بسم1
الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.أما بعد
قال تعالى{وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا }
اختلف أهل العلم فى تحديد مرتى الإفساد على أقوال منهم من قال بوقوعهما قبل الإسلام ومنهم من قال بوقوع أحدهما ومنهم من قال بعدم الوقوع قبل الإسلام وهى من القضايا الغيبية ولم يكن لدينا من أثر يقطع علينا طريق الاجتهاد ولذلك تتبعت المسألة من خلال القرآن محاولا ايجاد حلا لهذا الإشكال بتتبع بعض المعانى الواردة فى الآية مثل {مَرَّتَيْنِ} و{عُلُوًّا }ومن خارج الآية تتبعت معنى الغضب فالإفساد يعقبه الغضب وذلك للتوفيق بين السلف والخلف قدر الاستطاعة وتضمين مفاسد بنى اسرائيل التى يشهد بها الواقع القرآنى فالوقوف على إفسادتين شهادة لهم لا عليهم ونطرح الكلام عن التاريخ مؤقتا حتى نتفق أولا على وجه تفسيرى بعدها نأخذ من التاريخ مايتفق وقول الله عز وجل هذا وبالله التوفيق.
للوقوف على معنى {مَرَّتَيْنِ}
قال تعالى{وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ }
من البحر المحيط : {سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ}. وَالظَّاهِرُ إِرَادَةُ التَّثْنِيَةِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لَا يُرَادُ بِهَا شَفْعُ الْوَاحِدِ، بَلْ يَكُونُ الْمَعْنَى عَلَى التَّكْثِيرِ كَقَوْلِهِ: ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ «1» أَيْ كَرَّةً بَعْدَ كَرَّةٍ. كَذَلِكَ يَكُونُ مَعْنَى هَذَا سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ. وَإِذَا كَانَتِ التَّثْنِيَةُ مُرَادَّةً فَأَكْثَرُ النَّاسِ عَلَى أَنَّ الْعَذَابَ الثَّانِيَ هُوَ عَذَابُ الْقَبْرِ، وَأَمَّا الْمَرَّةُ الْأُولَى فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي الْأَشْهَرِ عَنْهُ: هُوَ فَضِيحَتُهُمْ وَوَصْمُهُمْ بِالنِّفَاقِ.
وَقَالَ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ: الْعَذَابُ الْأَوَّلُ عِلَلٌ وَأَدْوَاءٌ أَخْبَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ أَنَّهُ سَيُصِيبُهُمْ بِهَا،
وَرُوِيَ أَنَّهُ أَسَرَّ إِلَى حُذَيْفَةَ بِاثْنَيْ عَشَرَ مِنْهُمْ وَقَالَ: «سِتَّةٌ مِنْهُمْ تَكْفِيهِمُ الدُّبَيْلَةُ سِرَاجٌ مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ تَأْخُذُ فِي كَتِفِ أَحَدِهِمْ حَتَّى تُفْضِيَ إِلَى صَدْرِهِ، وَسِتَّةٌ يَمُوتُونَ مَوْتًا»
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ عَذَابُهُمْ بِالْقَتْلِ وَالْجُوعِ. قِيلَ: وَهَذَا بَعِيدٌ، لِأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُصِبْهُ هَذَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا: هو هو أنهم بِإِقَامَةِ حُدُودِ الشَّرْعِ عَلَيْهِمْ مَعَ كَرَاهِيَتِهِمْ فِيهِ. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: هُوَ هَمُّهُمْ بِظُهُورِ الْإِسْلَامِ وَعُلُوِّ كَلِمَتِهِ. وَقِيلَ: ضَرْبُ الْمَلَائِكَةِ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ عِنْدَ قَبْضِ أَرْوَاحِهِمْ. وَقَالَ الْحَسَنُ: الْأَوَّلُ مَا يُؤْخَذُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ قَهْرًا، والثاني
الْجِهَادُ الَّذِي يُؤْمَرُونَ بِهِ قَسْرًا لِأَنَّهُمْ يَرَوْنَ ذَلِكَ عَذَابًا. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: مَرَّتَيْنِ هُمَا عَذَابُ الدُّنْيَا بِالْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كُلُّ صِنْفٍ عَذَابٌ فَهُوَ مَرَّتَانِ، وَقَرَأَ فَلا تُعْجِبْكَ «1» الْآيَةَ. وَقِيلَ:
إِحْرَاقُ مَسْجِدِ الضِّرَارِ، وَالْآخَرُ إِحْرَاقُهُمْ بِنَارِ جَهَنَّمَ. وَلَا خِلَافَ أَنَّ قَوْلَهُ: إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ هُوَ عَذَابُ الْآخِرَةِ.انتهى
مما سبق قصد بالمرتين تحديد الظرف الذي سيقع فيه العذاب ويتنوع فى الدنيا بالفضيحة والقبيحة ودرك الشقاء وجهد البلاء وعند الموت وفى القبر قال تعالى{النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ } وفى الآخرة عذاب عظيم وتعددت صنوف العذاب فى القرآن الكريم فيكون بذلك لدينا ثلاث مراحل يقع فيهم العذاب بصنوفه ولم يكن المقصود تحديد عذابين أو ثلاثة على وجه التحديد.
ومن ذلك يتضح أن المقصود بالمرتين فى آية الإسراء الظرف الذى يقع فيه الإفساد مع العلو فمرة فى عهد نبوة بنى اسرائيل ومرة فى عهد نبوة رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم.
فى عهد النبوة لبنى اسرائيل تعددت مفاسدهم وكان أعظمها تكذيب الرسل وقتلهم وانتهت بكفرهم بعيسى عليه السلام ومحاولة قتله ويدل على ذلك قوله تعالى{وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ }
وقوله تعالى{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ}
وقوله تعالى{وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ }
وقوله تعالى{ لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ (70)
وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (71)}
فتكذيب الرسل وقتلهم هو الفساد الكبير الذى أعقبه الغضب قال تعالى{وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ }وكانت نهاية النبوة فى بنى اسرائيل بقتلهم يحيى وزكريا عليهما السلام ورفع عيسى عليه السلام بعد تكذيبه ومحاولة قتله وحلت عليهم اللعنات وأرسل الله عليهم من يسومهم سوء العذاب وانتهت دولتهم وشردوا فى البلاد حتى جاء الإسلام فباءوا بغضب آخر قال تعالى{فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ }والسبب تكذيب الرسول ومحاولة قتله صلى الله عليه وسلم
قال تعالى{أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} ومن الآية يكون العلو هو الكفر برسالة جاء بها رسول من قبل الله عز وجل فالآية صريحة فى النهى عن ذلك ولا شك فى أن بنى اسرائيل استكبروا وعلو مرة عندما جاءهم الإنجيل وظنوا أنهم قتلوا عيسى عليه السلام ومرة عندما جاءهم القرآن وشرعوا فى قتل سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فلم يأتوا مسلمين فى المرتين وأكثروا من الفساد ومازالوا على ذلك.
