محمد محمود إبراهيم عطية
Member
وإذا علم أن الصفات المشتركة بين سائر الحيوان كثيرة ، ولوازم الإنسان المختصة به كثيرة أيضا ، أهمها : أنه عاقل ، أو حساس ، أو متحرك بالإرادة ، أو ضاحك ، أو ناطق بلغة يفهمها جنسه ، فهذه صفات لازمة للإنسان لا يتصور وجوده بدونها .
إذاً : فما هو الشيء الذي يميز الإنسان عن سائر الحيوان ؟ وإذا أضيف إلى تعريفه يصبح تعريفا للإنسان لا ينصرف إلى غيره من الحيوان ؟
قال بعضهم : الضحك ، وعليه قالوا : الإنسان حيوان ضاحك . وقيل : بل العقل . فالعقل هو الذي يميز الإنسان عن سائر الحيوان ، ولو فرضنا خلو إنسان من العقل لصار غير مكلف ، غير نافع لنفسه ولا لغيره ، بل ربما كان سببا في مضرة نفسه وغيره ، وفاقد عقله إنما هو صورة إنسان وليس به .
والعقل أصله في اللغة ( [3] ) : الحبس والمنع ، سمي عقلا لأنه يعقل صاحبه عن التورط في المهالك ، أي يحبسه ويمنعه . وقيل : العقل : التثبت في الأمور . وقيل : هو التمييز الذي يتميز به الإنسان عن سائر الحيوان . وقيل هو : القوة المتهيئة لقبول العلم . ويقال للعلم الذي يستفيده الإنسان بتلك القوة عقل . قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه :
رأيت العقـلَ عقـلين فمطـبوع ومسـموعُ
ولا ينفـع مسـموع إذا لم يـك مطـبوعُ
كما لا تنفـع الشمس وضـوءُ العينِ مـمنوعُ
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - : واسم العقل عند المسلمين وجمهور العقلاء إنما هو صفة ، وهو الذي يسمى عرضا قائما بالعاقل . وعلى هذا دل القرآن في قوله تعالى : { لعلكم تعقلون } ( الحديد : 17 ) ، وقوله : { أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها } ( الحج :46 ) ، وقوله : { قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون } ( آل عمران 118 ) ، ونحو ذلك مما يدل علي أن العقل مصدر عقل يعقل عقلا ، وإذا كان كذلك فالعقل لا يسمى به مجرد العلم الذي لا يعمل به صاحبه ، ولا العمل بلا علم ؛ بل إنما يسمى به العلم الذي يعمل به ، والعمل بالعلم ، ولهذا قال أهل النار : { وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير ) ( الملك : 10 ) . والعقل المشروط في التكليف لابد أن يكون علوما يميز بها الإنسان ما ينفعه وما يضـره ، فالمجنون الذي لا يميز بين الدراهم والفلوس ، ولا بين أيام الأسبوع ، ولا يفقه ما يقال له من الكلام ليس بعاقل . أما من فهم الكلام وميز بين ما ينفعه وما يضره فهو عاقل . وقد يراد بالعقل نفس الغريزة التي في الإنسان ، التي بها يعلم ويميز ويقصد المنافع دون المضار ، وهذه الغريزة ثابتة عند جمهور العقلاء ، كما أن في العين قـوة بها يبصر ، وفي اللسان قوة بها يذوق ، وفي الجلد قوة بها يلمس ، عند جمهور العقلاء . ا.هـ ( [4] ) .
فالعقل – إذًا – هو الحس الموجود فينا ، والذي نعرفه بآثاره ، وله ملكات منها : الفهم والحكم والتفكير والتمييز . وفقد العقل هو الجنون ، وفقد التمييز هو الغباء والجهل والغفلة ( [5] ) .
ومقره ومسكنه ، قيل : القلب ، واستدل له بقوله تعالى : { أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور } ( الحج : 46 ) ( [6] ) .
قال الشنقيطي - رحمه الله - في ( أضواء البيان ) : والآية تدل على أن محل العقل في القلب ، ومحل السمع في الأذن . فما يزعمه الفلاسفة من أن محل العقل الدماغ باطل ، وكذلك قول من زعم : أن العقل لا مركز له أصلا في الإنسان ، لأنه زماني فقط لا مكاني ، فهو غاية في السقوط والبطلان كما ترى .ا.هـ ( [7] ) .
وقيل مقره الدماغ ، ولكن القلب هو الذي يمده بالقوة التي بها عمل الإدراك ( [8] ) .
قال ابن تيمية - رحمه الله - : العقل قائم بنفس الإنسان التي تعقل ، وأما البدن فهو متعلق بقلبه ، كما قال تعالى : { أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها } ، وقيل لابن عباس : بماذا نلت العلم ؟ قال : بلسان سؤول ، وقلب عقول .
لكن لفظ القلب : قد يراد به المضغة الصنوبرية الشكل التي في الجانب الأيسر من البدن ، التي جوفها علقة سوداء ، كما قال النبي r : " إن في الجسد مضغة ، إذا صلحت صلح الجسد كله ، وإذا فسدت فسد الجسد كله .. " ( [9] ) . وقد يراد بالقلب باطن الإنسان مطلقاً ، فإن قلب الشيء باطنه ، كقلب الحنطة واللوزة والجوزة ، ونحو ذلك . ومنه سمي القليب قليبا ، لأنه أخرج قلبه وهو باطنه . وعلى هذا فإذا أريد بالقلب هذا ، فالعقل متعلق بدماغه أيضًا ، ولهذا قيل : إن العقل في الدماغ ، كما يقوله كثير من الأطباء ، ونُقل ذلك عن الإمام أحمد ، ويقول طائفة من أصحابه : إن أصل العقل في القلب ، فإذا كمل انتهى إلى الدماغ.
