المرجع : مجلة التراث العربي . العدد: ( 13 و 14 )
مقدمة:
من أجلِّ مقومات تراثنا التالد، موسوعة تفسير القرآن العظيم، للإمام "محمد بن جرير الطبري"(1) التي تقع في ثلاثين جزءاً من القطع الكبير، بعنوان: "جامع البيان عن تأويل أي القرآن"(2).
هذا، ويحمل على الظن – بادئ الرأي – أنه في جملته، نوع من التفسير بالمأثور المحضّ، بما يبدو لمطالع هذا التفسير الجليل، من ظاهرة كثرة الروايات التي يستند إليها الإمام، مصدراً علمياً تقوم به الحجة، في معرض تفسيره، وإظهاره لمعاني التنزيل، والإفصاح عن حقائقه، إنَّ في تحقيق مدلول اللفظ المفرد، أو تحديد ما يصل بين أجزاء النظم القرآني من علاقات، وما ينبغي أن يتم بينها وبين المعنى العام المراد من الآية الكريمة كمَلا من الاتساق، أقول، إن ما يحمل على الظن – بما يبدو من ظاهرة كثرة الروايات – من أن تفسير الإمام الطبري لا يعدو أن يكون من التفسير بالمأثور، هو ما قرره فريق من المُحدثين وبعض المستشرقين في دائرة المعارف الإسلامية(3)، ومن قبلهم العلامة ابن خلدون(4) حتى عَدَّ الإمام الطبري من مدوني التفسير بالمأثور، وهذا النظر – في اعتقادنا – مُبتَسر لا يعدو هذه الظاهرة إلى ما وراءها من "المنهج العلمي" الذي التزمه الإمام في تفسيره، استناداً إلى قواعد محررة، فرضتها طبيعة النظم القرآني نفسه، وخصائصه في البيان، فضلاً عمَّا اقتضته ظروف تنزيله، خلال ثلاثة وعشرين عاماً تقريباً، مما يطلق عليه "أسباب النزول" بما يساعد على تحديد "الأوضاع" التي كانت مناسبات ودواعي لنزول ما يتعلق بها من تشريعات بدلتها، أو أزالت معالمها، باعتبارها معالم جاهلية فاسدة، مما يمكن معه الوقوف على اتجاهات التشريع الجديد، وغاياته من الإصلاح الاجتماعي، وتحقيق الخير الإنساني العام، على ما سيأتي بحثه مفصلاً، وهو ما اضطلع به الإمام الطبري، الأمر الذي لا يصح معه القول، بأنه من "مدونيّ التفسير بالمأثور" الذين أخلصوا أنفسهم له، مما يستلزم إمِّحاء "الشخصية العلمية" للإمام، إذ غدا – على أساس هذا الظن الواهم – مجرّد ناقل، وجامع، ثم مدون لهذه النقول، وهو ما ينقضه واقع صنيع الإمام في تصرفاته في وجوه المعارف التفسيرية المأثورة، من السنة، متناً وسنداً، أو في "مواقفه" من الآراء الاجتهادية المأثورة عن علماء الصحابة، ومن تتلمذ لهم من أئمة التابعين(5) وعلماء الأمة من بعدهم(6).
هذا، وبإمعان النظر فيما يعرض الإمام من "كثرة الروايات" يُرى أنه إنما يقصد من وراء ذلك إلى "استقصاء" ما ورد في مدلول اللفظ المفرد، أو الجملة، أو الآية الكريمة، من معان متحدة، أو متغايرة –توقيفية كانت أو لغوية- أو ما صدر عن أئمة التفسير الثقات من آراء هي ثمرة الاجتهاد بالرأي، أقول: إنما يفعل الإمام ذلك، جمعاً واستقصاء، وتدويناً –فيما نرى- بغية نقدها، وتمحيصها، وترجيح ما هو أقوى دليلاً، أو رفضها جملة، إذا لم تعتمد أصلاً شرعياً ثابتاً، ثم تراه يقيم الدليل على ما يذهب إليه، ويرجحه، أو يرفضه، جازماً غير متردد، حتى لم يسلم من نقده الثقات من تلاميذ ابن عباس، من مثل "مجاهد"(7) من التابعين المشهود لهم بالإمامة في التفسير، ومن أولي الرأي فيه.
هذا، والواقع، أنه لا يمكن على المنهج المتخذ في بحث مادة ما، ووزنه علمياً، ومنطقياً، إلا من خلال طبيعة تلك المادة، وخصائصها التي تفرضها على الباحث، ولعل من أبرز خصائص النص القرآني، أنه يخاطب النفس الإنسانية، حيثما وجدت، تجد هذا بيناً في ظواهر نصوصه، وفيما حدده الأصوليون من مدلول الحكم الشرعيّ الذي تعبر عنه النداءات الإلهية – فيما تعبر عنه من تعاليم، ومبادئ عامة، وتوجيهات، وتكاليف- نصاً أو دلالة، من أنه: "خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين(8) مما يدل على أن القرآن الكريم، قد أولى الجانب العملي للحياة الإنسانية عناية "بالغة"، واتخذ من الأصول العامة التشريعية – فضلاً عن العقائد والعبادات والآداب- ما يرقى بالجانب الروحي أيضاً، تحقيقاً للتوازن بينهما، وتوجيهاً إلى الغاية المثلى من الوجود الإنساني على وجه هذه الأرض، مما ينبغي أن يُعتدَّ به أصلاً جوهرياً في المنهج العلمي للتفسير، لا يخالف عن مقتضاه.
هذا، والقرآن الكريم لا يفتأ يصوّر للنفس الإنسانية رؤى مثيرة تغريها بتحقيقها، ابتغاء الارتقاء بها إلى مستوى يحقق معنى إنسانيتها في مواقع الوجود، مما تطمح هي إليه، وتستشرفه من القيم، بحكم فطرتها، إذا سلمت مما تلتاث به من مخلفات البيئة الموروثة، والتقاليد المصطنعة، والأعراف البالية المتحكمة، أو الأهواء الفاسدة المتبعة، أو التفكير الضَّال.
هذا، ويستغرق الخطاب الإلهي كافة وجوه النشاط الإنساني، توجيهاً وهيمنة، بما يستقيم به أمر هذه الحياة في جانبها العملي بوجه خاص-عقائد وعبادات، وآداباً، وتشريعاً عملياً يتغيَّا تحقيق كافة المصالح الحيوية الحقيقية الجديّة المعقولة المتنوعة-وبما يوجب اللفت إلى مواطن العبَر، يستخلصها من تجارب الماضين، وقصصهم، منذ بدء الخليقة، نتيجة حتمية لسنن اجتماعية، وكونية ثابتة، لا تجد لها تبديلاً، مما يؤذن بضرورة دراسة هذه السنن وتفهم مقتضياتها، إذ الإيمان بسنن الله في كونه، كالإيمان بأحكام الله في شرعه، سواء بسواء، مما يختلف مدى العلم به، والتعمق فيه، باختلاف ثقافة المفسر، وسعة مداركه التي يحددها مبلغ ما وصل إليه التقدم العلمي في عصره، وهذا يستلزم اختلاف التفسير والفهم باختلاف التقدم العلمي وتطوره، في كل عصر، أقول ذلك الخطاب الذي يتوجه إلى النفس الإنسانية – نصاً أو دلالة- يحمل في دلالاته- اللغوية والعقلية –معاني شتى تتعلق بشؤون الحياة الإنسانية، وتتضافر شِعابه على قيادة المجتمع البشري، في كل عصر، بما يدبر الأمر في الاعتقاد أولاً، باعتباره المنطلق الأساسي للسعي المسؤول، حتى يكون السلوك اعتقادياً، بمعنى، أن يسلك الإنسان ما يعتقد، أيَّاً كان مركزه الاجتماعي، لقوله تعالى: (من عمل صالحاً، من ذكر أو أنثى، وهو مؤمن، فلنحيينه حياة طيبة((9). فكان الاعتقاد سلوكياً في المقام الأول، وليس مجرد فكرة ميتافيزيقية مجردة لا صلة لها بالواقع المعاش، فضلاً عمّا يرسي ذلك الخطاب الإلهي من أصول تنهض بالحرية المسؤولة، والمساواة الواقعية بين الشعوب في معدن الكرامة الإنسانية التي هي منشأ حقوق الإنسان، والعدلِ المطلق، باعتباره حقاً خالصاً مشتركاً بين الآدميين، وبحكم جبلتهم الآدمية، مما لا يعبث بميزاته، اختلاف دين، أو عنصر، أو لون، أو عصبية، أو طائفية، أو مذهبية، أو مودة، أو قرابة بل ولا عداء، لقوله تعالى: (ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى((10) وفي هذا إشارة بالغة إلى "إطلاق مفهوم العدل" في القرآن العظيم، ومبلغ الحرص على إقامته وتحقيقه بربطه بالتقوى الدينية المتورعة التي جعل القرآن من مفهومها، معنى عملياً منوطاً بإقامة العدل واقعاً بين البشر، تمكيناً للجانب العملي للحياة الإنسانية، واتخذ من "التقوى" تعبيراً واقعياً له، حتى يكون العدل مظهراً عملياً ملموساً للتقوى، ربطاً للمعنى الاعتقادي بالواقع العملي الحيوي، في أرقى صوره، وأسمى معارضه، وهذا يؤكد المعنى الذي أسلفنا –خصيصة تفردت بها العقيدة الإسلامية- من كونها عقيدة سلوكية، وإن السلوك اعتقادي بما تنبع بواعثه منها، مما يجعل "العقائد" في القرآن الكريم، أمراً غير مقصور على "الغيب" فحسب، بل هو متصل –كما ترى- أوثق اتصال، بالواقع المعاش، اتصال الروح بالجسد، تأثيراً أو حكماً، أو على حد تعبير الأصوليين، اتصال الباطن بالظاهر، بحيث لا يتصور انفصام بينهما في مواقع الوجود، نظرياً، ولا ينبغي أن يكون ذلك بينهما عملياً، ومن هنا، كانت الأفعال من العقود وسائر التصرفات معتبرة بالنيات والقصود، صحة وفساداً(11)، لقوله(: [إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى] ترتيباً للنتائج والثمرات على بواعث "التقوى" دنيوياً وقضائياً، فضلاً عن الحكم الدياني، وتوجيهاً للطاقات الروحية والنفسية في الإنسان، وتنقية لها مما عسى أن يشوبها عادة من أوضار، وتزكية لها، أن يلابسها من منازع الشر، والهوى، أو يخالجها أحياناً من ضلال الفكر، واشتباه الحق والتباسه بالباطل(12).
