الإمام الحافظ العُماني أبو محمد الحسن بن علي بن سعيد المقرئ - بحث لعزة حسن

إنضم
07/08/2006
المشاركات
107
مستوى التفاعل
0
النقاط
16
الإمام الحافظ العُماني

أبو محمد الحسن بن علي بن سعيد المقرئ

عالم القراءات الكبير



الدكتور عزة حسن

دمشق



نشأة علم القراءات وبدء التأليف فيه

نزل القرآن وحياً إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم، في مدة ثلاث وعشرين سنة، من يوم مبعثه إلى حين وفاته. وكان يقرأ ما ينزل من آيات القرآن على الصحابة ليحفظوها، ويقرؤوها في صلواتهم، ويسيروا على هداها في عباداتهم، ويعملوا بمقتضاها في معاملاتهم.



فتجرّدوا لتصحيحه، وبذلوا أنفسهم في إتقانه. وتلقَّوْه من النبي صلى الله عليه و سلم حرفاً حرفاً. لم يهملوا منه حركة ولا سكوناً ولا إثباتاً ولا حذفاً. ولا دخل عليهم في شيء منه شك ولا وهم. وكان منهم مَنْ حفظه كلَّه. ومنهم من حفظ أكثره. ومنهم من حفظ بعضَه. كل ذلك في زمن النبي صلى الله عليه و سلم . وقد ذكر الإمام أبو عُبَيْد القاسم بن سلاّم في أول كتابه في القراءات مَنْ نُقِلَ عنهم شيء من وجوه القراءات من الصحابة وغيرهم([1]).



وقد أمر الرسول صلى الله عليه و سلم جماعة من الذين يحسنون الخط، وهم كتّاب الوحي، بكتابة ما ينزل من آي القرآن. ومن هؤلاء الكتّاب علي بن أبي طالب، وعثمان بن عفان، وهما من رجال قريش أهل مكة. ومنهم زيد بن ثابت، وأُبَيُّ بن كعب، وهما من الأنصار أهل المدينة. ومنهم عبد الله بن مسعود الهُذَلي. ومنهم آخرون غير هؤلاء المذكورين.

وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يتلو القرآن بلغات عديدة، أي بلهجات مختلفة، حسب اختلاف لغات قبائل العرب، وذلك للتسهيل على رجالهم، والتيسير على ألسنتهم في لفظه وقراءته. وكان يقول: »إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف، فاقرأوا ما تيسر منه«([2]).

وتوفي الرسول r من غير أن يأمر بجمع آي القرآن في كتاب، فظلت مفرقة، مكتوبة عند بعض الصحابة، ومحفوظة في صدور القراء منهم. وارتدّت قبائل العرب عن الإسلام بعد وفاة الرسول صلى الله عليه و سلم. وسار المسلمون إلى قتال المرتدّين، واسْتُشْهِد كثير من الصحابة في حرب اليمامة، حتى بلغ عددهم خمسمائة شهيد، وفيهم كثير من حَفَظَة القرآن([3]).

فهال مقتلُ القراء كبارَ الصحابة، وخافوا ضياع القرآن بمقتلهم. فبادر عمر بن الخطاب، ودخل على أبي بكر الصديق، وقال له: إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم يتهافتون في الحرب تهافتَ الفََراش، وإني أخشى أن يضيع كثير من القرآن بموتهم. ولم يزل به حتى أقنعه بفضل جمع القرآن. فأمر أبو بكر زيدَ بن ثابث الأنصاري بجمعه وكَتْبِه([4]).

ذكر الإمام أبو عمرو عثمانُ بن سعيد الداني:



قال زيد: فدعاني أبوبكر. فقال: إنك رجل شاب، قد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه و سلم، فاجمع القرآن واكتبه. فقال زيد لأبي بكر: كيف تصنعون بشيء لم يأمركم فيه رسول الله صلى الله عليه و سلم بأمر، ولم يعهد إليكم فيه عهداً؟ قال: فلم يزل بي أبو بكر حتى أراني الله مثل الذي رأى أبو بكر وعمر. فقال: والله، لو كلّفوني نقل الجبال لكان أيسر من الذي كلّفوني([5]).



وجاء في معجم "لسان العرب":



وفي حديث زيد بن ثابت حين أمره أبو بكر الصديق بجمع القرآن. قال: فعَلِقْتُ أتتبّعه من اللِّخاف والعُسُب. وذلك أنه استقصى جميع القرآن من المواضع التي كُتِب فيها. حتى ما كُتِبَ في اللخاف، وهي الحجارة، وفي العسب، وهي جريد النخل. وذلك أن الرَّقّ أعوزهم حين نزل على رسول الله صلى الله عليه و سلم. فأُمِرَ كاتب الوحي فيما تيسّر من كَتِف ولَوْح وجلد وعَسِيب ولَخْفَة([6]). وإنما تتبّع زيد بن ثابت القرآن، وجمعه من المواضع التي كُتِبَ فيها. ولم يقتصر على ما حفظ هو وغيره، وكان من أحفظ الناس للقرآن، استظهاراً واحتياطاً لئلاّ يسقط منه حرف، لسوء حفظ حافظه، أو يتبدّلَ حرف بغيره. وهذا يدل على أن الكتابة أضبط من صدور الرجال، وأحرى أن لا يسقط منه شيء. فكان زيد يتتبّع في مُهْلة ما كُتِب منه في مواضعه، ويضمه إلى الصحف. ولا يثبت في تلك الصحف إلا ما وجده مكتوباً كما أنزل على النبي صلى الله عليه و سلم، وأملاه على من كتبه([7]).



وأُودِعت الصحفُ المكتوبة عند أبي بكر، ثم عند عمر بن الخطاب حين ولي الخلافة، ثم عند ابنته حفصة أمِّ المؤمنين بعد وفاته([8]).



® ® ®

ومضى المسلمون يقرأون القرآن بالحروف التي تلقَّوْها عن الرسول صلى الله عليه و سلم، أو عن صحابته الذين تلقوها عنه. فظهر بين هؤلاء الصحابة شيء من الخلاف في التلاوة حسب سماع كل واحد منهم عن الرسول صلى الله عليه و سلم.

ثم زاد هذا الخلاف مع الزمن حين تفرقت جموع المسلمين في فتوح الأمصار. والتقى أهل العراق وأهل الشام في فتح أذْرَبَيْجانَ سنة ثلاثين من الهجرة، على عهد الخليفة عثمان بن عفان. فظهر بين الفريقين خلاف في التلاوة، واتهم بعضهم بعضاً بتغيير القرآن، ووقعت بينهم الشبهة، حتى كاد كل فريق يكفّر الفريق الآخر. وكان فيهم حُذَيْفَة بن اليَمان صاحب الرسول صلى الله عليه و سلم. فأفزعه خلاف المسلمين. فأقبل إلى الخليفة عثمان، وقال له: »أدْرِكْ هذه الأمة قبل أن يختلفوا اختلاف اليهود والنصارى، ويتفرقوا في أمر دينهم«. وأخبره بالخلاف الواقع بين المسلمين في قراءة القرآن([9]).

فبادر الخليفة عثمان، وأرسل إلى أم المؤمنين حفصة بنت عمر أن ترسل إليه صحف القرآن المُودعة عندها. فأرسلتها إليه. فأمر زيد بن ثابت الأنصاري بنسخها في مصحف واحد، وجعل معه في هذا الأمر الخطير جماعة من كبار الصحابة، هم عبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وهم من قريش أهل مكة. وقال لهم: إذا اختلفتم أنتم وزيد في شيء منه، فاكتبوه بلسان قريش، فإنما نزل بلسانهم([10]).

وعكف هؤلاء الصحابة الأعلام على العمل الجليل الذي عُهِد به إليهم. وكتبوا أربعة مصاحف، في أشهر الأقوال([11])، فوجّه الخليفة عثمان بمصحف منها إلى البصرة، وبمصحف إلى الكوفة، وبمصحف إلى الشام، وأمسك لديه مصحفاً، وهو الذي عُرف بالإمام. وفي قول آخر إن الصحابة المكلفين بهذا الأمر كتبوا ثمانية مصاحف([12])، وإن الخليفة وجّه بواحد منها إلى مكة، وبآخر إلى اليمن، وبآخر إلى البحرين، وترك مصحفاً في المدينة، غير الإمام الذي أمسكه لنفسه. وقد قيل: إنه جعله سبعَ نسخ. والقول الأول هو الأصحّ، وعليه الأئمة والعلماء([13]).ِ

ثم ردّ عثمان الصحف إلى حفصة أمّ المؤمنين، وأمر بكل ما في غير هذه المصاحف المكتوبة من القراءة، في كل صحيفة أو مصحف، أن يُحْرَق([14]). ثم أُحْرِقت أيضاً الصحف المحفوظة عند حفصة أم المؤمنين بنتِِ عمر بعد وفاتها. أحرقها مروان بن الحكم([15]) حين كان أمير المدينة مخافة أن يكون في شيء منها اختلاف لما أمر عثمان بنسخه في المصاحف التي كتبت في عهده.

