أبو عبد المعز
Active member
- إنضم
- 20/04/2003
- المشاركات
- 588
- مستوى التفاعل
- 25
- النقاط
- 28
وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79)-الأنبياء
هذه القصة لوتدبرها المرء -حق التدبر-لوجد أن هذا السرد لا يمكن أن يكون من فعل بشر!
نحن – قبيل البيان- نحتاج إلى مقدمة قصيرة مدارها على دعوى توسيع دائرة "الإعجاز" لتشمل المعنى المعروف المتداول ،أي عدم قدرة الإنسان على أن يأتي بمثل هذا القرآن ، ولتشمل معنى آخرإضافيا يمكن وسمه ب"الإعجازالخفي" ونقصد به أن الإنسان قد لا يصدر عنه فعل، لا عجزا منه ، ولا مصروفا عنه –كما ادعى أنصارمذهب الصرفة- بل لأن ذلك الأمر من شأنه ألا يخطر بباله ،بحال من الأحوال، لأسباب لها ارتباط وثيق بسنن جبلته وتركيبته النفسية والذهنية..
حاصل المسألة أن الإنسان لا ينجزأمر لأنه لا طاقة له به تارة، و لأنه ما كان له لينجزه تارة أخرى!
ستتضح نكتة المسألة –إن شاء الله- عند تدبرنا للآيتين:
يسرد القرآن قصة داود وسليمان -عليهما السلام- في متوالية قصيرة يمكن تقسيمها إلى أربع لحظات:
1-"وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ"... هذا استهلال ينبئ عن نوع القصة فهي "قصة قضائية" judiciaire)).
2-"إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ" ...هذا عرض للنازلة ،وإذا شئت قلت تلاوة "لصك الاتهام"
3-"وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ".... هناالحكم
4-"وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا".... هنا تقييم لعمل المحكمة وتقرير بتزكية القضاة.
إن اللحظة الثالثة هي الجديرة بالاهتمام من منظورنا ...على اعتبارأن القرآن لم يبين شيئا عن حكم داود ولا عن حكم سليمان..بل طوى كل ذلك مكتفيا بعبارة "فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ" وهي عبارة موغلة في الإجمال لا يمكن أبدا أن توحي بشئ عن نص الحكم...
قال ابن كثير-رحمه الله-:
وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، حَدَّثَنَا خَلِيفَةُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: فَحَكَمَ دَاوُدُ بِالْغَنَمِ لِأَصْحَابِ الْحَرْثِ، فَخَرَجَ الرِّعاء مَعَهُمُ الْكِلَابُ، فَقَالَ لَهُمْ سُلَيْمَانُ: كَيْفَ قَضَى بَيْنَكُمْ؟
فَأَخْبَرُوهُ، فَقَالَ: لَوْ وَلَيْتُ أَمْرَكُمْ لقضيتُ بِغَيْرِ هَذَا! فَأُخْبِرَ بِذَلِكَ دَاوُدُ، فَدَعَاهُ فَقَالَ: كَيْفَ تَقْضِي بَيْنَهُمْ؟ قَالَ أَدْفَعُ الْغَنَمَ إِلَى صَاحِبِ الْحَرْثِ، فَيَكُونُ لَهُ أَوْلَادُهَا وَأَلْبَانُهَا وَسِلَاؤُهَا وَمَنَافِعُهَا ويبذُر أَصْحَابُ الْغَنَمِ لِأَهْلِ الْحَرْثِ مثلَ حَرْثِهِمْ، فَإِذَا بَلَغَ الْحَرْثُ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ أَخَذَ أَصْحَابُ الْحَرْثِ الحرثَ وَرَدُّوا الْغَنَمَ إِلَى أَصْحَابِهَا.
هذا المطوي من رواية التنزيل يتضمن أربع مراحل من مسار المحكمة منها ثلاثة أحكام قضائية:
فقوله:( فَحَكَمَ دَاوُدُ بِالْغَنَمِ لِأَصْحَابِ الْحَرْثِ...)
إشارة إلى مرحلة الحكم الابتدائي.
