عوض احمد الشهري
New member
- إنضم
- 25/06/2003
- المشاركات
- 21
- مستوى التفاعل
- 0
- النقاط
- 1
بسم الله الرحمن الرحيم
(معالم التنزيل) للبغوي رحمه الله (ت 510هـ)
التعريف بالمؤلف ومناقبه:
يقول الإمام الذهبي رحمه الله في ترجمته: (الشيخ الإمام، العلامة القدوة الحافظ شيخ الإسلام، مُحيي السنة أبو محمد الحسين بن مسعود بن محمد بن الفراء البغوي الشافعي المفسر صاحب التصانيف (كشرح السنة) و(معالم التنزيل) و(الجمع بين الصحيحين) وأشياء. وكان البغوي يُلقب بمحيي السنة وبركن الدين، وكان سيداً إماماً عالماً علامة زاهداً وله القدم الراسخ في التفسير والباع المديد في الفقه. وتوفي "بمرو الروُّذ" مدينة من مدائن خراسان في شوال سنة 516هـ وعاش بضعاً وسبعين سنة).
"سير أعلام النبلاء – للذهبي [19/439] مؤسسة الرسالة، بيروت".
الدكتور:محمد الذهبي يورد اسم البلدة التي مات بها بأنها "مروروز"(التفسير والمفسرون245/1)
مناقبه كذلك وشيوخه وتلاميذه:
ويقول الداودي في كتابه (طبقات المفسرين) رحمه الله: (كان إماماً في التفسير، إماماً في الحديث، إماماً في الفقه، جليلاً ورعاً زاهداً تفقَّه على القاضي حسين وهو أخص تلامذته، وسمع الحديث منه ومن أبي عمر عبدالواحد المليحي، وأبي الحسن الداودي، وأبي الحسن محمد بن محمد الشيرازي وغيرهم. وسماعاته بعد الستين وأربعمائة.
روى عنه أبو منصور محمد بن أسعد العطاري وأبو الفتوح محمد بن محمد الطائي وجماعة وآخرهم أبو المكارم فضل الله بن محمد النوقاني وله من التصانيف (معالم التنزيل في التفسير) و(شرح السنة) و(المصابيح) و(الجمع بين الصحيحين) و(التهذيب في الفقه) وقد بورك له في تصانيفه ورُزق فيها القبول الحسن بنيته وكان لا يلقي الدرس إلا على طهارة، وكان قانعاً يأكل الخبز وحده، ثم عُذِل في ذلك فصار يأكله بزيت، مات في شوال سنة 510هـ بمرو الروَّذ ودفن عند شيخه القاضي الحسين وقد جاوز البغوي الثمانين ولم يحج). وذكر ذلك أيضاً الذهبي.
"طبقات المفسرين للداودي، ص 161 – 162".
نشأته ومبلغه من العلم:
لا نعرف الكثير عن نشأته رحمه الله وحياته المبكرة، كما نجهل ما يتصل بأسرته وعدد أفرادها وذلك كله لأن المصادر التي ترجمت له لا تفصح عن ذلك، ولعل السبب في هذه الظاهرة أن أسرة الإمام البغوي لم يكن فيها من له باع طويل في ميدان العلم والفقه والكتاب والسنة، فيذكرون بتلك العلوم كما ذُكر، ويُشهرون بها كما شهر، علماً بأن المدينة التي ولد بها ونشأ فيها وهي بلاد خراسان التي أنجبت كثيراً من العلماء.
والإمام البغوي قد نشأ في أسرة فقيرة كما ينشأ أكثر العلماء في عصره، وخاصة أن المصادر تذكر أن أباه كان فرَّاءً يصنع الفراء ويبيعها. (السير – للذهبي).
وتذكر بعض المصادر أنه تزوج وأن زوجته لما ماتت لم يأخذ من ميراثها شيئاً. ولم تذكر كتب التراجم أنه رزق أبناءً وليس في كنيته ما يؤكد على خلاف ذلك؛ لأن التكني ظاهرة كانت مألوفة بين العلماء.
وأما مبلغه من العلم فنجد العلماء يشهدون له بالتقدم والتفوق في ميدان العلوم الشرعية، وهو يتميز بتنوع الجوانب واختلاف مناحي التخصص، يقول عنه ابن خلكان الفقيه الشافعي المحدث المفسر: (كان بحراً في العلوم).
ويقول عنه الإمام السيوطي في طبقات المفسرين: (كان إماماً في التفسير، إماماً في الحديث، إماماً في الفقه).
ويقول عنه ابن كثير في البداية والنهاية: (كان ديناً ورعاً زاهداً عابداً صالحاً). وقليل أولئك العلماء الذين يصدق عملهم علمهم ويوافق سلوكهم فكرهم وكان الإمام البغوي من هؤلاء القليلين – رحمه الله – الذين يطابق عملهم وخلقهم تقدمهم وتفوقهم العلمي.
عقيدته ومذهبه:
قد قدر للإمام البغوي الاستقامة والسلامة في العقيدة من الانحراف وجاءت شهادات العلماء ممن ترجم له، تشهد له بذلك فهو كما يقول ابن نقطة: (إمام حافظ ثقة صالح). وهي لا شك من الدرجات العالية في التعديل والتقويم.(البغوي ومنهج في التفسير) لعفاف عبدالغفور، ص 35.
ويقول الإمام الذهبي (على منهاج السلف حلاً وعقداً): ويتضح من هذه الأقوال أن عقيدته هي عقيدة أهل السنة والجماعة. وأما مذهبه فقد كان شافعياً بل من أئمة المذهب الشافعي، وقد اشتهر ذلك لدى العلماء وأكده من ترجم له، ومنهم ابن خلكان والذهبي والسبكي وغيرهم. أما اختياره للمذهب الشافعي فبحكم البيئة التي نشأ بها والعلماء الذين تلقى عنهم ودرس عليهم الفقه.
وبعد أن وقفنا على نسب وسيرة المؤلف – رحمه الله – وصفاته وعقيدته وغيرها نأتي الآن إلى مؤلفه في التفسير وهو كتابه (معالم التنزيل) في التفسير.