قال تعالى{وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18) وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ}
قال ابن عاشور رحمه الله:وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ أَيْ لَا تَعْلُوَا عَلَى أَمْرِهِ أَوْ عَلَى رَسُولِهِ فَلَمَّا كَانَ الِاعْتِلَاءُ عَلَى أَمْرِ اللَّهِ وَأَمْرِ رَسُولِهِ تَرْفِيعًا لِأَنْفُسِهِمْ عَلَى وَاجِبِ امْتِثَالِ رَبِّهِمْ جَعَلُوا فِي ذَلِكَ كَأَنَّهُمْ يَتَعَالَوْنَ عَلَى اللَّهِ.
قال تعالى{تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ }
وَالْعُلُوُّ: التَّكَبُّرُ عَنِ الْحَقِّ وَعَلَى الْخَلْقِ، وَالطُّغْيَانُ فِي الْأَعْمَالِ، وَالْفَسَادُ: ضِدُّ الصَّلَاحِ، وَهُوَ كُلُّ فِعْلٍ مَذْمُومٍ فِي الشَّرِيعَةِ أَوْ لَدَى أَهْلِ الْعُقُولِ الرَّاجِحَةِ.انتهى
بعد الغضب يأتى الإنتقام قال تعالى{ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا} الأفعال هنا فى الزمن الماضى وهى تدل على وقوع الوعد .
والواقع الآن يشهد له قوله تعالى{ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا }وعاقبة الغضب الثانى لم تأتى بعد ويشهد بذلك قوله تعالى{ إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا }وجاءت الأفعال تدل على المضارعة والإستقبال .
هذا والله أعلم
قال في محاسن التأويل في سورة الإسراء :
وقد قدمنا في سورة يوسف ؛ أنه ليس في القرآن شيء من التاريخ من حيث هو قصص وأخبار . وإنما هي الآيات في العبر تجلت في سياق الوقائع . ولذلك لم تذكر قصة بتفاصيلها . وإنما يذكر موضع العبرة فيها . كما قال تعالى : { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ } [ يوسف : 111 ] . لنا أن نسأل ما الغرض من طرح هذا النقاش ؟ هل الوصول إلى حقيقة وطبيعة الإفسادين سيترتب عليه عمل كبير ؟ لقد قال الله بعد عرض الآيات :{ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9)} هذا ما يخصنا على الحقيقة ...ودون أن أستقصي في كلام طرفي أبدأ بما يسره لي ربي .. نقاطٌ محددةٌ في فهم الآيات : أولا : لابد أن نتعرفَ على ما يلي : {الْكِتَابِ - الْأَرْض .... الْمَسْجِد ... مَرَّتَيْنِ .. عِبَاد ..رَدَدْنَا } أ- الْكِتَابِ .. {التَّوْرَاةِ........... اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ } وهذان هما القولان فقط في {الْكِتَابِ} فعلى ذلك يصعب جعل الإفساد المقضي به يمتد إلى الآن – حيث تم تعدية الفعل {قضى } بإلى وهي تفيدُ الإعلام كما قال ابن عطية وغيره . قال في المحرر الوجيز : وقوله : { وقضينا إلى بني إسرائيل } الآية ، قال الطبري : معنى { قضينا } فرغنا وحكي عن غيره أنه قال : { قضينا } هنا بمعنى أخبرنا ، وحكي عن آخرين أنهم قالوا { قضينا } معناه في أم الكتاب . قال القاضي أبو محمد عبد الحق بن عطية رضي الله عنه : وإنما يلبس في هذا المكان تعدية { قضينا } ب { إلى } ، وتلخيص المعنى عندي أن هذا الأمر هو مما قضاه الله تعالى في أم الكتاب على بني إسرائيل وألزمهم إياه ثم أخبرهم به في التوراة على لسان موسى . فلما أراد هنا الإعلام لنا بالأمرين جميعاً في إيجاز ، جعل { قضينا } دالة على النفوذ في أم الكتاب ، وقرن بها دالة على إنزال الخير بذلك إلى بني إسرائيل ، والمعنى المقصود مفهوم خلال هذه الألفاظ ، ولهذا فسر ابن عباس مرة بأن قال { قضينا إلى بني إسرائيل } معناه أعلمناهم ، وقال مرة : معناه قضينا عليهم . و { الكتاب } هنا التوراة لأن القسم في قوله { لتفسدن } غير متوجه مع أن يجعل { الكتاب } هو اللوح المحفوظ . قال في التحرير والتنوير : وَالْقَضَاءُ بِمَعْنَى الْحُكْمِ وَهُوَ التَّقْدِيرُ، وَمَعْنَى كَوْنِهِ فِي الْكِتَابِ أَنَّ الْقَضَاءَ ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ، وَتَعْدِيَةُ قَضَيْنا بِحَرْفِ (إِلَى) لِتَضْمِينِ قَضَيْنا مَعْنَى (أَبْلَغْنَا) ، أَيْ قَضَيْنَا وَأَنْهَيْنَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ [66] . فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِ (الْكِتَابِ) كِتَابَ التَّوْرَاةِ وَالتَّعْرِيفُ لِلْعَهْدِ لِأَنَّهُ ذَكَرَ الْكِتَابَ آنِفًا، وَيُوجَدُ فِي مَوَاضِعَ، مِنْهَا مَا هُوَ قَرِيبٌ مِمَّا فِي هَذِهِ الْآيَةِ لَكِنْ بِإِجْمَالٍ . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْكِتَابُ بَعْضَ كُتُبِهِمُ الدِّينِيَّةِ. فَتَعْرِيفُ (الْكِتَابِ) تَعْرِيفُ الْجِنْسِ وَلَيْسَ تَعْرِيفَ الْعَهْدِ الذِّكْرِيِّ، إِذْ لَيْسَ هُوَ الْكِتَابُ الْمَذْكُورُ آنِفًا فِي قَوْلِهِ: وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ [الْإِسْرَاء: 2] لِأَنَّهُ لَمَّا أَظْهَرَ اسْمَ الْكِتَابِ أَشْعَرَ بِأَنَّهُ كِتَابٌ آخَرُ مِنْ كُتُبِهِمْ، وَهُوَ الْأَسْفَارُ الْمُسَمَّاةُ بِكُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ: أَشْعِيَاءَ، وَأَرْمِيَا، وَحِزْقِيَالَ، وَدَانْيَالَ، وَهِيَ فِي الدَّرَجَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ التَّوْرَاةِ. وَكَذَلِكَ كِتَابُ النَّبِيِّ مَلَاخِي. وَالْإِفْسَادُ مَرَّتَيْنِ ذُكِرَ فِي كِتَابِ أَشْعِيَاءَ وَكِتَابِ أَرْمِيَاءَ. ب – الْأَرْض : قال القرطبي رحمه الله: (فِي الْأَرْضِ) يُرِيدُ أَرْضَ الشَّامِ وبيت المقدس وما والاها. قال في اللباب: {فِي الأَرْضِ} يعني أرض الشَّام وبيت المقدس. وفي فتح القدير: وَالْمُرَادُ بِالْأَرْضِ: أَرْضُ الشَّامِ وَبَيْتُ الْمَقْدِسِ، وَقِيلَ: أَرْضُ مِصْرَ. وفي محاسن التأويل : { فِي الأَرْضِ } يعني أرض فلسطين بيت المقدس التي بارك الله حولها. وفي فتح البيان : والمراد بالأرض أرض الشام وبيت المقدس، وقيل أرض مصر. على أن جماعةً من المفسرين لم يُعينوها ...والكلام في كلمة الأَرْضِ في القرآن واسعٌ لمن يعرفُ ذلك . ت – الْمَسْجِدُ : قال في المحرر الوجيز : { الْمَسْجِدَ } مسجد بيت المقدس . وفي محاسن التأويل : { الْمَسْجِدَ } أي : الأقصى . وتقريبا هذا مُجمعٌ عليه . ث – الْمَرَّتَانِ : الْمَرَّتَانِ هما { فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا ..... فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ }. قال في مختار الصحاح:(الْمَرَّةُ) وَاحِدَةُ (الْمَرِّ) وَ (الْمِرَارِ) ..وفي غيره : لا يُسْتَعْمَل إِلاَّ ظَرْفاً،. والمَرَّةُ ، بالفتح : الفَعْلَةُ الواحدةُ . وفي معجم الصواب اللغوي : في قولنا { مَرَّةً ومَرَّةً }: مثال: زرت القدسَ مَرَّةً ومَرَّةً أخرى ..الرأيُ: مرفوضة .السببُ: لعطف الاسم على مثله مع إمكانية التثنية. الصواب والرتبة: -زرتُ القدس مَرَّتين {فصيحة}-زرت القدس مَرَّةً ومَرَّةً أخرى {صحيحة}. ج - الْعِبَادُ ....الْعَبِيدُ .... من خلالِ الاستقراء الدقيق للآيات يتبين أن السياقَ هو الذي يحددُ المقصودَ من الدلالة لا أكثر ... والعبادُ المذكورون في الآيات هم كفارٌ على الراجح كما قال السعدي وغيره . ولأن أكثرَ الخلافِ قائمٌ عَلى هذا الفارق بين - الْعِبَاد ....الْعَبِيد .... وغاية من حاول التفرقةَ جعل العبادَ أخص من العبيد . ولو حُسم الخلافُ بينهما لضاقت مساحةُ الخلاف جدا . ح - { رَدَدْنَا }: - قال في المُحرر الوجيز : وجعل { رَدَدْنَا } موضع -نَردُ - إذ وقت إخبارهم لم يقع الأمر بعد لكنه لما كان وعد الله في غاية الثقة أنه يقع عبر عن مستقبله بالماضي . وفي التحرير والتنوير : وَالرَّدُّ: الْإِرْجَاعُ. وَجِيءَ بِفِعْلِ رَدَدْنا مَاضِيا جَريا عَلَى الْغَالِبِ فِي جَوَابِ (إِذَا) كَمَا جَاءَ شَرْطُهَا فِعْلًا مَاضِيًا فِي قَوْلِهِ: فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا [الْإِسْرَاء: 5] أَيْ إِذَا يَجِيءُ يَبْعَثُ.
ثانيا : عرضُ طبيعة الاختلاف : قال ابن كثير رحمه الله : وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ فِي هَؤُلَاءِ الْمُسَلَّطِينَ عَلَيْهِمْ: مَنْ هُمْ؟ فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ: أَنَّهُ جَالُوتُ الجَزَريّ وَجُنُودُهُ، سُلِّطَ عَلَيْهِمْ أَوَّلًا ثُمَّ أُدِيلُوا عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ. وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا} وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: أَنَّهُ مَلِكُ الْمَوْصِلِ سِنْجَارِيبُ وَجُنُودُهُ. وَعَنْهُ أَيْضًا، وَعَنْ غَيْرِهِ: أَنَّهُ بُخْتُنَصَّرُ مَلِكُ بَابِلَ. وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ لَهُ قِصَّةً عَجِيبَةً فِي كَيْفِيَّةِ تَرَقِّيهِ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، إِلَى أَنْ مَلَكَ الْبِلَادَ، وَأَنَّهُ كَانَ فَقِيرًا مُقْعَدًا ضَعِيفًا يَسْتَعْطِي النَّاسَ وَيَسْتَطْعِمُهُمْ، ثُمَّ آلَ بِهِ الْحَالُ إِلَى مَا آلَ، وَأَنَّهُ سَارَ إِلَى بِلَادِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَقَتَلَ بِهَا خَلْقًا كَثِيرًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ فِي هَذَا الْمَكَانِ حَدِيثًا أَسْنَدَهُ عَنْ حُذَيْفَةَ مَرْفُوعًا مُطَوَّلًا وَهُوَ حَدِيثٌ مَوْضُوعٌ لَا مَحَالَةَ، لَا يَسْتَرِيبُ فِي ذَلِكَ مَنْ عِنْدَهُ أَدْنَى مَعْرِفَةٍ بِالْحَدِيثِ! وَالْعَجَبُ كُلُّ الْعَجَبِ كَيْفَ رَاجَ عَلَيْهِ مَعَ إِمَامَتِهِ وَجَلَالَةِ قَدْرِهِ! وَقَدْ صَرَّحَ شَيْخُنَا الْحَافِظُ الْعَلَّامَةُ أَبُو الْحَجَّاجِ الْمِزِّيُّ، رَحِمَهُ اللَّهُ، بِأَنَّهُ مَوْضُوعٌ مَكْذُوبٌ، وَكَتَبَ ذَلِكَ عَلَى حَاشِيَةِ الْكِتَابِ. وَقَدْ وَرَدَتْ فِي هَذَا آثَارٌ كَثِيرَةٌ إِسْرَائِيلِيَّةٌ لَمْ أَرَ تَطْوِيلَ الْكِتَابِ بِذِكْرِهَا؛ لِأَنَّ مِنْهَا مَا هُوَ مَوْضُوعٌ، مِنْ وَضْعِ بَعْضِ زَنَادِقَتِهِمْ، وَمِنْهَا مَا قَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا، وَنَحْنُ فِي غُنْيَة عَنْهَا، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. وَفِيمَا قَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْنَا فِي كِتَابِهِ غُنْيَةٌ عَمَّا سِوَاهُ مِنْ بَقِيَّةِ الْكُتُبِ قَبْلَهُ، وَلَمْ يُحْوِجْنَا اللَّهُ وَلَا رَسُولُهُ إِلَيْهِمْ. وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُمْ لَمَّا بَغَوْا وَطَغَوْا سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَدُّوَهُمْ، فَاسْتَبَاحَ بَيْضَتَهم، وَسَلَكَ خِلَالَ بُيُوتِهِمْ وَأَذَلَّهُمْ وَقَهَرَهُمْ، جَزَاءً وِفَاقًا، وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ؛ فَإِنَّهُمْ كَانُوا قَدْ تَمَرَّدُوا وَقَتَلُوا خَلْقًا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْعُلَمَاءِ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ يَقُولُ: ظَهَرَ بُختنَصَّر عَلَى الشَّامِ، فَخَرَّبَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَقَتَلَهُمْ، ثُمَّ أَتَى دِمَشْقَ فَوَجَدَ بِهَا دَمًا يَغْلِي عَلَى كِبًا، فَسَأَلَهُمْ: مَا هَذَا الدَّمُ؟ فَقَالُوا أَدْرَكْنَا آبَاءَنَا عَلَى هَذَا، وَكُلَّمَا ظَهَرَ عَلَيْهِ الْكِبَا ظَهَرَ. قَالَ: فَقَتَلَ عَلَى ذَلِكَ الدَّمِ سَبْعِينَ أَلْفًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ، فَسَكَنَ . وَهَذَا صَحِيحٌ إِلَى سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ، وَأَنَّهُ قَتَلَ أَشْرَافَهُمْ وَعُلَمَاءَهُمْ، حَتَّى إِنَّهُ لَمْ يَبْقَ مَنْ يَحْفَظُ التَّوْرَاةَ، وَأَخَذَ مَعَهُ خَلْقًا مِنْهُمْ أَسْرَى مِنْ أَبْنَاءِ الْأَنْبِيَاءِ وَغَيْرِهِمْ، وَجَرَتْ أُمُورٌ وَكَوَائِنُ يَطُولُ ذِكْرُهَا. وَلَوْ وَجَدْنَا مَا هُوَ صَحِيحٌ أَوْ مَا يُقَارِبُهُ، لَجَازَ كِتَابَتُهُ وَرِوَايَتُهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قال في المحرر الوجيز : واختلف الناس في العبيد المبعوثين ، وفي صورة الحال اختلافاً شديداً متباعداً عيونه ...... وقال فيما قال : ومقتضى هذه الآيات أن الله تعالى أعلم بني إسرائيل في التوراة أنه سيقع منهم عصيان وطغيان وكفر لنعم الله تعالى عندهم في الرسل والكتب وغير ذلك ، وأنه سيرسل عليهم أمة تغلبهم وتقتلهم وتذلهم ، ثم يرحمهم بعد ذلك ، ويجعل لهم الكرّة ويردهم إلى حالهم الأولى من الظهور ، فيقع منهم المعاصي وكفر النعم والظلم والقتل والكفر بالله من بعضهم ، فيبعث الله عليهم أمة أخرى تخرب ديارهم وتقتلهم وتجليهم جلاء مبرحاً ، وأعطى الوجود بعد ذلك هذا الأمر كله وقيل : كان بين « المرتين » آخر الأولى وأول الثانية مائتَا سنة وعشر سنين ملكاً مؤبداً بأنبياء وقيل سبعون سنة . قال القرطبي رحمه الله : وَاخْتُلِفَ فِيمَنْ كَانَ الْمَبْعُوثُ عَلَيْهِمْ في المرة الآخرة، فقيل: بخت نصر. وَقَالَهُ الْقُشَيْرِيُّ أَبُو نَصْرٍ، لَمْ يَذْكُرْ غَيْرَهُ. قَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَهَذَا لَا يَصِحُّ، لِأَنَّ قَتْلَ يحيى كان بعد رفع عيسى، وبخت نصر كَانَ قَبْلَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ بِزَمَانٍ طَوِيلٍ.