® ® ®

وأجمع المسلمون على ما تضمنته هذه المصاحف، وتركوا ما خالفها، وقرأ أهل كل مِصْر بما في مصحفهم وتلقّوا ما فيه عن الصحابة الذين تلقَّوه عن الرسول صلى الله عليه و سلم. قال أبو عمرو الداني:



وإنما أخلى الصَّدْر منهم المصاحف من ذلك ومن الشكل، من حيث أرادوا الدّلالة على بقاء السَّعة في اللغات، والفُسْحَة في القراءات التي أذن الله تعالى لعباده في الأخذ بها، والقراءة بما شاءت منها. فكان الأمر على ذلك إلى أن حدث في الناس ما أوجب نَقْطَها وشكلَها([16]).



وحقاً كانت هذه المصاحف قد كتبت خالية من النَّقْط، أي إعجام الحروف وشكلها، لخلوّ الكتابة العربية آنذاك من هذه العناصر الخطية. فاحتملت قراءتها:



ما صحَّ نقله، وثبتت قراءته عن الرسول صلى الله عليه و سلم، إذ كان الاعتماد على الحفظ، لا على مجرد الخط. وكان من جملة الأحرف التي أشار إليها الرسول صلى الله عليه و سلم بقوله: إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف. فاقرأوا ما تيسّر منه([17]).



® ® ®

وأمر هذا الحديث شأن مشكل. وقد ذهب العلماء مذاهب شتى في تفسير المعنى المقصود بهذه الأحرف السبعة. ونرى أن أصحَّ هذه المذاهب، وأدناها للصواب وواقع الحال، هو أن المقصود بها لغات العرب، أي لهجات قبائلهم. جاء في معجم" لسان العرب":



ابن سِيدَه([18]): والحرف: القراءة التي تُقرأ على أوْجُهٍ. وما جاء من قوله عليه السلام: »نزل القرآن على سبعة أحرف، كلُّها شافٍ وكافٍ«. أراد بالحرف اللغة. قال أبو عُبَيْد وأبو العباس([19]): نزل على سبع لغات من لغات العرب. قال: وليس معناه أن يكون في الحرف سبعة أوجُهٍ. هذا لم يُسْمَع به. قال: ولكن يقول: هذه اللغات متفرقة في القرآن، فبعضه بلغة قريش، وبعضه بلغة أهل اليمن، وبعضه بلغة هَوَازِنَ، وبعضه بلغة هُذَيْل. وكذلك سائر اللغات، ومعانيها في هذا كله واحد... ومما يبين ذلك قول ابن مسعود([20]): إني قد سمعت القُرّاء فوجدتهم متقاربين. فاقرأوا كما عُلِّمْتم. إنما هو كقول أحدكم: هلمَّ، وتعالَ ، وأقْبِلْ. قال ابن الأثير: وفيه أقوال غير ذلك. هذا أحسنها... وروى الأزهري([21]) عن أبي العباس([22]) أنه سئل عن قوله: نزل القرآن على سبعة أحرف. فقال: ما هي إلا لغات. قال الأزهري: فأبو العباس النحوي، وهو واحد عصره، قد ارتضى ما ذهب إليه أبو عبيد واستصوبه. قال: وهذه السبعة أحرف التي معناها اللغة غير خارجة من الذي كُتِبَ في مصاحف المسلمين التي اجتمع عليها السلف المَرْضِيُّون، والخَلَف المتَّبِعُون. فمن قرأ بحرف، ولا يخالف المصحف بزيادة أو نقصان، أو تقديم مؤخَّر، أو تأخير مقدَّم، وقد قرأ به إمام من أئمة القراء المشتهرين في الأمصار، فقد قرأ بحرف من الحروف السبعة التي نزل القرآن بها. ومن قرأ بحرف شاذّ، يخالف المصحف، وخالف في ذلك جمهور القراء المعروفين، فهو غير مُصيب. وهذا مذهب أهل العلم الذين هم القدوة. ومذهب الراسخين في علم القرآن قديماً وحديثاً. وإلى هذا أومأ أبو العباس النحوي وأبو بكر ابن الأنباري في كتاب له، ألّفه في اتّباع ما في المصحف الإمام، ووافقه على ذلك أبو بكر ابن مجاهد مقرئ أهل العراق، وغيره من الأثبات المتقنين. قال: ولا يجوز عندي غير ما قالوا. والله تعالى يوفقنا للاتّباع، ويجنبنا الابْتداع ([23]).



® ® ®

وقد أوضح هذا المعنى، وبَيّنه أحسن بيان أبو محمد ابن قتيبة في كتابه "تأويل مشكل القرآن". قال:



وكل هذه الحروف كلام الله تعالى، نزل به الروح الأمين على رسوله عليه السلام. وذلك أنه كان يعارضه في كل شهر من شهور رمضان بما اجتمع عنده من القرآن، فيُحْدِث الله إليه من ذلك ما يشاء، وينسخ ما يشاء، وييسّر على عباده ما يشاء، فكان من تيسيره أن أمره بأن يُقْرِئ كلَّ قوم بلغتهم، وما جرت عليه عادتهم. فالْهُذَلِيّ يقرأ ]عَنِّي حِينٍ[ يريد ]حَتّى حِينٍ[([24])، لأنه هكذا يلفظ بها، ويستعملها. والأسَدي يقرأ: تِعْلَمُون وتِعْلَم، و]تِسْوَدُّ وُجُوهٌ[([25]) و]أَلَمْ إِعْهَدْ إِلَيْكُمْ[([26]). والتميمي يَهْمِز([27])، والقرشي لا يهمز، والآخر يقرأ ]وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ[([28]) و]غِيضَ الْمَاءُ[([29]) بإشمام الضم مع الكسر، و(هذه بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا)([30]) بإشمام الكسر مع الضم، و(]مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا[([31]) بإشمام الضم مع الإدغام. وهذا لا يَطوع به كل لسان، ولو أن كل فريق من هؤلاء أُمِرَ أن يزول عن لغته، وما جرى عليه اعتياده، طفلاً وناشئاً وكهلاً، لاشتد ذلك عليه، وعظمت المحنة فيه. ولم يمكنه إلا بعد رياضة للنفس طويلة، وتذليل للسان، وقطع للعادة. فأراد الله - برحمته ولطفه - أن يجعل لهم مُتَّسعاً في اللغات، ومتصَرَّفاً في الحركات، كتيسيره عليهم في الدين، حين أجاز لهم، على لسان رسوله صلى الله عليه و سلم، أن يأخذوا باختلاف العلماء من صحابته في فرائضهم وأحكامهم، وصلاتهم وصيامهم، وزكاتهم وحجّهم، وطلاقهم وعِتْقهم، وسائر أمور دينهم([32]).



ونرى في هذا الكلام الذي قاله ابن قتيبة جلاء واضحاً للمشكل الواقع في مدلول هذا الحديث، وهو أن المعنى المقصود بالأحرف السبعة لغاتُ العرب، أي لهجات قبائلهم المختلفة بعض الاختلاف الذي ذكر ابن قتيبة أمثلة منه.

® ® ®



وعلى الرغم من جمع القرآن، وتدوينه في مصحف واحد، وجَمْع المسلمين عليه، فإن تلاوته ظلت تعتمد على الرواية الصحيحة، بالسند الصحيح المتواتر عن الرسول r. فقد قرأه صحابته عليه، وسمعه التابعون من الصحابة، وأخذوه عنهم، فتوالت قراءته بالسند الصحيح، على مرّ الأيام والسنين، وتَعاقُب أجيال الرجال، جيلاً بعد جيل، في الأمصار الإسلامية. وثبتت القراءة بذلك سُنّةً متّبَعة، يأخذها الخلف عن السلف كما يسمعها ويحفظها.

قال أبو بكر ابن مجاهد:



حدثنا موسى بن إسحاق أبو بكر، قال: حدثنا عيسى بن مِينا قالُونُ، قال: حدثنا ابن أبي الزِّنَاد، عن أبيه، عن خارجةَ بنِ زيد بن ثابت، عن أبيه، قال: «القراءة سُنّة» ([33]).