وأما فيما يتعلق بالحكم الدياني، توجيهاً للطاقات الروحية، فقد أشار الإمام الطبري في تفسيره إلى قوله تعالى: (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل، وتدلوا بها إلى الحكّام، لتأكلوا فريقاً من أموال الناس بالإثم، وأنتم تعلمون( أشار إلى هذه التفرقة بين الحكم القضائي والدياني مأثوراً عن التابعين، حيث يقول: "حدثنا الحسن بن يحيى.. عن قتادة في قوله: "(وتدلوا بها إلى الحكام( قال: (لا تدلِ بمال أخيك إلى الحاكم، وأنت تعلم أنك ظالم، فإن قضاءه لا يحل لك شيئاً، كان حراماً عليك)(13). ثم إن القرآن الكريم يستثمر هذه الطاقات بعد تنقيتها –بالعقيدة والتشريع معاً- في الخير الإنساني العام، لما للروح النقية الصافية من طاقات هائلة تمكِّن الإنسان من الارتقاء إلى عليا درجات الكمال، ولما لها من أثر في السلوك الحيوي أي أثر!
هذا، ولا ريب أنك وقفت – من خلال ما قدمنا – على الملحظ الإنساني العميق من اعتبار القرآن العظيم، العدل المطلق قيمة كبرى في المجتمع الإنساني، تعلو على اختلاف الدين، والعنصريات، والطائفيات، والانفعالات من المودة، والبغض، والقرابة، وما إلى ذلك، إزالة للعقبة الكؤود التي تحول دون تحقيق "رسالته" من الإصلاح الاجتماعي، وإقامة أسس الحضارة الإنسانية الموضوعية المطلقة التي لا تقبل التجزئة – زماناً، ومكاناً، وأناسيَّ – ولتنهض بالتعاون الحيوي الضروري المشترك في ميدان البر الإنساني العام الذي ينهض بالتواصل الحضاري حتماً، بما يتم في ظله من تبادل المنافع المادية والمعنوية، تبادلاً عادلاً يسد افتقار بعض الدول بما هو متوافر عند بعضها الآخر، بحكم تنوع الثروات في البيئات المنتشرة على وجه البسيطة، مما يخضع لاختلاف العوامل الجغرافية، أو التقدم والتخلف في المضمار العلمي والثقافي، فكان هذا، تكاملاً تقتضيه ظروف "الحياة الإنسانية" نفسها في أصل نشأتها، وتباين البيئات أو الظروف الكونية، وهو المشار إليه في النداء الإلهي للناس كافة، لا بوصف إيمانهم، بل بوصف إنسانيتهم، بما يلفت إلى أصل تكوينها من ذكر وأنثى، في مثل قوله تعالى: (يا أيها الناس، إنَّا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا( والتعارف مقصود به التعاون على الصعيد الإنساني والعالمي اتفاقاً، وليس عسيراً على التعقل النافذ الواعي أن يشتق من هذه التعاليم، ما يستهدفه القرآن العظيم، من اعتباره الحياة الإنسانية، وحدة متسقة كاملة في شتى بقاع الأرض، فضلاً عما جاء به مما يسندها، ويوطد دعائمها، ويُحكم ترابطها، من "أصول الأخلاق" التي يرتد إلى "الحاسة الفطرية"(14) في الإنسان، تقديرها، واعتبارها: من الرحمة، والتكافل، والإيثار، والإحسان يفوق العدل الدقيق –قضاء واقتضاء- في التعامل، والصدق، والإخلاص، والإتقان في العمل وتجويده، والوفاء بكل التزام ينشأ عن عقد أو تصرف في الميدان الداخلي، أو عن معاهدة تبرم على صعيد العلاقات الدولية، على أساس من المساواة في الاعتبار، مبرأة من أسباب الدَّخَل، والمراوغة، والخداع، والحيف، والشطط، أو التسلط، والإكراه، والتعجيز، بشروط تمليها الغلبة والقوة الغاشمة، لعموم قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود( أضف إلى ذلك كفالة تلك المبادئ، والقيم الموضوعية المطلقة – ذاتاً ومكاناً وزماناً وأناسيَّ حال تنفيذها – بما يحقق للأمة السيادة والعزة والمنعة، إن في كيانها الداخلي، أو في وجودها الدولي، إلى الزمن المقدر لبقاء هذا العالم.
هذا، ولعل من أبرز خصائص النص القرآن في بينات هداه أيضاً، هذا "التسامح الديني" تجاه المخالفين، بما يوجب البر والإقساط إليهم، ما لم يكونوا محاربين، فقضى بذلك على التعصب الديني، والمذهبي، وعلى الأزمات الطائفية التي بات يعاني من ويلاتها وشرورها وآثامها اليوم كثير من شعوب الأرض، أثراً من آثار الاستعمار، بما انتهج من سياسة التفريق المعروفة، للإضعاف والاستضعاف، توصلاً إلى الاحتلال، والاستلاب، والهيمنة، وإشاعة الظلم والفساد، مما يفضي إلى تسافك الدماء والتقتيل والتشريد، وتخريب معالم الحضارة، وهو ما يطلق عليه القرآن الكريم: العدوان، والبغي والفساد في الأرض(15)، عنوة وبقوة السلاح، تطبيقاً لشريعة الغاب واللامعقولية، وهو المعني بما يطلق عليه القرآن الكريم "حكم الجاهلية"(16).
هذا، والقرآن الكريم، إذ يمكِّن – بتعاليمه، وبيناته، وأصول تشريعه، ومقاصده الأساسية – أقول إذ يمكِّن بهذا كله للجانب العملي من الحياة الإنسانية، يستجيب في الوقت نفسه – لرغائب الروح في استشرافها للقيم والمثل العليا – كما قدمنا – تحقيقاً "للتوازن" بين مطالب الجسد والروح معاً، أو قل بين مطالب الحياة المادية، ومطامح الحياة الروحية، من القيم الإنسانية الخالدة، دون أن يتيح لإحداهما الحيف على الأخرى، ذلك، لأنه لا يرى في المطالب المادية مشكلة يتعثر بها سير الحياة بالناس، بما يورثها من التخلف أو الضعف أو الحرمان، لأنه –سبحانه- خلق للناس ما في الأرض جميعاً، مباحاً للانتفاع والتصرف، فكان هذا أصل الحل العام، وما عداه من المحرمات قد جاء على سبيل الاستثناء، مفصلاً محصوراً في عدد يحصى قلة، ترى هذا مدلولاً عليه، بقوله سبحانه: (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً((17) وقوله تعالى: (وقد فصَّل لكم ما حرم عليكم، إلا ما اضطررتم إليه((18).
هذا، وأورد القرآن الكريم النص الذي يتعلق بأصل الحل العام: (خلق لكم ما في الأرض جميعاً( مورد الامتنان، ولا امتنان في غير إسباغ النعم- المادية والمعنوية- على السواء، ووصفها بأنها ظاهرة وباطنة لإفادة العموم من حيث أنواعها وطبائعها: (وأسبغ عليكم نعمة ظاهرة وباطنة((19) فضلاً عن تسخير ما في السموات والأرض للإنسان: (وسخر لكم ما في السموات والأرض((20) تذليلاً واقعياً بيَّنا، يقصد به أن يكون مادة للانتفاع، والتصرف، وللبحث العلمي الذي يتبين به ما تحكم به الموجودات في الكون وأجواز الفضاء، من سنن ثابتة مطردة، فضلاً عما ينبغي أن يتخذ من المنجزات العلمية المتطورة، بفعل التقدم العلمي، من دلائل عقلية باهرة على عظمته سبحانه، وجلاله، في قدرته وبديع صنعه، ولعل في قوله تعالى: (إنما يخشى الله من عباده العلماء((21). إشارة إلى هذا المعنى، الأمر الذي يجعل للتقدم العلمي وتطوره في شتى مناحيه، وفي كل عصر، أثراً بالغاً في ترسيخ عقائده، من جهة، وفي تمكين العقل من تفهم النص القرآني، وتوسيع مفاده، وتعمق مداركه، واستبطان دلالته، ومعانيه، وبعيد مراميه، من جهة أخرى.
وعلى هذا، تبين أن القرآن الكريم، يرى أن "المشكلة الإنسانية الكبرى" كامنة في فقدان هذا "التوازن" بين مقتضيات المثل العليا، والقيم الإنسانية الموضوعية من جهة، وبين مطالب الحياة المادية واحتياجاتها، من جهة أخرى، ومن هنا، تراه – في تعاليمه – لا يجيز مطلقاً الإفراط أو الغلو في إحداهما، على حساب الأخرى –كما أشرنا- إغراقاً في المادة، وعبادة لها، أو رفعاً لها فوق القيم العليا، كما لا يجيز غلواً في الجانب الروحي، وإسرافاً فيه(22)، بحيث يفضي به إلى اعتزال الحياة الدنيا، أو ازدرائها، وما ينبغي لامرئ أن يحتقر دنياه وقد خلقت من أجله، ولا يتوهمن أحد أنه باعتزاله إياها، وانصرافه عنها أو زهده فيها، يتقرب إلى الله زلفى، بل هو – في واقع الأمر – عصيان، ومخالفة عن أمر ربه، بما يتخلى عن "رسالته" في الحياة التي تبرر استخلافه فيها، بما هي "أمانة" قد حُمِّلها، بصريح النص القرآني، وعهد إليه أداؤها، تكليفاً، فكانت مادة ابتلائه في صدق العبودية لربه طوال عمره، وهي –في الوقت نفسه- وسيلة عملية، لتحقيق عزته وسيادته فيها، صلاحاً وإصلاحاً للكون، تعميراً أو إشادة، لقوله تعالى: (إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها، وأشفقن منها، وحملها الإنسان( بل تفسر الوجود الإنساني كله على وجه الأرض، بما تنهض بمعقوليته، وتقصي الإنسان العَقول عن فكرة الفناء الأبدي الرهيب.