، وَقَبْلَ الْإِسْكَنْدَرِ، وَبَيْنَ الْإِسْكَنْدَرِ وَعِيسَى نَحْوٌ مِنْ ثَلَاثمِائَةِ سَنَةٍ، وَلَكِنَّهُ أُرِيدَ بِالْمَرَّةِ الأخرى حين قتلوا شعيا، فقد كان بخت نصر إِذْ ذَاكَ حَيًّا، فَهُوَ الَّذِي قَتَلَهُمْ وَخَرَّبَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَأَتْبَعَهُمْ إِلَى مِصْرَ. وَأَخْرَجَهُمْ مِنْهَا. وقال الثعلبي: ومن روى أن بخت نصر هُوَ الَّذِي غَزَا بَنِي إِسْرَائِيلَ عِنْدَ قَتْلِهِمْ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا فَغَلَطٌ عِنْدَ أَهْلِ السِّيَرِ والاخبار، لأنهم مجمعون على أن بخت نصر إِنَّمَا غَزَا بَنِي إِسْرَائِيلَ عِنْدَ قَتْلِهِمْ شَعْيَا وفى عهد إرميا. قالوا: ومن عهد إرميا وتخريب بخت نصر بَيْتَ الْمَقْدِسِ إِلَى مَوْلِدِ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا عَلَيْهِمَا السَّلَامُ أَرْبَعُمِائَةِ سَنَةٍ وَإِحْدَى وَسِتُّونَ سَنَةً، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ يَعُدُّونَ مِنْ عَهْدِ تَخْرِيبِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ إِلَى عِمَارَتِهِ فِي عَهْدِ كير سَبْعِينَ سَنَةً، ثُمَّ مِنْ بَعْدِ عِمَارَتِهِ إِلَى ظُهُورِ الإسكندر على بت الْمَقْدِسِ ثَمَانِيَةً وَثَمَانِينَ سَنَةً، ثُمَّ مِنْ بَعْدِ مَمْلَكَةِ الْإِسْكَنْدَرِ إِلَى مَوْلِدِ يَحْيَى ثَلَاثَمَائَةٍ وَثَلَاثًا وَسِتِّينَ سَنَةً. قُلْتُ: ذَكَرَ جَمِيعَهُ الطَّبَرِيُّ فِي التَّارِيخِ رَحِمَهُ اللَّهُ. قال السعدي رحمه الله : كثيرا ما يقرن الباري بين نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ونبوة موسى صلى الله عليه وسلم وبين كتابيهما وشريعتيهما لأن كتابيهما أفضل الكتب وشريعتيهما أكمل الشرائع ونبوتيهما أعلى النبوات وأتباعهما أكثر المؤمنين. واختلف المفسرون في تعيين هؤلاء المسلطين إلا أنهم اتفقوا على أنهم قوم كفار. إما من أهل العراق أو الجزيرة أو غيرها سلطهم الله على بني إسرائيل لما كثرت فيهم المعاصي وتركوا كثيرا من شريعتهم وطغوا في الأرض. ومن نظر إلى تسليط الكفرة على المسلمين والظلمة، عرف أن ذلك من أجل ذنوبهم عقوبة لهم وأنهم إذا أقاموا كتاب الله وسنة رسوله، مكن لهم في الأرض ونصرهم على أعدائهم. قال الشعراوي رحمه الله : وهل أفسد بنو إسرائيل في الأرض مرتين فقط؟ والله إنْ كانوا كذلك فقد خلاهم ذم، والأمر إذن هَيِّن، لكنهم أفسدوا في الأرض إفساداً كثيراً متعدداً، فلماذا قال تعالى: مرتين؟ تحدّث العلماء كثيراً عن هاتين المرتين، وفي أيّ فترات التاريخ حدثتا، وذهبوا إلى أنهما قبل الإسلام، والمتأمل لسورة الإسراء يجدها قد ربطتهم بالإسلام، فيبدو أن المراد بالمرتين أحداثٌ حدثتْ منهم في حضْن الإسلام..........................
ثالثا : نقطة تحريرها نافعٌ وفاعلٌ : قوله تعالى :{عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا } قال في المحرر الوجيز : يقول الله عز وجل لبقية بني إسرائيل {عَسَى رَبُّكُمْ } إن أطعتم في أنفسكم واستقمتم { أن َيرْحَمَكُمْ} ، و { عَسَى } ترجّ في حقهم وهذه العدة ليست برجوع دولة وإنما هي بأن يرحم المطيع منهم ، وكان من الطاعة اتباعهم لعيسى ومحمد فلم يفعلوا وعادوا إلى الكفر والمعصية ، فعاد عقاب الله فضرب عليهم الذل وقتلهم وأذلهم بيد كل أمة ، وهنا قال ابن عباس سلط عليهم ثلاثة ملوك. قال القرطبي رحمه الله : (وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا) قال قتادة: فَعَادُوا فَبَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَهُمْ يُعْطُونَ الْجِزْيَةَ بِالصَّغَارِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَهَذَا خِلَافُ مَا تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِ. وَقَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَقَدْ حَلَّ الْعِقَابُ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ مَرَّتَيْنِ عَلَى أَيْدِي الْكُفَّارِ، وَمَرَّةً عَلَى أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ. وَهَذَا حِينَ عَادُوا فَعَادَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ. وَعَلَى هَذَا يَصِحُّ قَوْلُ قَتَادَةَ. قال ابن كثير رحمه الله : {وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا} أَيْ: مَتَى عُدْتُمْ إِلَى الْإِفْسَادِ {عُدْنَا} إِلَى الْإِدَالَةِ عَلَيْكُمْ فِي الدُّنْيَا مَعَ مَا نَدَّخِرُهُ لَكُمْ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ، وَلِهَذَا قَالَ [تَعَالَى] {وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا} وفي فتح القدير : {عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ } يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ انْتِقَامِهِ مِنْكُمْ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ وَإِنْ عُدْتُمْ لِلثَّالِثَةِ عُدْنا إِلَى عُقُوبَتِكُمْ. قَالَ أَهْلُ السِّيَرِ: ثُمَّ إنهم عادوا إلا مَا لَا يَنْبَغِي، وَهُوَ تَكْذِيبُ مُحَمَّدٍ صَلَّى الله عليه وسلّم وكتمان ما ورد في بَعْثِهِ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، فَعَادَ اللَّهُ إِلَى عُقُوبَتِهِمْ عَلَى أَيْدِي الْعَرَبِ، فَجَرَى عَلَى بَنِي قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ وَبَنِي قَيْنُقَاعَ وَخَيْبَرَ مَا جَرَى مِنَ الْقَتْلِ وَالسَّبْيِ وَالْإِجْلَاءِ وَضَرْبِ الْجِزْيَةِ عَلَى مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ، وَضَرْبِ الذِّلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ . وفي التحرير والتنوير : وَلَمْ يَعِدْهُمُ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْمَرَّةِ إِلَّا بِتَوَقُّعِ الرَّحْمَةِ دُونَ رَدِّ الْكَرَّةِ، فَكَانَ إِيمَاءً إِلَى أَنَّهُمْ لَا مِلْكَ لَهُمْ بَعْدَ هَذِهِ الْمَرَّةِ. وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِ بِهَذِهِ الْمَرَّةِ الْآخِرَةِ هُوَ مَا اقْتَرَفَهُ الْيَهُودُ مِنَ الْمَفَاسِدِ وَالتَّمَرُّدِ وَقَتْلِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَالِاعْتِدَاءِ عَلَى عِيسَى وَأَتْبَاعِهِ، وَقَدْ أَنْذَرَهُمُ النَّبِيءُ مَلَّاخِي فِي الْإِصْحَاحَيْنِ الثَّالِثِ وَالرَّابِعِ مِنْ كِتَابِهِ وَأَنْذَرَهُمْ زَكَرِيَّاءُ وَيَحْيَى وَعِيسَى فَلَمْ يَرْعَوُوا فَضَرَبَهُمُ اللَّهُ الضَّرْبَةَ الْقَاضِيَةَ بِيَدِ الرُّومَانِ. قال أبو السعود رحمه الله : { عسى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ } بعد المرة الآخرة إن تبتم توبةً أخرى وانزجرتم عما كنتم عليه من المعاصي { وَإِنْ عُدتُّمْ } إلى ما كنتم فيه من الفساد مرةً أخرى { عُدْنَا } إلى عقوبتكم. قال السعدي رحمه الله: { وَإِنْ عُدْتُمْ } إلى الإفساد في الأرض { عُدْنَا } إلى عقوبتكم، فعادوا لذلك فسلط الله عليهم رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم فانتقم الله به منهم، فهذا جزاء الدنيا وما عند الله من النكال أعظم وأشنع، ولهذا قال: { وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا } يصلونها ويلازمونها لا يخرجون منها أبدا. وفي هذه الآيات التحذير لهذه الأمة من العمل بالمعاصي لئلا يصيبهم ما أصاب بني إسرائيل، فسنة الله واحدة لا تبدل ولا تغير.
النتيجة ..... هو أن الإفسادينِ وقعا بالفعل وبقي لهم العلو الظاهر الآن ..... والمخرجُ سهلٌ ويسيرٌ وهو في قوله تعالى:{وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا} فهي عبارة عن الاستمرارية بطرفيها .. ولأن َ{ مَرَّتَيْنِ} في قوله تعالى :{ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ } عائدة على الإفساد وليس على العلو . ويكون قوله تعالى :{ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا } مشتملا على حسمِ نقطةِ الخلاف . أما قوله تعالى في آخر السورة :{فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا (103) وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا (104)} فهو باقٍ على معناه وهو وعدُ يومُ القيامة .... قال في التحرير والتنوير : وَالْأَرْضُ الْأُولَى هِيَ الْمَعْهُودَةُ وَهِيَ أَرْضُ مِصْرَ، وَالْأَرْضُ الثَّانِيَةُ أَرْضُ الشَّامِ وَهِيَ الْمَعْهُودَةُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ بِوَعْدِ اللَّهِ إِبْرَاهِيمَ إِيَّاهَا.وَوَعْدُ الْآخِرَةِ مَا وَعَدَ اللَّهُ بِهِ الْخَلَائِقَ عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ مِنَ الْبَعْثِ وَالْحَشْرِ. والشيخ الشعراوي رحمه الله يقول : قوله تعالى : { مِن بَعْدِهِ } أي : من بعد موسى { اسكنوا الأرض } أغلب العلماء قالوا : أي الأرض المقدسة التي هي بيت المقدس ، التي قال تعالى عنها : { يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ . . } [ المائدة : 21 ] فكان ردّهم على أمر موسى بدخول بيت المقدس : { إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حتى يَخْرُجُواْ مِنْهَا . . } [ المائدة : 22 ] وقالوا : { إِنَّا لَنْ نَّدْخُلَهَآ أَبَداً مَّا دَامُواْ فِيهَا فاذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فقاتلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } [ المائدة : 24 ] لكن كلمة { الأرض } هنا جاءت مجرّدة عن الوَصْف { اسكنوا الأرض } دون أنْ يُقيِّدها بوصف ، كما نقول : أرض الحرم ، أرض المدينة ، وإذا أردتَ أنْ تُسكِنَ إنساناً وتُوطّنه تقول : اسكن أي : استقر وتوَطّن في القاهرة أو الإسكندرية مثلاً ، لكن اسكن الأرض ، كيف وأنا موجود في الأرض بالفعل؟! لا بُدَّ أن تُخصِّص لي مكاناً اسكن فيه . نقول : جاء قوله تعالى { اسكنوا الأرض } هكذا دون تقييد بمكان معين ، لينسجم مع آيات القرآن التي حكمتْ عليهم بالتفرُّق في جميع أنحاء الأرض ، فلا يكون لهم وطن يتجمعون فيه ، كما قال تعالى : { وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأرض أُمَماً . . } [ الأعراف : 168 ] والواقع يُؤيد هذا ، حيث نراهم مُتفرقِّين في شتَّى البلاد ، إلا أنهم ينحازون إلى أماكن مُحدَّدة لهم يتجمَّعون فيها ، ولا يذوبون في الشعوب الأخرى ، فتجد كل قطعة منهم كأنها أمة مُستقلة بذاتها لا تختلط بغيرها . وسيتجمع اليهود في وطن واحد ليتحقق وَعْد الله بالقضاء عليهم ، وهل يستطيع المسلمون أن ينقضُّوا على اليهود وهم في شتيت الأرض؟ لا بُدَّ أن الحق سبحانه أوحى إليهم بفكرة التجمُّع في وطن قومي لهم كما يقولون ، حتى إذا أراد أَخْذهم لم يُفلتوا ، ويأخذهم أخْذ عزيز مقتدر . وهذا هو المراد من قوله تعالى : { جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً } [ الإسراء : 104 ] أي : مجتمعين بعضكم إلى بعض من شَتّى البلاد ، وهو ما يحدث الآن على أرض فلسطين . ويتبقى لنا أن نقولَ كما قال أهلُ العلم – {سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا} : كما قال الله تعالى :{إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108)}
بسم1
قال تعالى{وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}
فهم لا ينقطعون عن الإفساد الى يوم القيامة وهم المغضوب عليهم بسبب قتلهم الأنبياء وكفرهم بما جاءوا وهذا هو علوهم على الله وقد وقع بالفعل فى عهد نبوة بنى اسرائيل فباءوا بالغضب الأول والإنتقام كان بنهاية دولتهم بشكل كامل وتم ذلك على مراحل من التنكيل بهم واستغرق عدة قرون فدمرت دولة اسرائيل فى الشمال ثم دمرت دولة يهوذا فى الجنوب(اورشليم) ثم تم القضاء عليهم نهائيا وتشريدهم فى البلاد على يد الرومان تقريبا 70م وعلى وصف المؤرخين كأن لم تكن.