وقوله:( لَوْ وَلَيْتُ أَمْرَكُمْ لقضيتُ بِغَيْرِ هَذَا! فَأُخْبِرَ بِذَلِكَ دَاوُدُ،....)
إشارة إلى مرحلة الحكم الاستئنافي.
وقوله (فَدَعَاهُ فَقَالَ: كَيْفَ تَقْضِي بَيْنَهُمْ؟الخ...)
إشارة إلى مرحلة المداولة...
ويفهم من مقطع القصة أن حكم سليمان هو المعتمد في هذه النازلة...ففي ذلك إشارة إلى مرحلة الحكم النهائي.
هذا ،والقصة في كل مراحلها مشوقة ممتعة...لا يختلف في تشويقها وإمتاعها اثنان...
ومع ذلك طواها التنزيل...
فلماذا؟
السؤال هنا ليس شكليا مقدما بين يدي التدبرولكنه جوهري،قد يحتمل قدرا من التحدي لمن يشك في مصدر القرآن وينذر بعنت وارهاق شديدين عند الجواب...
كل دواعي الحكي قائمة سواء أكان نظرنا إلى النسيج النفسي أم إلى الشبكة الثقافية...ومع ذلك لا حكي!
فلماذا يطوي الرجل في سرده أهم خيط في نسيج القصة ، وهو خيط من الإمتاع بمكان؟
لماذا يستخف الرجل بالحضور فيمهد لهم إلى قصة لن يذكر منها حرفا؟
وإننا لنتخيل هذا المشهد الجديربمسرح العبث أو اللا-معقول مما كان يخطه "بيكت" أو"يونسكو":
- تعالوا أحدثكم عن واقعة لم تسمعوا بها من قبل حكم فيها داود وسليمان تباعا.
- ما الواقعة؟
- غنم نفشت في حرث قوم..
- بماذا حكم داود؟
- (صمت...لاجواب)
- وبماذا حكم سليمان؟
- بشىء فهمه الله إياه...
- وما هذا الشىء؟
- (صمت...لاجواب)
أيعقل حصول مثل هذا المشهد عند العقلاء؟!
ثم إن المفترض في هذا المتمنع من الحكي أنه يفتري الأحاديث لحاجات في نفسه...ولا سبيل إلى تحقيق تلك الحاجات إلا بالتودد إلى الناس...وهل هناك قول أجدر من الحكاية يفي بالغرض؟
والرغبة في الحكاية تكاد تكون متجذرة في جبلة البشر تقترب من الحاجة إلى الأكل والشرب...
ألا ترى أن الاستماع إلى القصة والاستمتاع بها مستغرق لكل الجماعات عرضيا ولكل مراحل العمر طوليا...
كل يتلذذ بالقصة...المتلقي والملقي معا :الأول يستمتع بالمحكي فتجده لا يمل من الاستزادة، والثاني يستمتع بتلذذ الأول
فتجده يتفنن في ابتكارمهارات التأثير في المتلقي تجدها مذكورة عند المشتغلين بفن السرديات من قبيل التشويق والتأجيج والتأجيل والتسويف حتى ليصل إلى حدود السادية...فتراه يتلذذ ببكاء المتلقي وشهيقه وزفيره..!
نعم،قد يعمد السارد إلى التأجيل...وهذا ما يسمى" آلية التشويق" ذلك النهج الجمالي الشائع على مر الدهور...فهذه الفتاة شهرزاد كانت تختاربدهاء لحظة السكوت عن الكلام المباح لتؤجج في نفس شهريار جذوة الاستزادة..
لكن الرجل لم يؤجل بل أعرض صفحا عن هذه القصة وطواها إلى الأبد، فلن تجد لها ذكرا في أي مكان آخرفي القرآن...خلاف ما تلحظه في القصص الأخرى حيث تجدها شذرات متفرقات جامعا بينها التبيين والتكميل والتكرير!
هذا ،ونعيد سؤالنا جذعا:
لماذا يفعل الرجل هذا مخالفا لطبع الإنسان ومنفلتا من "الشبكة الثقافية "؟
المخالفة لطبع البشرذكرنا منه قسطا...
أما الانفلات من الشبكة الثقافية فيوضحه هذا النقل من سيرة ابن هشام.