وزيد بن ثابت هو الصحابي الجليل كاتب الوحي في عهد الرسول صلى الله عليه و سلم، وجامع القرآن في عهد أبي بكر الصديق، وابنه خارجةُ محدِّث من الفقهاء في المدينة، وأبو الزناد القرشي المدني قارئ ثقة، توفي سنة 130 هـ، وابنه عبد الرحمن محدِّثٌ، روى القراءة عن نافع إمام أهل المدينة، توفي سنة 164 هـ. أما قالون، فهو راوي قراءة نافع، توفي سنة 220 هـ. وأبو بكر موسى بن إسحاق الأنصاري القاضي راوي القراءة عن قالون، توفي سنة 297 هـ.

وقال أبو بكر ابن مجاهد أيضاً:



حدثني عبد الله بن سليمان، قال: حدثنا عمرو بن عثمان الحِمْصِي، قال: حدثنا إسماعيل بن عَيّاش، عن شُعَيب بن أبي حمزة، عن محمد بن المنكدِر، قال: سمعته يقول: قراءة القرآن سنّة، يأخذها الآخِر عن الأول. قال: وسمعت أيضاً بعض أشياخنا يقول عن عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز مثل ذلك([34]).

® ® ®

ونبغ في الأمصار الإسلامية قراء كثيرون، تلقَّوا القراءة من أجيال التابعين، منهم أبو جعفر يزيد بن القعقاع، وأبو عبد الرحمن نافع بن عبد الرحمن بن أبي نُعَيْم في المدينة، وعبد الله بن كَثِير إمام أهل مكة في القراءة، وأبو بكر عاصم بن أبي النَّجُود مقرئ أهل الكوفة، وأبو عمرو بن العلاء التميمي إمام القرّاء في البصرة، وعبد الله بن عامر اليَحْصُبِي إمام أهل الشام في القراءة، ومنهم خلف بن هشام البَزَّار البغدادي الذي لمع في القراءة ببغداد.

وقد كثر عدد أئمة القراءة في كل مصر، مع مرور الزمن، أمثال هؤلاء القراء الذين ذكرناهم. وصار المسلمون يحملون عن كل إمام قارئ قراءته الخاصة التي اختارها، ويقرؤون بها، ويعلمونها جمهور الناس، فدعت هذه الزيادة في عدد القراء بعض العلماء إلى تأليف الكتب في القراءة والقراء. نذكر منهم يعقوب بن إسحاق بن زيد بن عبد الله بن أبي إسحاقَ الحضرميَّ، وهو من أهل بيت العلم بالقرآن والعربية، وكان أقرأ القراء، وأُخِذَ عنه عامة حروف القرآن، من قراءة الحَرَمِيّينَ والعراقيين والشام وغيرهم. »وليعقوب كتاب، سماه "الجامع". جمع فيه عامة اختلاف وجوه القراءات، ونسب كل حرف إلى من قرأ به. وتوفي سنة خمسين ومائتين«([35]).

ومن العلماء بكتاب الله تعالى وسنة رسوله أبو عُبَيْد القاسم بن سلاّم الذي جمع القراءات في كتاب، وجعل القرّاء خمسة وعشرين([36])، وتوفي سنة أربع وعشرين ومائتين. ومنهم أبو حاتم سهل بن محمد بن عثمان السِّجِسْتَانِي الذي ألف كتاباً في القراءات ذكر فيه القرّاء والعلماء([37]). قال عنه القِفْطِي: »وكتابه في القراءات مما يفخر به أهل البصرة، فإنه أجلُّ كتاب صُنِّف في هذا النوع إلى اليوم«([38]). وكان بعده أحمد بن جُبَيْر بن محمد الكوفي، نزيل أنطاكِيَة، »جمع كتاباً في قراءات الخمسة، من كل مصر واحد«([39]). يريد الأمصار الإسلامية الخمسة التي اشتهرت بقراءة القرآن والقراء، وهي المدينة ومكة والبصرة والكوفة والشام. وتوفي سنة ثمان وخمسين ومائتين. وكان بعده القاضي إسماعيل بن إسحاق المالكي، صاحب قالون عيسى بن مِينا. ألَّف كتاباً في القراءات، جمع فيه قراءة عشرين إماماً([40]). توفي سنة اثنتين وثمانين ومائتين. وكان بعده الإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، جمع كتاباً حافلاً، سماه "الجامع"، فيه نيّف وعشرون قراءة([41]). توفي سنة عشر وثلاثمائة. وكان بُعَيْدَه أبو بكر محمد بن أحمد بن عمر الداجوني، جمع كتاباً في القراءات أيضاً، وذكر فيه بين القراء أبا جعفر يزيد بن القعقاع مقرئ أهل المدينة([42]). وتوفي سنة أ ربع وعشرين وثلاثمائة.

وما زال الأئمة من القراء يتكاثرون مع الزمن، كما يتكاثر حَفَظَةُ القرآن وحَمَلَةُ القراءات عن الأئمة السابقين. فتعددت القراءات، وزادت طرقُها زيادة كبيرة، ولم تكفِ الكتب المؤلفة في القراءات والقراء لوقف هذا السيل المتدافع. وكان من القراء العالم العارف بوجوه القراءات وأسانيدها عن الأئمة. وكان منهم الذي لا علم له بهذه الوجوه والأسانيد، الناقص الإتقان للرواية والدراية بها. يجعله نقص علمه أن يقرأ شيئاً لم يقرأ به أحد قبله من أئمة القراء الماضين([43]). وهذه الحال قد تفتح باباً واسعاً للفوضى، وتؤدي إلى الغلط والتغيير في قراءة كلام الله.



® ® ®



تنبّه على سوء هذا الأمر أبو بكر أحمد بن موسى بن العباس بن مجاهد التميمي البغدادي، وهو عالم فذّ كبير. حفظ القرآن، وطلب العلوم، وأخذ القراءات وطرقها من شيوخها في عصره، ومعرفة روايات حروفها من زمن الرسول إلى زمنه في القرن الرابع. ورحل في سبيل ذلك إلى الأمصار، المدينة ومكة والبصرة والكوفة والشام، فألّف كتاباً اختار فيه قراءات سبعة من أئمة هذه الأمصار([44])، الموثوقين المعروفين بالكِفاية والأمانة والإتقان، وهم:

1. أبو عبد الرحمن نافع بن عبد الرحمن بن أبي نُعَيْم المتوفى سنة 169 هـ، من المدينة؛

2. وأبو مَعْبَد عبد الله بن كَثِير الداري المتوفى سنة 120 هـ، من مكة؛

3. وأبو بكر عاصم بن بَهْدَلةَ بن أبي النَّجود المتوفى سنة 127 هـ، من الكوفة؛

4. وأبو عمادة حمزة بن حبيب الزيّات المتوفى سنة 156 هـ، من الكوفة؛

5. وأبو الحسن علي بن حمزة الكِسَائِي المتوفى سنة 189 هـ، من الكوفة؛

6. وأبو عمرو بن العلاء بن عمّار التميمي المتوفى سنة 154 هـ، إمام القراء في البصرة؛

7. وأبو عِمْران عبد الله بن عامر اليَحْصُبِي المتوفى سنة 118 هـ، إمام القراء في الشام.



وهذه الأمصار الخمسة هي الينابيع الكبرى التي تفجرت فيها القراءات، وفاضت منها إلى العالم الإسلامي كله. وهؤلاء القراء السبعة الذين اختارهم هم نخبة أئمة القراءة فيها.

قال أبو بكر ابن مجاهد في أول كتابه:



اختلف الناس في القراءة، كما اختلفوا في الأحكام، ورُوِيت الآثار بالاختلاف عن الصحابة والتابعين توسعة ورحمة للمسلمين. وبعض ذلك قريب من بعض. وحَمَلَة القرآن متفاضلون في حَمْله. ولِنَقَلَةِ الحروف منازل في نقل حروفه. وأنا ذاكرٌ منازلهم، ودالٌّ على الأئمة منهم، ومُخْبرٌ عن القراءة التي عليها الناس بالحجاز والعراق والشام، وشارح مذاهب أهل القراءة، ومبيّن اختلافهم واتفاقهم، إن شاء الله، وإياه أسأل التوفيق بمنّه([45]).



وحقاً عرض ابن مجاهد أئمة القراء السبعة واحداً واحداً، حسب الترتيب الذي أثبتناه غير بعيد. وساق أنسابهم، وأحصى شيوخهم الذين تلقّوا عنهم القراءة، حتى وصلهم بالرسول r. وذكر الأسانيد التي وصلته بقراءة كل إمام منهم، وأوفى بكل ما تعهّد به في كلامه الذي أوردناه، وسمّى كتابه "كتاب السبعة"، وهو يريد بالسبعة أئمة القراء الذين اختارهم.