أما الغضب الثانى يدل عليه قوله تعالى{فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ }ولا غضب إلا لإفساد فدل ذلك على وقوع الإفساد الثانى وتمثل فى تكذيبهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومحاولة قتله وماجاء به من الحق ولكن لم يأتى وعد الآخرة بعد وربما دل عليه قوله تعالى{فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا} .
فالهدف الحقيقي هو الاعتبار بما حل بهم وتجنب سلوك طرائقهم والتنبيه على سبل الوقاية ووسائل النجاة ...أما الانشغال بتحديد المرتين تاريخيا فليس ثَم نفع يُرتجى أو ثمرة تُجتنى فالمرتان هما مرتان على الوجه العام وقد يدخل تحتهما مجموعة إفسادات زمانية ومكانية متعددة إلا أنهما في النهاية مرتان كما قال ربنا {الطلاق مرتان }.
بسم1
الأخ |بشير عبد العال
بارك الله فيكم على هذا الجمع الطيب فى المسألة واتفق معك فيما قلت:فالمرتان هما مرتان على الوجه العام وقد يدخل تحتهما مجموعة إفسادات زمانية ومكانية متعددة إلا أنهما في النهاية مرتان.
واتفق معك أيضا على وقوع الإفسادتين إلا أن وعد الآخرة لم يأتى هذا على الوجه الذى ذكرت آنفا وهو ماأردت مناقشته دون التطرق إلى وقائع تاريخية.
قوله تعالى :{وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (71)} قال أبو السعود رحمه الله : { وَحَسِبُواْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ } أي حسِب بنو إسرائيلَ أن لا يصيبَهم من الله تعالى بما أتَوْا من الداهية الدهياء والخُطة الشنعاء بلاءٌ وعذاب ..{ فَعَمُواْ } عطف على ( حسِبوا ) والفاء للدلالة على ترتب ما بعدها على ما قبلها أي أمِنوا بأسَ الله تعالى فتمادَوْا في فُنون الغيِّ والفساد وعمُوا عن الدين بعد ما هداهم الرسلُ إلى معالمه الظاهرة وبينوا لهم مناهجه الواضحة { وَصَمُّواْ } عن استماع الحق الذي ألقَوْه عليهم ولذلك فعلوا بهم ما فعلوا ، وهذا إشارة إلى المرة الأولى من مرّتَيْ إفساد بني إسرائيلَ حين خالفوا أحكام التوراة وركِبوا المحارم وقتلوا شعياء ، وقيل : حبسوا أرمياء عليهما السلام لا إلى عبادتهم العجلَ كما قيل ، فإنها وإن كانت معصية عظيمة ناشئة عن كمال العمَى والصمَم لكنها في عصر موسى عليه السلام ، ولا تعلُّقَ لها بما حُكي عنهم مما فعلوا بالرسل الذين جاؤوهم بعده عليه السلام بأعصار { ثُمَّ تَابَ الله عَلَيْهِمْ } حين تابوا ورجعوا عما كانوا عليه من الفساد بعد ما كانوا ببابلَ دهراً طويلاً تحت قهر بُخْتَ نَصَّرَ أسارى في غاية الذل والمهانة فوجه الله عز وجل ملكاً عظيماً من ملوك فارسَ إلى بيت المقدس ليعمُرَه ونجّى بقايا بني إسرائيل من أسر بختَ نصَّرَ بعد مهلكه وردَّهم إلى وطنهم وتراجَعَ من تفرق منهم في الأكناف فعَمَروه ثلاثين سنة فكثُروا وكانوا كأحسنَ ما كانوا عليه ، وقيل : لما ورث بَهْمنُ بنُ اسفنديارَ المُلك من جدِّه كستاسُفَ ألقى الله عز وجل في قلبه شفقة عليهم فردهم إلى الشام وملّك عليهم دانيال عليه السلام ، فاستولوا على من كان فيها من أتباع بختَ نصّر فقامت فيهم الأنبياءُ فرجعوا إلى أحسن ما كانوا عليه من الحال ، وذلك قوله تعالى : { ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الكرة عَلَيْهِمْ } وأما ما قيل من أن المراد قبولُ توبتهم عن عبادة العجل فقد عرفت أن ذلك لا تعلُّق له بالمقام ولم يُسنِد التوبةَ إليهم كسائر أحوالهم من الحُسبان والعمَى والصمم تجافياً عن التصريح بنسبة الخير إليهم وإنما أشير إليها في ضمن بيان توبته تعالى عليهم تمهيداً لبيان نقضهم إياها بقوله تعالى : { ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ } وهو إشارة إلى المرة الآخرة من مرّتيْ إفسادهم وهو اجتراؤهم على قتل زكريا ويحيى وقصدُهم قتلَ عيسى عليهم السلام لا إلى طلبهم الرؤية كما قيل لِما عرفت سره . ثم قال أبو السعود رحمه الله وهذا هو الشاهد من قوله... فإن فنون الجناياتِ الصادرةِ عنهم لا تكاد تتناهى خلا أن انحصار ما حُكي عنهم هاهنا في المرتين وترتّبه على حكاية ما فعلوا بالرسل عليهم السلام يقضي بأن المراد ما ذكرناه والله عنده علم الكتاب . قال القاسمي رحمه الله في محاسن التأويل : ويرحم الله الإمام القفال حيث قال : ذكر الله تعالى في سورة ( بني إسرائيل ) ما يجوز أن يكون تفسيراً لهذه الآية فقال : { وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6)}. فهذا في معنى ( فَعَمُوا وَصَمُّوا) ثم قال : { فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7) } . فهذا في معنى قوله : { ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ } انتهى .