والتحقيق : أن الروح التي هي النفس لها تعلق بهذا وهذا ، وما يتصف من العقل به يتعلق بهذا وهذا ، لكن مبدأ الفكر والنظر في الدماغ ، ومبدأ الإرادة في القلب . والعقل يراد به العلم ، ويراد به العمل ، فالعلم والعمل الاختياري أصله الإرادة ، وأصل الإرادة في القلب ، والمريد لا يكون مريدا إلا بعد تصور المراد ، فلابد أن يكون القلب متصورا . ويبتدئ ذلك من الدماغ ، وآثاره صاعـدة إلى الدماغ ، فمنه المبتدأ وإليه الانتهاء ، وكلا القولين له وجه صحيح . ا.هـ ( [10] ).
قلت : ولعل هذا الذي فصله شيخ الإسلام – رحمه الله – من أن العقل متعلق بالقلب والدماغ هو الصواب ، وبه يجمع بين الأقوال ، والعلم عند الله جل وعلا .
وللعقل أدوات إدراك ، يدرك بها حقائق الأشياء ، وأهم هذه الأدوات : السمع والبصر والفؤاد . والسمع هو : القوة التي بها إدراك الأصوات ، وآلتها الصماخ . وبالسمع يميز الإنسان بالأصوات ما يتميز بها ، كما يعلم به من أخبار السابقين والموجـودين ، ما به يعمل الفكر ، ويتدبر ويستخلص العبرة ، فيقيس بعقله على ما يسمع ويرى .
وللسمع أهمية خاصة ، ولذلك قدم على البصر في مواقعه من القرآن ، دليل على أنه أفضل فائدة لصاحبه ، ذلك لأن السمع آلة لتلقي المعارف التي بها كمال العقل ، وهو وسيلة بلوغ دعوة الأنبياء إلى أفهام الأمم على وجه أكمل من بلوغها بواسطة البصر لو فقد السمع ، ولأن السمع ترد إليه الأصوات المسموعة من الجهات الست بدون توجه ، بخلاف البصر ، فإنه يحتاج إلى التوجه بالالتفات إلى الجهات غير المقابلة ( [11] ) .
والبصر : هو القوة المدركة للذوات ، وآلته الحدقة . وبه يرى الإنسان ما يكون سمعه فيتحقق عنده الأمر ، كما يرى به عجائب خلق الله تعالى في السماوات والأرض ، فيعمل الفكر فيها ، ويرى أيضا الحوادث والمستجدات ، فينظرها ويتدبر ، فيستخلص العبر والدروس .
والأفئدة : جمع فـؤاد ، قيل هو القلب ، وإنما قيل له فؤاد إذا اعتبر فيه معنى التفؤد أي التوقد . وقيل الفؤاد غير القلب : فقيل : هو مسكن القلب وقيل وسطه ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : " أتاكم أهل اليمن هم أرق أفئدة وألين قلوبا " ( [12] ) . قال ابن الصلاح – رحمه الله - : المشهور أن الفؤاد هو القلب ، فعلى هذا يكون كرر لفظ القلب بلفظين ، وهو أولى من تكريره بلفظ واحد ، وقيل : الفـؤاد غير القلب ، وهو عين القلب ، وقيل باطن القلب ، وقيل غشاء القلب . وأما وصفها باللين والـرقة والضعف ؛ فمعناه : أنها ذات خشية واستكانة ، سريعة الاستجابة والتأثر بقوارع التذكير ، سالمة من الغلظ والشدة والقسوة التي وصف بها قلوب الآخرين . ا.هـ ( [13] ) . وقال الخطابي - رحمه الله - : لأن الفؤاد غشاء القلب ، فإذا رق نفـذ القول وخلص إلى ما وراءه ، وإذا غلظ بَعُد وصوله إلى داخـل ، وإذا كان القلب لينا علق كل ما يصادفه . ا.هـ ( [14] ) .
والذي يظهر من معاني الآيات أنه غير القلب ، وأنه محل الفهم والإدراك منه . والعلم عند الله تعالى .
[1] - انظر تهذيب إصلاح المنطق : 2 / 280، ولسان العرب مادة ( نطق ) .
[2] - لسان العرب : مادة ( حيا ) .
[3] - انظر : تهذيب الأسماء واللغات : 3 / 33 ( الجزء الثاني من القسم الثاني ) ، ولسان العرب مادة ( عقل ) ، والمفردات للراغب الأصفهاني : 354 ( مادة : عقل ) .
[4] - انظر مجموع الفتاوى : 9 / 286 ، 287 .
[5] - انظر حاشية ( نوادر الإمام ابن حزم ) لابن عقيل الظاهري : 168 ، 169 .
[6] - انظر تفسير القرطبي : 12 / 77 .
[7] - أضواء البيان : 5 / 715 ( مكتبة ابن تيمية - مصر ) .
[8] - انظر التحرير والتنوير : 1 / 255 ، 8 / 288 .
[9] - رواه أحمد : ، والبخاري ( 52 ) ، ومسلم ( 1599 ) ، وابن ماجة ( 3984 ) .
[10] - مجموع الفتاوى : 9 / 303 ، 304
[11] - انظر التحرير والتنوير : 1 / 258 .
[12] - أحمد : 2 / ، والبخاري ( 4388 ، 4390 ) ، ومسلم : ( 52 ) ، والترمذي ( 3935 ) .
[13] - نقلا عن النووي على شرح مسلم : 2 / 33 ، 34 .
[14] - نقلا عن فتح الباري : 7 / 702 ( الريان للتراث ) .