ولا جرم أنه بتحقيق "التوازن" في تعاليم هذا الكتاب العزيز، حُلَّت أعظم مشكلة تواجه المجتمع البشري منذ نشوئه، بما جمع فيه مما تقتضيه الفطرة الإنسانية ذاتها، ظاهراً وباطناً، جسداً وروحاً، جمعاً عملياً محكماً، لا إعنات فيه، ولا حرج، ولا استعصاء على التنفيذ، بما يقوم على خبرة عميقة بأسرار النفس الإنسانية، ومنازعها، لقوله تعالى: (ألا يعلم من خلق، وهو اللطيف الخبير((23)، وقوله تعالى: (ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه، ونحن أقرب إليه من حبل الوريد((24)، وقوله جل ثناؤه (كتاب أحكمت آياته، ثم فصِّلت من لدن حكيم خبير((25) ذلك، لأن الذي فطر الفطرة، هو الذي أنزل الشرع على قدرها: (فأقم وجهك للدين حنيفاً، فطرة الله التي فطر الناس عليها، لا تبديل لخلق الله، ذلك الدين القيم((26) وتلك آية من آيات الإعجاز البيان الذي لا يتسع المقام لتفصيله، وإنما وكدنا أن نلفت الذهن إلى وجوب اتخاذه أصلاً مكيناً يرتد إليه التفسير العلمي، ولا يخالف عن مقتضاه، وإلا خرج عن مفهوم الحق القرآني، وما تقضي الدلالة فيه.
على أنك لو أمعنت النظر العلمي في "قوام هذا الجمع" لتبدى لك أنه جمع بين "مثالية المبدأ، وواقعية الحياة الإنسانية" على نحو محكم، غير مستكره، لانتفاء الحرج والإعنات في الدين كما قلنا، لقوله تعالى: (وما جعل عليكم في الدين من حرج((27) ولقوله جل ثناؤه (ولو شاء الله، لأعنتكم((28) لكنه سبحانه لم يشأ هذا الإعنات لخلقه، وفي هذا دلالة بينة على أنه لا ينبغي للناس أن يوقعوا أنفسهم في عنت الحياة(29) الذي لم يرد الله تعالى إيقاعهم فيه، في أحوالهم العادية، إلا أن يكون جهاداً في سبيل الله، حيث تفرض التضحيات الجسام، بكرائم الأنفس والأموال، حفاظاً على القيم والمثل، والكيان، والعزة والسيادة في الأوطان، واتقاء من سوء المصير في الدنيا والآخرة، مما يقيم الدليل البين أيضاً، على أن مهمة القرآن الكريم هو توفير أسباب تحقيق وجوده عملاً، وإمكانية تنفيذ تعاليمه، ومقاصده، في الحياة الإنسانية، واستمرار تنفيذها من خلال السعة(30) والطاقة البشرية الموكول إليها هذا التنفيذ، كيلا ينقطع بهم "العنت" عن مواصلته، وحينئذ "لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له"(31) ولهذا كان مبدأ دفع الحرج في التكليف، والترخيص في مواقع الضرورة، أو المشقة البالغة غير المعتادة، مبدأ أصيلاً قاضياً على التشريع كله، استثناء من عموم قواعده، وعلى هذا ينزَّل تفسير النص القرآني الذي تعلق حكمه بالمعاملات وغيرها من شؤون الحياة.
هذا، وضماناً لهذا التنفيذ، قد أعدَّ الله تعالى الإنسان إعداداً فطرياً خاصاً، وعلى أحسن تقويم، تمكيناً له من الأداء، في يسر، وقطعاً لما عسى أن يتشبث به من حبائل المعاذير، وإقامة للحجة البالغة عليه، لقوله تعالى: (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم((32) وقوله عز وجل: (بل الإنسان على نفسه بصيرة، ولو ألقى معاذيره((33) ولقوله جل شأنه: (فلله الحجة البالغة((34).
من خصائص النص القرآني، في تعاليمه، ودلالاته – اللغوية والعقلية – أنه لم يجتزئ بمجرد الهداية والتوجيه، بل أضاف إلى ذلك "الحكم" والهيمنة، ليتبوأ مركز "القيادة في الحياة الإنسانية" واقعاً، بما يرتب من "النتائج العملية" على الأداء، وسائر وجوه النشاط الإنساني.
ذلك، تحقيقاً لثمرات تعاليمه، بحيث تصبح أوضاعاً قائمة في المجتمع – اجتماعياً، وسياسياً، واقتصادياً، وعسكرياً، ولكافة ما تقتضيه الحياة الإنسان المثلى، من مرافق – لما قدمنا، من أن "الحكم" في المفاد القرآني مستغرق لوجوه النشاط الإنساني كله، وهذا وصل عام ينبغي أن يكون مرعياً في التفسير، ويعتمد بالضرورة على سعة ثقافة المفسر، في كل عصر، بما يوجب عليه أن يرتفع إلى المستوى الذي رسمته خيوط التقدم الثقافي والحضاري في عصره، أبان تفسيره، ليستجيب لحاجاته كمَلاً.
وهكذا ترى، أن النص القرآني في نظمه البياني المعجز، قد جاء على نحو يحتفظ لمعناه "الموضوعية" و"ديمومة الحكم" و"استمرارية الأثر" فضلاً عمَّا أحكم من الصلة بين الروح والجسد، والحياة والدين، والدنيا والآخرة، وحدة كاملة لا تقبل الفصل في أي منها، وما يوفر لها من عناصر القناعة بمنطقية تلك التعاليم، ويفسر معقولية الغاية القصوى من الوجود الإنساني على وجه هذه الأرض، بما ينفي عنها السُّدويَّة، والعبث، واللامعقولية التي تتجلى في فكرة الفناء الأبديّ الرهيب، مصداقاً لقول تعالى: (أيحسب الإنسان أن يُترك سدى( ولقوله عز وجل: (وما خلقنا السموات والأرض، وما بينهما لاعبين، ما خلقناهما إلا بالحق(، ولقوله عزَّ شأنه: (تبارك الذي بيده الملك، وهو على كلِّ شيء قدير، الذي خلق الموت والحياة، ليبلوكم أيكم أحسن عملاً(.
هذا، والبدء المنطقي المعقول الذي انطلق منه النص القرآني في رسالته للصلاح الإنساني، والإصلاح العالمي، هو نقطة إصلاح النفس البشرية، بما يتعاورها من نوازع وأهواء، لأن إصلاح العالم، لا يتم إلا بصلاح المهيمن عليه المستخلف فيه واقعاً، وهو "الإنسان" ومن هنا تجد آيات كثيرة لا تحصى تعالج النفس الإنسانية، بعد تبصيرها بطريقي الخير والشر. لقوله تعالى: (وهديناه النجدين( رشداً وغياً، وتجعل تزكية النفس الإنسانية، أو تَدسسيتها، رهناً بالإرادة الذاتية لصاحبها (قد أفلح من زكاها، وقد خاب من دساها( فوضعه بذلك على مفترق الطرق، وحذره أن تتفرق به السبل، لقوله تعالى: (ولا تتبعوا السبل، فتفرق بكم عن سبيله((36) ولا شيء يفرق الأمة، طرائق قدداً، أشد من تعدد الاتجاهات وتضارب الغايات، وفساد الاعتقاد، ولا شيء يكسب الأمة منعة وقوة ووحدة، من وحدة الغاية، وصحة الاعتقاد: (واعتصموا بحبل الله جميعاً، ولا تفرقوا((37) (وإن هذه أمتكم أمة واحدة، وأنا ربكم فاعبدون((38).
أقول، آيات كثيرة لا تحصى تعالج النفس الإنسانية، بتغليب منازع الخير فيها، لتسلك سبيله، بدليل جعله "مادة الابتلاء" في السعي الدنيوي المسؤول:
(ونبلوكم بالشر والخير فتنة((39) وتتخذ تلك الآيات – في سبيل الوصول إلى غايتها، والنجح في هدايتها وتوجيهها وحكمها – أسلوب الترجية والترهيب، أو البشارة والنذارة(40).