قال ابن هشام – رحمه الله-:
وَكَانَ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ مِنْ شَيَاطِينِ قُرَيْشٍ، وَمِمَّنْ كَانَ يُؤْذِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَنْصِبُ لَهُ الْعَدَاوَةَ، وَكَانَ قَدْ قَدِمَ الْحِيرَةَ، وَتَعَلَّمَ بِهَا أَحَادِيثَ مُلُوكِ الْفُرْسِ، وَأَحَادِيثَ رُسْتُمَ وَاسْبِنْدِيَارَ ، فَكَانَ إذَا جَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَجْلِسًا فَذَكَّرَ فِيهِ باللَّه، وَحَذَّرَ قَوْمَهُ مَا أَصَابَ مَنْ قَبْلَهُمْ مِنْ الْأُمَمِ مِنْ نِقْمَةِ اللَّهِ، خَلَفَهُ فِي مَجْلِسِهِ إذَا قَامَ، ثُمَّ قَالَ: أَنَا وَاَللَّهِ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، أَحْسَنُ حَدِيثًا مِنْهُ، فَهَلُمَّ إلَيَّ، فَأَنَا أُحَدِّثُكُمْ أَحْسَنَ مِنْ حَدِيثِهِ، ثُمَّ يُحَدِّثُهُمْ عَنْ مُلُوكِ فَارِسَ وَرُسْتُمَ وَاسْبِنْدِيَارَ ، ثمَّ يَقُول: بِمَاذَا مُحَمَّدٌ أَحْسَنُ حَدِيثًا مِنِّي؟.
هاأنت ترى أن المجال لم يكن خلوا للرجل...وأن المنافسة كانت على أشدها....فهل يعقل أن يكون الرد على شيق أحاديث الشهنامة بنحو"فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ"...
هذا هو "الإعجازالخفي" الذي زعمته....
وللحديث بقية نتناول فيه -إن شاء الله -الوجه الآخر للسؤال :
لماذا طوى الله القصة ولم يبينها....
وهو سؤال صعب...فمن ذا الذي يزعم الإحاطة بآيات الله....ولكننا نطمع في الحصول على الثلث من الأجر...
هذه القصة لوتدبرها المرء -حق التدبر-لوجد أن هذا السرد لا يمكن أن يكون من فعل بشر!
نحن – قبيل البيان- نحتاج إلى مقدمة قصيرة مدارها على دعوى توسيع دائرة "الإعجاز" لتشمل المعنى المعروف المتداول ،أي عدم قدرة الإنسان على أن يأتي بمثل هذا القرآن ، ولتشمل معنى آخرإضافيا يمكن وسمه ب"الإعجازالخفي" ونقصد به أن الإنسان قد لا يصدر عنه فعل، لا عجزا منه ، ولا مصروفا عنه –كما ادعى أنصارمذهب الصرفة- بل لأن ذلك الأمر من شأنه ألا يخطر بباله ،بحال من الأحوال، لأسباب لها ارتباط وثيق بسنن جبلته وتركيبته النفسية والذهنية..
حاصل المسألة أن الإنسان لا ينجزأمر لأنه لا طاقة له به تارة، و لأنه ما كان له لينجزه تارة أخرى!
ستتضح نكتة المسألة –إن شاء الله- عند تدبرنا للآيتين:
يسرد القرآن قصة داود وسليمان -عليهما السلام- في متوالية قصيرة يمكن تقسيمها إلى أربع لحظات:
1-"وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ"... هذا استهلال ينبئ عن نوع القصة فهي "قصة قضائية" judiciaire)).
2-"إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ" ...هذا عرض للنازلة ،وإذا شئت قلت تلاوة "لصك الاتهام"
3-"وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ".... هناالحكم
4-"وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا".... هنا تقييم لعمل المحكمة وتقرير بتزكية القضاة.
إن اللحظة الثالثة هي الجديرة بالاهتمام من منظورنا ...على اعتبارأن القرآن لم يبين شيئا عن حكم داود ولا عن حكم سليمان..بل طوى كل ذلك مكتفيا بعبارة "فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ" وهي عبارة موغلة في الإجمال لا يمكن أبدا أن توحي بشئ عن نص الحكم...
