كان الوقت وقت جني الثمر في مدينة مرو الجميلة إحدى مدن خرسان ، في هذه الأثناء طلب أحد أصحاب
البساتين من عامل في بستانه أن يأتيه برمان حلو
وكلما أحضر له رمانة تبين له أنها حامضة
فغضب عليه وقال له :
ألا تعرف الحلو من الحامض ؟
قال : نعم ، لأني ما أكلت من ثمر البستان شيئا حتى أعرفه .
فقال : ولماذا لم تأكل ؟
قال : لأنك لم تأذن لي .
فقرر صاحب البستان أن يزوج ابنته من هذا العامل لدينه وأمانته وعلمه .
فكان ماذا ؟
ولد ابن المبارك .
ولد الإمام عبد الله بن المبارك بن واضح الحنظلي ( بالولاء) التميمي المروزي .
نشأ عبد الله بن المبارك بمرو أعظم مدن خرسان ، مدينة العلم والعلماء في أحضان أسرة طيبة ورعة محبة للعلم ، ولكن ابن المبارك كما هو حال أكثر الشباب في سنه تأثر في فترة من الفترات بما يشغل الشباب اليافع في ذلك الزمان ، فقد كان عصره عصر فتن ومحن وعدم استقرار ، فانتشرت بعض أمور اللهو فيه بشدة ، لكنه ما لبث أن عاد إلى الله تعالى ، وقد روى بنفسه قصته قائلا:
" كنت مولعا بضرب العود والطنبور ، ونمت سحرا فرأيت طائرا فوق رأسي على شجرة يقول:
{ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ } ( الحديد:16)
قلت : بلى .
فانتبهت ، وكسرت عودي وخرقت ما كان عندي.. ." أهــ
كانت مدينة عبدالله بن المبارك مدينة العلم والعلماء ، وفيها من المكتبات العلمية ما لا يوجد في مدينة غيرها ، ويصف ذلك ياقوت الحموي بعد أن أقام مدة فيها بقوله:
" ولولا ما عرا من ورود التتر إلى تلك البلاد وخرابها لما فارقتها إلى الممات ، لما في أهلها من الرفد ولين الجانب ، وحسن العشرة وكثرة كتب الأصول المتقنة بها .. فكنت أرتع فيها و أقتبس من فوائدها وأنساني حبها كل بلد وألهاني عن الأهل والولد " أهــ
في هذه المدينة بدأ ابن المبارك طلبه للعلم ، فبدأ يتردد على الكتاب منذ صغره ، وقد لوحظ في هذه الفترة نبوغه فقد كان آية في الحفظ والذكاء كما ذكر على لسان أحد أقرانه ورفيقه في الطلب ، لكن ابن المبارك ترك العلم لفترة بعد ذلك كما ذكرنا سابقا ، ليعود بعدها وبقوة ، فقد خرج من بلده راحلا لطلب العلم كما هو حال أهل عصره ، ليعوض ما فاته ، وذلك في بداية العقد الثالث من عمره ، وكان جادا في طلبه للعلم حتى قال الإمام أحمد بن حنبل :
" لم يكن في زمن ابن المبارك أطلب للعلم منه "
وقال يحي بن آدم :
" إذا طلبت الدقيق من المسائل فلم أجده في كتب ابن المبارك أيست فيه " هم الرجال وعيب أن يقال لمن *** لم يتصف بمعاني وصفهم رجل
أعز العلم المبارك ابن المبارك وصانه من أن يكون بضاعة للكسب والتجارة ، وعظم العلم فعظمه ، وصانه فصانه .
وقيل لابن المبارك من سفلة الناس ؟
فقال: الذين يأكلون الدنيا بالدين .
وكان يحب العزة للعلم والعلماء .
لذلك فقد احترف ابن المبارك التجارة ، وقد من الله تعالى عليه في رحلاته ففتح له أبواب العلم وأبواب الرزق ، فصار من الأثرياء ، ولكنه لم يتخذ المال سببا للفخر على عباد الله والتعالي عليهم ، بل وضع المال رصيفا يدوس عليه معينا له للوصول إلى العروس التي مهرها غال غال ، وهي جنة الخلد ، وقد نقل لنا أهل العلم مواقفه مع المحتاجين والغارمين ما يجعلنا نعجب ، ولا عجب.
ومع المكانة العلمية العالية والثروة التي ملكها ابن المبارك كان متواضعا لين الجانب مع أهل الإسلام يكثر من الدعاء لهم ونصحهم جميعا .