وقد أعجب المسلمون بهذا الكتاب، وقبلوه قبولاً حسناً، وارتضاه جمهور العلماء والقراء، واتفقوا على تقويمه وتعظيمه، واتبعوا قراءات هؤلاء السبعة من أئمة القراء، وأجمعوا على أنها مرويّة بالتواتر عن رسول الله صلى الله عليه و سلم. وحقاً كان هذا الكتاب إنجازاً فذّاً رائعاً، اصطفى فيه صاحب صفوة قراءات القرآن، ونجح بذلك في دَرْءِ خطر الفوضى، وفي دفع أسباب الاختلاف في قراءة كتاب الله العظيم، ومنع التباس الباطل بالحق، وجمع المسلمين على مَحَجَّة واحدة سَوِيّة. فاعتمده أجيال القراء، ونقلوه وقرؤوه جيلاً بعد جيل، وظل العلماء يروونه ويُقْرِئونه تلاميذهم على طول العصور المتوالية.

قال الحافظ أبو الخير محمد بن محمد الدمشقي الشهير بابن الجَزَري، المتوفى سنة 833 هـ، في كتابه الكبير "النشر في القراءات العشر":



كتاب "السبعة" للإمام الحافظ الأستاذ أبي بكر أحمد بن موسى بن العباس بن مجاهد التميمي البغدادي. وتوفي بها في العشرين من شعبان سنة أربع وعشرين وثلاثمائة. أخبرني به الشيخ المُسْنِد الرُّحَلَة أبو حفص عمر بن الحسن بن مَزْيَد بن أميلة المَرَاغِي بقراءتي عليه، في سنة سبعين وسبعمائة، بالمِزَّة الفوقانية، ظاهر دمشق، عن شيخه أبي الحسن علي بن أحمد بن عبد الواحد المَقْدِسِي، عن الإمام أبي اليُمْن زيد بن الحسن بن زيد الكِنْدِي سماعاً لبعض حروفه، وإجازة لباقيه. وقرأت القرآن بِمُضَمَّنِهِ على الشيخ أبي محمد بن البغدادي، وإلى أثناء سورة النحل على أبي بكر بن الجندي. وأخبرني أنهما قرآ به على شيخهما أبي عبد الله محمد بن أحمد الصائغ. قال: قرأت به على الشيخ أبي إسحاق إبراهيم بن أحمد بن إسماعيل التميمي. قال: قرأت به على أبي اليمن الكِنْدِي. قال الكندي: أخبرنا به أبو الحسن محمد بن أحمد بن توبةَ الأسدي المقرئ قراءة عليه، وأنا أسمع. قال: أخبرنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن عبد الله بن هَزَارِ مَرْد الخطيب الصَّرِيفيني. قال: أخبرنا أبو حفص عمر بن إبراهيم بن أحمد بن كثير الكتاني. قال: أخبرنا المؤلف المذكور سماعاً عليه لجميعها، وتلاوة لقراءة عاصم. وهذا إسناد لا يوجد اليوم أعلى منه، مع صحته واتصاله([46]).



وقام العلماء بعد أبي بكر ابن مجاهد، فألّفوا في القراءات أنواع الكتب. ومنهم أبو بكر أحمد بن الحسين بن مِهْران الأصبهاني الذي ألّف كتباً في القراءات([47]). منها كتاب "المبسوط في القراءات العشر"([48])، ذكر فيه قراءة القرّاء السبعة الذين اختارهم ابن مجاهد، وأضاف إليهم قراءات ثلاثة أئمة آخرين. وهؤلاء الثلاثة هم:



1. أبو جعفر يزيد بن القعقاع القارئ المدني، المتوفى سنة 130 هـ؛

2. أبو محمد يعقوب بن إسحاق بن زيد بن أبي إسحاق الحَضْرَمِي، إمام أهل البصرة ومقرئها في زمنه. توفي سنة 205 هـ؛

3. أبو محمد خلف بن هشام بن طالب البَّزَّار البغدادي. توفي سنة 229 هـ.



® ® ®

ثم ألّف أبو الحسن طاهر بن أبي الطيب عبد المنعم بن عبيد الله بن غَلْبُون الحلبي، نزيل مصر، كتاب "التذكرة في القراءات الثماني". وتوفي سنة 399 هـ([49]).

وتبعه أبو الفضل محمد بن جعفر الخزاعي، وألّف كتاب "المنتهى في القراءات العشر" الذي جمع فيه ما لم يجمعه أحد قبله. وتوفي سنة ثمان وأربعمائة([50]).

وفي هذه الفترة الخصيبة، من القرن الرابع والقرن الخامس، التي كثر فيها التأليف في علم القراءات، وشاع في الأمصار، ولا سيما في العراق، نشأ الإمام أبو محمد العُمَاني، وألّف "الكتاب الأوسط في علم القراءات" سنة 413 هـ، كما ذكر هو نفسه في الصفحة 13 من الكتاب([51]).



الإمام أبو محمد العماني

هو أبو محمد الحسن بن علي بن سعيد المقرئ العماني، كما قال هو نفسه في أول الكتاب.

ولا نعرف شيئاً كثيراً عن حياة هذا الإمام العالم، إذ لم تذكر المصادر القديمة عنه إلا نزراً قليلاً من الأخبار، وهي لا تكفي لرسم معالم واضحة في مسيرة حياته، وبيان نشأته، وتكوين ثقافته.

وأول من ذكره هو عَلَم الدين علي بن محمد السَّخَاوي المتوفى سنة 643 هـ، في كتابه "جمال القراء وكمال الإقراء" في فصل: »القول في "بَلَى"«. وقد نقل كلامه في هذه المسألة من مسائل الوقف والابتداء في قراءة آيات القرآن. قال السخاوي:



وقال أبو محمد الحسن بن علي بن سعيد المعروف بالعُماني، في قوله عزّ وجلّ {بَلَى، مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً} ([52]) ونحوه: يُبْتَدأ بـ»بَلَى«، وهو جواب لقولهم: »لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً«([53]). فقيل لهم: بَلَى، تدخلونها وتخلدون فيها. وقال في قوله عزّ وجلّ: {لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إلاَّ مَنْ كَانَ هُوداً أوْ نَصَارى، تلك أَمَانِيُهُمْ، قُلْ: هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ. بَلَى...}([54]): لم يُجِزْ أحدٌ منهم الوقفَ على »بَلَى«، لأن ما بعده في جملة الجواب([55]).



ثم أورد السخاوي رأي الإمام العماني القاطع في هذه المسألة:



قال: والوقف على »بَلَى« في الآيتين غلط. ومَنْ أجازه فقد أخطأ، لأن »بَلَى« وإن كان جواباً للجَحْد الذي قبله فهو إيجاب لما بعده، فلا يُفْصَل بينه وبين الشيء الذي يُوجِبه([56]).



وترجم له ترجمة موجزة شمس الدين أبو الخير محمد بن محمد الجَزَري المتوفى سنة 833 هـ، في كتابه الكبير "غاية النهاية في طبقات القراء"، فذكر اسمه: »الحسن بن علي بن سعيد أبو محمد العُماني«([57])، وأثنى عليه بقوله: »إمام فاضل محقق«([58]).

ثم أشار إلى كتابين له في الوقف والابتداء في قراءة القرآن، ودلّ على إجادته وإحسانه وإفادته. قال:



له في الوقوف كتابان: أحدهما "المغني" والآخر "الْمُرْشِد"، وهو أتَمُّ منه وأبسط([59]). أحسن فيه وأفاد. وقد قسم الوقف فيه إلى التام، ثم الحَسَن، ثم الكافي، ثم الصالح، ثم المفهوم، وزعم أنه تبع أبا حاتم السِّجْسْتاني([60]).



ثم قال في رحلته إلى مصر: »وقد كان نزل مصر بُعَيْدَ الخمسمائة«([61]). ونحن نشك كثيراً في صحة تاريخ نزوله مصر، ونظنه غلطاً، إلا أن يكون قد عَمَّرَه الله عمراً طويلاً في حياته، جاوز فيه المئة السنة بسنوات عديدة.

وقد قال الإمام العماني نفسه إنه قرأ القرآن بحرف أبي عمرو بن العلاء على الشيخ أبي عبد الله اللاّلَكائي، إمام جامع البصرة ومقرئ أهلها، سنة اثنتين وتسعين وثلاثمئة (392 هـ)([62])، وذكر إسناد قراءة هذا الإمام عن النبي صلى الله عليه و سلم.