هذا، ويشير القرآن الكريم إلى أساس هذه المعالجة، ومنشَئِها، في كثير من آيهِ وبأسلوبه المزدوج من البشارة والنذارة، من أن في النفس الإنسانية، قوتين متصارعتين أبداً: قوة تدميرية طاغية، رابضة في أعماق النفس البشرية، وقوة أخرى تنتزع إلى الخير نزوعاً قوياً أيضاً، فتراها تتشوق إلى الحق والعدل، وتتشوف إلى القيم الموضوعية الإنسانية، والمثل العليا الخالدة، استشرافاً نابعاً من الفطرة السليمة ذاتها، حين لا تنازعها مخلفات البيئة أثرها – أو عوامل الشر تطلعاتها، مما يفسد عليها صفاءها، ويعكر نقاوتها – كما أسلفنا – ثم يسلمها آخر الأمر إلى الطغيان العاتي والعدوان الظالم، بل والإمعان فيهما، على النحو الذي يُرى على الصعيد الدولي، مما هو واقع ومشهود، فكان لا بدَّ لإصلاح النفس الإنسانية من سند روحي، يغلِّب عوامل الخير على منازع الشرّ فيها، ولا نعلم غير الدين من العلم أو الضمير، يقوم مقامه في التأثير في ميدان النفس الإنسانية، ذلك لأنه ثبت قطعاً أن الإنسان إذا خُلِّي وأمر نفسه، تغلبت عوامل الشر فيها، فطغت على حكمة العقل، وحيوية الضمير، أقول قد أشار القرآن الكريم إلى هاتين القوتين المتصارعتين أبداً في ميدان النفس الإنسانية، بقوله سبحانه: (إنَّا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه، فجعلناه سميعاً بصيراً، إنَّا هديناه السبيل، إما شاكراً وإما كفوراً((41) وقوله تعالى: (إن النفس لأمارة بالسوء، إلا ما رحم ربي((42) وقوله عز وجل في المحاورة التي حكاها القرآن الكريم: (إني جاعل في الأرض خليفة، قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء، نحن نسبح بحمدك، ونقدس لكَ، قال: إني أعلم مالا تعلمون((43) مما يتضمن تقريراً لأصالة هذه "النزعة الشريرة في الفطرة الإنسانية" غير أنه تعالى قد أشار إلى ما استقر فيها أيضاً من قوة منازع الخير، وهو سبحانه أعلم بها، وبآثارها، فكان هذا الاستخلاف الإنساني في الأرض، دليلاً على جدارة الإنسان به على الرغم من تأصُّل منازع الشر فيه.
ويترتب على هذا، أنه كلما ازداد المفسر خبرة بدقائق النفس الإنسانية، كان تفسيره أقرب إلى الحق القرآني، وأكثر مطابقة "لسمو معانيه" بما يتهدى سمت الحق الذي نصب الشارع الدلالة عليه، وأنه بتطور معارفه، وثقافته، عمقاً وسعة ودقة، يتطور فهم المفسر في تحديده لمفاد النص القرآني، عمقاً وسعة، تبعاً لذلك، بما هو جم المدارك، عميق الدلالات، لقوله عزّ شأنه: (قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي، لنفد البحر، قبل أن تنفد كلمات ربي، ولو جئنا بمثله مدداً((44).
هذا، والواقع أن الفهم الإنساني للقرآن الكريم –فيما للرأي فيه مجال- يتطور، تبعاً لتطور أسباب كسب المعرفة ومصادرها في كل عصر، ولا سيما في ميدان النفس الإنسانية.
فتبين أن من مهمة القرآن الكريم في رسالته، توجيه هاتين القوتين المتصارعتين عبر الزمن، إلى ما فيه خير الإنسانية، لأن الإنسان هو الإنسان، وتسديد نزوعهما بما يكفل له صلاحه وعزته وسعادته، أفراداً وشعوباً، وأمماً.
نخلص من هذه "المقدمة" إلى أن للتفسير وظيفة كبرى عليه أداؤها في كل عصر بما يرتقي إلى مستواه، لأن النص القرآني، وبينات هداه "جم المدارك عميق الدلالات" – كما ذكرنا – يبلغ العقل الإنساني المتفهم منها، ما تسعفه طاقته العلمية والثقافية التي بلغها عصره، بما يدبر أمر الأمة في شتى مناحي حياتها، وبما يمسك عليها كيانها، ويمهد أمامها سبيل التقدم والازدهار، ويفصح عن هذا المعنى قوله(: [القرآن ذلول ذو وجوه، فاحملوه على أحسن وجوهه] وقد جرى على لسان السلف، قولهم: "إنك لن تفقه كل الفقه حتى ترى القرآن وجوهاً"(45) ليحمل النص القرآني اجتهاداً بالرأي إبان تطبيقه – على الوجه الذي يحقق للأمة مصالحها الجدية الحقيقية المعتبرة، مما يكون للخبرة العلمية مكان في تقويمها، شريطة ألا يكون ذلك الوجه قد استُكره النص القرآني على حمله عليه، لما أشار إليه النبي( في صدد بيان ما يخشى على مصير أمته من أمور ثلاثة أحدها: "ظهور رجال يؤوِّلون القرآن على غير تأويله"(46) وهو ما حذر منه أيضاً، عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- في قولته المشهورة: "أخاف عليكم أحد رجلين: رجل يتأول القرآن على غير تأويله"(47) أي تأويلاً مغرضاً مفتعلاً على غير الوجه العلمي الصحيح، أو على غير ما أنزل الله(48) مما يشير إلى أن للتفسير أثراً بالغاً على مصير الأمة، بما يتخذ هذا القرآن من مكانة القداسة والقيادة في حياة المسلمين.
يرشد إلى هذا أيضاً، قوله تعالى: (ثم جعلناك على شريعة من الأمر، فاتبعها، ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون((49) ويقول الإمام الشافعي في الرسالة، استدلالاً بهذه الآية الكريمة: "وهذا يدل على أنه ليس لأحد دون رسول الله، أن يقول إلا بالاستدلال"(50) أي المستند إلى أصل ثابت في الشرع.
وعلى هذا، يبدو لنا، أن التفسير يفقد وظيفته، بل ويصبح غير جدير بهذا الاسم، إذا لم يجاوز حدود التحليل اللفظي للمفردات، أو الوجه الإعرابي النحوي، أو بيان النكات البلاغية، بل عليه النفاذ إلى ما تضمنه النص القرآني من وجوه الهداية الإلهية، وتعاليم الوحي، واستشراف مراميه البعيدة التي تمثل حِكَم التشريع التي هي بطبيعتها "عناصر عقلية" لا يمكن استخلاصها، أو تبنيها إلا بالفكر النفاذ، والبصيرة النيرة، والعقل المدرك، بالنظر إلى طبيعة هذا النص، من حيث تصرفه في وجه البيان، على نحو معجز، وبما يزخر به من المعاني العقلية والوجدانية، والحكم الغالية الرفيعة، في بينات هداه، لذا كان الرأي العلمي من أهله –وفي مجاله- مما يتوقف عليه الإفصاح الموضوعي الأمين، عن معاني القرآن الكريم، توقفاً بعيد المدى، الأمر الذي يجعل قيمة التفسير منوطة بهذا المعنى، وبهذا الأداء على نحو يقرب الهداية الإلهية إلى النفوس، ويهيمن بسمو معانيها على الأرواح، بما ثبت حقاً أنه هدى ورحمة للعالمين.
على أن هذا الوجه من التفسير بالرأي من أهله القائم على الدليل، يتعلق بقسم كبير من القرآن الكريم، وهو ما أشار إليه الإمام الزركشي في كتابه البرهان، وجعله مختصاً بالعلماء، حيث يقول ما نصه: "وكل لفظ احتمل معنيين فصاعداً – أي غير قاطع الدلالة – فهو الذي لا يجوز لغير العلماء الاجتهاد فيه، وعلى العلماء اعتماد الشواهد والدلائل، وليس لهم أن يعتمدوا مجرد رأيهم فيه"(51) ومعظم آي القرآن الكريم ذلول ذو وجوه من المعاني، بمنطوق الحديث الذي تلونا.
وهذا يشير إلى أن التفسير بالرأي المجرد وعن غير علم، أو "التأويل المستكره" لهوى أو غرض معين، من الكبائر التي حذر الرسول( منه بقوله: [من تكلم في القرآن، بغير علم، فليتبوأ مقعده من النار](52) وهذا المصير يستلزم أن يكون التأويل المستكره القائم على الهوى والغرض أو الرأي المحض من الكبائر.
ونتناول فيما يلي بحث المنهج العلمي الذي التزمه الإمام الطبريّ في موسوعته التفسيرية، ولما كان المقام لا يتسع للتفصيل، فقد اقتصرنا على بيان المعالم.
منهج البحث
-المقدمة:
-معالم المنهج العلمي الذي التزمه الإمام الطبري في تفسيره للقرآن العظيم:
أولاً-المأثور من السنة الثابتة، مما اعتمده الإمام أصلاً جوهرياً في منهجه، ومصدراً علمياً لتفسيره، ووجه تأصيله.
أ-بيان وجه حاجة القرآن الكريم الماسة، إلى المأثور.
ب-فطرة البيان القرآني نفسه، ومنهجه في بيان الأحكام.
ثانياً-مأثور السلف، ركناً مكيناً في منهج تفسير الإمام، وتقويمه أصولياً.
ثالثاً-معاقد الإجماع.
رابعاً-المنطق اللغوي، باعتبار أن دلالة القرآن على معانيه –في الأصل- ذاتية، وذلك حين يعوز الأثر، والإجماع، واستجابة لخصائص النص القرآني في كافة دلالاته اللغوية والعقلية.
خامساً-موقف الإمام الطبري من مبدأ أعمال الرأي القائم على العلم في منهج تفسيره، وأن رفضه تقديم الرأي المجرد على ما اختص الله تعالى نبيه ببيانه، لا يستلزم منع التفسير بالرأي بإطلاق.
سادساً-مقارنة بين موقف الإمام من الاجتهاد بالرأي في التفسير، وبين موقف المحققين من أئمة التفسير، والأصوليين والفقهاء، وأئمة علوم القرآن، مشتقاً من واقع نصوصهم في مصنفاتهم.
سابعاً-موقف الإمام الطبري من "التأويل" بوجه خاص، منهجاً عقلياً في التصرف في المعاني دون الألفاظ، بما يشمل:
أ-مفهوم التأويل في اللغة.
ب-مفهوم التأويل في استعمال القرآن الكريم.
جـ-مفهوم "التأويل" في البيئة الأصولية.
د-ما استقر في تفسير الإمام الطبري، من "التأويل" مفهوماً واستعمالاً.
هـ-ما يستند إليه "التأويل" من أصول السنة، وما انتهجه الصحابة في اجتهاداتهم مما يتصل بالتأويل، استنباطاً وتطبيقاً.