قال ابن كثير-رحمه الله-:
وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، حَدَّثَنَا خَلِيفَةُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: فَحَكَمَ دَاوُدُ بِالْغَنَمِ لِأَصْحَابِ الْحَرْثِ، فَخَرَجَ الرِّعاء مَعَهُمُ الْكِلَابُ، فَقَالَ لَهُمْ سُلَيْمَانُ: كَيْفَ قَضَى بَيْنَكُمْ؟
فَأَخْبَرُوهُ، فَقَالَ: لَوْ وَلَيْتُ أَمْرَكُمْ لقضيتُ بِغَيْرِ هَذَا! فَأُخْبِرَ بِذَلِكَ دَاوُدُ، فَدَعَاهُ فَقَالَ: كَيْفَ تَقْضِي بَيْنَهُمْ؟ قَالَ أَدْفَعُ الْغَنَمَ إِلَى صَاحِبِ الْحَرْثِ، فَيَكُونُ لَهُ أَوْلَادُهَا وَأَلْبَانُهَا وَسِلَاؤُهَا وَمَنَافِعُهَا ويبذُر أَصْحَابُ الْغَنَمِ لِأَهْلِ الْحَرْثِ مثلَ حَرْثِهِمْ، فَإِذَا بَلَغَ الْحَرْثُ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ أَخَذَ أَصْحَابُ الْحَرْثِ الحرثَ وَرَدُّوا الْغَنَمَ إِلَى أَصْحَابِهَا.
هذا المطوي من رواية التنزيل يتضمن أربع مراحل من مسار المحكمة منها ثلاثة أحكام قضائية:
فقوله:( فَحَكَمَ دَاوُدُ بِالْغَنَمِ لِأَصْحَابِ الْحَرْثِ...)
إشارة إلى مرحلة الحكم الابتدائي.
وقوله:( لَوْ وَلَيْتُ أَمْرَكُمْ لقضيتُ بِغَيْرِ هَذَا! فَأُخْبِرَ بِذَلِكَ دَاوُدُ،....)
إشارة إلى مرحلة الحكم الاستئنافي.
وقوله (فَدَعَاهُ فَقَالَ: كَيْفَ تَقْضِي بَيْنَهُمْ؟الخ...)
إشارة إلى مرحلة المداولة...
ويفهم من مقطع القصة أن حكم سليمان هو المعتمد في هذه النازلة...ففي ذلك إشارة إلى مرحلة الحكم النهائي.
هذا ،والقصة في كل مراحلها مشوقة ممتعة...لا يختلف في تشويقها وإمتاعها اثنان...
ومع ذلك طواها التنزيل...
فلماذا؟
السؤال هنا ليس شكليا مقدما بين يدي التدبرولكنه جوهري،قد يحتمل قدرا من التحدي لمن يشك في مصدر القرآن وينذر بعنت وارهاق شديدين عند الجواب...
كل دواعي الحكي قائمة سواء أكان نظرنا إلى النسيج النفسي أم إلى الشبكة الثقافية...ومع ذلك لا حكي!
فلماذا يطوي الرجل في سرده أهم خيط في نسيج القصة ، وهو خيط من الإمتاع بمكان؟
لماذا يستخف الرجل بالحضور فيمهد لهم إلى قصة لن يذكر منها حرفا؟
وإننا لنتخيل هذا المشهد الجديربمسرح العبث أو اللا-معقول مما كان يخطه "بيكت" أو"يونسكو":
- تعالوا أحدثكم عن واقعة لم تسمعوا بها من قبل حكم فيها داود وسليمان تباعا.
- ما الواقعة؟
- غنم نفشت في حرث قوم..
- بماذا حكم داود؟
- (صمت...لاجواب)
- وبماذا حكم سليمان؟
- بشىء فهمه الله إياه...
- وما هذا الشىء؟
- (صمت...لاجواب)
أيعقل حصول مثل هذا المشهد عند العقلاء؟!