التعريف "بمعالم التنزيل" في التفسير للإمام البغوي – رحمه الله –:
ومعالم التنزيل في التفسير متوسط الحجم سهل العبارة ينقل فيه مؤلفه ما ورد عن الصحابة والتابعين من غير ذكر للسند اعتماداً على أنه ذكر في مقدمة تفسيره إسناده إلى كل من يروي عنه كما أنه يتحرى الصحة فيما يسنده إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ويعرض عن المناكير وما لا يتعلق له بالتفسير.
قال ابن تيمية: والبغوي تفسيره مختصر من الثعلبي لأنه صان تفسيره عن الأحاديث الموضوعة والآراء المبتدعة.
(مقدمة أصول التفسير).
ووصفه الخازن في مقدمة تفسيره: بأنه من أجمل المصنفات في علم التفسير وأعلاها، جامع للصحيح من الأقاويل، عارٍ من الشبه والتصحيف والتبديل, محلَّى بالأحاديث النبوية، مطرَّز بالأحكام الشرعية, موشَّى بالقصص الغريبة وأخبار الماضين العجيبة، مرصَّع بأحسن الإشارات، مخرَّج بأوضح العبارات، مفرَّغ في قالب الجمال بأفصح مقال.
(التفسير والمفسرون).
وقد طبع هذا التفسير في نسخة واحدة مع تفسير ابن كثير الدمشقي، كما طبع مع تفسير الخازن، ويتعرض لتفسير الآية بلفظ سهل موجز وينقل ما جاء عن السلف في تفسيرها. وذلك بدون أن يذكر السند يكتفي في ذلك بأن يقول مثلاً: قال ابن عباس كذا وكذا، وقال مجاهد كذا وكذا، وقال عطاء كذا وكذا، والسر في هذا هو أنه ذكر في مقدمة تفسيره إسناده إلى كل من يروي عنهم وبين أن له طرقاً سواها تركها اختصاراً ثم إنه إذا روى عمن ذكر أسانيده إليهم بإسناد آخر غير الذي ذكره في مقدمة تفسيره فإنه يذكره عند الرواية.
وقد طبع تفسير البغوي طبعات كثيرة منها طبعت بفارس في أربع مجلدات ولم يذكر مكان الطبع أو تاريخه، وطبع أيضاً في بومباي في مجلدين سنة 1309هـ – 1891م، وطبع على هامش تفسير الإمام ابن كثير كما طبع على هامش تفسير الخازن وتقع الطبعة الأخيرة في سبعة أجزاء وفي أربعة مجلدات وكذلك طبعته دار طيبة بالرياض في 8 مجلدات طبعة محققة ومخرجة الأحاديث .
(البغوي ومنهجه في التفسير) عفاف عبدالغفور ص 63.
منهج البغوي في تفسيره والباعث على تأليفه (معالم التنزيل):
ومعالم التنزيل من أشهر كتب التفسير بالمأثور وهو تفسير كامل للقرآن مع مقدمة للمؤلف يستهلها بحمد الله والصلاة والسلام على رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم يبين مهمة إرسال الرسول وإنزال الكتاب المعجز عليه، ثم يذكر ما اشتمل عليه القرآن من الأمور عقيدة وفقهاً وقصصاً وحكماً.
ثم ينتقل البغوي – رحمه الله – إلى دواعي تأليفه لتفسيره فيقول: (فسألني جماعة من أصحابي المخلصين وعلى اقتباس العلم مقبلون كتاباً في معالم التنزيل وتفسيره، فأجبتهم إليه معتمداً على فضل الله تعالى وتيسيره متمثلاً وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم فيما يرويه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال: (إن رجالاً يأتونكم من أقطار الأرض يتفقهون في الدين فإذا أتوكم فاستوصوا بهم خيراً).
ومن هذا النص نستفيد أن تفسيره جاء نزولاً عند رغبة طلابه وتلاميذه المخلصين والمقبلين على اقتباس العلم وتحقيقاً لوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم واقتداء بالماضين.
ويقدم البغوي بعد ذلك الطريقة التي اختارها وجعل عليها تفسيره وهي التوسط والاعتدال فيقول: (فجمعت بعون الله تعالى وحسن توفيقه فيما سألوا كتاباً متوسطاً بين الطويل الممل والقصير المخل، أرجو أن يكون مفيداً لمن أقبل على تحصيله).
وينتقل الإمام البغوي – رحمه الله – في مقدمته فيذكر مصادره في تفسيره من كتب التفسير بالمأثور وكتب الأخبار والسير وكتب القراءات والحديث النبوي الشريف.
ثم يعقد ثلاثة فصول بين يدي التفسير وهي في فضائل القرآن وتعليمه وفي فضائل تلاوة القرآن، وفي وعيد من قال في القرآن برأيه.
ثم يبين معنى التفسير والتأويل والفرق بينهما ومعنى نزول القرآن على سبعة أحرف. ثم ينطلق إلى تفسير كتاب الله تعالى سورة سورة من سورة الفاتحة حتى سورة الناس.
(البغوي ومنهجه في التفسير) عفاف عبدالغفور.
وقد عرض الإمام البغوي – رحمه الله – لتفسير كتاب الله وشرح معانيه بأسلوب سهل واضح لا لبس فيه ولا غموض ولا صعوبة, ولا توعر في لغته، ويلاحظ على تفسيره الابتعاد عن ذكر التفاصيل والاسترسال في المسائل الفرعية وبعده عن الحشو والتكرار والتطويل.
وطريقته في تفسيره تأتي في ذكر اسم السورة وعدد آياتها وبيان مكيها ومدنيها وقد يفصّل فيذكر الآيات المكية في المدينة والعكس ثم يسوق أسباب النزول إن كانت السورة قد نزلت في مناسبة معينة، وقد يعرض خلال التفسير لأسباب نزول بعض الآيات الخاصة فيها.
وللبغوي منهج متميز في التفسير يعتمد على عناصر أساسية وهي: اعتماده على المأثور من الكتاب والسنة النبوية وأقوال الصحابة والتابعين مع عنايته بالقراءات واللغة والنحو بإيجاز يحقق فهم الآيات، وذكره لمسائل العقيدة والأحكام الفقهية بطريقة مختصرة. وهذا تفصيل منهجه في التفسير.