7
7
7
7
يتبع >>>
مقدمة:
من أجلِّ مقومات تراثنا التالد، موسوعة تفسير القرآن العظيم، للإمام "محمد بن جرير الطبري"(1) التي تقع في ثلاثين جزءاً من القطع الكبير، بعنوان: "جامع البيان عن تأويل أي القرآن"(2).
هذا، ويحمل على الظن – بادئ الرأي – أنه في جملته، نوع من التفسير بالمأثور المحضّ، بما يبدو لمطالع هذا التفسير الجليل، من ظاهرة كثرة الروايات التي يستند إليها الإمام، مصدراً علمياً تقوم به الحجة، في معرض تفسيره، وإظهاره لمعاني التنزيل، والإفصاح عن حقائقه، إنَّ في تحقيق مدلول اللفظ المفرد، أو تحديد ما يصل بين أجزاء النظم القرآني من علاقات، وما ينبغي أن يتم بينها وبين المعنى العام المراد من الآية الكريمة كمَلا من الاتساق، أقول، إن ما يحمل على الظن – بما يبدو من ظاهرة كثرة الروايات – من أن تفسير الإمام الطبري لا يعدو أن يكون من التفسير بالمأثور، هو ما قرره فريق من المُحدثين وبعض المستشرقين في دائرة المعارف الإسلامية(3)، ومن قبلهم العلامة ابن خلدون(4) حتى عَدَّ الإمام الطبري من مدوني التفسير بالمأثور، وهذا النظر – في اعتقادنا – مُبتَسر لا يعدو هذه الظاهرة إلى ما وراءها من "المنهج العلمي" الذي التزمه الإمام في تفسيره، استناداً إلى قواعد محررة، فرضتها طبيعة النظم القرآني نفسه، وخصائصه في البيان، فضلاً عمَّا اقتضته ظروف تنزيله، خلال ثلاثة وعشرين عاماً تقريباً، مما يطلق عليه "أسباب النزول" بما يساعد على تحديد "الأوضاع" التي كانت مناسبات ودواعي لنزول ما يتعلق بها من تشريعات بدلتها، أو أزالت معالمها، باعتبارها معالم جاهلية فاسدة، مما يمكن معه الوقوف على اتجاهات التشريع الجديد، وغاياته من الإصلاح الاجتماعي، وتحقيق الخير الإنساني العام، على ما سيأتي بحثه مفصلاً، وهو ما اضطلع به الإمام الطبري، الأمر الذي لا يصح معه القول، بأنه من "مدونيّ التفسير بالمأثور" الذين أخلصوا أنفسهم له، مما يستلزم إمِّحاء "الشخصية العلمية" للإمام، إذ غدا – على أساس هذا الظن الواهم – مجرّد ناقل، وجامع، ثم مدون لهذه النقول، وهو ما ينقضه واقع صنيع الإمام في تصرفاته في وجوه المعارف التفسيرية المأثورة، من السنة، متناً وسنداً، أو في "مواقفه" من الآراء الاجتهادية المأثورة عن علماء الصحابة، ومن تتلمذ لهم من أئمة التابعين(5) وعلماء الأمة من بعدهم(6).
هذا، وبإمعان النظر فيما يعرض الإمام من "كثرة الروايات" يُرى أنه إنما يقصد من وراء ذلك إلى "استقصاء" ما ورد في مدلول اللفظ المفرد، أو الجملة، أو الآية الكريمة، من معان متحدة، أو متغايرة –توقيفية كانت أو لغوية- أو ما صدر عن أئمة التفسير الثقات من آراء هي ثمرة الاجتهاد بالرأي، أقول: إنما يفعل الإمام ذلك، جمعاً واستقصاء، وتدويناً –فيما نرى- بغية نقدها، وتمحيصها، وترجيح ما هو أقوى دليلاً، أو رفضها جملة، إذا لم تعتمد أصلاً شرعياً ثابتاً، ثم تراه يقيم الدليل على ما يذهب إليه، ويرجحه، أو يرفضه، جازماً غير متردد، حتى لم يسلم من نقده الثقات من تلاميذ ابن عباس، من مثل "مجاهد"(7) من التابعين المشهود لهم بالإمامة في التفسير، ومن أولي الرأي فيه.
هذا، والواقع، أنه لا يمكن على المنهج المتخذ في بحث مادة ما، ووزنه علمياً، ومنطقياً، إلا من خلال طبيعة تلك المادة، وخصائصها التي تفرضها على الباحث، ولعل من أبرز خصائص النص القرآني، أنه يخاطب النفس الإنسانية، حيثما وجدت، تجد هذا بيناً في ظواهر نصوصه، وفيما حدده الأصوليون من مدلول الحكم الشرعيّ الذي تعبر عنه النداءات الإلهية – فيما تعبر عنه من تعاليم، ومبادئ عامة، وتوجيهات، وتكاليف- نصاً أو دلالة، من أنه: "خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين(8) مما يدل على أن القرآن الكريم، قد أولى الجانب العملي للحياة الإنسانية عناية "بالغة"، واتخذ من الأصول العامة التشريعية – فضلاً عن العقائد والعبادات والآداب- ما يرقى بالجانب الروحي أيضاً، تحقيقاً للتوازن بينهما، وتوجيهاً إلى الغاية المثلى من الوجود الإنساني على وجه هذه الأرض، مما ينبغي أن يُعتدَّ به أصلاً جوهرياً في المنهج العلمي للتفسير، لا يخالف عن مقتضاه.
هذا، والقرآن الكريم لا يفتأ يصوّر للنفس الإنسانية رؤى مثيرة تغريها بتحقيقها، ابتغاء الارتقاء بها إلى مستوى يحقق معنى إنسانيتها في مواقع الوجود، مما تطمح هي إليه، وتستشرفه من القيم، بحكم فطرتها، إذا سلمت مما تلتاث به من مخلفات البيئة الموروثة، والتقاليد المصطنعة، والأعراف البالية المتحكمة، أو الأهواء الفاسدة المتبعة، أو التفكير الضَّال.
هذا، ويستغرق الخطاب الإلهي كافة وجوه النشاط الإنساني، توجيهاً وهيمنة، بما يستقيم به أمر هذه الحياة في جانبها العملي بوجه خاص-عقائد وعبادات، وآداباً، وتشريعاً عملياً يتغيَّا تحقيق كافة المصالح الحيوية الحقيقية الجديّة المعقولة المتنوعة-وبما يوجب اللفت إلى مواطن العبَر، يستخلصها من تجارب الماضين، وقصصهم، منذ بدء الخليقة، نتيجة حتمية لسنن اجتماعية، وكونية ثابتة، لا تجد لها تبديلاً، مما يؤذن بضرورة دراسة هذه السنن وتفهم مقتضياتها، إذ الإيمان بسنن الله في كونه، كالإيمان بأحكام الله في شرعه، سواء بسواء، مما يختلف مدى العلم به، والتعمق فيه، باختلاف ثقافة المفسر، وسعة مداركه التي يحددها مبلغ ما وصل إليه التقدم العلمي في عصره، وهذا يستلزم اختلاف التفسير والفهم باختلاف التقدم العلمي وتطوره، في كل عصر، أقول ذلك الخطاب الذي يتوجه إلى النفس الإنسانية – نصاً أو دلالة- يحمل في دلالاته- اللغوية والعقلية –معاني شتى تتعلق بشؤون الحياة الإنسانية، وتتضافر شِعابه على قيادة المجتمع البشري، في كل عصر، بما يدبر الأمر في الاعتقاد أولاً، باعتباره المنطلق الأساسي للسعي المسؤول، حتى يكون السلوك اعتقادياً، بمعنى، أن يسلك الإنسان ما يعتقد، أيَّاً كان مركزه الاجتماعي، لقوله تعالى: (من عمل صالحاً، من ذكر أو أنثى، وهو مؤمن، فلنحيينه حياة طيبة((9). فكان الاعتقاد سلوكياً في المقام الأول، وليس مجرد فكرة ميتافيزيقية مجردة لا صلة لها بالواقع المعاش، فضلاً عمّا يرسي ذلك الخطاب الإلهي من أصول تنهض بالحرية المسؤولة، والمساواة الواقعية بين الشعوب في معدن الكرامة الإنسانية التي هي منشأ حقوق الإنسان، والعدلِ المطلق، باعتباره حقاً خالصاً مشتركاً بين الآدميين، وبحكم جبلتهم الآدمية، مما لا يعبث بميزاته، اختلاف دين، أو عنصر، أو لون، أو عصبية، أو طائفية، أو مذهبية، أو مودة، أو قرابة بل ولا عداء، لقوله تعالى: (ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى((10) وفي هذا إشارة بالغة إلى "إطلاق مفهوم العدل" في القرآن العظيم، ومبلغ الحرص على إقامته وتحقيقه بربطه بالتقوى الدينية المتورعة التي جعل القرآن من مفهومها، معنى عملياً منوطاً بإقامة العدل واقعاً بين البشر، تمكيناً للجانب العملي للحياة الإنسانية، واتخذ من "التقوى" تعبيراً واقعياً له، حتى يكون العدل مظهراً عملياً ملموساً للتقوى، ربطاً للمعنى الاعتقادي بالواقع العملي الحيوي، في أرقى صوره، وأسمى معارضه، وهذا يؤكد المعنى الذي أسلفنا –خصيصة تفردت بها العقيدة الإسلامية- من كونها عقيدة سلوكية، وإن السلوك اعتقادي بما تنبع بواعثه منها، مما يجعل "العقائد" في القرآن الكريم، أمراً غير مقصور على "الغيب" فحسب، بل هو متصل –كما ترى- أوثق اتصال، بالواقع المعاش، اتصال الروح بالجسد، تأثيراً أو حكماً، أو على حد تعبير الأصوليين، اتصال الباطن بالظاهر، بحيث لا يتصور انفصام بينهما في مواقع الوجود، نظرياً، ولا ينبغي أن يكون ذلك بينهما عملياً، ومن هنا، كانت الأفعال من العقود وسائر التصرفات معتبرة بالنيات والقصود، صحة وفساداً(11)، لقوله(: [إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى] ترتيباً للنتائج والثمرات على بواعث "التقوى" دنيوياً وقضائياً، فضلاً عن الحكم الدياني، وتوجيهاً للطاقات الروحية والنفسية في الإنسان، وتنقية لها مما عسى أن يشوبها عادة من أوضار، وتزكية لها، أن يلابسها من منازع الشر، والهوى، أو يخالجها أحياناً من ضلال الفكر، واشتباه الحق والتباسه بالباطل(12).