ونعلم من هذه القولة الصريحة أنه كان رجلاً شاباً في أواخر القرن الرابع، قد رحل من موطنه عُمَان إلى مدينة البصرة، في سبيل الاستزادة من العلم هناك، ولأخذ القراءات من أئمة المقرئين فيها. وكانت البصرة حينذاك من أكبر مراكز العلم في العالم الإسلامي. ولا ندري، هل عاش طويلاً بعد هذا التاريخ، طوال القرن الخامس، حتى أدرك القرن السادس، ونزل مصر في أوائله وهو طاعن في السن، قد جاوز المئة بسنوات كثيرة من عمره؟ إننا لا نملك جواباً على هذا التساؤل. والله تعالى أعلم.



® ® ®

وتابع الإمام العماني رحلته في طلب العلم، فمضى إلى الأهواز، ولقي هناك شيخه وأستاذه الأكبر أبا الحسن الكُرَيْزِي في تاريخ لم يذكره، فأخذ عنه القراءات التي ضمّنها كتابه. قال في بيان ذلك:



ثم لم أزل أقرأ على الشيوخ، حتى دخلت الأهواز، فظفرت بأبي الحسن محمد بن محمد الكريزي البصري، رحمه الله. فعلّقت عنه هذه القراءات بوجوهها ورواياتها وطُرُقِها، في ثلاثمئة وخمسين ورقة([63]).



ولم يقنع بأخذ هذه القراءات عن أستاذه، وكتابتها وتصحيحها بالقراءة عليه فحسب، بل طلب منه الإذن بروايتها كلها عنه. فأجابه إلى مطلبه. وهذا يعني أنه وثق به، وعرف تمكّنه في العلم والرواية. وهذه هي الإجازة في العرف القديم. وإجازة الشيخ طالب العلم في الرواية عنه تعادل في القديم مرتبة الشهادة العالية التي ينالها الطالب الباحث في نهاية المطاف في أيامنا الحاضرة، مثل نيل شهادة الدكتوراه بإشراف أستاذ عالم معروف.

قال في شأن مَناله الإجازة:



فلما وقع الفراغ من التعليق وتصحيحه، وقراءته عليه، قلت له: أتأذن لي أن أروي عنك هذه كلَّها؟ فقال لي: نعم. فلم أقنع باستئذانه دفعة واحدة، حتى عاودته مراراً كثيرة في مجالس عِدّة. كلّ دفعة أقول له: أتأذن لي أن أروي عنك هذه، وأُقْرِئَ بها مَنْ شئت؟ فيقول لي: نعم. ثم مكثت دهراً، بعد التعليق، أعرض عليه القرآن تلاوة، قراءة بعد قراءة، ورواية بعد أخرى([64]).



ولم يكتف بما اكتسب من العلم، والحصول على الإجازة العلمية من الشيخ بالإقراء والرواية عنه، بل زاد فالتمس منه أن يعرّفه شيوخه الذين تلقّى منهم قراءاته، فأجابه إلى هذا الملْتَمَس. ولا نرى هذه الموافقة إلا دليلاً على ثقته بعلمه وأمنه على مبلغ أمانته فيه. قال في بيان ذلك:



ثم قلت له: أفلا تعرّفني شيوخك الذين أخذتها عنهم؟ فدفع إلينا صحيفة شحنها أسماء أستاذِيه وشيوخه، وهم جِلّة أصحاب أبي بكر ابن مجاهد، والنقّاش، والفضل بن شاذان الرازي، والمعدّل وهو الذي يباهي به البصريون ويعظمونه. فذكر في الصحيفة الأسانيد بطولها، مرفوعة إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم.([65]).



® ® ®

انتهت رحلة العلم. وفي زمن لا نعرفه، ولم يذكره هو نفسه، عاد الإمام العماني إلى مستقرّه في وطنه عُمَان، وقد استوى على عرش العلم شيخاً كبيراً بارعاً في علم القراءات، وإماماً محيطاً بأصوله إحاطة تامة، ضليعاً وعارفاً قراءات الأئمة واتجاهاتهم ووجوه اختلافاتهم معرفة كاملة.

ويبدو أن استقراره بمستقرّه في عُمَانَ لم يدم طويلاً، إذ نراه قد عزم على الرحيل ثانياً سنة 404 هـ، لسبب لم يبينه، وترك وراءه صحيفة شيخه أبي الحسن الكريزي البصري، وتعليقة قراءاته عنه، خشية عليهما من الضياع، وأملاً في العودة القريبة إلى الوطن. وفي هذه الرحلة الثانية أملى "الكتاب الأوسط في علم القراءات"، وهو أول كتاب وضعه فيما نرى. وكان ذلك حين وصل في ترحاله إلى إقليم سجستان وحلّ فيه.

قال في بيان عودته إلى عُمان من رحلة العلم، ورحيله الثاني عن الوطن، وتأليف الكتاب:



فلما عدت إلى مستقري بعُمان، ثم عزمت على الحركة ثانياً، سنة أربع وأربعمئة، أشفقت على تلك الصحيفة والتعليق، فخلّفتهما هناك إشفاقاً عليهما، وطمعاً في العودة إلى الوطن. فلم يتسهّل إل هذه السنة، وهي سنة ثلاثَ عشرة وأربعمئة، فسئلت فيها إملاء هذا الكتاب، فأمليته مستعيناً بالله تعالى، راجياً توفيقه([66]).



ولا ندري هل عاد الإمام العماني إلى وطنه من رحلته الثانية، بعد تأليف هذا الكتاب، أو ظل بعيداً في الاغتراب؛ ولا ندري شيئاً من أخباره وأحواله وأعماله بعد هذه السنة التي ذكرها سوى تأليفه، في زمن لا نعرفه، كتابه الكبير الشهير "المرشد في الوقف والابتداء في قراءة آيات القرآن وبيان أحكامها وعِلَلها والاحتجاج لها"، وهو أكبر كتاب معروف في بابه، أثنى عليه ثناء حسناً شمس الدين أبو الخير الجَزَرِي في كتابه "غاية النهاية في طبقات القراء" كما عرفنا آنفاً غير بعيد.

وقد أشار الإمام العُماني نفسه، في مواضع عديدة من "الكتاب الأوسط في علم القراءات"، إلى عزمه على تأليف كتاب آخر في علم القراءات، يكون أكبر وأشمل منه وأكثر تفصيلاً، ويسميه "الكتاب الشامل". ولا ندري هل مدّ الله تعالى في عمره، ووفّقه إلى إنجاز هذا العزم، والوفاء بإتمام تأليف هذا الكتاب الموعود. قال في بيان سبب تسمية كتابه الأول بـ"الأوسط"، وفي شروعه بوضع الكتاب الثاني الأوسع من الأول:



وسمّيته: "الكتاب الأوسط في علم القراءات"، إذ قد شرعت في وضع كتاب هو أتمُّ منه، يرتفع المراد منه مع مرور الأوقات، ومساعدة الأيام. وبالله التوفيق([67]).



® ® ®

لا نعرف تاريخ وفاة الإمام العماني، كما لا نعرف هل كانت في مستقره في الوطن، أو في مكان آخر في الاغتراب. وقد عرفنا خبر نزوله مصر بُعَيْدَ السنة الخمسمئة، أي أوائل القرن السادس، كما قال أبو الخير الجَزَري. وبيّنا الضعف في صحة هذا الخبر. وقد اقتبس عمر رضا كحّالة هذا الخبر، وأورده في كتابه "معجم المؤلفين" نقلاً عن الجَزَري نفسه، من غير زيادة شيء فيه([68]).

وأغْرَبَ العالم مصطفى بن عبد الله المعروف بحاجي خليفة، صاحب كتاب "كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون"، المتوفى سنة 1067 هـ، حين ذكر كتاب "المرشد" في قوله: "المرشد في الوقف والابتداء" للإمام الحافظ العُماني، المتوفى في حدود سنة 400 هـ«([69]). وهو قول خطأ محض، لا ندري وجهه ولا مأتاه. وقد عرّفنا الإمام الحافظ العُماني نفسه أنه وضع "الكتاب الأوسط" سنة 413 هـ، كما رأينا آنفاً غير بعيد.

وهكذا يظل تاريخ وفاته مجهولاً مثل تاريخ ميلاده. ولا ضير في ذلك، إذ يبقى الثابت المعروف، بلاريب، من أقواله نفسه، أنه إمام كبير وعالم بارز من علماء القرنين الرابع والخامس، كان له شأن في زمانه، وأثر كبير ويد طولى في إرساء قواعد وأصول علم القراءات في الثقافة العربية الإسلامية.



"الكتاب الأوسط في علم القراءات"

هذا الكتاب سفر فخم نفيس من أسفار الثقافة العربية الإسلامية. له قيمة خاصة يمتاز بها بين الكتب المؤلفة في علم القراءات. وتتجلى قيمته في ميزتين اثنتين له:



1 - الميزة الأولى كونه من الكتب الأمهات المحكمات الأولى في علم قراءات القرآن الكريم. ضنّ به الزمان على التلف والضياع، فقطع مراحل السنين، وطوى عقود القرون، مخبوءاً مجهولاً في عتمة الخزائن، حتى وصل إلى زماننا.

2 - والميزة الثانية كونه أوّل كتاب في هذا العلم عمل فيه صاحبه أبواب أصول القراءات قبل فرش الحروف من آي القرآن التي اختلف في قراءتها أئمة القراء. وأفرد هذه الأصول، وجعلها مجموعة وحدها في جزء واحد مستقل قائم بذاته، ثم أورد فرش حروف الاختلاف في جزء آخر، مستقل وقائم بذاته أيضاً. وبذلك التفريق صار هذا الكتاب كأنه كتابان اثنان، أحدهما في أصول القراءات، والآخر يتضمن فرش حروف الاختلاف.



وكان العلماء قبل الإمام العُماني يوردون أصول القراءات خلال فرش الحروف كلما عرضت مسألة من مسائل الأصول، أو دَعَت الحال لبيان قاعدة من قواعدها. وهكذا تأتي الأصول والحروف متداخلة بعضها ببعض. ويؤدي ذلك إلى انقطاع التسلسل الطبيعي في محتوى الكتاب، واضطراب الترتيب فيه. وينشأ عن ذلك نوع من الصعوبة في مطالعة الكتاب، وشيء من العسر في معرفة مواضع أبواب الأصول فيه. فجاء الإمام العماني، وأزال هذا التداخل من كتابه، وأعاد الأمر إلى نصابه، وحقق اليسر فيه، وكان السبّاق إليه.

ونرى هذا التداخل والعسر في "كتاب السبعة في القراءات" لأبي بكر ابن مجاهد، وفي كتاب "المبسوط في القراءات العشر" لأبي بكر أحمد بن الحسين بن مِهْران الأصبهاني، وهما سابقان في التأليف كما عرفنا آنفاً.

وقد اقتدى الحافظ شمس الدين أبو الخير ابن الجَزَري بالإمام العماني، وسار على نهجه في تأليف كتابه الكبير "النشر في القراءات العشر"، فقدّم فيه أبواب أصول القراءات بأجمعها على فرش حروف الاختلاف.

وكان الإمام العُماني مدركاً لأهمية هذه الميزة التي حققها في ترتيب كتابه، ولسبقه إلى إزالة العسر منه. فأشار إلى ذلك في مقدمة الكتاب، وقال مشيداً بصنيعه: »وهو كتاب يشتمل على علم القراءات، ومعرفة وجوه الروايات. وقد رتَّبْته ترتيباً لم يسبق إليه، ورصّعته ترصيعاً لا مزيد عليه«([70]). ولقد صدق في قوله، وحق له التنويه بصنيعه.



® ® ®



وضع الإمام العُماني هذا الكتاب حين حلوله في سِجِسْتان. وكان الدافع لوضعه هو تحقيق رغبة شيخه أبي الحسن علي بن زيد بن طلحة. والظاهر أن هذا الرجل كان من أولي الأمر والسلطان في هذا الإقليم من بلاد الإسلام، أو من ذوي الجاه والشأن في العلم والعرفان. يضاف إلى ذلك رغبة أصحابه القراء هناك، وسؤالهم إياه وضع هذا الكتاب. ولا نرى هذه الرغبة وهذا السؤال إلا دليلاً على علوّ كعب هذا الإمام في علم القراءات، واشتهاره فيه، وذيوع صيته في بلاد الإسلام.

قال في بيان ذلك كله في مقدمة الكتاب:



هذا كتاب شرعت في وضعه وتصنيفه لشيخنا أبي الحسن علي بن زيد بن طلحة، أيده الله وأبقاه، وأحيا بأيامه رسوم العلم، وأنار بدوام عزّه سبل الأدب، لأني وجدته مصروف العناية إلى كتاب الله تعالى، كثير الاهتمام به وبذويه، شديد البحث عنه وعن علومه، متبرّكاً بالمواظبة على دراسته، آخذاً نفسَه بالمداومة على تلاوته. فرغبته ورغبة أصحابنا القراء بسجستان، ومسألتُهم إيّانا، نشطتْنا في وضع كتابنا هذا([71]).



® ® ®

يحتوي هذا الكتاب على القراءات الثماني عن الأئمة الثمانية الذين روى الإمام العُماني قراءاتهم، منهم أولئك الأئمة القراء السبعة الذين اختارهم قبله أبو بكر ابن مجاهد في "كتاب السبعة"، وهم:



1 - عبد الله بن كَثِير، إمام أهل مكة وقارئهم؛

2 - نافع بن عبد الرحمن، إمام دار الهجرة، مدينة الرسول صلى الله عليه و سلم؛

3 - أبو عمرو بن العلاء، إمام أهل البصرة؛

4 - عبد الله بن عامر، إمام أهل الشام؛

5 - عاصم بن أبي النَّجود، من أئمة أهل الكوفة؛

6 - وحمزة بن حبيب، من أئمة أهل الكوفة؛

7 - علي بن حمزة الكسائي، من أئمة أهل الكوفة.



وقد ذكرنا أسماء هؤلاء الأئمة وأنسابهم ووفياتهم سابقاً. والإمام الثامن الذي روى قراءته، واختاره إلى جانبهم هو:



8 - أبو محمد يعقوب بن إسحاق بن زيد بن عبد الله بن أبي إسحاق الحَضْرَمِي، إمام أهل البصرة ومقرئهم في زمنه. توفي سنة 205 هـ.



وقد أشار إلى اختياره قراءة القراء الثمانية بقوله في مقدمة الكتاب:



فأوردت فيه ما أورده المتقدمون في كتبهم من قراءة القراء الثمانية، أئمة أهل الأمصار، من الحجاز والشام والعراق، مستوعباً أكثر رواياتها، مبيّناً ما اشتهر منها، منبّهاً على ما شذّ عنها، مميّزاً بين المستعمل والمرفوض([72]).



ثم أورد أسانيد هؤلاء القراء الثمانية، وأسماء الرواة عنهم، وطرق رواياتهم، في تفصيل وفضل بيان، في باب خاص من الكتاب بعد المقدمة مباشرة.

ثم جعل بعد هذا الباب فصلاً خاصاً ذكر فيه قراءته هذه القراءات على جماعة مختلفين من القراء، منهم أبو عبد الله اللاَّلَكائي إمام جامع البصرة ومقرئ أهلها، الذي قرأ عليه سنة 392 هـ بحرف أبي عمرو بن العلاء، وعرض هذه القراءة بعينها مرات كثيرة على أبي الحسن ابن بندويه.

وزاد فذكر دخوله الأهواز، وظفرَه هناك بشيخه وأستاذه الأكبر أبي الحسن الكُرَيْزِي، وتعليقَه هذه القراءات عنه بوجوهها ورواياتها وطرقها، ومنالَه إجازتَه برواياتها عنه وإقرائها. ثم ساق في تفصيل دقيق جميع هذه الروايات والطرق ووَالَى إيراد سائر أبواب الكتاب وفصوله، مثل »باب في الحروف ومدارجها وألقابها ومخارجها«، ومثل »أبواب الإدغام« و»أبواب الهمزة«، ومثل »فصل في القرآن واشتقاقه«، وغيرها من أصول علم القراءات وسُنَن اللغة العربية وقواعدها، إلى آخر محتوى الكتاب الغني بالعلم والفوائد والفرائد في علم القراءات وعلوم العربية.



® ® ®

وقد اضطلعنا بتحقيق هذا الكتاب النادر النفيس تحقيقاً علمياً، حسب منهج علمي دقيق قويم، اتبعناه في كل أعمالنا في إحياء ذخائر التراث العربي الإسلامي، بأمانة علمية خالصة، والتزام بالصدق الذي يبين الحق والحقيقة.

واعتمدنا في تحقيقه على نسخته المخطوطة الوحيدة الفريدة، المحفوظة في الخزانة الحسنية المباركة، الكائنة في رحاب القصر الملكي العامر بالرباط برقم (9867)، وهي الخزانة الغنية التي تزخر وتفخر بالنفائس والنوادر من ذخائر التراث العربي الإسلامي المخطوطة.