اعتماده على الكتاب والسنة:
إن آي القرآن الكريم يوضح بعضها البعض الآخر فما أجمل وأوجز في موضع من القرآن الكريم قد فسر وبين في مكان آخر، وقد تخصص آيةٌ عموم آية سابقة، والمهم أن كتاب الله تعالى يوضح بعضه البعض الآخر. وتأتي السنة المطهرة بعد كتاب الله في تفسير آي القرآن الكريم، وأقوال الرسول صلى الله عليه وسلم المبينة الموضحة لآيات كتاب الله ذات أهمية كبيرة. قال تعالى: ×وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون÷. وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (ألا إنني أوتيت الكتاب ومثله معه).
وقد أدرك الإمام البغوي – رحمه الله – أهمية هذه الصلة بين آيات كتاب الله تعالى بعضها بالبعض الآخر وبينها وبيَّن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. حين قرر معنى التفسير وجعله مما يجب أن يكون مسوقاً بطرق ثابتة. وهكذا عني البغوي – رحمه الله – كثيراً بإيراد نصوص من القرآن في تفسير معنى الآية من القرآن، كما كانت عنايته أكبر وأبعد مدى في كثرة إيراده لنصوص الأحاديث النبوية.
أولاً: تفسير القرآن بالقرآن وبعض الأمثلة على ذلك:
يعتمد تفسير (معالم التنزيل) على كتاب الله تعالى اعتماداً كبيراً، وتطرد ظاهرة التمثيل والاستشهاد بآيات القرآن لبيان معنى الآيات الأخرى وهناك من الأمثلة في تفسيره الكثير.
.
ثانياً: تفسير القرآن بالسنة وبعض الأمثلة على ذلك:
يعتبر الإمام البغوي محي السنة – رحمه الله – وأبرز أعلام عصره في ميدان الحديث والسنة، ولم يزل كذلك في العصور التالية لما تركه من آثار ومؤلفات نفيسة في السنة النبوية وعلى رأسها (مصابيح السنة) و(شرح السنة).
وقد ترك اهتمامه الكبير وشغفه العظيم بالسنة سمة بارزة في تفسيره، فجاء (معالم التنزيل) تفسيراً حافلاً بالنصوص الحديثية الصحيحة والحسنة والذي يؤكد اهتمامه بالحديث إدراكه للصلة الوثيقة بين الكتاب والسنة، فهو يقول في مقدمة تفسيره: (إن الكتاب يُطلب بيانه من السنة وفيها مدار الشرع وأمور الدين).
ويتميز البغوي – رحمه الله – في تفسيره بجودة اختياره وانتخابه لنصوص الحديث التي يوردها في مطاوي التفسير وتحريه، وحرصه على الصحيح منها، وبُعده وإعراضه عن الضعيف والمنكر من الأحاديث مما لا يتناسب ولا يتفق مع تفسير كتاب الله تعالى، وحول هذا يقول – رحمه الله – في مقدمة تفسيره: (وما ذكرتُ من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في أثناء الكتاب على وفاق آية أو بيان حكم فهي من الكتاب المسموعة للحفاظ وأئمة الحديث، وأعرضت عن ذكر المناكير وما لا يليق بحال التفسير).
ولا غرابة أن نجد من البغوي – رحمه الله – هذه العناية الكبيرة بالحديث، فهو ذو قدم راسخة، وذو اهتمام أصيل بالحديث النبوي.
وقد سلك البغوي – رحمه الله – طريق المحدثين في إيراده إسناد الحديث حتى الصحابي الذي روى الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولعله اكتفى بذكره لرجال السند واستغنى به عن تخريجه لنصوص الأحاديث النبوية الشريفة، ولذلك فالملاحظ أنه لم يخرج الأحاديث التي ذكرها في تفسيره وإن كان قد خرَّج البعض منها واكتفى بالبعض الآخر ببيان درجته أي الحديث من الصحة والحسن، وهناك نماذج لبعض الأحاديث ذكرها مع رجال السند والتخريج في كتابه.
لكن بعض الأحاديث القليلة لم يذكر البغوي – رحمه الله – رجال السند فيها ولعله ذكر تلك الأحاديث في موضع سابق مع رجال السنة فلم يذكرها تجنباً للتكرار.
وتحتل نصوص الحديث النبوي والسنة المطهرة مساحة فسيحة في تفسيره حتى يبلغ الأمر به أن يعقد فصولاً حديثية في مقام التدليل على المعنى المراد في تلك الآية، وهو شغف وتعلق كبير يكشف عنه محدثاً كبيراً رحمه الله.
ثالثاً: حرصه في تفسيره على المأثور من أقوال الصحابة والتابعين:
جاء تفسير الإمام محيي السنة البغوي – رحمه الله – (معالم التنزيل) فضلاً عن اعتماده على الكتاب والسنة اعتماداً ظاهراً، معتمداً على المأثور من تفسير الصحابة والتابعين (رضي الله عنهم أجمعين) وهو اعتماد يكاد يكون مطلقاً لا حدود له، ومقدمة تفسيره تكشف لنا بوضوح عن اتجاهه النقلي في تفسير آيات كتاب الله فمصادر تفسيره – في المقام الأول – كتب التفسير بالمأثور وقد بلغت مصادره في المأثور والأخبار خمسة عشر مصدراً وهي لابن عباس ومجاهد بن جبر، وعطاء بن أبي رباح، والحسن البصري، وقتادة، وأبي العالية، والقُرظي، وزيد بن أسلم, والكلبي، والضحاك، ومقاتل بن سليمان، والسدي، ووهب بن منبه، ومحمد بن إسحاق.
والملاحظ على بعض تلك الطرق التي تلقى بها تفاسير الصحابة رضي الله عنهم أنها ضعيفة واهية ليست معتبرة أو معتمدة لدى علماء الجرح والتعديل كما بالنسبة للطريق الثاني في تفسير ابن عباس عن ابن عطية سعد العوفي عن عمه عن أبيه عن جده عطية فهي غير مرضية لأن عطية ضعيف ليس بواهٍ. وكذلك بالنسبة لتفسير زيد بن أسلم لأنه من تفاسير ضعفا ء التابعين عن طريق ابنه عبدالرحمن وهو من الضعفاء.
ولكن أكثر تلك الطرق جيدة وحسنة وصالحة في النقل عن هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم كما بالنسبة للطريق الأول لتفسير ابن عباس وهي عن معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة فهي أجود الطرق عنه.