وأما فيما يتعلق بالحكم الدياني، توجيهاً للطاقات الروحية، فقد أشار الإمام الطبري في تفسيره إلى قوله تعالى: (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل، وتدلوا بها إلى الحكّام، لتأكلوا فريقاً من أموال الناس بالإثم، وأنتم تعلمون( أشار إلى هذه التفرقة بين الحكم القضائي والدياني مأثوراً عن التابعين، حيث يقول: "حدثنا الحسن بن يحيى.. عن قتادة في قوله: "(وتدلوا بها إلى الحكام( قال: (لا تدلِ بمال أخيك إلى الحاكم، وأنت تعلم أنك ظالم، فإن قضاءه لا يحل لك شيئاً، كان حراماً عليك)(13). ثم إن القرآن الكريم يستثمر هذه الطاقات بعد تنقيتها –بالعقيدة والتشريع معاً- في الخير الإنساني العام، لما للروح النقية الصافية من طاقات هائلة تمكِّن الإنسان من الارتقاء إلى عليا درجات الكمال، ولما لها من أثر في السلوك الحيوي أي أثر!
هذا، ولا ريب أنك وقفت – من خلال ما قدمنا – على الملحظ الإنساني العميق من اعتبار القرآن العظيم، العدل المطلق قيمة كبرى في المجتمع الإنساني، تعلو على اختلاف الدين، والعنصريات، والطائفيات، والانفعالات من المودة، والبغض، والقرابة، وما إلى ذلك، إزالة للعقبة الكؤود التي تحول دون تحقيق "رسالته" من الإصلاح الاجتماعي، وإقامة أسس الحضارة الإنسانية الموضوعية المطلقة التي لا تقبل التجزئة – زماناً، ومكاناً، وأناسيَّ – ولتنهض بالتعاون الحيوي الضروري المشترك في ميدان البر الإنساني العام الذي ينهض بالتواصل الحضاري حتماً، بما يتم في ظله من تبادل المنافع المادية والمعنوية، تبادلاً عادلاً يسد افتقار بعض الدول بما هو متوافر عند بعضها الآخر، بحكم تنوع الثروات في البيئات المنتشرة على وجه البسيطة، مما يخضع لاختلاف العوامل الجغرافية، أو التقدم والتخلف في المضمار العلمي والثقافي، فكان هذا، تكاملاً تقتضيه ظروف "الحياة الإنسانية" نفسها في أصل نشأتها، وتباين البيئات أو الظروف الكونية، وهو المشار إليه في النداء الإلهي للناس كافة، لا بوصف إيمانهم، بل بوصف إنسانيتهم، بما يلفت إلى أصل تكوينها من ذكر وأنثى، في مثل قوله تعالى: (يا أيها الناس، إنَّا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا( والتعارف مقصود به التعاون على الصعيد الإنساني والعالمي اتفاقاً، وليس عسيراً على التعقل النافذ الواعي أن يشتق من هذه التعاليم، ما يستهدفه القرآن العظيم، من اعتباره الحياة الإنسانية، وحدة متسقة كاملة في شتى بقاع الأرض، فضلاً عما جاء به مما يسندها، ويوطد دعائمها، ويُحكم ترابطها، من "أصول الأخلاق" التي يرتد إلى "الحاسة الفطرية"(14) في الإنسان، تقديرها، واعتبارها: من الرحمة، والتكافل، والإيثار، والإحسان يفوق العدل الدقيق –قضاء واقتضاء- في التعامل، والصدق، والإخلاص، والإتقان في العمل وتجويده، والوفاء بكل التزام ينشأ عن عقد أو تصرف في الميدان الداخلي، أو عن معاهدة تبرم على صعيد العلاقات الدولية، على أساس من المساواة في الاعتبار، مبرأة من أسباب الدَّخَل، والمراوغة، والخداع، والحيف، والشطط، أو التسلط، والإكراه، والتعجيز، بشروط تمليها الغلبة والقوة الغاشمة، لعموم قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود( أضف إلى ذلك كفالة تلك المبادئ، والقيم الموضوعية المطلقة – ذاتاً ومكاناً وزماناً وأناسيَّ حال تنفيذها – بما يحقق للأمة السيادة والعزة والمنعة، إن في كيانها الداخلي، أو في وجودها الدولي، إلى الزمن المقدر لبقاء هذا العالم.
هذا، ولعل من أبرز خصائص النص القرآن في بينات هداه أيضاً، هذا "التسامح الديني" تجاه المخالفين، بما يوجب البر والإقساط إليهم، ما لم يكونوا محاربين، فقضى بذلك على التعصب الديني، والمذهبي، وعلى الأزمات الطائفية التي بات يعاني من ويلاتها وشرورها وآثامها اليوم كثير من شعوب الأرض، أثراً من آثار الاستعمار، بما انتهج من سياسة التفريق المعروفة، للإضعاف والاستضعاف، توصلاً إلى الاحتلال، والاستلاب، والهيمنة، وإشاعة الظلم والفساد، مما يفضي إلى تسافك الدماء والتقتيل والتشريد، وتخريب معالم الحضارة، وهو ما يطلق عليه القرآن الكريم: العدوان، والبغي والفساد في الأرض(15)، عنوة وبقوة السلاح، تطبيقاً لشريعة الغاب واللامعقولية، وهو المعني بما يطلق عليه القرآن الكريم "حكم الجاهلية"(16).
هذا، والقرآن الكريم، إذ يمكِّن – بتعاليمه، وبيناته، وأصول تشريعه، ومقاصده الأساسية – أقول إذ يمكِّن بهذا كله للجانب العملي من الحياة الإنسانية، يستجيب في الوقت نفسه – لرغائب الروح في استشرافها للقيم والمثل العليا – كما قدمنا – تحقيقاً "للتوازن" بين مطالب الجسد والروح معاً، أو قل بين مطالب الحياة المادية، ومطامح الحياة الروحية، من القيم الإنسانية الخالدة، دون أن يتيح لإحداهما الحيف على الأخرى، ذلك، لأنه لا يرى في المطالب المادية مشكلة يتعثر بها سير الحياة بالناس، بما يورثها من التخلف أو الضعف أو الحرمان، لأنه –سبحانه- خلق للناس ما في الأرض جميعاً، مباحاً للانتفاع والتصرف، فكان هذا أصل الحل العام، وما عداه من المحرمات قد جاء على سبيل الاستثناء، مفصلاً محصوراً في عدد يحصى قلة، ترى هذا مدلولاً عليه، بقوله سبحانه: (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً((17) وقوله تعالى: (وقد فصَّل لكم ما حرم عليكم، إلا ما اضطررتم إليه((18).
هذا، وأورد القرآن الكريم النص الذي يتعلق بأصل الحل العام: (خلق لكم ما في الأرض جميعاً( مورد الامتنان، ولا امتنان في غير إسباغ النعم- المادية والمعنوية- على السواء، ووصفها بأنها ظاهرة وباطنة لإفادة العموم من حيث أنواعها وطبائعها: (وأسبغ عليكم نعمة ظاهرة وباطنة((19) فضلاً عن تسخير ما في السموات والأرض للإنسان: (وسخر لكم ما في السموات والأرض((20) تذليلاً واقعياً بيَّنا، يقصد به أن يكون مادة للانتفاع، والتصرف، وللبحث العلمي الذي يتبين به ما تحكم به الموجودات في الكون وأجواز الفضاء، من سنن ثابتة مطردة، فضلاً عما ينبغي أن يتخذ من المنجزات العلمية المتطورة، بفعل التقدم العلمي، من دلائل عقلية باهرة على عظمته سبحانه، وجلاله، في قدرته وبديع صنعه، ولعل في قوله تعالى: (إنما يخشى الله من عباده العلماء((21). إشارة إلى هذا المعنى، الأمر الذي يجعل للتقدم العلمي وتطوره في شتى مناحيه، وفي كل عصر، أثراً بالغاً في ترسيخ عقائده، من جهة، وفي تمكين العقل من تفهم النص القرآني، وتوسيع مفاده، وتعمق مداركه، واستبطان دلالته، ومعانيه، وبعيد مراميه، من جهة أخرى.
وعلى هذا، تبين أن القرآن الكريم، يرى أن "المشكلة الإنسانية الكبرى" كامنة في فقدان هذا "التوازن" بين مقتضيات المثل العليا، والقيم الإنسانية الموضوعية من جهة، وبين مطالب الحياة المادية واحتياجاتها، من جهة أخرى، ومن هنا، تراه – في تعاليمه – لا يجيز مطلقاً الإفراط أو الغلو في إحداهما، على حساب الأخرى –كما أشرنا- إغراقاً في المادة، وعبادة لها، أو رفعاً لها فوق القيم العليا، كما لا يجيز غلواً في الجانب الروحي، وإسرافاً فيه(22)، بحيث يفضي به إلى اعتزال الحياة الدنيا، أو ازدرائها، وما ينبغي لامرئ أن يحتقر دنياه وقد خلقت من أجله، ولا يتوهمن أحد أنه باعتزاله إياها، وانصرافه عنها أو زهده فيها، يتقرب إلى الله زلفى، بل هو – في واقع الأمر – عصيان، ومخالفة عن أمر ربه، بما يتخلى عن "رسالته" في الحياة التي تبرر استخلافه فيها، بما هي "أمانة" قد حُمِّلها، بصريح النص القرآني، وعهد إليه أداؤها، تكليفاً، فكانت مادة ابتلائه في صدق العبودية لربه طوال عمره، وهي –في الوقت نفسه- وسيلة عملية، لتحقيق عزته وسيادته فيها، صلاحاً وإصلاحاً للكون، تعميراً أو إشادة، لقوله تعالى: (إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها، وأشفقن منها، وحملها الإنسان( بل تفسر الوجود الإنساني كله على وجه الأرض، بما تنهض بمعقوليته، وتقصي الإنسان العَقول عن فكرة الفناء الأبدي الرهيب.