بسم1
الأخ الفاضل |بشير
الآية (71) من سورة المائدة لها علاقة وثيقة بتفسير آية الإسراء فبرجاء ترك مقابلة الأحداث التاريخية بالآية الآن حتى ننتهى من مناقشة الوجه التفسيرى الذى تقدمت به فالآية مشكلة ويكاد كل فريق يقنعك بتفسيره وأخذ الآية (71) دليله وهى معطوفة على قوله تعالى{لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ (70)}وأجد أن تكذيب الرسل وقتلهم هو المقصود بالإفساد فى المرتين بالدليل قال تعالى{وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ }وقال تعالى{ بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ }فقوله تعالى{ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ}كان لنفس السبب ولكن فى عهد رسول الله وخاتم الرسل صلى الله عليه وسلم فالغضبة كانت مرة فى عهد نبوة بنى اسرائيل ومرة فى عهد نبوة بنى اسماعيل.هذا والله أعلم
بسم1
إفساد اليهود يكاد لا ينقطع والغضب عليهم قائم وهو صفة لهم فقوله تعالى{ المغضوب عليهم }نعلم منه أنهم اليهود بلا خلاف والآن سوف نتتبع بعض أسباب الغضب عليهم حتى نميز بين غضبة وأخرى قال تعالى{إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ } وقد بين الله عز وجل ذلك فى
قوله تعالى{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ }هنا كانت التوبة عن عبادة العجل بقتل النفس.
قال تعالى{وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}هنا تعليق الإيمان على رؤية الله عز وجل فأخذتهم الصاعقة .
قال تعالى{وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} هنا الذين اعتدوا فى السبت تم مسخهم.
قال تعالى{قَالُوا يَامُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24) قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25) قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ}هنا الحكم بالتيه ردا على تقاعسهم عن القتال .
وفى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال تعالى{ هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الْأَبْصَارِ } هنا انتقام الله عز وجل من اليهود لنقضهم العهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فكل مفسدة تبعتها غضبة وكل غضبة تبعها انتقام ونلاحظ أن الأفعال جاءت فى الزمن الماضى.
قال تعالى{وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا}والإنتقام هنا كان بنهاية دولة اليهود نتيجة لقتلهم الإنبياء ومحاولة قتل عيسى عليه السلام والعلو على كلمة الله فى الإنجيل والكفر به أما الإفساد الثانى فقد وقع فى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وحاولوا قتله ودعوته وحاربهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وطردهم من المدينة وكانوا أزلاء ولكنهم لم يتوقفوا عن محاربة الإسلام إلى الآن ومازال غضب الله عز وجل يلاحقهم وقد أملى لهم بالمال والبنون إلى أن يأتى وعد الله عز وجل فلم يأتى بعد وعلامته تجمعهم فى أرض فلسطين
قال تعالى{ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا}وجاءت المضارعة فى الأفعال لتدل على الإستقبال.
هذا والله أعلم
بسم1
فى الآيات سالفة الذكر كل مفسدة تبعتها غضبة وكل غضبة تبعها انتقام فى حق بنى اسرائيل وبالرجوع إلى قوله تعالى{وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ } هنا غضب الله عز وجل بسبب قتلهم النبيين وكفرهم بما جاءوا وقتل النبيين درج تحت هذه الغضبة دون تفريق بين أول من قتل وآخر من قتل وربط السلف بين هذه الآية وتفسير مرتى الإفساد فى سورة الإسراء فالربط بين هذه الآية وقوله تعالى{فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ } ربط مستحق أيضا فهما فى نفس السياق وللدلالة الظاهرة على الإفساد فى مرتين ومن البحر المحيط:فَباؤُ: أَيْ مَضَوْا، بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ: أَيْ مُتَرَادِفٍ مُتَكَاثِرٍ، وَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى تَشْدِيدِ الْحَالِ عَلَيْهِمْ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِذَلِكَ: غَضَبَانِ مُعَلَّلَانِ بِقِصَّتَيْنِ: الْغَضَبُ الْأَوَّلُ: لِعِبَادَةِ الْعِجْلِ، وَالثَّانِي: لِكُفْرِهِمْ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ.
أَوِ الْأَوَّلُ: كُفْرُهُمْ بِالْإِنْجِيلِ، وَالثَّانِي: كُفْرُهُمْ بِالْقُرْآنِ، قَالَهُ قَتَادَةُ. أَوِ الْأَوَّلُ: كُفْرُهُمْ بِعِيسَى، وَالثَّانِي: كُفْرُهُمْ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَهُ الْحَسَنُ وَغَيْرُهُ، أَوِ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُمْ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ، وَقَوْلُهُمْ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ كُفْرِهِمْ، وَالثَّانِي: كُفْرُهُمْ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.انتهى
بالنسبة لعبادة العجل أنفذ الله عز وجل غضبه فى اليهود بأن جعلهم يقتلون أنفسهم ثم تاب الله عليهم بعد ذلك.
وفي الصحيحين (2) : أنه يقال يوم القيامة لليهود: ما كنتم تعبدون؟ فيقولون: كنا نعبد عُزَيْر ابن الله. فيقال: كذبتم، ما اتخذ الله من ولد، ماذا تبغون؟ فيقولون: أي رَبَّنَا، عَطشنا فاسقنا. فيقال: ألا ترون؟ فتمثل لهم النار كأنها سراب يحطم بعضها بعضًا، فينطلقون فيتهافتون فيها (3) .
وفي الصحيح -صحيح البخاري-: "لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله، إنهم يجعلون له ولدا، وهو يرزقهم ويعافيهم" (3) .انتهى أى عاقبة الكافرين النار.
الخلاصة:وقوع مرتى الإفساد فى الغضبتين وعدم وقوع عاقبة الغضبة الثانية ولكن أجمل لليهود الوعيد والعذاب المهين فى سورة البقرة وكان التفصيل فى سورة الإسراء.
هذا والله أعلم