وكذلك بالنسبة للطريق الثالث في تفسير ابن عباس ما أُخذ عن عكرمة بطريق الحسن بن واقد فهي جيدة وإسناده حسن.
وكذلك بالنسبة لتفسير مجاهد عن طريق ابن أبي نجيح فالطريق إلى ابن أبي نجيح قوية.
وكذلك بالنسبة لتفسير مقاتل بن حيان فهو صدوق في المرتبة الرابعة عند بعض العلماء.
(البغوي منهجه في التفسير).
ولكن نقله عن السلف لم يكن طريقه ومسلكه الوحيد في تفسيره، ومن أجل ذلك قال الدكتور/ محمد محمد أبو شهبة عن تفسيره: (بأنه ليس خالصاً للتفسير بالمأثور بل جمع فيه بين التفسير بالمأثور والتفسير بالرأي والاجتهاد المقبول). فهو وسط بين كتب التفسير بالمأثور نحو تفسير ابن جرير الطبري، والدر المنثور للسيوطي، وبين كتب التفسير بالرأي والاجتهاد.
وكذلك جاء هذا الوصف من قبل الدكتور/ منيع عبدالحليم محمود في كتابه مناهج المفسرين، والدكتور/ عبدالله محمود شحاته في كتابه تاريخ القرآن والتفسير.
وهكذا نخلص إلى أن كتابه رحمه الله (معالم التنزيل) من الكتب المعتبرة في التفسير بالمأثور وهو الغالب على منهجه وطريقته ولكنه ليس خالصاً للتفسير بالمأثور.
ونسوق بعض الأمثلة للتدليل على هذا الاتجاه الغالب على تفسير الإمام البغوي – رحمه الله – وهو حرصه على المأثور.
فمن ذلك أنه في بيانه لمعنى الصراط المستقيم يوضح ذلك من خلال آراء السلف، فيقول – رحمه الله -: قال ابن عباس وجابر: هو الإسلام، وهو قول مقاتل, وقال ابن مسعود: هو القرآن، وروي عن علي مرفوعاً: (الصراط المستقيم) كتاب الله، وقال سعيد بن جبير: هو طريق الجنة، وقال سهل بن عبدالله: طريق السنة والجماعة، وقال بكر بن عبدالله المزني: طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال أبو العالية والحسن: رسول الله وآله وصاحباه، وكذلك يصنع في بيانه لمعنى (الذين أنعمت عليهم) فيورد فهم وتفسير عكرمة وابن عباس وأبي العالية وعبدالرحمن بن زيد وشهر بن حوشب.
وفي هذا دليل على اعتماد البغوي – رحمه الله – على التفسير بالمأثور وهو اعتماد ظاهر في السور كلها، وإن كان هذا لا يعني أن تفسيره اقتصر على المأثور بل يستعين في فهم الآية باللغة العربية والمعقول من الاجتهاد.
وقد جرَّد البغوي – رحمه الله – تفسيره بالمأثور من رجال السند اختصاراً؛ لأنه ذكر طرقه في مقدمة التفسير ولكننا نجد أسماء أخرى لم يذكرها في مقدمته، فقد وردت بعض الآراء في تفسير الآيات عن جماعة من الصحابة والتابعين لم تُذكر أسماؤهم ولا طرق روايته عنهم في مقدمته التي استهل بها تفسيره، فمن هؤلاء: الربيع بن أنس، وابن مسعود، وعكرمة، وإبراهيم النخعي، والشعبي، وسعيد بن جبير، وإبراهيم بن أدهم وغيرهم.
كما أنه أحياناً لا يذكر الأسماء ويكتفي بأن يقول: قال أكثر المفسرين، أو قال سائر المفسرين, أو قال أهل التفسير, أو قيل كذا وكذا.
وكذلك فقد روى عمن ذكر أسانيده إليهم بإسناد آخر غير الذي ذكره في مقدمته، كما فعل في بعض ما نقله عن ابن عباس – رضي الله عنهما – حيث روى عنه بطرق أخرى غير التي ذكرها في مقدمته.
وبهذا نخلص إلى الأصول الأساسية التي اعتمدها البغوي – رحمه الله – في كتاب (معالم التنزيل) وهي:
1 – اعتماده على الكتاب والسنة فهو يفسر القرآن بالقرآن أو بالسنة النبوية مراعياً بذلك سياق السند وتحري الصحة والدقة.
2 – حرصه على المأثور من التفسير من أقوال الصحابة والتابعين ممن ذكر طرق الأخذ عنهم في المقدمة مع أخذه من آخرين لم يذكرهم وقد برز طابع المأثور في تفسيره بصورة ظاهرة وكان أميناً في نقله – رحمه الله – لآراء هؤلاء السلف دون ترجيح وقد يرجح فيما يختاره ويجد الدليل عليه.
3-يعرض لرأي أهل السنة ولآراء مخالفيهم مع الإنتصار لرأي أهل السنة مدللاً عليه بالمنقول والمعقول كما عند قوله تعالى(لاتدركه الأبصار) الأنعام/103وغيرها كثير.
وبقية أصول منهجه في تفسيره كعنايته باللغة والنحو والقراءات وما يتعلق بالإسرائيليات والموضوعات، وما يتعلق بالعقيدة والمسائل الفقهيةلعل الله أن ييسر لي طرحها مستقبلاً إن شاءالله أو أحد الإخوة يقوم بذلك مأجوراً وبهذا نكون قد وقفنا على شيء من سيرة وحياة الإمام البغوي – رحمه الله – ومكانته العلمية وكذلك وقفنا على بعض جوانب منهجه في تأليفه لكتابه (معالم التنزيل) إلى غير ذلك ، وأعتذر عن الإطالة إن وُجِدَتْ لأن المؤلِّف ومؤلَّفه من الأعلام البارزة التي قد يكون الاختصار في حقه – رحمه الله – أو في حق كتابه قد يكون اختصاراً مخلاً،وأحب أن أذكر أن الهدف من مثل هذه الوقفات السريعة هو التذكير بأمثال أولئك الأعلام-رحمهم الله- وجمعنا بهم مع نبينا محمد-صلى الله عليه وسلم- في مقعد صدق عند مليك مقتدر، وأرجوا من المشائخ الأفاضل والإخوة الكرام التعليق على أي ملحوظة أو خطأ ليستفيد الكاتب أولاً والقارئ ولكم جزيل الشكر والتقدير.
هذا والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين.
(معالم التنزيل) للبغوي رحمه الله (ت 510هـ)
التعريف بالمؤلف ومناقبه:
يقول الإمام الذهبي رحمه الله في ترجمته: (الشيخ الإمام، العلامة القدوة الحافظ شيخ الإسلام، مُحيي السنة أبو محمد الحسين بن مسعود بن محمد بن الفراء البغوي الشافعي المفسر صاحب التصانيف (كشرح السنة) و(معالم التنزيل) و(الجمع بين الصحيحين) وأشياء. وكان البغوي يُلقب بمحيي السنة وبركن الدين، وكان سيداً إماماً عالماً علامة زاهداً وله القدم الراسخ في التفسير والباع المديد في الفقه. وتوفي "بمرو الروُّذ" مدينة من مدائن خراسان في شوال سنة 516هـ وعاش بضعاً وسبعين سنة).
"سير أعلام النبلاء – للذهبي [19/439] مؤسسة الرسالة، بيروت".
الدكتور:محمد الذهبي يورد اسم البلدة التي مات بها بأنها "مروروز"(التفسير والمفسرون245/1)
مناقبه كذلك وشيوخه وتلاميذه:
ويقول الداودي في كتابه (طبقات المفسرين) رحمه الله: (كان إماماً في التفسير، إماماً في الحديث، إماماً في الفقه، جليلاً ورعاً زاهداً تفقَّه على القاضي حسين وهو أخص تلامذته، وسمع الحديث منه ومن أبي عمر عبدالواحد المليحي، وأبي الحسن الداودي، وأبي الحسن محمد بن محمد الشيرازي وغيرهم. وسماعاته بعد الستين وأربعمائة.
روى عنه أبو منصور محمد بن أسعد العطاري وأبو الفتوح محمد بن محمد الطائي وجماعة وآخرهم أبو المكارم فضل الله بن محمد النوقاني وله من التصانيف (معالم التنزيل في التفسير) و(شرح السنة) و(المصابيح) و(الجمع بين الصحيحين) و(التهذيب في الفقه) وقد بورك له في تصانيفه ورُزق فيها القبول الحسن بنيته وكان لا يلقي الدرس إلا على طهارة، وكان قانعاً يأكل الخبز وحده، ثم عُذِل في ذلك فصار يأكله بزيت، مات في شوال سنة 510هـ بمرو الروَّذ ودفن عند شيخه القاضي الحسين وقد جاوز البغوي الثمانين ولم يحج). وذكر ذلك أيضاً الذهبي.
"طبقات المفسرين للداودي، ص 161 – 162".
نشأته ومبلغه من العلم:
لا نعرف الكثير عن نشأته رحمه الله وحياته المبكرة، كما نجهل ما يتصل بأسرته وعدد أفرادها وذلك كله لأن المصادر التي ترجمت له لا تفصح عن ذلك، ولعل السبب في هذه الظاهرة أن أسرة الإمام البغوي لم يكن فيها من له باع طويل في ميدان العلم والفقه والكتاب والسنة، فيذكرون بتلك العلوم كما ذُكر، ويُشهرون بها كما شهر، علماً بأن المدينة التي ولد بها ونشأ فيها وهي بلاد خراسان التي أنجبت كثيراً من العلماء.
والإمام البغوي قد نشأ في أسرة فقيرة كما ينشأ أكثر العلماء في عصره، وخاصة أن المصادر تذكر أن أباه كان فرَّاءً يصنع الفراء ويبيعها. (السير – للذهبي).
وتذكر بعض المصادر أنه تزوج وأن زوجته لما ماتت لم يأخذ من ميراثها شيئاً. ولم تذكر كتب التراجم أنه رزق أبناءً وليس في كنيته ما يؤكد على خلاف ذلك؛ لأن التكني ظاهرة كانت مألوفة بين العلماء.
وأما مبلغه من العلم فنجد العلماء يشهدون له بالتقدم والتفوق في ميدان العلوم الشرعية، وهو يتميز بتنوع الجوانب واختلاف مناحي التخصص، يقول عنه ابن خلكان الفقيه الشافعي المحدث المفسر: (كان بحراً في العلوم).
ويقول عنه الإمام السيوطي في طبقات المفسرين: (كان إماماً في التفسير، إماماً في الحديث، إماماً في الفقه).
ويقول عنه ابن كثير في البداية والنهاية: (كان ديناً ورعاً زاهداً عابداً صالحاً). وقليل أولئك العلماء الذين يصدق عملهم علمهم ويوافق سلوكهم فكرهم وكان الإمام البغوي من هؤلاء القليلين – رحمه الله – الذين يطابق عملهم وخلقهم تقدمهم وتفوقهم العلمي.
عقيدته ومذهبه:
قد قدر للإمام البغوي الاستقامة والسلامة في العقيدة من الانحراف وجاءت شهادات العلماء ممن ترجم له، تشهد له بذلك فهو كما يقول ابن نقطة: (إمام حافظ ثقة صالح). وهي لا شك من الدرجات العالية في التعديل والتقويم.(البغوي ومنهج في التفسير) لعفاف عبدالغفور، ص 35.
ويقول الإمام الذهبي (على منهاج السلف حلاً وعقداً): ويتضح من هذه الأقوال أن عقيدته هي عقيدة أهل السنة والجماعة. وأما مذهبه فقد كان شافعياً بل من أئمة المذهب الشافعي، وقد اشتهر ذلك لدى العلماء وأكده من ترجم له، ومنهم ابن خلكان والذهبي والسبكي وغيرهم. أما اختياره للمذهب الشافعي فبحكم البيئة التي نشأ بها والعلماء الذين تلقى عنهم ودرس عليهم الفقه.
وبعد أن وقفنا على نسب وسيرة المؤلف – رحمه الله – وصفاته وعقيدته وغيرها نأتي الآن إلى مؤلفه في التفسير وهو كتابه (معالم التنزيل) في التفسير.
التعريف "بمعالم التنزيل" في التفسير للإمام البغوي – رحمه الله –:
ومعالم التنزيل في التفسير متوسط الحجم سهل العبارة ينقل فيه مؤلفه ما ورد عن الصحابة والتابعين من غير ذكر للسند اعتماداً على أنه ذكر في مقدمة تفسيره إسناده إلى كل من يروي عنه كما أنه يتحرى الصحة فيما يسنده إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ويعرض عن المناكير وما لا يتعلق له بالتفسير.