وكان يحب أخوانه ويجالسهم ويلاطفهم ، وكان شديد المحبة لهم ، فكان يقول:
ألذ الأشياء مجالسة الإخوان .. والمودة الدائمة في الله .
ويقول من استخف بالإخوان ذهبت مروءته .
وهو القائل : وإذا صحبت فاصحب صاحبا *** ذا حياءٍ وعفافٍ وكرم .
كان الإمام ابن المبارك علامة فهامة برع وتفوق في علوم الفقه والحديث واللغة وغير ذلك من علوم الشريعة ذا ثقافة واسعة وحلم وأدب حجة أجمع العلماء على علو مكانته وعلى كونه ثقة من أئمة المسلمين وكبرائهم.
وقد تميز ابن المبارك العالم النحرير بالحفظ والضبط والتثبت ، وكان شديد التمحيص في الرجال لا يروي إلا عن الثقات إذا رووا عن الثقات ، وقد حمل عن أربعة آلاف شيخ فلم يحدث إلا عن ألف منهم .
وقد سئل مرة عمن تأخذ ؟
فقال : من طلب العلم لله .
وكان عبدالله بن المبارك يقول خصلتان من كانتا فيه نجا :
الصدق ، وحب أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم .
لذلك كان يرى أن من يسب السلف يجب أن يترك حديثه .
ويذكر أنه كتب عن رجل ثم أن هذا الرجل نال من عثمان رضي الله عنه ، فقام ابن المبارك ومزق ما كتب ومضى .
وقد نظم ابن المبارك في ذلك أبيات ، ومنها : إني امرؤ ليس في ديني لغامزة
لين ولست على الإسلام طعانا
فلا أسب أبا بكر ولا عمرا
ولن أسب معاذ الله عثمانا
ولا ابن عم رسول الله أشتمه
حتى ألبس تحت التراب أكفانا.
وكان ابن المبارك محاربا للبدع ، ولا يكتب عن من يدعو لبدعته ،وكان يقول:
" اعلم أي أخي ، أن الموت كرامة لكل مسلم لقي الله على السنة "
وكان يشجع على الأخذ عن علماء السنة الثقات ، ومن ذلك ما قاله في قصيدته التالية: أيها الطالب علما
إيت حماد بن زيد
فخذ العلم بحلم
ثم قيده بقيد
وذر البدعة من
آثار عمرو بن عبيد.
كان الطلاب يأتون لابن المبارك لينهلوا من معينه الصافي من كل فج عميق ، فهذا أحد طلابه أسلم بن سليمان يرحل من بلده إليه ويترك زوجه وصبيته الصغار ليسمع من ابن المبارك ، ويقول الطالب في ذلك : أهلي وعرسي وصبياني رفضتهم *** وسرت نحوك في تلك المفازات
وابن المبارك كان كما شهد له من شهد لا يألوا جهدا ولا يدخر وسعا في تعليم الناس ونشر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويتحمل المشقة الشديدة في سبيل ذلك ، ومن ذلك ما رواه الحسن بن شقيق قال:
قمت مع ابن المبارك ليلة باردة ليخرج من المسجد – بعد العشاء - فذاكرني عند الباب بحديث وذاكرته ، فما زال يذاكرني حتى جاء المؤذن فأذن الفجر .
ب- عبادته :
كان ابن المبارك يقوم الليل بطوله ، ويصوم النهار في الحر الشديد ، ويكره أن يطلع عليه الناس ، وكان يكثر الجلوس في بيته فقيل له : ألا تستوحش ؟
فقال : كيف أستوحش وأنا مع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه .
وكان كثير الصمت ، يبتعد عن مجالس الغيبة .
ج – إحسانه :
وكان إذا عزم الحج يقول لأصحابه :
من عزم منكم في هذا العام على الحج فليأتيني بنفقته حتى أكون أنا أنفق عليه ، فيأخذ مالهم ، ثم يحجون على نفقته ، فإذا حجوا أشترى لهم هداياهم التي طلبها أهلهم ، وإذا رجعوا ، أرسل من يصلح لهم دورهم ، وإذا وصلوا عمل لهم حفلا وكساهم الثياب الجديدة ثم رد لهم مالهم .
وخرج مرة إلى الحج فاجتاز ببعض البلاد ، فمات طائر معهم فأمر بإلقائه وسار أصحابه أمامه وتخلف ، فلما مر بنفس المكان الذي ألقي فيه الطير ، وإذا ببنت تخرج من منزلها فتلف الطير وتأخذه لبيتها ، فسأله عن أمرها : فقالت أنا وأخي ليس لنا إلا هذا الإزار ، وليس لنا قوت ، وقد حلت لنا الميتة منذ أيام ، فأمر ابن المبارك برد الأحمال ، وقال لوكيله كم معك من النفقة ، فقال : ألف دينار .
فقال عد منها عشرين تكفينا إلى ( مرو ) وأعطها الباقي فهذا أفضل من حجنا هذا العام .
ء – جهاده :
كان ابن المبارك من أكبر المجاهدين ، كان من أرباب السيف كما كان من أرباب القلم والقرطاس ، بل كان إماما في الجهاد ، لذلك قال الذهبي : " كان رأسا في الشجاعة " .
فقد كان ابن المبارك يتقدم حيث يتأخر الأبطال فارسا صنديدا من الليوث البواسل ، يقتحم ما يخاف الناس اقتحامه ، يحضر عند احتدام الأمر ويفقد عند اقتسام الغنائم .
ومن ذلك صادف المسلمون العدو ومعهم ابن المبارك ، فانبرى أحدهم لقتال المسلمين ، فكلما خرج له أحدهم قتله ، حتى خرج له فارس من المسلمين عليه لثام فقتله ، فازدحم عليه الناس ، فإذا هو ابن المبارك .
وقد قال ابن المبارك الشاعر المجيد أجمل قصيدة له في الجهاد وأرسلها للفضيل العابد فبكي بعد أن قرأها، وهي : يا عابد الحرمين لو أبصرتنا * لعلمت أنك في العبادة تلعب
من كان يخضب خده بدموعه * فنحورنا بدمائنا تتخضب
أو كان يتعب خيله في باطل * فخيولنا يوم الصبيحة تتعب
ريح العبير لكم ونحن عبيرنا * رهج السنابك والغبار الأطيب
ولقد أتانا من مقال نبينا * قول صحيح صادق لا يكذب
لا يستوي غبَّار خيل اللّه في * أنف امرىء ودخان نار تلهب
هذا كتاب اللّه ينطق بيننا * ليس الشهيد بميت لا يكذب
[align=center]{وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقاً } (النساء:69)[/align]
كان أبو عبد الرحمن ابن المبارك يقول :
من صبر فما أقل ما يصبر ، ومن جزع فما أقل ما يتمتع .
وقال له رجل أوصني : فقال :
اترك فضول النظر توفق للخشوع ، واترك فضول الكلام توفق للحكمة ، واترك فضول الطعام توفق للعبادة ، واترك التجسس على عيوب الناس توفق للاطلاع على عيوب نفسك ، واترك الخوض في ذات الله توق الشك والنفاق .
هذه وصايا الإمام الصابر المجاهد ، الذي استمر في جهاده سواء بالقلم أو بالسيف ، حتى دخل شهر رمضان من سنة 181 هــ ، ففي يوم من أيام ذاك الرمضان وبعد أن رجع من ساحة المعركة بدأت سكرات الموت تزور ابن المبارك ، فقال لمولاه نصر : اجعل رأسي على التراب ، فبكى نصر ، فقال له : ما يبكيك ؟
ذكرت ما كنت فيه من النعيم وأنت هو ذا تموت فقيرا غريبا . قال : اسكت ! ، فإني سألت الله تعالى أن يحيني حياة الأغنياء وأن يميتني موت الفقراء .
ثم قال له : لقني ولا تعد علي ما لم أتكلم بكلام ثان . فإنما كانوا يحبون أن يكون آخر كلامهم كلمة الشهادة لقوله عليه السلام :
" من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة "
نعم توفي ابن المبارك بعد ذلك في السحر ، ليضم التراب الرجل الذي كانت رؤيته تسر القلوب وتقر العيون .
قال الأوزاعي يتباهى بابن المبارك لأحدهم : رأيت ابن المبارك ؟ قال : لا .
قال : لو رأيته لقرت عينك .
وقال الفريابي :
رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم ، فقلت :
ما فعل ابن المبارك ؟
فقال : مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا "
رحم الله الإمام المجاهد الزاهد ابن المبارك رحمة واسعة .
والحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه ، والصلاة والسلام على نبينا محمد .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* استفدت كثيرا من كتاب : عبدالله بن المبارك الإمام القدوة ، لمحمد عثمان جمال ، أعلام المسلمين : 1 ، دار القلم ، بيروت ، ط 1399هــ 1979م .