وهذه النسخة من الكتاب قديمة قيمة، مكتوبة بخط نسخ مشرقي جميل، واضح الحروف، مضبوط بالشكل، نقدر أنه من خطوط القرن السادس من الهجرة في العهد السلجوقي. وقد أصاب البِلى المخطوطة من القِدَم، فتفككت وتبعثرت أوراقها، واختلط بعضها ببعض، فاختلّ ترتيبها، وتقدم بعضها عن موضعه وتأخر بعضها، ثم جمعت هذه الأوراق المبعثرة، وجلّدت مرة ثانية على اختلالها، من غير ترتيب، إذ لم يكن فيها علامات »التعقيبة« التي كانت تقوم مقام الترقيم العددي في أوراق المخطوطات العربية القديمة. ومن نِعَم الله تعالى وتوفيقه أنه لم ينقص من الأوراق شيء.

وقد اكتشفت هذا الاختلال في ترتيب أوراق المخطوطة حين طالعتها أول مرة، فعمدت إلى تصويرها على الورق، واشتغلت جاهداً في ترتيبها أياماً طوالاً، حتى تيسر لي، بعد جهد جهيد، إعادة الأوراق إلى نصابها الصحيح في الترتيب، وعادت المخطوطة صحيحة تامة من غير نقصان في نسختي المصورة التي اعتمدت عليها في تحقيق الكتاب وإحيائه.

وقامت دار الفكر بدمشق بطبع هذا السفر النادر النفيس بتحقيقنا طبعة أنيقة، تليق بقيمته العلمية وفائدته الجلّى في باب قراءة القرآن الكريم، كتاب الله العظيم. وقد حظي بعناية خاصة من مدير هذه الدار الشهيرة العريقة، الكاتب العالم الأستاذ محمد عدنان سالم، جزاه الله تعالى خيراً، ولَقَّاه بِراً، على صنيعه واهتمامه بآثار الثقافة العربية الإسلامية.



"المرشد في تهذيب وقوف القرآن"

هذا هو الكتاب الثاني الذي وصلنا من آثار الإمام العُماني. وقد ذكره شمس الدين أبو الخير محمد بن محمد الجَزَري المتوفى سنة 228 هـ، في كتابه الكبير "غاية النهاية في طبقات القراء"، خلال ترجمة الإمام العُماني. وأشار إلى كتابين له في الوقف والابتداء في قراءة القرآن، ودَلّ على إحسانه وإجاداته وإفاداته. قال الجزري: »له في الوقوف كتابان: أحدهما "المغني" والآخر "المرشد"، وهو أتمّ منه وأبسط«([73]).

وقد اهتم العلماء من القراء واللغويين والنحويين وغيرهم بموضوع الوقف والابتداء في تلاوة القرآن، حين بداية اهتمامهم بتفسير معانيه سواء. وتوالَوا في التأليف فيه جيلاً بعد جيل، فجمعوا مسائله، وبينوا تقاسيمه وأحكامه، وشرحوا عِلَلَه حسب العلاقات الرابطة بين أجزاء الكلام، وتمام جمله، وختام معانيه في آيات القرآن. ومن أشهرهم أبو حاتم سهل بن محمد السِّجِسْتاني المتوفى سنة 255 هـ. وقد اعتمد الإمام العماني على كتابه، ورجع إليه كثيراً. يتبين لنا ذلك من نقوله الكثيرة عنه، ولم يصلنا هذا الكتاب.

وألّف أبو بكر محمد بن القاسم بن بشار الأنباري المتوفى سنة 328 هـ كتابه الكبير "إيضاح الوقف والابتداء في كتاب الله عَزّ وجلّ"([74])، وهو أقدم ما وصلنا في هذا العلم. رسم فيه صاحبه أصول علم الوقف والابتداء، وثبّت قوعده، وأورد كثيراً من أقوال المؤلفين السابقين وآرائهم، وعرضها للنقد والامتحان بالحجج والشواهد. وهو من الأصول التي رجع إليها الإمام العُماني، واستقى أشياء من أقوال صاحبه لتقوية ما يراه هو من آراء وإثباتها.

ووضع أبو جعفر أحمد بن محمد بن إسماعيل النحّاسُ النحوي المتوفى سنة 338 هـ كتاب "القطع والائتناف"([75])، أي الوقف والابتداء، وجمع فيه أقوال العلماء الذين كان لهم كلام قبله في علم الوقف والابتداء، وضاعت كتبهم، وساق عدداً كبيراً من الأحاديث وشواهد الشعر ومسائل النحو في كلام العرب، وهو ما يدل على سَعة علمه، ووقوفه الشامل على مسائل هذا العلم.

وتَلا الإمامُ العُماني أبا بكر الأنباري وأبا جعفر النحاس، فأبدع كتابه "المرشد في تهذيب وقوف القرآن" في القرن الخامس من الهجرة، ففاقهما بعلمه واطّلاعه. وجاء كتابه أوسع وأشمل من كتابيهما في حجمه ومحتواه، وفي طريقة بسط المسائل وأسلوب عرضها وتيسيرها. وقد ضمّنه، إلى جانب وقوف القرآن وبيان أحكامها وعِلَلها، أشياء جمّة من علوم العربية، فظهر فيه تبحّره في اللغة، وتمكّنه في النحو، وإحاطته بمراميه ومسائله، وبراعته في وجوه الإعراب ومشاكله. ويعدّ كتابه لذلك معرضاً حافلاً بمادة غزيرة غنية في قراءات القرآن، وتفسير معانيه، وإعراب آياته، وفي عرض معارف في اللغة والنحو والصرف والاشتقاق وبلاغة القول وغيرها من فنون الأدب.

هذا وقد بدأنا بتحقيق هذا الكتاب، بحول الله تعالى وعونه، اعتماداً على مخطوطته الوحيدة الفريدة، المحفوظة في قسم المخطوطات في الخزانة العامة بالرباط.

المصادر والمراجع



ابن الجزري، شمس الدين أبو الخير محمد بن محمد (المتوفى سنة 833 هـ)، النشر في القراءات العشر، مطبعة مصطفى محمد، مصر.

ابن قتيبة، أبو محمد عبد الله بن مسلم (المتوفى سنة 276 هـ)، تأويل مشكل القرآن، تحقيق السيد أحمد صقر، مكتبة دار التراث، القاهرة، 1973.

ابن منظور، جمال الدين أبو الفضل محمد بن مكرم (المتوفى سنة 711 هـ)، لسان العرب، دار صادر، بيروت.

ابن النديم، أبو الفرج محمد بن إسحاق (المتوفى سنة 385 هـ)، مطبعة ليبزيغ بألمانيا، 1871.

البغدادي، أبو بكر أحمد بن موسى بن العباس بن مجاهد (المتوفى سنة 324 هـ)، كتاب السبعة في القراءات، تحقيق الدكتور شوقي ضيف، دار المعارف، مصر، 1988.

حاجي خليفة، مصطفى بن عبد الله (المتوفى سنة 1067 هـ)، كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون، مطبعة وزارة المعارف التركية، إستانبول، 1941-1943.

الداني، أبو عمرو عثمان بن سعيد (المتوفى سنة 444 هـ)، المحكم في نقط المصاحف، تحقيق الدكتور عزة حسن، دار الفكر، دمشق، 1986.

الزبيدي الأندلسي، أبو بكر محمد بن الحسن (المتوفى سنة 379 هـ)، طبقات النحويين واللغويين، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1954.

السجستاني، الحافظ أبو بكر عبد الله بن أبي داوود سليمان بن الأشعت (المتوفى سنة 316 هـ)، كتاب المصاحف، المطبعة الرحمانية، مصر، 1936.

السخاوي، علم الدين أبو الحسن علي بن محمد (المتوفى سنة 643 هـ)، جمال القراء وكمال الإقراء، تحقيق الدكتور علي حسين البواب، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1987.

القِفْطي، جمال الدين أبو الحسن علي بن يوسف (المتوفى سنة 646 هـ)، إنباه الرواة على أنباه النحاة، مطبعة دار الكتب المصرية، 1950-1955.

كحّالة، عمر رضا، معجم المؤلفين، طبعة دمشق.

ــ ــ ــ، المقنع في معرفة رسم مصاحف الأمصار، مطبعة الدولة، إستانبول، 1932.







([1]) النشر في القراءات العشر، ج 1، ص. 6.

([2]) المصدر نفسه، ج 1، صص. 19-21.