قال ابن تيمية: والبغوي تفسيره مختصر من الثعلبي لأنه صان تفسيره عن الأحاديث الموضوعة والآراء المبتدعة.
(مقدمة أصول التفسير).
ووصفه الخازن في مقدمة تفسيره: بأنه من أجمل المصنفات في علم التفسير وأعلاها، جامع للصحيح من الأقاويل، عارٍ من الشبه والتصحيف والتبديل, محلَّى بالأحاديث النبوية، مطرَّز بالأحكام الشرعية, موشَّى بالقصص الغريبة وأخبار الماضين العجيبة، مرصَّع بأحسن الإشارات، مخرَّج بأوضح العبارات، مفرَّغ في قالب الجمال بأفصح مقال.
(التفسير والمفسرون).
وقد طبع هذا التفسير في نسخة واحدة مع تفسير ابن كثير الدمشقي، كما طبع مع تفسير الخازن، ويتعرض لتفسير الآية بلفظ سهل موجز وينقل ما جاء عن السلف في تفسيرها. وذلك بدون أن يذكر السند يكتفي في ذلك بأن يقول مثلاً: قال ابن عباس كذا وكذا، وقال مجاهد كذا وكذا، وقال عطاء كذا وكذا، والسر في هذا هو أنه ذكر في مقدمة تفسيره إسناده إلى كل من يروي عنهم وبين أن له طرقاً سواها تركها اختصاراً ثم إنه إذا روى عمن ذكر أسانيده إليهم بإسناد آخر غير الذي ذكره في مقدمة تفسيره فإنه يذكره عند الرواية.
وقد طبع تفسير البغوي طبعات كثيرة منها طبعت بفارس في أربع مجلدات ولم يذكر مكان الطبع أو تاريخه، وطبع أيضاً في بومباي في مجلدين سنة 1309هـ – 1891م، وطبع على هامش تفسير الإمام ابن كثير كما طبع على هامش تفسير الخازن وتقع الطبعة الأخيرة في سبعة أجزاء وفي أربعة مجلدات وكذلك طبعته دار طيبة بالرياض في 8 مجلدات طبعة محققة ومخرجة الأحاديث .
(البغوي ومنهجه في التفسير) عفاف عبدالغفور ص 63.
منهج البغوي في تفسيره والباعث على تأليفه (معالم التنزيل):
ومعالم التنزيل من أشهر كتب التفسير بالمأثور وهو تفسير كامل للقرآن مع مقدمة للمؤلف يستهلها بحمد الله والصلاة والسلام على رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم يبين مهمة إرسال الرسول وإنزال الكتاب المعجز عليه، ثم يذكر ما اشتمل عليه القرآن من الأمور عقيدة وفقهاً وقصصاً وحكماً.
ثم ينتقل البغوي – رحمه الله – إلى دواعي تأليفه لتفسيره فيقول: (فسألني جماعة من أصحابي المخلصين وعلى اقتباس العلم مقبلون كتاباً في معالم التنزيل وتفسيره، فأجبتهم إليه معتمداً على فضل الله تعالى وتيسيره متمثلاً وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم فيما يرويه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال: (إن رجالاً يأتونكم من أقطار الأرض يتفقهون في الدين فإذا أتوكم فاستوصوا بهم خيراً).
ومن هذا النص نستفيد أن تفسيره جاء نزولاً عند رغبة طلابه وتلاميذه المخلصين والمقبلين على اقتباس العلم وتحقيقاً لوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم واقتداء بالماضين.
ويقدم البغوي بعد ذلك الطريقة التي اختارها وجعل عليها تفسيره وهي التوسط والاعتدال فيقول: (فجمعت بعون الله تعالى وحسن توفيقه فيما سألوا كتاباً متوسطاً بين الطويل الممل والقصير المخل، أرجو أن يكون مفيداً لمن أقبل على تحصيله).
وينتقل الإمام البغوي – رحمه الله – في مقدمته فيذكر مصادره في تفسيره من كتب التفسير بالمأثور وكتب الأخبار والسير وكتب القراءات والحديث النبوي الشريف.
ثم يعقد ثلاثة فصول بين يدي التفسير وهي في فضائل القرآن وتعليمه وفي فضائل تلاوة القرآن، وفي وعيد من قال في القرآن برأيه.
ثم يبين معنى التفسير والتأويل والفرق بينهما ومعنى نزول القرآن على سبعة أحرف. ثم ينطلق إلى تفسير كتاب الله تعالى سورة سورة من سورة الفاتحة حتى سورة الناس.
(البغوي ومنهجه في التفسير) عفاف عبدالغفور.
وقد عرض الإمام البغوي – رحمه الله – لتفسير كتاب الله وشرح معانيه بأسلوب سهل واضح لا لبس فيه ولا غموض ولا صعوبة, ولا توعر في لغته، ويلاحظ على تفسيره الابتعاد عن ذكر التفاصيل والاسترسال في المسائل الفرعية وبعده عن الحشو والتكرار والتطويل.
وطريقته في تفسيره تأتي في ذكر اسم السورة وعدد آياتها وبيان مكيها ومدنيها وقد يفصّل فيذكر الآيات المكية في المدينة والعكس ثم يسوق أسباب النزول إن كانت السورة قد نزلت في مناسبة معينة، وقد يعرض خلال التفسير لأسباب نزول بعض الآيات الخاصة فيها.
وللبغوي منهج متميز في التفسير يعتمد على عناصر أساسية وهي: اعتماده على المأثور من الكتاب والسنة النبوية وأقوال الصحابة والتابعين مع عنايته بالقراءات واللغة والنحو بإيجاز يحقق فهم الآيات، وذكره لمسائل العقيدة والأحكام الفقهية بطريقة مختصرة. وهذا تفصيل منهجه في التفسير.