ثم إن المفترض في هذا المتمنع من الحكي أنه يفتري الأحاديث لحاجات في نفسه...ولا سبيل إلى تحقيق تلك الحاجات إلا بالتودد إلى الناس...وهل هناك قول أجدر من الحكاية يفي بالغرض؟
والرغبة في الحكاية تكاد تكون متجذرة في جبلة البشر تقترب من الحاجة إلى الأكل والشرب...
ألا ترى أن الاستماع إلى القصة والاستمتاع بها مستغرق لكل الجماعات عرضيا ولكل مراحل العمر طوليا...
كل يتلذذ بالقصة...المتلقي والملقي معا :الأول يستمتع بالمحكي فتجده لا يمل من الاستزادة، والثاني يستمتع بتلذذ الأول
فتجده يتفنن في ابتكارمهارات التأثير في المتلقي تجدها مذكورة عند المشتغلين بفن السرديات من قبيل التشويق والتأجيج والتأجيل والتسويف حتى ليصل إلى حدود السادية...فتراه يتلذذ ببكاء المتلقي وشهيقه وزفيره..!
نعم،قد يعمد السارد إلى التأجيل...وهذا ما يسمى" آلية التشويق" ذلك النهج الجمالي الشائع على مر الدهور...فهذه الفتاة شهرزاد كانت تختاربدهاء لحظة السكوت عن الكلام المباح لتؤجج في نفس شهريار جذوة الاستزادة..
لكن الرجل لم يؤجل بل أعرض صفحا عن هذه القصة وطواها إلى الأبد، فلن تجد لها ذكرا في أي مكان آخرفي القرآن...خلاف ما تلحظه في القصص الأخرى حيث تجدها شذرات متفرقات جامعا بينها التبيين والتكميل والتكرير!
هذا ،ونعيد سؤالنا جذعا:
لماذا يفعل الرجل هذا مخالفا لطبع الإنسان ومنفلتا من "الشبكة الثقافية "؟
المخالفة لطبع البشرذكرنا منه قسطا...
أما الانفلات من الشبكة الثقافية فيوضحه هذا النقل من سيرة ابن هشام.
قال ابن هشام – رحمه الله-:
وَكَانَ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ مِنْ شَيَاطِينِ قُرَيْشٍ، وَمِمَّنْ كَانَ يُؤْذِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَنْصِبُ لَهُ الْعَدَاوَةَ، وَكَانَ قَدْ قَدِمَ الْحِيرَةَ، وَتَعَلَّمَ بِهَا أَحَادِيثَ مُلُوكِ الْفُرْسِ، وَأَحَادِيثَ رُسْتُمَ وَاسْبِنْدِيَارَ ، فَكَانَ إذَا جَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَجْلِسًا فَذَكَّرَ فِيهِ باللَّه، وَحَذَّرَ قَوْمَهُ مَا أَصَابَ مَنْ قَبْلَهُمْ مِنْ الْأُمَمِ مِنْ نِقْمَةِ اللَّهِ، خَلَفَهُ فِي مَجْلِسِهِ إذَا قَامَ، ثُمَّ قَالَ: أَنَا وَاَللَّهِ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، أَحْسَنُ حَدِيثًا مِنْهُ، فَهَلُمَّ إلَيَّ، فَأَنَا أُحَدِّثُكُمْ أَحْسَنَ مِنْ حَدِيثِهِ، ثُمَّ يُحَدِّثُهُمْ عَنْ مُلُوكِ فَارِسَ وَرُسْتُمَ وَاسْبِنْدِيَارَ ، ثمَّ يَقُول: بِمَاذَا مُحَمَّدٌ أَحْسَنُ حَدِيثًا مِنِّي؟.
هاأنت ترى أن المجال لم يكن خلوا للرجل...وأن المنافسة كانت على أشدها....فهل يعقل أن يكون الرد على شيق أحاديث الشهنامة بنحو"فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ"...
هذا هو "الإعجازالخفي" الذي زعمته....
وللحديث بقية نتناول فيه -إن شاء الله -الوجه الآخر للسؤال :
لماذا طوى الله القصة ولم يبينها....
وهو سؤال صعب...فمن ذا الذي يزعم الإحاطة بآيات الله....ولكننا نطمع في الحصول على الثلث من الأجر...