([3]) المصدر نفسه، ج 1، ص. 7.

([4]) كتاب المصاحف، ج 5، صص. 5- 9.

([5]) المقنع في رسم مصاحف الأمصار، ص. 4؛ كتاب المصاحف، المصدر السابق، ص. 20.

([6]) الكتف: أي عظم كتف البعير، وهو عريض؛ والعسيب: جريدة النخل؛ واللخفة: حجرة بيضاء عريضة رقيقة.

([7]) لسان العرب، المصدر السابق، مادة »تبع«؛ وانظر فيه »عسب«؛ »لخف«.

([8]) كتاب المصاحف، المصدر السابق، ص. 9؛ والنشر في القراءات العشر، المصدر السابق، ج 1، ص. 7.

([9]) كتاب المصاحف، المصدر السابق، صص. 18-20؛ النشر في القراءات العشر، المصدر السابق،
ج 1، ص. 7.

([10]) كتاب المصاحف، المصدر السابق، ص. 19؛ النشر في القراءات العشر، المصدر السابق، ج 1، ص. 7؛ المقنع في رسم مصاحف الأمصار، ص. 5.

([11]) المصدر نفسه، ص. 10.

([12]) النشر في القراءات العشر، المصدر السابق، ج 1، ص. 7.

([13]) المقنع في رسم مصاحف الأمصار، المصدر السابق، ص. 10.

([14]) كتاب المصاحف، المصدر السابق، ص. 10، 12، 19؛ المقنع في رسم مصاحف الأمصار، المصدر السابق، ص. 7.

([15]) كتاب المصاحف، المصدر نفسه، ص. 21.

([16]) المحكم في نقط المصاحف، المصدر السابق، ص. 3.

([17]) النشر في القراءات العشر، المصدر السابق، ج 1، صص. 7-8.

([18]) هو أبو الحسن علي بن إسماعيل الأندلسي المتوفى سنة 458 هـ، صاحب "المحكم والمحيط الأعظم في اللغة".

([19]) أبو عبيد القاسم بن سلاّم المتوفى سنة 224 هـ، وأبو العباس محمد بن يزيد المبرد المتوفى سنة 285 هـ.

([20]) هو عبد الله بن مسعود الهُذَلي صاحب الرسول r.

([21]) هو أبو منصور محمد بن أحمد بن الأزهر، صاحب معجم" تهذيب اللغة"، المتوفى سنة 370 هـ.

([22]) هو أبو العباس محمد بن يزيد المبرّد النحوي المتوفى سنة 285 هـ.

([23]) لسان العرب، المصدر السابق، مادة »حرف«.

([24]) سورة المؤمنون، الآية 23 و54.

([25]) سورة آل عمران، الآية 3 و106.

([26]) سورة يس، الآية 36 و60.

([27]) أي يحقق الهمزة في النطق ولا يسهلها.

([28]) سورة البقرة، الآية 2 و11 وغيرها.

([29]) سورة هود، الآية 11 و44.

([30]) سورة يوسف، الآية 12 و65.

([31]) سورة يوسف، الآية 12 و11.

([32]) تأويل مشكل القرآن، صص. 38-40.

([33]) كتاب السبعة في القراءات، ص. 49.

([34]) كتاب السبعة في القراءات، المصدر السابق، ص. 51.

([35]) الزبيدي، طبقات النحويين، ص. 51.

([36]) النشر في القراءات العشر، المصدر السابق، ج 1، صص. 33-34؛ ومعرفة القراء، ج 1، ص. 172.

([37]) طبقات النحويين، المصدر السابق، ص. 75؛ ابن النديم، الفهرست، صص. 35، 58.

([38]) إنباه الرواة، ج 2، ص. 62.

([39]) النشر في القراءات العشر، المصدر السابق، ج 1، ص. 34.

([40]) المصدر نفسه.

([41]) المصدر نفسه.

([42]) المصدر نفسه.

([43]) كتاب السبعة في القراءات، المصدر السابق، صص. 45-46؛ النشر في القراءات العشر، المصدر السابق، ج 1، ص. 9.

([44]) كتاب السبعة في القراءات، المصدر السابق، ص. 49.

([45]) المصدر نفسه، ص. 45. طبع هذا الكتاب بتحقيق الدكتور شوقي ضيف، دار المعارف، مصر.

([46]) النشر في القراءات العشر، المصدر السابق، ج 1، ص. 81.

([47]) المصدر نفسه، ص. 34.

([48]) طبع هذا الكتاب في مجمع اللغة العربية بدمشق، بتحقيق سبيع حمزة حاكمي سنة 1986.

([49]) النشر في القراءات العشر، المصدر السابق، ج 1، ص. 73.

([50]) المصدر نفسه، ص. 34، 93.

([51]) الكتاب الأوسط في علم القراءات (المخطوطة).

([52]) سورة البقرة، ج 2، ص. 81.

([53]) سورة البقرة، ج 2، ص. 80.

([54]) سورة البقرة، ج 2، صص. 111-112.

([55]) جمال القراء، ج 2، ص. 574.

([56]) المصدر نفسه، ج 2، صص. 574-575.

([57]) غاية النهاية، ج 1، ص. 223.

([58]) المصدر نفسه.

([59]) أبسط: أي أوسع وأكثر تفصيلاً.

([60]) غاية النهاية، المصدر السابق، ج 1، ص. 223.

([61]) المصدر نفسه.

([62]) الكتاب الأوسط في علم القراءات، المصدر السابق، ص. 12. (المخطوطة).

([63]) المصدر نفسه، ص. 12. (المخطوطة).

([64]) المصدر نفسه.

([65]) المصدر نفسه.

([66]) المصدر نفسه، صص. 12-13.

([67]) المصدر نفسه، ص. 5.

([68]) معجم المؤلفين، ج 3، ص. 254.

([69]) كشف الظنون، ج 2، ص. 1604.

([70]) الكتاب الأوسط في علم القراءات، المصدر السابق، ص. 2. (المخطوطة).

([71]) المصدر نفسه.

([72]) المصدر نفسه.

([73]) غاية النهاية، ج 1، ص. 223. وأبسط: أي أوسع وأكثر تفصيلاً.

([74]) طبع هذا الكتاب في مجمع اللغة العربية بدمشق سنة 1971، بتحقيق الدكتور محيي الدين رمضان.

([75]) طبع هذا الكتاب في وزارة الأوقاف ببغداد سنة 1978، بتحقيق الدكتور أحمد خطاب العمر.


المصدر : مجلة التاريخ العربي / العدد 36
 
بارك الله فيك شيخنا على هذه المعلومات القيمة
ولكن عندي ملاحظ على قولك إنه أوّل كتاب في هذا العلم عمل فيه صاحبه أبواب أصول القراءات قبل فرش الحروف، وذلك أن الإمام ابن الجزري قد نص في الغاية على أن أول من اخترع هذه الطريقة في التصنيف هو الإمام الدارقطني الحافظ المحدث المقرئ أي قبل في كتابه في القراءات وهو كتاب مفقود.
الدارقطني توفي سنة 385 أي قبل سنة 413 بـ: 28 سنة من تأليف العماني لهذا الكتاب.
 
جزاكم الله خيرا على هذا البحث الطيب واحب أن اضيف هنا
معلومة عن ضبط اسم العلامة العماني
ذكر العلامة الاشموني في كتابه منار الهدى صفحة 43 ما نصه:
" أبو محمد الحسن بن علي العَمَّاني: بفتح العين المهملة وتشديد الميم نسبة الى عَمَّان مدينة البلقاء بالشأم دون دمشق ، لا العُماني بالضم والتخفيف نسبة الى عُمان قرية تحت البصره".
والله تعالى أعلم
 
جزاكم الله خيرا على هذا البحث الطيب واحب أن اضيف هنا
معلومة عن ضبط اسم العلامة العماني
ذكر العلامة الاشموني في كتابه منار الهدى صفحة 43 ما نصه:
" أبو محمد الحسن بن علي العَمَّاني: بفتح العين المهملة وتشديد الميم نسبة الى عَمَّان مدينة البلقاء بالشأم دون دمشق ، لا العُماني بالضم والتخفيف نسبة الى عُمان قرية تحت البصره".
والله تعالى أعلم

أحسن الله إليكم أين ذكر الأشموني رحمه الله هذا الضبط ؟ فلم أجده في الصفحة المذكورة في طبعة دار الحديث ؛ فأرجو أن تتكرموا بذكر الباب أو الفصل الذي ذكر فيه المؤلف هذا النص . وجزاكم الله عنا خيرا .
 
عودة
أعلى