اعتماده على الكتاب والسنة:
إن آي القرآن الكريم يوضح بعضها البعض الآخر فما أجمل وأوجز في موضع من القرآن الكريم قد فسر وبين في مكان آخر، وقد تخصص آيةٌ عموم آية سابقة، والمهم أن كتاب الله تعالى يوضح بعضه البعض الآخر. وتأتي السنة المطهرة بعد كتاب الله في تفسير آي القرآن الكريم، وأقوال الرسول صلى الله عليه وسلم المبينة الموضحة لآيات كتاب الله ذات أهمية كبيرة. قال تعالى: ×وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون÷. وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (ألا إنني أوتيت الكتاب ومثله معه).
وقد أدرك الإمام البغوي – رحمه الله – أهمية هذه الصلة بين آيات كتاب الله تعالى بعضها بالبعض الآخر وبينها وبيَّن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. حين قرر معنى التفسير وجعله مما يجب أن يكون مسوقاً بطرق ثابتة. وهكذا عني البغوي – رحمه الله – كثيراً بإيراد نصوص من القرآن في تفسير معنى الآية من القرآن، كما كانت عنايته أكبر وأبعد مدى في كثرة إيراده لنصوص الأحاديث النبوية.
أولاً: تفسير القرآن بالقرآن وبعض الأمثلة على ذلك:
يعتمد تفسير (معالم التنزيل) على كتاب الله تعالى اعتماداً كبيراً، وتطرد ظاهرة التمثيل والاستشهاد بآيات القرآن لبيان معنى الآيات الأخرى وهناك من الأمثلة في تفسيره الكثير.
.
ثانياً: تفسير القرآن بالسنة وبعض الأمثلة على ذلك:
يعتبر الإمام البغوي محي السنة – رحمه الله – وأبرز أعلام عصره في ميدان الحديث والسنة، ولم يزل كذلك في العصور التالية لما تركه من آثار ومؤلفات نفيسة في السنة النبوية وعلى رأسها (مصابيح السنة) و(شرح السنة).
وقد ترك اهتمامه الكبير وشغفه العظيم بالسنة سمة بارزة في تفسيره، فجاء (معالم التنزيل) تفسيراً حافلاً بالنصوص الحديثية الصحيحة والحسنة والذي يؤكد اهتمامه بالحديث إدراكه للصلة الوثيقة بين الكتاب والسنة، فهو يقول في مقدمة تفسيره: (إن الكتاب يُطلب بيانه من السنة وفيها مدار الشرع وأمور الدين).
ويتميز البغوي – رحمه الله – في تفسيره بجودة اختياره وانتخابه لنصوص الحديث التي يوردها في مطاوي التفسير وتحريه، وحرصه على الصحيح منها، وبُعده وإعراضه عن الضعيف والمنكر من الأحاديث مما لا يتناسب ولا يتفق مع تفسير كتاب الله تعالى، وحول هذا يقول – رحمه الله – في مقدمة تفسيره: (وما ذكرتُ من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في أثناء الكتاب على وفاق آية أو بيان حكم فهي من الكتاب المسموعة للحفاظ وأئمة الحديث، وأعرضت عن ذكر المناكير وما لا يليق بحال التفسير).
ولا غرابة أن نجد من البغوي – رحمه الله – هذه العناية الكبيرة بالحديث، فهو ذو قدم راسخة، وذو اهتمام أصيل بالحديث النبوي.
وقد سلك البغوي – رحمه الله – طريق المحدثين في إيراده إسناد الحديث حتى الصحابي الذي روى الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولعله اكتفى بذكره لرجال السند واستغنى به عن تخريجه لنصوص الأحاديث النبوية الشريفة، ولذلك فالملاحظ أنه لم يخرج الأحاديث التي ذكرها في تفسيره وإن كان قد خرَّج البعض منها واكتفى بالبعض الآخر ببيان درجته أي الحديث من الصحة والحسن، وهناك نماذج لبعض الأحاديث ذكرها مع رجال السند والتخريج في كتابه.
لكن بعض الأحاديث القليلة لم يذكر البغوي – رحمه الله – رجال السند فيها ولعله ذكر تلك الأحاديث في موضع سابق مع رجال السنة فلم يذكرها تجنباً للتكرار.
وتحتل نصوص الحديث النبوي والسنة المطهرة مساحة فسيحة في تفسيره حتى يبلغ الأمر به أن يعقد فصولاً حديثية في مقام التدليل على المعنى المراد في تلك الآية، وهو شغف وتعلق كبير يكشف عنه محدثاً كبيراً رحمه الله.
ثالثاً: حرصه في تفسيره على المأثور من أقوال الصحابة والتابعين:
جاء تفسير الإمام محيي السنة البغوي – رحمه الله – (معالم التنزيل) فضلاً عن اعتماده على الكتاب والسنة اعتماداً ظاهراً، معتمداً على المأثور من تفسير الصحابة والتابعين (رضي الله عنهم أجمعين) وهو اعتماد يكاد يكون مطلقاً لا حدود له، ومقدمة تفسيره تكشف لنا بوضوح عن اتجاهه النقلي في تفسير آيات كتاب الله فمصادر تفسيره – في المقام الأول – كتب التفسير بالمأثور وقد بلغت مصادره في المأثور والأخبار خمسة عشر مصدراً وهي لابن عباس ومجاهد بن جبر، وعطاء بن أبي رباح، والحسن البصري، وقتادة، وأبي العالية، والقُرظي، وزيد بن أسلم, والكلبي، والضحاك، ومقاتل بن سليمان، والسدي، ووهب بن منبه، ومحمد بن إسحاق.
والملاحظ على بعض تلك الطرق التي تلقى بها تفاسير الصحابة رضي الله عنهم أنها ضعيفة واهية ليست معتبرة أو معتمدة لدى علماء الجرح والتعديل كما بالنسبة للطريق الثاني في تفسير ابن عباس عن ابن عطية سعد العوفي عن عمه عن أبيه عن جده عطية فهي غير مرضية لأن عطية ضعيف ليس بواهٍ. وكذلك بالنسبة لتفسير زيد بن أسلم لأنه من تفاسير ضعفا ء التابعين عن طريق ابنه عبدالرحمن وهو من الضعفاء.
ولكن أكثر تلك الطرق جيدة وحسنة وصالحة في النقل عن هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم كما بالنسبة للطريق الأول لتفسير ابن عباس وهي عن معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة فهي أجود الطرق عنه.
وكذلك بالنسبة للطريق الثالث في تفسير ابن عباس ما أُخذ عن عكرمة بطريق الحسن بن واقد فهي جيدة وإسناده حسن.
