e إِذَا أَرَادَ أَنْ يَعْتَكِفَ صَلَّى الْفَجْرَ ثُمَّ دَخَلَ مُعْتَكَفَهُ ، وَإِنَّهُ أَمَرَ بِخِبَائِهِ فَضُرِبَ ، أَرَادَ الِاعْتِكَافَ فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ ([10]) . ولا يضرب الخباء إلا إذا كان يلتزم مكانه ، وحتى لا يقطع عليه أحد خلوته .
ما يباح للمعتكف

1- الخروج لحاجته التي لابد منه ا؛ وقد خرج النبي e من معتكفه لتوديع أهله أم المؤمنين صفية . وفي الصحيحين أَنَّ عَائِشَةَ - رَضِي اللَّهم عَنْهَا - قَالَتْ: وَإِنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ e لَيُدْخِلُ عَلَيَّ رَأْسَهُ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ فَأُرَجِّلُهُ ، وَكَانَ لَا يَدْخُلُ الْبَيْتَ إِلَّا لِحَاجَةٍ إِذَا كَانَ مُعْتَكِفًا ([11]) .
وكذا يخرج المعتكف لإتيانه بطعام وشراب لعدم من يأتيه بهما ، ولقضاء حاجته ، ولغسل واجب ، ونحو ذلك .
2- وله أن يأكل ويشرب في المسجد ، وينام فيه ، مع المحافظة على نظافته وصيانته .
3- الكلام المباح لحاجته أو محادثة غيره .
4- ترجيل شعره ، وتقليم أظفاره ، وتنظيف بدنه ، ولبس أحسن الثياب ، والتطيب بالطيب ، وفي الصحيحين عَنْ عَائِشَةَ - رَضِي اللَّهم عَنْهَا - قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ e يُبَاشِرُنِي وَأَنَا حَائِضٌ ، وَكَانَ يُخْرِجُ رَأْسَهُ مِنَ الْمَسْجِدِ وَهُوَ مُعْتَكِفٌ ، فَأَغْسِلُهُ وَأَنَا حَائِضٌ ( [12] ) . وفي الرواية المتقدمة : فَأُرَجِّلُهُ .
ما يكره للمعتكف

يكره للمعتكف البيع والشراء ، والانشغال بما لا يعنيه ، الصمت عن الكلام مطلقًا إن اعتقده عبادة. والآخران مكروهان له ولغيره ، غير أنهما أولى للمعتكف .
مبطلات الاعتكاف

ويبطل الاعتكاف بأمور ، وهي :
1- الخروج من المسجد لغير حاجة عمدًا ولو قل ، لأنه يفوت المكث فيه ؛ وهو شرط كما تقدم .
2- الجماع ، لقوله تعالى : ]وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ[ (البقرة : 187) .
3- ذهاب العقل بجنون أو سكر ، لفوات شرط التمييز .
4- الحيض والنفاس بالنسبة للمرأة ، لفوات شرط الطهارة.
5- الردة ، لقول الله تعالى : ] لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [ (الزمر:65).
وقت دخول المعتكف والخروج منه

متى دخل المعتكف المسجد ، ونوى التقرب إلى الله بالمكث فيه ، صار معتكفًا حتى يخرج ؛ فإن نوى اعتكاف ليلة دخل المسجد قبل غروب الشمس ، وخرج بعد الفجر ، لأن الليل يبدأ بغروب الشمس ؛ وإن نوى اعتكاف يوم ( نهار ) فإنه يدخل معتكفه قبل الفجر ، ويتأخر حتى تغرب شمسه ؛ فإن نوى اعتكاف العشر الأواخر من رمضان ، فإنه يدخل معتكفه قبل غروب الشمس يوم العشرين من رمضان ، ويخرج بعد غروب شمس آخر يوم من الشهر ، أي : بعد رؤية هلال شهر شوال ، أو غروب شمس الثلاثين منه .
مسألة : من شرع في الاعتكاف متطوعًا ، ثم قطعه ، استحب له قضاؤه ، لما رواه الشيخان عَنْ عَائِشَةَ - رَضِي الله عَنْهَا - قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ e إِذَا أَرَادَ أَنْ يَعْتَكِفَ صَلَّى الْفَجْرَ ثُمَّ دَخَلَ مُعْتَكَفَهُ ، وَإِنَّهُ أَمَرَ بِخِبَائِهِ فَضُرِبَ - أَرَادَ الِاعْتِكَافَ فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ ، فَأَمَرَتْ زَيْنَبُ بِخِبَائِهَا فَضُرِبَ ، وَأَمَرَ غَيْرُهَا مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ e بِخِبَائِهِ فَضُرِبَ ، فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ e الْفَجْرَ نَظَرَ فَإِذَا الأَخْبِيَةُ ، فَقَالَ : " آلْبِرَّ تُرِدْنَ ؟ " ، فَأَمَرَ بِخِبَائِهِ فَقُوِّضَ ، وَتَرَكَ الاعْتِكَافَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ حَتَّى اعْتَكَفَ فِي الْعَشْرِ الأَوَّلِ مِنْ شَوَّالٍ( [13] ) .
أما من نذر أن يعتكف ثم شرع فيه وأفسده ، فإنه يجب عليه قضاؤه .
هذا ، والعلم عند الله تعالى .

[1] - البخاري (2026)، ومسلم (1172).

[2] - البخاري (2025)، ومسلم (1171).

[3] - لطائف المعارف لابن رجب الحنبلي ص 288.

[4] - انظر لطائف المعارف لابن رجب الحنبلي ص 289 (دار ابن رجب - مصر)، وصاحب القصة المذكورة هو أبو عبد الرحمن محمد بن النضر عابد زمانه ، له ترجمة في حلية الأولياء : 8 / 217، وسير أعلام النبلاء: 8 / 175، وذكرا القصة . والأثر رواه ابن أبي شيبة (1224) ، والبيهقي في الشعب (680) عن أبي عن كعب قال : قال موسى عليه السلام : يا رب أقريب أنت فأناجيك ، أم بعيد فأناديك ؟ فقيل له : يا موسى أنا جليس من ذكرني .

[5] - انظر زاد المعاد: 2 / 86، 87.

[6] - البخاري (2044)، وأبو داود (2466).

[7] - البخاري (6696)، وأبو داود (3289)، والترمذي (1526)، والنسائي (3806)، وابن ماجة (2126).

[8] - البخاري (6697)، ومسلم (1656).

[9] - مسلم (1171).

[10] - مسلم (1173).

[11] - البخاري (2029)، ومسلم (297).

[12] - البخاري (2031)، ومسلم (297).

[13] - مسلم (1173).
 
عودة
أعلى