ولا جرم أنه بتحقيق "التوازن" في تعاليم هذا الكتاب العزيز، حُلَّت أعظم مشكلة تواجه المجتمع البشري منذ نشوئه، بما جمع فيه مما تقتضيه الفطرة الإنسانية ذاتها، ظاهراً وباطناً، جسداً وروحاً، جمعاً عملياً محكماً، لا إعنات فيه، ولا حرج، ولا استعصاء على التنفيذ، بما يقوم على خبرة عميقة بأسرار النفس الإنسانية، ومنازعها، لقوله تعالى: (ألا يعلم من خلق، وهو اللطيف الخبير((23)، وقوله تعالى: (ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه، ونحن أقرب إليه من حبل الوريد((24)، وقوله جل ثناؤه (كتاب أحكمت آياته، ثم فصِّلت من لدن حكيم خبير((25) ذلك، لأن الذي فطر الفطرة، هو الذي أنزل الشرع على قدرها: (فأقم وجهك للدين حنيفاً، فطرة الله التي فطر الناس عليها، لا تبديل لخلق الله، ذلك الدين القيم((26) وتلك آية من آيات الإعجاز البيان الذي لا يتسع المقام لتفصيله، وإنما وكدنا أن نلفت الذهن إلى وجوب اتخاذه أصلاً مكيناً يرتد إليه التفسير العلمي، ولا يخالف عن مقتضاه، وإلا خرج عن مفهوم الحق القرآني، وما تقضي الدلالة فيه.
على أنك لو أمعنت النظر العلمي في "قوام هذا الجمع" لتبدى لك أنه جمع بين "مثالية المبدأ، وواقعية الحياة الإنسانية" على نحو محكم، غير مستكره، لانتفاء الحرج والإعنات في الدين كما قلنا، لقوله تعالى: (وما جعل عليكم في الدين من حرج((27) ولقوله جل ثناؤه (ولو شاء الله، لأعنتكم((28) لكنه سبحانه لم يشأ هذا الإعنات لخلقه، وفي هذا دلالة بينة على أنه لا ينبغي للناس أن يوقعوا أنفسهم في عنت الحياة(29) الذي لم يرد الله تعالى إيقاعهم فيه، في أحوالهم العادية، إلا أن يكون جهاداً في سبيل الله، حيث تفرض التضحيات الجسام، بكرائم الأنفس والأموال، حفاظاً على القيم والمثل، والكيان، والعزة والسيادة في الأوطان، واتقاء من سوء المصير في الدنيا والآخرة، مما يقيم الدليل البين أيضاً، على أن مهمة القرآن الكريم هو توفير أسباب تحقيق وجوده عملاً، وإمكانية تنفيذ تعاليمه، ومقاصده، في الحياة الإنسانية، واستمرار تنفيذها من خلال السعة(30) والطاقة البشرية الموكول إليها هذا التنفيذ، كيلا ينقطع بهم "العنت" عن مواصلته، وحينئذ "لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له"(31) ولهذا كان مبدأ دفع الحرج في التكليف، والترخيص في مواقع الضرورة، أو المشقة البالغة غير المعتادة، مبدأ أصيلاً قاضياً على التشريع كله، استثناء من عموم قواعده، وعلى هذا ينزَّل تفسير النص القرآني الذي تعلق حكمه بالمعاملات وغيرها من شؤون الحياة.
هذا، وضماناً لهذا التنفيذ، قد أعدَّ الله تعالى الإنسان إعداداً فطرياً خاصاً، وعلى أحسن تقويم، تمكيناً له من الأداء، في يسر، وقطعاً لما عسى أن يتشبث به من حبائل المعاذير، وإقامة للحجة البالغة عليه، لقوله تعالى: (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم((32) وقوله عز وجل: (بل الإنسان على نفسه بصيرة، ولو ألقى معاذيره((33) ولقوله جل شأنه: (فلله الحجة البالغة((34).
من خصائص النص القرآني، في تعاليمه، ودلالاته – اللغوية والعقلية – أنه لم يجتزئ بمجرد الهداية والتوجيه، بل أضاف إلى ذلك "الحكم" والهيمنة، ليتبوأ مركز "القيادة في الحياة الإنسانية" واقعاً، بما يرتب من "النتائج العملية" على الأداء، وسائر وجوه النشاط الإنساني.
ذلك، تحقيقاً لثمرات تعاليمه، بحيث تصبح أوضاعاً قائمة في المجتمع – اجتماعياً، وسياسياً، واقتصادياً، وعسكرياً، ولكافة ما تقتضيه الحياة الإنسان المثلى، من مرافق – لما قدمنا، من أن "الحكم" في المفاد القرآني مستغرق لوجوه النشاط الإنساني كله، وهذا وصل عام ينبغي أن يكون مرعياً في التفسير، ويعتمد بالضرورة على سعة ثقافة المفسر، في كل عصر، بما يوجب عليه أن يرتفع إلى المستوى الذي رسمته خيوط التقدم الثقافي والحضاري في عصره، أبان تفسيره، ليستجيب لحاجاته كمَلاً.
وهكذا ترى، أن النص القرآني في نظمه البياني المعجز، قد جاء على نحو يحتفظ لمعناه "الموضوعية" و"ديمومة الحكم" و"استمرارية الأثر" فضلاً عمَّا أحكم من الصلة بين الروح والجسد، والحياة والدين، والدنيا والآخرة، وحدة كاملة لا تقبل الفصل في أي منها، وما يوفر لها من عناصر القناعة بمنطقية تلك التعاليم، ويفسر معقولية الغاية القصوى من الوجود الإنساني على وجه هذه الأرض، بما ينفي عنها السُّدويَّة، والعبث، واللامعقولية التي تتجلى في فكرة الفناء الأبديّ الرهيب، مصداقاً لقول تعالى: (أيحسب الإنسان أن يُترك سدى( ولقوله عز وجل: (وما خلقنا السموات والأرض، وما بينهما لاعبين، ما خلقناهما إلا بالحق(، ولقوله عزَّ شأنه: (تبارك الذي بيده الملك، وهو على كلِّ شيء قدير، الذي خلق الموت والحياة، ليبلوكم أيكم أحسن عملاً(.
هذا، والبدء المنطقي المعقول الذي انطلق منه النص القرآني في رسالته للصلاح الإنساني، والإصلاح العالمي، هو نقطة إصلاح النفس البشرية، بما يتعاورها من نوازع وأهواء، لأن إصلاح العالم، لا يتم إلا بصلاح المهيمن عليه المستخلف فيه واقعاً، وهو "الإنسان" ومن هنا تجد آيات كثيرة لا تحصى تعالج النفس الإنسانية، بعد تبصيرها بطريقي الخير والشر. لقوله تعالى: (وهديناه النجدين( رشداً وغياً، وتجعل تزكية النفس الإنسانية، أو تَدسسيتها، رهناً بالإرادة الذاتية لصاحبها (قد أفلح من زكاها، وقد خاب من دساها( فوضعه بذلك على مفترق الطرق، وحذره أن تتفرق به السبل، لقوله تعالى: (ولا تتبعوا السبل، فتفرق بكم عن سبيله((36) ولا شيء يفرق الأمة، طرائق قدداً، أشد من تعدد الاتجاهات وتضارب الغايات، وفساد الاعتقاد، ولا شيء يكسب الأمة منعة وقوة ووحدة، من وحدة الغاية، وصحة الاعتقاد: (واعتصموا بحبل الله جميعاً، ولا تفرقوا((37) (وإن هذه أمتكم أمة واحدة، وأنا ربكم فاعبدون((38).
أقول، آيات كثيرة لا تحصى تعالج النفس الإنسانية، بتغليب منازع الخير فيها، لتسلك سبيله، بدليل جعله "مادة الابتلاء" في السعي الدنيوي المسؤول:
(ونبلوكم بالشر والخير فتنة((39) وتتخذ تلك الآيات – في سبيل الوصول إلى غايتها، والنجح في هدايتها وتوجيهها وحكمها – أسلوب الترجية والترهيب، أو البشارة والنذارة(40).
هذا، ويشير القرآن الكريم إلى أساس هذه المعالجة، ومنشَئِها، في كثير من آيهِ وبأسلوبه المزدوج من البشارة والنذارة، من أن في النفس الإنسانية، قوتين متصارعتين أبداً: قوة تدميرية طاغية، رابضة في أعماق النفس البشرية، وقوة أخرى تنتزع إلى الخير نزوعاً قوياً أيضاً، فتراها تتشوق إلى الحق والعدل، وتتشوف إلى القيم الموضوعية الإنسانية، والمثل العليا الخالدة، استشرافاً نابعاً من الفطرة السليمة ذاتها، حين لا تنازعها مخلفات البيئة أثرها – أو عوامل الشر تطلعاتها، مما يفسد عليها صفاءها، ويعكر نقاوتها – كما أسلفنا – ثم يسلمها آخر الأمر إلى الطغيان العاتي والعدوان الظالم، بل والإمعان فيهما، على النحو الذي يُرى على الصعيد الدولي، مما هو واقع ومشهود، فكان لا بدَّ لإصلاح النفس الإنسانية من سند روحي، يغلِّب عوامل الخير على منازع الشرّ فيها، ولا نعلم غير الدين من العلم أو الضمير، يقوم مقامه في التأثير في ميدان النفس الإنسانية، ذلك لأنه ثبت قطعاً أن الإنسان إذا خُلِّي وأمر نفسه، تغلبت عوامل الشر فيها، فطغت على حكمة العقل، وحيوية الضمير، أقول قد أشار القرآن الكريم إلى هاتين القوتين المتصارعتين أبداً في ميدان النفس الإنسانية، بقوله سبحانه: (إنَّا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه، فجعلناه سميعاً بصيراً، إنَّا هديناه السبيل، إما شاكراً وإما كفوراً((41) وقوله تعالى: (إن النفس لأمارة بالسوء، إلا ما رحم ربي((42) وقوله عز وجل في المحاورة التي حكاها القرآن الكريم: (إني جاعل في الأرض خليفة، قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء، نحن نسبح بحمدك، ونقدس لكَ، قال: إني أعلم مالا تعلمون((43) مما يتضمن تقريراً لأصالة هذه "النزعة الشريرة في الفطرة الإنسانية" غير أنه تعالى قد أشار إلى ما استقر فيها أيضاً من قوة منازع الخير، وهو سبحانه أعلم بها، وبآثارها، فكان هذا الاستخلاف الإنساني في الأرض، دليلاً على جدارة الإنسان به على الرغم من تأصُّل منازع الشر فيه.
ويترتب على هذا، أنه كلما ازداد المفسر خبرة بدقائق النفس الإنسانية، كان تفسيره أقرب إلى الحق القرآني، وأكثر مطابقة "لسمو معانيه" بما يتهدى سمت الحق الذي نصب الشارع الدلالة عليه، وأنه بتطور معارفه، وثقافته، عمقاً وسعة ودقة، يتطور فهم المفسر في تحديده لمفاد النص القرآني، عمقاً وسعة، تبعاً لذلك، بما هو جم المدارك، عميق الدلالات، لقوله عزّ شأنه: (قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي، لنفد البحر، قبل أن تنفد كلمات ربي، ولو جئنا بمثله مدداً((44).
هذا، والواقع أن الفهم الإنساني للقرآن الكريم –فيما للرأي فيه مجال- يتطور، تبعاً لتطور أسباب كسب المعرفة ومصادرها في كل عصر، ولا سيما في ميدان النفس الإنسانية.
فتبين أن من مهمة القرآن الكريم في رسالته، توجيه هاتين القوتين المتصارعتين عبر الزمن، إلى ما فيه خير الإنسانية، لأن الإنسان هو الإنسان، وتسديد نزوعهما بما يكفل له صلاحه وعزته وسعادته، أفراداً وشعوباً، وأمماً.
نخلص من هذه "المقدمة" إلى أن للتفسير وظيفة كبرى عليه أداؤها في كل عصر بما يرتقي إلى مستواه، لأن النص القرآني، وبينات هداه "جم المدارك عميق الدلالات" – كما ذكرنا – يبلغ العقل الإنساني المتفهم منها، ما تسعفه طاقته العلمية والثقافية التي بلغها عصره، بما يدبر أمر الأمة في شتى مناحي حياتها، وبما يمسك عليها كيانها، ويمهد أمامها سبيل التقدم والازدهار، ويفصح عن هذا المعنى قوله(: [القرآن ذلول ذو وجوه، فاحملوه على أحسن وجوهه] وقد جرى على لسان السلف، قولهم: "إنك لن تفقه كل الفقه حتى ترى القرآن وجوهاً"(45) ليحمل النص القرآني اجتهاداً بالرأي إبان تطبيقه – على الوجه الذي يحقق للأمة مصالحها الجدية الحقيقية المعتبرة، مما يكون للخبرة العلمية مكان في تقويمها، شريطة ألا يكون ذلك الوجه قد استُكره النص القرآني على حمله عليه، لما أشار إليه النبي( في صدد بيان ما يخشى على مصير أمته من أمور ثلاثة أحدها: "ظهور رجال يؤوِّلون القرآن على غير تأويله"(46) وهو ما حذر منه أيضاً، عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- في قولته المشهورة: "أخاف عليكم أحد رجلين: رجل يتأول القرآن على غير تأويله"(47) أي تأويلاً مغرضاً مفتعلاً على غير الوجه العلمي الصحيح، أو على غير ما أنزل الله(48) مما يشير إلى أن للتفسير أثراً بالغاً على مصير الأمة، بما يتخذ هذا القرآن من مكانة القداسة والقيادة في حياة المسلمين.
يرشد إلى هذا أيضاً، قوله تعالى: (ثم جعلناك على شريعة من الأمر، فاتبعها، ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون((49) ويقول الإمام الشافعي في الرسالة، استدلالاً بهذه الآية الكريمة: "وهذا يدل على أنه ليس لأحد دون رسول الله، أن يقول إلا بالاستدلال"(50) أي المستند إلى أصل ثابت في الشرع.
وعلى هذا، يبدو لنا، أن التفسير يفقد وظيفته، بل ويصبح غير جدير بهذا الاسم، إذا لم يجاوز حدود التحليل اللفظي للمفردات، أو الوجه الإعرابي النحوي، أو بيان النكات البلاغية، بل عليه النفاذ إلى ما تضمنه النص القرآني من وجوه الهداية الإلهية، وتعاليم الوحي، واستشراف مراميه البعيدة التي تمثل حِكَم التشريع التي هي بطبيعتها "عناصر عقلية" لا يمكن استخلاصها، أو تبنيها إلا بالفكر النفاذ، والبصيرة النيرة، والعقل المدرك، بالنظر إلى طبيعة هذا النص، من حيث تصرفه في وجه البيان، على نحو معجز، وبما يزخر به من المعاني العقلية والوجدانية، والحكم الغالية الرفيعة، في بينات هداه، لذا كان الرأي العلمي من أهله –وفي مجاله- مما يتوقف عليه الإفصاح الموضوعي الأمين، عن معاني القرآن الكريم، توقفاً بعيد المدى، الأمر الذي يجعل قيمة التفسير منوطة بهذا المعنى، وبهذا الأداء على نحو يقرب الهداية الإلهية إلى النفوس، ويهيمن بسمو معانيها على الأرواح، بما ثبت حقاً أنه هدى ورحمة للعالمين.
على أن هذا الوجه من التفسير بالرأي من أهله القائم على الدليل، يتعلق بقسم كبير من القرآن الكريم، وهو ما أشار إليه الإمام الزركشي في كتابه البرهان، وجعله مختصاً بالعلماء، حيث يقول ما نصه: "وكل لفظ احتمل معنيين فصاعداً – أي غير قاطع الدلالة – فهو الذي لا يجوز لغير العلماء الاجتهاد فيه، وعلى العلماء اعتماد الشواهد والدلائل، وليس لهم أن يعتمدوا مجرد رأيهم فيه"(51) ومعظم آي القرآن الكريم ذلول ذو وجوه من المعاني، بمنطوق الحديث الذي تلونا.
وهذا يشير إلى أن التفسير بالرأي المجرد وعن غير علم، أو "التأويل المستكره" لهوى أو غرض معين، من الكبائر التي حذر الرسول( منه بقوله: [من تكلم في القرآن، بغير علم، فليتبوأ مقعده من النار](52) وهذا المصير يستلزم أن يكون التأويل المستكره القائم على الهوى والغرض أو الرأي المحض من الكبائر.
ونتناول فيما يلي بحث المنهج العلمي الذي التزمه الإمام الطبريّ في موسوعته التفسيرية، ولما كان المقام لا يتسع للتفصيل، فقد اقتصرنا على بيان المعالم.
منهج البحث
-المقدمة:
-معالم المنهج العلمي الذي التزمه الإمام الطبري في تفسيره للقرآن العظيم:
أولاً-المأثور من السنة الثابتة، مما اعتمده الإمام أصلاً جوهرياً في منهجه، ومصدراً علمياً لتفسيره، ووجه تأصيله.
أ-بيان وجه حاجة القرآن الكريم الماسة، إلى المأثور.
ب-فطرة البيان القرآني نفسه، ومنهجه في بيان الأحكام.
ثانياً-مأثور السلف، ركناً مكيناً في منهج تفسير الإمام، وتقويمه أصولياً.
ثالثاً-معاقد الإجماع.
رابعاً-المنطق اللغوي، باعتبار أن دلالة القرآن على معانيه –في الأصل- ذاتية، وذلك حين يعوز الأثر، والإجماع، واستجابة لخصائص النص القرآني في كافة دلالاته اللغوية والعقلية.
خامساً-موقف الإمام الطبري من مبدأ أعمال الرأي القائم على العلم في منهج تفسيره، وأن رفضه تقديم الرأي المجرد على ما اختص الله تعالى نبيه ببيانه، لا يستلزم منع التفسير بالرأي بإطلاق.
سادساً-مقارنة بين موقف الإمام من الاجتهاد بالرأي في التفسير، وبين موقف المحققين من أئمة التفسير، والأصوليين والفقهاء، وأئمة علوم القرآن، مشتقاً من واقع نصوصهم في مصنفاتهم.
سابعاً-موقف الإمام الطبري من "التأويل" بوجه خاص، منهجاً عقلياً في التصرف في المعاني دون الألفاظ، بما يشمل:
أ-مفهوم التأويل في اللغة.
ب-مفهوم التأويل في استعمال القرآن الكريم.
جـ-مفهوم "التأويل" في البيئة الأصولية.
د-ما استقر في تفسير الإمام الطبري، من "التأويل" مفهوماً واستعمالاً.
هـ-ما يستند إليه "التأويل" من أصول السنة، وما انتهجه الصحابة في اجتهاداتهم مما يتصل بالتأويل، استنباطاً وتطبيقاً.
7
7
7
7
يتبع >>>