وكذلك بالنسبة لتفسير مجاهد عن طريق ابن أبي نجيح فالطريق إلى ابن أبي نجيح قوية.
وكذلك بالنسبة لتفسير مقاتل بن حيان فهو صدوق في المرتبة الرابعة عند بعض العلماء.
(البغوي منهجه في التفسير).
ولكن نقله عن السلف لم يكن طريقه ومسلكه الوحيد في تفسيره، ومن أجل ذلك قال الدكتور/ محمد محمد أبو شهبة عن تفسيره: (بأنه ليس خالصاً للتفسير بالمأثور بل جمع فيه بين التفسير بالمأثور والتفسير بالرأي والاجتهاد المقبول). فهو وسط بين كتب التفسير بالمأثور نحو تفسير ابن جرير الطبري، والدر المنثور للسيوطي، وبين كتب التفسير بالرأي والاجتهاد.
وكذلك جاء هذا الوصف من قبل الدكتور/ منيع عبدالحليم محمود في كتابه مناهج المفسرين، والدكتور/ عبدالله محمود شحاته في كتابه تاريخ القرآن والتفسير.
وهكذا نخلص إلى أن كتابه رحمه الله (معالم التنزيل) من الكتب المعتبرة في التفسير بالمأثور وهو الغالب على منهجه وطريقته ولكنه ليس خالصاً للتفسير بالمأثور.
ونسوق بعض الأمثلة للتدليل على هذا الاتجاه الغالب على تفسير الإمام البغوي – رحمه الله – وهو حرصه على المأثور.
فمن ذلك أنه في بيانه لمعنى الصراط المستقيم يوضح ذلك من خلال آراء السلف، فيقول – رحمه الله -: قال ابن عباس وجابر: هو الإسلام، وهو قول مقاتل, وقال ابن مسعود: هو القرآن، وروي عن علي مرفوعاً: (الصراط المستقيم) كتاب الله، وقال سعيد بن جبير: هو طريق الجنة، وقال سهل بن عبدالله: طريق السنة والجماعة، وقال بكر بن عبدالله المزني: طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال أبو العالية والحسن: رسول الله وآله وصاحباه، وكذلك يصنع في بيانه لمعنى (الذين أنعمت عليهم) فيورد فهم وتفسير عكرمة وابن عباس وأبي العالية وعبدالرحمن بن زيد وشهر بن حوشب.
وفي هذا دليل على اعتماد البغوي – رحمه الله – على التفسير بالمأثور وهو اعتماد ظاهر في السور كلها، وإن كان هذا لا يعني أن تفسيره اقتصر على المأثور بل يستعين في فهم الآية باللغة العربية والمعقول من الاجتهاد.
وقد جرَّد البغوي – رحمه الله – تفسيره بالمأثور من رجال السند اختصاراً؛ لأنه ذكر طرقه في مقدمة التفسير ولكننا نجد أسماء أخرى لم يذكرها في مقدمته، فقد وردت بعض الآراء في تفسير الآيات عن جماعة من الصحابة والتابعين لم تُذكر أسماؤهم ولا طرق روايته عنهم في مقدمته التي استهل بها تفسيره، فمن هؤلاء: الربيع بن أنس، وابن مسعود، وعكرمة، وإبراهيم النخعي، والشعبي، وسعيد بن جبير، وإبراهيم بن أدهم وغيرهم.
كما أنه أحياناً لا يذكر الأسماء ويكتفي بأن يقول: قال أكثر المفسرين، أو قال سائر المفسرين, أو قال أهل التفسير, أو قيل كذا وكذا.
وكذلك فقد روى عمن ذكر أسانيده إليهم بإسناد آخر غير الذي ذكره في مقدمته، كما فعل في بعض ما نقله عن ابن عباس – رضي الله عنهما – حيث روى عنه بطرق أخرى غير التي ذكرها في مقدمته.
وبهذا نخلص إلى الأصول الأساسية التي اعتمدها البغوي – رحمه الله – في كتاب (معالم التنزيل) وهي:
1 – اعتماده على الكتاب والسنة فهو يفسر القرآن بالقرآن أو بالسنة النبوية مراعياً بذلك سياق السند وتحري الصحة والدقة.
2 – حرصه على المأثور من التفسير من أقوال الصحابة والتابعين ممن ذكر طرق الأخذ عنهم في المقدمة مع أخذه من آخرين لم يذكرهم وقد برز طابع المأثور في تفسيره بصورة ظاهرة وكان أميناً في نقله – رحمه الله – لآراء هؤلاء السلف دون ترجيح وقد يرجح فيما يختاره ويجد الدليل عليه.
3-يعرض لرأي أهل السنة ولآراء مخالفيهم مع الإنتصار لرأي أهل السنة مدللاً عليه بالمنقول والمعقول كما عند قوله تعالى(لاتدركه الأبصار) الأنعام/103وغيرها كثير.
وبقية أصول منهجه في تفسيره كعنايته باللغة والنحو والقراءات وما يتعلق بالإسرائيليات والموضوعات، وما يتعلق بالعقيدة والمسائل الفقهيةلعل الله أن ييسر لي طرحها مستقبلاً إن شاءالله أو أحد الإخوة يقوم بذلك مأجوراً وبهذا نكون قد وقفنا على شيء من سيرة وحياة الإمام البغوي – رحمه الله – ومكانته العلمية وكذلك وقفنا على بعض جوانب منهجه في تأليفه لكتابه (معالم التنزيل) إلى غير ذلك ، وأعتذر عن الإطالة إن وُجِدَتْ لأن المؤلِّف ومؤلَّفه من الأعلام البارزة التي قد يكون الاختصار في حقه – رحمه الله – أو في حق كتابه قد يكون اختصاراً مخلاً،وأحب أن أذكر أن الهدف من مثل هذه الوقفات السريعة هو التذكير بأمثال أولئك الأعلام-رحمهم الله- وجمعنا بهم مع نبينا محمد-صلى الله عليه وسلم- في مقعد صدق عند مليك مقتدر، وأرجوا من المشائخ الأفاضل والإخوة الكرام التعليق على أي ملحوظة أو خطأ ليستفيد الكاتب أولاً والقارئ ولكم جزيل الشكر والتقدير.
هذا والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين.